فصل : في شرائط الأركان .
و أما شرائط الأركان فجملة الكلام في الشرائط أنها نوعان : .
نوع يعم المنفرد و المقتدي جميعا و هو شرائط أركان الصلاة و نوع يخص المقتدي و هو شرائط جواز الاقتداء بالإمام في صلاته .
أما شرائط أركان الصلاة فمنها الطهارة بنوعيها من الحقيقية و الحكمية و الطهارة الحقيقية هي : طهارة الثوب و البدن و مكان الصلاة عن النجاسة الحقيقية و الطهارة الحكمية هي طهارة أعضاء الوضوء عن الحدث و طهارة جميع الأعضاء الظاهرة عن الجنابة .
أما طهارة الثوب و طهارة البدن عن النجاسة الحقيقية فلقوله تعالى : { وثيابك فطهر } و إذا وجب تطهير الثوب فتطهير البدن أولى .
و أما الطهارة عن الحدث و الجنابة فلقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } .
إلى قوله : { ليطهركم } .
و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا صلاة إلا بطهور ] .
و قوله عليه الصلاة و السلام : [ لا صلاة إلا بطهارة ] و قوله صلى الله عليه و سلم : [ مفتاح الصلاة الطهور ] .
و قوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } .
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر و أنقوا البشرة ] و الإنقاء هو التطهير فدلت النصوص على أن الطهارة الحقيقية عن الثوب و البدن و الحكمية شرط جواز الصلاة و المعقول كذا يقتضي من .
وجوه : .
أحدها : أن الصلاة خدمة الرب و تعظيمه جل جلاله وعم نواله و خدمة الرب و تعظيمه بكل الممكن فرض و معلوم أن القيام بين يدي الله تعالى ببدن طاهر و ثوب طاهر على مكان طاهر يكون أبلغ في التعظيم و أكمل في الخدمة من القيام ببدن نجس و ثوب نجس و على مكان نجس كما في خدمة الملوك في الشاهد .
و كذلك الحدث و الجنابة و إن لم تكن نجاسة مرئية فهي نجاسة معنوية توجب استقذار ما حل به ألا ترى [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد أن يصافح حذيفة بن اليمان Bه امتنع و قال : إني جنب يا رسول الله ] فكان قيامه مخلا بالتعظيم على أنه إن لم يكن على أعضاء الوضوء نجاسة رأسا فإنها لا تخلو عن الدرن و الوسخ لأنها أعضاء بادية عادة فيتصل بها الدرن و الوسخ فيجب غسلها تطهيرا لها من الوسخ و الدرن فتتحقق الزينة و النظافة فيكون أقرب إلى التعظيم و أكمل في الخدمة .
فمن أراد أن يقوم بين يدي الملوك للخدمة في الشاهد أنه يتكلف للتنظيف و التزيين و يلبس أحسن ثيابه تعظيما للملك و لهذا كان الأفضل للرجل أن يصلي في أحسن ثيابه و أنظفها التي أعدها لزيارة العظماء و لمحافل الناس و كانت الصلاة متعمما أفضل من الصلاة مكشوف الرأس لما أن ذلك أبلغ في الاحترام .
و الثاني : أنه أمر بغسل هذه الأعضاء الظاهرة من الحدث و الجنابة تذكيرا لتطهير الباطن من الغش و الحسد و الكبر و سوء الظن بالمسلمين و نحو ذلك من أسباب المآثم فأمر لا لإزالة الحدث تطهيرا لأن قيام الحدث لا ينافي العبادة و الخدمة في الجملة ألا ترى أنه يجوز أداء الصوم و الزكاة مع قيام الحدث و الجنابة و أقرب من ذلك الإيمان بالله تعالى الذي هو رأس العبادات و هذا لأن الحدث ليس بمعصية و لا .
سبب مأثم و ما ذكرنا من المعاني التي في باطنه أسباب المآثم فأمر بغسل هذه الأعضاء الظاهرة دلالة و تنبيها على تطهير الباطن من هذه الأمور و تطهير النفس عنها واجب بالسمع و العقل .
و الثالث : أنه وجب غسل هذه الأعضاء شكرا للنعمة وراء النعمة التي وجبت لها الصلاة و هي أن هذه الأعضاء وسائل إلى استيفاء نعم عظيمة بل بها تنال جل نعم الله تعالى فاليد بها يتناول و يقبض ما يحتاج إليه و الرجل يمشي بها إلى مقاصده و الرأس و الوجه محل الحواس و مجمعها التي بها يعرف عظم نعم الله تعالى من العين و الأنف و الفم و الأذن التي بها البصر و الشم و الذوق و السمع التي بها يكون التلذذ و التشهي و الوصول إلى جميع النعم فأمر بغسل هذه الأعضاء شكرا لما يتوسل بها إلى هذه النعم .
و الرابع : أمر بغسل هذه الأعضاء تكفيرا لما ارتكب بهذه الأعضاء من الإجرام إذ بها يرتكب جل المآثم من أخذ الحرام و المشي إلى الحرام و النظر إلى الحرام و أكل الحرام و سماع الحرام من اللغو و الكذب فأمر بغسلها تكفيرا لهذه الذنوب و قد وردت الأخبار بكون الوضوء تكفيرا للمآثم فكانت مؤيدة لما قلنا .
و أما طهارة مكان الصلاة فلقوله تعالى : { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } و قال في موضع و القائمين و الركع السجود و لما ذكرنا أن الصلاة خدمة الرب تعالى و تعظيمه و خدمة المعبود المستحق للعبادة و تعظيمه بكل الممكن فرض و أداء الصلاة على مكان طاهر أقرب إلى التعظيم فكان طهارة مكان الصلاة شرطا .
و قد روي [ عن أبي هريرة Bه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن الصلاة في المزبلة و المجزرة و معاطن الإبل و قوارع الطرق و الحمام و المقبرة و فوق ظهر بيت الله تعالى ] .
أما معنى النهي عن الصلاة في المزبلة و المجزرة فلكونهما موضع النجاسة و أما معاطن الإبل فقد قيل : إن معنى النهي فيها أنها لا تخلو عن النجاسات عادة لكن هذا يشكل بما روي من الحديث : [ صلوا في مرابض الغنم و لا تصلوا في معاطن الإبل ] مع أن المعاطن و المرابض في معنى النجاسة سواء و قيل : معنى النهي أن الإبل ربما تبول على المصلي فيبتلى بما يفسد صلاته و هذا لا ينوهم في الغنم .
و أما قوارع الطرق فقيل : أنها لا تخلو عن الأرواث و الأبوال عادة فعلى هذا لا فرق بين الطريق الواسع و الضيق و قيل معنى النهي فيها أنه يستضر به المارة و على هذا إذا كان الطريق واسعا لا يكره و حكى ابن سماعه أن محمدا كان يصلي على الطريق في البادية .
و أما الحمام فمعنى النهي فيه أنه مصب الغسالات و النجاسات عادة فعلى هذا لو صلى في موضع الحمامي لا يكره و قيل معنى النهي فيه أن الحمام بيت الشيطان فعلى هذا تكره الصلاة في كل موضع منه سواء غسل ذلك الموضع أو لم يغسل .
و أما المقبرة فقيل : إنما نهى عن ذلك لما فيه من التشبيه باليهود كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا قبري بعدي مسجد ] و روي أن عمر Bه رأى رجلا يصلي بالليل إلى قبر فناداه القبر القبر فظن الرجل أنه يقول القمر القمر فجعل ينظر إلى السماء فما زال به حتى تنبه فعلى هذا تجوز الصلاة و تكره و قيل : معنى النهي أن المقابر لا تخلو عن النجاسات لأن الجهال يستترون بما شرف من القبور فيبولون و يتغوطون خلفه فعلى هذا لا تجوز الصلاة لو كان في موضع يفعلون ذلك لانعدام طهارة المكان .
و أما فوق بيت الله تعالى فمعنى النهي عندنا أن الإنسان منهي عن الصعود على سطح الكعبة لما فيه من ترك التعظيم و لا يمنع جواز الصلاة عليه .
و عند الشافعي : هذا النهي للإفساد حتى لو صلى على سطح الكعبة و ليس بين يديه سترة لا تجوز صلاته عنده و سنذكر الكلام فيما بعد .
ولو صلى في بيت فيه تماثيل فهذا على وجهين : إما إن كانت التماثيل مقطوعة الرؤوس أو لم تكن مقطوعة الرؤوس فإن كانت مقطوعة الرؤوس فلا بأس بالصلاة فيه لأنها بالقطع خرجت من أن تكون تماثيل و التحقت بالنقوش و الدليل عليه ما روي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدي إليه ترس فيه تمثال طير فأصبحوا و قد محي وجهه ] .
و روي [ أن جبريل عليه السلام استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأذن له فقال : كيف أدخل و في البيت قرام فيه تماثيل خيول و رجال ] فإما أن تقطع رؤوسها أو تتخذ وسائد فتوطأ و إن لم تكن مقطوعة الرؤوس فتكره الصلاة فيه سواء كانت في جهة القبلة أو في السقف أو عن يمين القبلة أو عن يسارها فأشد ذلك كراهة أن تكون في جهة القبلة لأنه تشبه بعبدة الأوثان و لو كانت في مؤخر القبلة أو تحت القدم لا يكره لعدم التشبه في الصلاة بعبدة الأوثان .
و كذا يكره الدخول إلى بيت فيه صور على سقفه أو حيطانه أو على الستور و الأزر و الوسائد العظام لأن جبريل عليه السلام قال : [ إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة ] و لا خير في بيت لا تدخله الملائكة و كذا نفس التعليق لتلك الستور و الأزر على الجدار و وضع الوسائد العظام عليه مكروه لما في هذا الصنيع من التشبه بعباد الصور لما فيه من تعظيمها .
و روي [ عن عائشة Bها أنها قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي و أنا مستترة بستر فيه تماثيل فتغير لون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى عرفت الكراهة في وجهه فأخذه مني و هتكه بيده فجعلناه نمرقة أو نمرقتين ] و إن كانت الصور على البسط و الوسائد الصغار و هي تداس بالأرجل لا تكره لما فيه من إهانتها و الدليل عليها حديث جبريل صلى الله عليه و سلم و عائشة Bها .
و لو صلى على هذا البساط فإن كانت الصورة في موضع سجوده يكره لما فيه من التشبه بعبادة الصور و الأصنام و كذا إذا كانت أمامه في موضع لأن معنى التعظيم يحصل بتقريب الوجه من الصورة فأما إذا كانت في موضع قدميه فلا بأس به لما فيه من الإهانة دون التعظيم هذا إذا كانت الصورة كبيرة فأما إذا كانت صغيرة لا تبدو للناظر من بعيد فلا باس به لأن من يعبد الصنم لا يعبد الصغير منها جدا و قد روي أنه كان على خاتم أبي موسى ذبابتان و روي أنه لما وجد خاتم دانيال على عهد عمر Bه كانا على فصه أسدان بينهما رجل يلحسانه و يحتمل أن يكون ذلك في ابتداء حاله أو لأن التمثال في شريعة من قبلنا كان حلالا قال الله تعالى في قصة سليمان : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل } ثم ما ذكرنا من الكراهة في صورة الحيوان .
فأما صورة ما لا حياة له كالشجر و نحو ذلك فلا يوجب الكراهة لأن عبدة الصورة لا يعبدون تمثال ما ليس بذي روح فلا يحصل التشبه بهم و كذا النهي إنما جاء عن تصوير ذي الروح لما روي عن علي Bه أنه قال : من صور تمثال ذي الروح كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح و ليس بنافخ فأما لا نهي عن تصوير ما لا روح له لما روي عن ابن عباس Bه أنه نهى مصورا عن التصوير فقال : كيف أصنع و هو كسبي فقال : إن لم يكن بد فعيك بتمثال الأشجار .
و يكره أن تكون قبلة المسجد إلى حمام أو قبر أو مخرج لأن جهة القبلة يجب تعظيمها و المساجد كذلك قال الله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال } و معنى التعظيم لا يحصل إذا كانت قبلة المسجد إلى هذه المواضع لأنها لا تخلو عن الأقذار و روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه قال هذا في مساجد الجماعات فأما مسجد الرجل في بيته فلا بأس بأن يكون قبلته إلى هذه المواضع لأنه ليس له حرمة المساجد حتى يجوز بيعه و كذا للناس فيه بلوى بخلاف مسجد الجماعة و لو صلى في مثل هذا المسجد جازت صلاته عند عامة العلماء و على قول بشر بن غياث المريسي : لا تجوز و على هذا إذا صلى في أرض مغصوبة أو صلى و عليه ثوب مغصوب لا تجوز عنده .
وجه قوله : أن العبادة لا تتأدى بما هو منهي عنه .
و لنا أن النهي ليس لمعنى في الصلاة فلا يمنع جواز الصلاة و هذا إذا لم يكن بين المسجد و بين هذه المواضع حائل من بيت أو جدار أو نحو ذلك فإن كان بينهما حائل لا يكره لأن معنى التعظيم حاصل فالتحرز عنه غير ممكن .
و منها : ستر العورة لقوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } قيل : في التأويل الزينة ما يواري العورة و المسجد الصلاة فقد أمر بمواراة العورة في الصلاة و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا صلاة للحائض إلا بخمار ] كنى بالحائض عن البالغة لأن الحيض دليل البلوغ فذكر الحيض و أراد به البلوغ لملازمة بينهما و عليه إجماع الأمة و لأن ستر العورة حال القيام بين يدي الله تعالى من باب التعظيم و أنه فرض عقلا و شرعا و إذا كان الستر فرضا كان الانكشاف مانعا جواز الصلاة ضرورة و الكلام في بيان ما يكون عورة و ما لا يكون موضعه كتاب الاستحسان و إنما الحاجة ههنا إلى بيان المقدار الذي يمنع جواز الصلاة فنقول قليل الانكشاف لا يمنع الجواز لما فيه من الضرورة لأن الثياب لا تخلو عن قليل خرق عادة .
و الكثير يمنع لعدم الضرورة و اختلف في الحد الفاصل بين القليل و الكثير فقدر أبو حنيفة و محمد الكثير بالربع و قالا : الربع و ما فوقه من العضو كثير و ما دون الربع فيه قليل و أبو يوسف جعل الأكثر من النصف كثيرا و ما دون النصف قليلا و اختلفت الرواية عنه في النصف فجعله في حكم القليل في الجامع الصغير و في حكم الكثير في الأصل .
وجه قول أبي يوسف : أن القليل و الكثير من المتقابلات فإنما تظهر بالمقابلة فما كان مقابلة أقل منه فهو كثير و ما كان مقابله أكثر منه فهو قليل .
و لهما : أن الشرع أقام الربع مقام الكل في كثير من المواضع كما في حلق ربع الرأس في حق المحرم و مسح ربع الرأس كذا ههنا إذ الموضع موضع الاحتياط و أما قوله إن القليل و الكثير من أسماء المقابلة فإنما يعرف ذلك بمقابله فنقول الشرع قد جعل الربع كثيرا في نفسه من غير مقابلة في بعض المواضع .
على ما بينا فلزم الأخذ به في موضع الاحتياط ثم كثير الانكشاف يستوي فيه العضو الواحد و الأعضاء المتفرقة حتى لو انكشف من أعضاء متفرفة ما لو جمع لكان كثيرا يمنع جواز الصلاة و يستوي فيه العورة الغليظة و هي القبل و الدبر و الخفيفة كالفخذ و نحوه .
و من الناس من قدر العورة الغليظة بالدرهم تغليظا لأمرها و هذا غير سديد لأن العورة الغليظة كلها لا تزيد على الدرهم فتقديرها بالدرهم يكون تخفيفا لأمرها لا تغليظا له فتنعكس القضية .
و ذكر محمد في الزيادات ما يدل على أن حكم الغليظة و الخفيفة واحد فإنه قال في امرأة صلت فانكشف شيء من شعرها و شيء من ظهرها و شيء من فرجها و شيء من فخذها : إنه إن كان بحال لو جمع بلغ الربع منع أداء الصلاة وإن لم يبلغ لا يمنع فقد جمع بين العورة الغليظة والخفيفة و اعتبر فيها الربع فثبت أن حكمها لا يختلف و إن الخلاف فيهما واحد و هذا في حالة القدرة .
فأما في حالة العجز فالانكشاف لا يمنع جواز الصلاة بأن حضرته الصلاة و هو عريان لا يجد ثوبا للضرورة و لو كان معه ثوب نجس فلا يخلو إما إن كان الربع منه طاهرا و أما إن كان كله نجسا فإن كان ربعه طاهرا لم يجزه أن يصلي عريانا بل يجب عليه أن يصلي في ذلك الثوب لأن الربع فما فوقه في حكم الكمال كما في مسح الرأس و حلق المحرم ربع الرأس و كما يقال : رأيت فلانا و إن عاينه من إحدى جهاته .
الأربع فجعل كان الثوب كله طاهرا و إن كان كله نجسا أو الطاهر منه أقل من الربع فهو بالخيار في قول أبي حنيفة و أبي يوسف إن شاء صلى عريانا و إن شاء مع الثوب لكن الصلاة في الثوب أفضل و قال محمد : لا تجزئه إلا مع الثوب .
وجه قوله : أن ترك استعمال النجاسة فرض و ستر العورة فرض إلا أن ستر العورة أهمهما و آكدهما لأنه فرض في الأحوال أجمع و فرضية ترك استعمال النجاسة مقصورة على حالة الصلاة فيصار إلى الأهم فتستر العورة و لا تجوز الصلاة بدونه و يتحمل استعمال النجاسة و لأنه لو صلى عريانا كان تاركا فرائ منها ستر العورة و القيام و الركوع و السجود و لو صلى في الثوب النجس كان تاركا فرضا واحدا و هو ترك استعمال النجاسة فقط فكان هذا الجانب أهون [ و قد قالت عائشة Bها : ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم بين شيئين إلا اختار أهونهما ] فمن ابتلي ببليتين فعليه أن يختار أهونهما .
و لهما : أن الجانبين في الفرضية في حق الصلاة على السواء ألا ترى أنه كما لا تجوز الصلاة حالة الاختيار عريانا لا تجوز مع الثوب المملوء نجاسة و لا يمكن إقامة أحد الفرضين في هذه الحالة إلا بترك الآخر فسقطت فرضيتهما في حق الصلاة فيخير فيجزئه كيف ما فعل إلا أن الصلاة في الثوب أفضل لما ذكر محمد .
و منها : استقبال القبلة لقوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .
و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقبل الله صلاة امرىء حتى يضع الطهور مواضعه و يستقبل القبلة و يقول : .
الله أكبر ] و عليه إجماع الأمة و الأصل أن استقبال القبلة للصلاة شرط زائد لا يعقل معناه بدليل أنه لا يجب الاستقبال فيما هو رأس العبادات و هو الإيمان و كذا في عامة العبادات من الزكاة و الصوم و الحج و إنما عرف شرطا في باب الصلاة شرعا فيجب اعتباره بقدر ما ورد الشرع به و فيما وراءه يرد إلى أصل ا لقيا س .
ثم جملة الكلام في هذا الشرط أن المصلي لا يخلو إما أن كان قادرا على الاستقبال أو كان عاجزا عنه فإن كان قادرا يجب عليه التوجه إلى القبلة إن كان في حال مشاهدة الكعبة فإلى عينها أي أي جهة كانت من جهات الكعبة حتى لو كان منحرفا عنها غير متوجه إلى شيء منها لم يجز لقوله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } و في وسعه تولية الوجه إلى عينها فيجب ذلك .
و إن كان نائبا عن الكعبة غائبا عنها يجب عليه التوجه إلى جهتها و هي المحاريب المنصوبة بالأمارات الدالة عليها لا إلى عينها و تعتبر الجهة دون العين كذا ذكر الكرخي و الرازي و هو قول عامة مشايخنا بما وراء النهر .
و قال بعضهم : المفروض إصابة عين الكعبة بالاجتهاد و التحري و هو قول أبى عبد الله البصري حتى قالوا : إن نية الكعبة شرط .
وجه قول هؤلاء قوله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } من غير فصل بين حال المشاهدة و الغيبة و لأن لزوم الاستقبال لحرمة البقعة و هذا المعنى في العين لا في الجهة و لأن قبلته لو كانت الجهة لكان ينبغي له إذا اجتهد فأخطأ الجهة بلزمه الإعادة لظهور خطئه في اجتهاده بيقين و مع ذلك لا تلزمه الإعادة بلا خلاف بين أصحابنا فدل أن قبلته في هذه الحالة عين الكعبة بالاجتهاد و التحري .
وجه قول الأولين أن المفروض هو المقدور عليه و إصابة العين غير مقدور عليها فلا تكون مفروضة و لأن قبلته لو كانت عين الكعبة في هذه الحالة بالتحري و الاجتهاد لترددت صلاته بين الجواز و الفساد لأنه إن أصاب عين الكعبة بتحريه جازت صلاته و إن لم يصب عين الكعبة لا تجوز صلاته لأنه ظهر خطاه بيقين إلا أن يجعل كل مجتهد مصيبا و أنه خلاف المذهب الحق و قد عرف بطلانه في أصول الفقه .
أما إذا جعلت قبلته الجهة و هي المحاريب المنصوبة لا يتصور ظهور الخطأ فنزلت الجهة في هذه الحالة منزلة عين الكعبة في حال المشاهدة ولله تعالى أن يجعل أي جهة شاء قبلة لعباده على اختلاف الأحوال و إليه وقعت الإشارة في قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } و لأنهم جعلوا عين الكعبة قبلة في هذه الحالة بالتحري و أنه مبني على تجرد شهادة القلب من غير أمارة و الجهة صارت قبلة باجتهادهم المبني على الإمارات الدالة عليها من النجوم و الشمس و القمر و غير ذلك فكان فوق الاجتهاد بالتحري .
و لهذا إن من دخل بلدة و عاين المحاريب المنصوبة فيها يجب عليه التوجه إليها و لا يجوز له التحري و كذا إذا دخل مسجدا لا محراب له و بحضرته أهل المسجد لا يجوز له التحري بل يجب عليه السؤال من أهل المسجد لأن لهم علما بالجهة المبنية على الأمارات فكان فوق الثابت بالتحري .
وكذا لو كان في المفازة و السماء مصحية و له علم بالاستدلال بالنجوم على القبلة لا يجوز له التحري .
لأن ذلك فوق التحري و به تبين أن نية الكعبة ليست بشرط .
بل الأفضل أن لا ينوي الكعبة لاحتمال أن لا تحاذي هذه الجهة الكعبة فلا تجوز صلاته .
و لا حجة لهم في الآية لأنها تناولت حالة القدرة و القدرة حال مشاهدة الكعبة لا حال البعد عنها و هو الجواب عن قولهم إن الاستقبال لحرمة البقعة إن ذلك حال القدرة على الاستقبال إليها دون حال العجز عنه .
و أما إذا كان عاجزا فلا يخلو إما إن كان عاجزا بسبب عذر من الأعذار مع العلم بالقبلة و أما إن كان عجزه بسبب الاشتباه فإن كان عاجزا لعذر مع العلم بالقبلة فله أن يصلي إلى أي جهة كانت و يسقط عنه الاستقبال نحو أن يخاف على نفسه من العدو في صلاة الخوف أو كان بحال لو استقبل القبلة يثب عليه العدو أو قطاع الطريق أو السبع أو كان على لوح من السفينة في البحر لو وجهه إلى القبلة يغرق غالبا أو كان مريضا لا يمكنه أن يتحول بنفسه إلى القبلة و ليس بحضرته من يحوله إليها و نحو ذلك لأن هذا شرط .
زائد فيسقط عند العجز و إن كان عاجزا بسبب الاشتباه و هو أن يكون في المفازة في ليلة مظلمة أو لا علم .
له بالإمارات الدالة على القبلة فإن كان بحضرته من يسأله عنها لا يجوز له التحري لما قلنا بل يجب عليه السؤال .
فإن لم يسأل و تحرى و صلى فإن أصاب جاز و إلا فلا و إن لم يكن بحضرته أحد جاز له التحري .
لأن التكليف بحسب الوسع و الإمكان و ليس في وسعه إلا التحري فتجوز له الصلاة بالتحري لقوله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } .
و روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم تحروا عند الاشتباه وصلوا ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه و سلم .
فدل على الجواز فإذا صلى إلى جهة من الجهات فلا يخلو إما أن صلى إلى جهة بالتحري أو بدون التحري فإن صلى بدون التحري فلا يخلو من أوجه أما إن كان لم يخطر بباله شيء ولم يشك في جهة القبلة أو خطر بباله وشك في جهة القبلة و صلى من غير تحر أو تحرى و وقع تحريه على جهة فصلى إلى .
جهة أخرى لم يقع عليها التحري .
أما إذا لم يخطر بباله شيء ولم يشك وصلى إلى جهة من الجهات فالأصل هو الجواز لأن مطلق الجهة قبلة بشرط عدم دليل يوصله إلى جهة الكعبة من السؤال أو التحري ولم يوجد لأن التحري لا يجب عليه إذا لم يكن شاكا فإذا مضى على هذه الحالة و لم يخطر بباله شيء صارت الجهة التي صلى إليها قبلة له ظاهرا فإن ظهر أنها جهة الكعبة تقرر الجواز .
فأما إذا ظهر خطاه بيقين بأن انجلى الظلام وتبين أنه صلى إلى غير جهة الكعبة أو تحرى و وقع تحريه على غير الجهة التي صلى إليها إن كان بعد الفراغ من الصلاة يعيد و إن كان في الصلاة يستقبل لأن ما جعل حجة بشرط عدم الأقوى يبطل عند وجوده كالاجتهاد إذا ظهر نص بخلافه .
و أما إذا شك ولم يتحر و صلى إلى جهة من الجهات فالأصل هو الفساد فإذا ظهر أن الصواب في غير الجهة التي صلى إليها أما بيقين أو بالتحري تقرر الفساد و إن ظهر أن الجهة التي صلى إليها قبله إن كان بعد الفراغ من الصلاة أجزأه و لا يعيد لأنه إذا شك في جهة الكعبة وبنى صلاته على الشك احتمل أن تكون الجهة التي صلى إليها قبلة و احتمل أن لا تكون فإن ظهر أنها لم تكن قبلة يظهر أنه صلى إلى غير القبلة .
و إن ظهر أنها كانت قبلة يظهر أنه صلى إلى القبلة فلا يحكم بالجواز في الابتداء بالشك و الاحتمال .
بل يحكم بالفساد بناء على الأصل و هو العدم بحكم استصحاب الحال فإذا تبين أنه صلى إلى القبلة بطل الحكم باستصحاب الحال و ثبت الجواز من الأصل .
و أما إذا ظهر في وسط الصلاة روي عن أبي يوسف أنه يبني على صلاته لما قلنا .
وفي ظاهر الرواية يستقبل لأن شروعه في الصلاة بناء على الشك و متى ظهرت القبلة إما بالتحري أو بالسؤال من غيره صارت حالته هذه أقوى من الحالة الأولى و لو ظهرت في الابتداء لا تجوز صلاته إلا إلى هذه الجهة فكذا إذا ظهرت في وسط الصلاة و صار كالمومىء إذا قدر على القيام في وسط الصلاة أنه يستقبل لما ذكرنا كذا هذا .
و أما إذا تحرى و وقع تحريه إلى جهة فصلى إلى جهة أخرى من غير تحر فإن أخطأ لا تجزيه بالإجماع و إن أصاب فكذلك في ظاهر الرواية و روي عن أبي يوسف أنه يجوز و وجهه أن المقصود من التحري هو الإصابة و قد حصل هذا المقصود فيحكم بالجواز كما إذا تحرى في الأواني فتوضأ بغير ما وقع عليه التحري ثم تبين أنه أصاب يجزيه كذا هذا .
وجه ظاهر الرواية أن القبلة حالة الاشتباه هي الجهة التي مال إليها المتحري فإذا ترك الإقبال إليها فقد أعرض عما هو قبلته مع القدرة عليه فلا يجوز كمن ترك التوجه إلى المحاريب المنصوبة مع القدرة عليه بخلاف الأواني لأن الشرط هو التوضأ بالماء الطاهر حقيقة و قد وجد .
فأما إذا صلى إلى جهة من الجهات بالتحري ثم ظهر خطأه فإن كان قبل الفراغ من الصلاة استدار إلى القبلة و أتم الصلاة [ لما روي أن أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة إلى بيت المقدس استداروا كهيئتهم و أتموا صلاتهم ولم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالإعادة ] و لأن الصلاة المؤداة إلى جهة التحري مؤداة إلى القبلة لأنها هي القبلة حال الاشتباه فلا معنى لوجوب الاستقبال و لأن تبدل الرأي في معنى انتساخ النص و ذا لا يوجب بطلان العمل بالمنسوخ في زمان ما تبل النسخ كذا هذا .
و إن كان بعد الفراغ من الصلاة فإن ظهر أنه : صلى يمنة أو يسرة يجزيه و لا يلزمه الإعادة بلا خلاف إن ظهر أنه صلى مستدبر الكعبة يجزيه عندنا .
و عند الشافعي : لا يجزيه و على هذا إذا اشتبهت القبلة على قوم فتحروا و صلوا بجماعة جازت صلاة الكل عندنا إلا صلاة من تقدم على إمامه أو علم بمخالفته إياه .
وجه قول الشافعي : أنه صلى إلى القبلة بالاجتهاد و قد ظهر خطأه بيقين فيبطل كما إذا تحرى و صلى في ثوب على ظن أنه طاهر ثم تبين أنه نجس أنه لا يجزيه و تلزمه الإعادة كذلك ههنا .
و لنا : أن قبلته حال الاشتباه هي الجهة التي تحرى إليها و قد صلى إليها فتجزيه كما إذا صلى إلى المحاريب المنصوبة و الدليل على أن قبلته هي جهة التحري النص و المنقول .
أما النص : فقوله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } قيل في بعض وجوه التأويل ثمة قبلة الله و قيل : ثمة رضاء الله و قيل : ثمة وجه الله الذي وجهكم إليه إذ لم يجىء منكم التقصير في طلب القبلة و أضاف التوجه إلى نفسه لأنهم وقعوا في ذلك بفعل الله تعالى من غير تقصير كان منهم في الطلب و نظيره قول النبي صلى الله عليه و سلم لمن أكل ناسيا لصومه : [ تم على صومك فإنما أطعمك الله و سقاك ] و إن وجد الأكل من الصائم حقيقة لكن لما لم يكن قاصدا فيه أضاف فعله إلى الله تعالى و صيره معذورا كأنه لم يأكل كذلك ههنا إذا كان توجهه إلى هذه الجهة من غير قصد منه حيث أتى بجميع ما في وسعه و إمكانه أضاف الرب سبحانه و تعالى ذلك إلى ذاته و جعله معذورا كأنه توجه إلى القبلة .
و أما المعقول : فما ذكرنا أنه لا سبيل له إلى إصابة عين الكعبة و لا إلى إصابة جهتها في هذه الحالة لعدم الدلائل الموصلة إليها و الكلام فيه و التكليف بالصلاة متوجه و تكليف ما لا يحتمله الوسع ممتنع و ليس في وسعه إلا الصلاة إلى جهة التحري فتعينت هذه قبلة له شرعا في هذه الحالة فنزلت هذه الجهة حالة العجز منزلة عين الكعبة و المحراب حالة القدرة و إنما عرف التحري شرطا نصا بخلاف القياس لا لإصابة القبلة و به تبين أنه ما أخطا قبلته لأن قبلته جهة التحري و قد صلى إليها بخلاف مسألة الثوب لأن الشرط هناك هو الصلاة بالثوب الطاهر حقيقة لكنه أمر بإصابته بالتحري فإذا لم يصب انعدم الشرط فلم يجز أما ههنا فالشرط استقبال القبلة و قبلته هذه في هذه الحالة و قد استقبلها فهو الفرق و الله أعلم