آداب القضاء .
فصل : و أما آداب القضاء فكثيرة و الأصل فيها كتاب سيدنا عمر Bه إلى أبي موسى الأشعري C سماه محمد كتاب السياسة و فيه : أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فإنهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له آس بين الناس في وجههك و مجلسك و عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك و في رواية : لا يخاف ضعيف جورك البينة على المدعي و اليمين على من أنكر الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم لا يبطل و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن العظيم و السنة ثم أعرف الأمثال و الأشباه و قس الأمور عند ذلك فاعمد إلى أحبها و أقربها إلى الله تبارك و تعالى أشبهها بالحق اجعل للمدعي أمدا ينتهي إليه فإذا أحضر بينة أخذ بحقه و إلا وجب القضاء عليه .
و في رواية : و إن عجز عنها استحللت عليه القضاء فإن ذلك أبلغ العذر و أجلى للعمى و المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف أو ظنينا في ولاء أو قرابة أو مجربا عليه شهادة زور فإن الله تعالى تولى منكم السر و في رواية السرائر ودرأ عنكم البينات إياك و الغضب و القلق والضجر و التأذي بالناس للخصوم في مواطن الحق الذي يوجب الله سبحانه و تعالى به الأجر و يحسن به الذخر و أن من يخلص نيته فيما بينه و بين الله تعالى و لو على نفسه في الحق يكفه الله تعالى فيما بينه و بين الناس و من يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه شأنه الله D فإنه سبحانه و تعالى لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب عن الله سبحانه من عاجل رزقه و خزائن رحمته و السلام .
و منها : أن يكون القاضي فهما عند الخصومة فيجعل فهمه و سمعه و قلبه إلى كلام الخصمين لقول سيدنا عمر Bه في كتاب السياسة : فافهم إذا أولي إليك و لأن من الجائز أن يكون الحق من أحد الخصمين فإذا لم يفهم القاضي كلامهما يضيع الحق و ذلك قوله رضي الله تعالى عنه فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له .
و منها : أن لا يكون قلقا وقت القضاء لقول سيدنا عمر Bه : إياك و القلق و هذا ندب إلى السكون و التثبيت .
و منها : أن لا يكون ضجرا عند القضاء إذا اجتمع عليه الأمور فضاق صدره لقوله Bه : إياك الضجر .
و منها : أن لا يكون غضبان و قت القضاء لقول سيدنا عمر Bه : إياك و الغضب و قال عليه الصلاة و السلام : [ لا يقضي القاضي و هو غضبان ] و لأنه يدهشه عن التأمل .
و منها : أن لا يكون جائعا و لا عطشان و لا ممتلئا لأن هذه العوارض من القلق و الضجر و الغضب و الجوع و العطش و الامتلاء مما يشغله عن الحق و منها : أن لا يقضي و هو يمشي على الأرض أو يسير على الدابة لأن الشمي و السير يشغلانه عن النظر و التأمل في كلام الخصمين و لا بأس بأن يقضي و هو متكئ لأن الاتكاء لا يقدح في التأمل و النظر .
و منها : أن يسوي بين الخصمين في الجلوس فيجلسهما بين يديه لا عن يمينه و لا عن يساره لأنه لو فعل ذلك فقد قرب أحدهما في مجلسه و كذا ألا يجلس أحدهما عن يمينه و الآخر عن يساره لأن اليمين فضلا على اليسار و قد روي أن عمر و أبي بن كعب Bهما اختصما في حادثة إلى زيد بن ثابت : فألقى لسيدنا عمر Bه و سادة فقال سيدنا عمر Bه هذا أول جورك و جلس بين يديه .
و منها : أن يسوي بينهما في النظر و النطق و الخلوة فلا ينطلق بوجهه إلى أحدهما و لا يسار أحدهما و لا يومئ إلى أحدهما بشيء دون خصمه و لا يرفع صوته على أحدهما و لا يكلم أحدهما بلسان لا يعرفه الآخر ولا يخلو بأحد في منزله و لا يضيف أحدهما فيعدل بين الخصمين في هذا كله لما في ترك العدل فيه من كسر قلب الآخر و يتهم القاضي به أيضا .
و منها : أن لا يقبل الهدية من أحدهما إلا إذا كان لا يلحقه به تهمة و جملة الكلام فيه أن المهدي لا يخلو إما أن يكون رجلا كان يهدي إليه في تقليد القضاء و إما إن كان لا يهدي إليه فأما إن كان قريبا له أو أجنبيا فإن كان قريبا له ينظر إن كان له خصومة في الحال فإنه لا يقبل لأنه يلحقه التهمة و إن كان لا خصومة له في الحال يقبل لأنه لا تهمة فيه و إن كان أجنبيا لا يقبل سواء كان له خصومة التهمة و إن كان لا خصومة له في الحال يقبل لأنه تهمة فيه و إن كان أجنبيا لا يقبل سواء كان له خصومة في الحال أو لا لأنه إن كان له خصومة في الحال كان بمعنى الرشوة و إن لم يكن فربما يكون خصومه في الحال يأتي بعد ذلك فلا يقبل و لو قبل يكون لبيت المال .
هذا إذا كان الرجل لا يهدي إليه قبل تقليد القضاء فأما إذا كان يهدي إليه فإن كان له في الحال خصومة لا تقبل لأنه يتهم فيه و إن كان لا خصومة له في الحال ينظر إن كان أهدى مثل ما كان يهدي أو أقل يقبل لأنه لا تهمة فيه و إن كان أكثر من ذلك يرد الزيادة عليه و إن قبل كان لبيت المال و إن لم يقبل للحال حتى انقضت الخصومة ثم قبلها لا بأس به .
و منها : أن لا يجيب الدعوة الخاصة بأن كانوا خمسة أو عشرة لأنه لا يخلو من التهمة إلا إذا كان صاحب الدعوة ممن كان يتخذ له الدعوة قبل القضاء أو كان بينه وبين القاضي قرابة فلا بأس بأن يحضر إذا لم يكن له خصومة لانعدام التهمة فإن عرف القاضي له خصومة لم يحضرها .
و أما الدعوة العامة فإن كانت بدعة كدعوة المباراة و نحوها لا يحل له أن يحضرها لأنه لا يحل لغير القاضي إجابتها فالقاضي أولى و إن كانت سنة كوليمة العرس و الختان فإنه يجيبها لأنه إجابة و لا تهمة فيه .
و منها : أن لا يقلن أحد الخصمين حجته لأن فيه مكسرة قلب الآخر و لأن إعانة أحد الخصمين فيوجب التهمة غير أنه إن تكلم أحدهما أكست الآخر ليفهم كلامه و منها أن لا يقلن الشاهد بل يتركه يشهد بما عنده فإن أوجب الشرع قبوله قبله و إلا ورده و هذا قول أبي حنيفة و محمد و هو قلو أبي يوسف الأول ثم رجع و قال : لا بأس بتلقين الشاهد بأن يقول : أتشهد بكذا و كذا ؟ وجه قوله : أن من الجائز أن الشاهد يلحقه الحصر لمهابه مجلس القضاء فيعزه عن إقامة الحجة فكان التلقين تقويما لحجة ثابتة فلا بأس به و لهما : أن القاضي يتهم بتلقين الشاهد فيتحرج عنه .
و منها : أن لا يعبث بالشهود لأن ذلك يشوش عليهم عقولهم فلا يمكنهم أداء الشهادة على وجهها و إذا اتهم الشهود فلا بأس بأن يفرقهم عند أداء الشهادة فيسألهم أين كان و متى كان فإن اختلفوا يوجب رد الشهادة ردها و إلا فلا .
و يشهد القاضي الجنازة لأن ذلك حق الميت على المسلمين فلم يكن متهما في أداء سنة فيحضرها إلا إذا اجتمعت الجنائز على وجه لو حضرها كله لشغله ذلك عن أمور المسلمين فلا بأس أن لا يشهد لأن القضاء فرض عين و صلاة الجنازة فرض كفاية إقامة فرض العين عند تعذر الجمع بينهما أولى و يعود المريض أيضا لأن ذلك حق المسلمين على المسلمين فلا يحقه التهمة بإقامته و يسلم على الخصوم إذا دخلوا المحكمة لأن السلام من سنة الإسلام و كان شريح يسلم على الخصوم لكن لا يخص أحد الخصمين بالتسليم عليه دون الآخر و هذا قبل جلوسه في مجلس الحكم .
فأما إذا جلس لا يسلم عليهم و لا هم يسلمون عليه أما هو فلا يسلم عليهم لأن السنة ان يسلم القائم على القاعد لا القاعد و هو قاعد و هم قيام و أما هم فلا يسلمون عليه لأنهم لو سلموا عليه لا يلزمه الرد لأنه اشتغل بأمر هو أهم و أعظم من رد السلام فلا يلزمه الاشتغال .
كذا ذكر الفقيه أبو جعفر الهنداوي في رجل يقرأ القرآن فدخل آخر أنه لا ينبغي له أن يسلم عليه .
و لو سلم عليه لا يلزمه الجواب .
و كذا المدرس إذا جلس للتدريس لا ينبغي لأحد أن يسلم عليه و لو سلم لا يلزمه الرد لما قلنا بخلاف الأمير إذا جلس فدخل عليه الناس أنهم يسلمون عليه و هو السنة و إن كان سلاطين زماننا يكرهون التسليم عليهم و هو خطأ منهم لأنهم جلسوا للزيارة و من سنة الزائر التسليم على من دخل عليه و أما القاضي فإنما جلس للعبادة لا للزيارة فلا يسن التسليم عيله و لا يلزمه الجواب إن سلموا لكن لو أجاب جاز .
و منها : أن يسأل القاضي عن حال الشهود فيما سوى الحدود و القصاص تعالى و إن لم يطعن الخصم و هو من آداب القاضي عند أبي حنيفة C لأن القضاء بظاهر العدالة و إن كان جائزا عنده فلا شك أن القضاء بالعدالة الحقيقة أفضل و أما عندهما فهو من واجبات القضاء .
و كذا إذا طعن الخصم عنده في غير الحدود و القصاص و في الحدود و القصاص طعن أو لم يطعن ثم القضاة من السلف كانوا يسألون بأنفسهم عن حال الشهود من أهل محلتهم و أهل سوقهم و إن كان الشاهد سوقيا ممن هو أتقى الناس و أورعهم و أعظمهم أمانة و أعرفهم بأحوال الناس ظاهرا و بطانا و القضاة في زماننا نصبوا للعدل تيسيرا للأمر عليهم لما يتعذر على القاضي طلب المعدل في كل شاهد فاستحسنوا نصب العدل .
ثم نقول : للتعديل شرائط بعضها يرجع إلى نفس العدل و بعضها يرجع إلى فعل التعديل .
أما الأنواع فأنواع : منها : العقل منها : البلوغ و منها : الإسلام فلا يجوز تعديل المجنون و الصبي و الكافر لأن التزكية إن كانت تجري مجرى الشهادة فهؤلاء ليسوا من أهل الشهادة فلا يكونون من أهل التزكية و إن كانت من باب الإخبار عن الديانات فخبرهم في الديانات غير مقبول لأنه لا بد فيه من العدالة و لا عدالة لهؤلاء .
و منها : العدالة لأن من لا يكون عدلا في نفسه كيف يعدل غيره .
و أما العدد فليس بشرط الجواز عند أبي حنيفة و أبي يوسف لكنه شرط الفضيلة و الكمال و عند محمد شرط الجواز .
و جه قوله : أن التزكية في معنى الشهادة لأنه خبر عن أمر غاب علم القاضي و هذا معنى الشهادة فيشترط لها نصاب الشهادة .
و لهما : أن التزكية ليست بشهادة بدليل أنه لا يشترط فيه لفظ الشهادة فلا يلزم فيها العدد على أن شرط العدد في الشهادات ثبت نصا غير معقول المعنى فيما يشترط فيه لفظ الشهادة فلا يلزم مراعاة العدد فيها و راءه و على هذا الخلاف العدد في الترجمان و حامل المنشور أنه ليس بشرط عندهما و عنده شرط و على هذا الخلاف حرية المعدل و بصره و سلامته عن حد القذف أنه ليس بشرط عندهما فتصح تزكية الأعمى و العبد و المحدود في القذف و عند محمد شرط فلا تصح تزكيتهم لأن التزكية شهادة عنده فيشترط لها ما يشترط لسائر الشهادات و عندهما ليست بشهادة فلا يراعي فيها شرائط الشهادة لما قلنا و أما الذكورة فليست بشرط لجواز التزكية فتجوز تزكية المرأة تخرج لحوائجها و تخالط الناس فتعرف أحوالهم و هذا ظاهر الرواية على أصلها لأن هذا من باب الإخبار عن الديانات و هي من أهله .
و أما عند محمد فتقبل تزكيتها فيما تقبل شهادتها فتصح تزكيتها فيما يقبل فيه شهادة رجل و امرأتين و تجوز تزكية الولد للوالد و الوالد للولد و كل ذي رحم منه لأنه لا حق للعدل في التعديل إنما هو حق المدعي فلا يوجب تهمة فيه و هذا يشكل على أصل محمد لأنه يجري التعديل مجرى الشهادة و شهادة الوالد لولده و عكسه لا تقبل .
و منها : أن لا يكون المزكي مشهودا عليه فإن كان لم تعتبر تزكيته و يجب السؤال و هذا تفريع على مذهب أبي يوسف و محمد فيما سوى الحدود و القصاص بناء على أن المسألة ما وجبت حقا للمشهود عليه عندهما و إنما و جبت حقا للشرع و حق الشرع لا يتأدى بتعديله لأن في زعم المدعي و الشهود أنه كاذب في إنكاره فلا يصح تعديله .
و عند أبي حنيفة السؤال فيما سوى الحدود و القصاص حق المشهود عليه و حق الإنسان لا يطلب إلا بطلبه فما لم يطعن لا يتحقق الطلب فلا تجب المسألة .
و ذكر في كتاب التزكية أن المشهود عليه إذا قال للشاهد : هو عدل لا يكتفي به ما لم ينضم إليه آخر على قول محمد فصار عن محمد روايتان في رواية لا يعتبر أصلا و في رواية يقبل تعديله إذا انضم إليه غيره .
و أما الثاني الذي يرجع إلى فعل التعديل فهو : أن يقول المعدل في التعديل هو عدل جائز الشهادة حتى لو قال : هو عدل و لم يقل جائز الشهادة لا يقبل تعديله لجواز أن يكون الإنساب عدلا في نفسه و لا تجوز شهادته كالمحدود في القذف إذ تاب و صلح و العبد الصالح .
و كذلك إذا قال في الرد : هو ليس بعدل لا يرد ما لم يقل هو غير جائز الشهادة لأن غير العدل و هو الفاسق تجوز شهادته إذا تحرى القاضي الصدق في شهادته و لو قضى به القاضي ينفذ .
و منها : أن يسأل المعدل في السر أولا فإن و جده عدلا يعدله في العلانية أيضا و يجمع بين المزكي و الشهود و بين المدعي و المدعى عليه في تعديل العلانية و إن لم يجده عدلا يقول للمدعي زد في شهودك و لا يكشف عن حال المجروح سترا على المسلم و لا يكتفي بتعديل السر خوفا من الاحتيال و التزوير بأن يسمى غير العدل باسم العدل فكان الأدب هو التزكية في السر و لو اختلف المعدلان فعدله أحدهما و جرحه الآخر سأل القاضي غيرهما فإن عدله آخر أخذ بالتزكية و إن جرحه آخر أخذ بالجرح لأن خبر الاثنين أولى من خبر الواحد بالقبول لأنه حجة مطلقة و إن انضم إلى كل واحد منهما رجل آخر فعدله اثنان و جرحه اثنان عمل بالجرح لأن الجارح يعتمد حقيقة الحال والمعدل يبني الأمر على الظاهر لأن الظاهر من حال الإنسان أن يظهر الصلاح و يكتم الفسق فكان قبول قول الجارح أولى .
كذلك لو جرحت اثنان و عدله ثلاثة أو أربعة أو أكثر يعمل بقول الجارح لأن الترجيح لا يقع بكثرة العدد في باب الشهادة .
و منها : أن يجلس معه جماعة من أهل الفقة يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله من الأحكام و قد ندب الله سبحانه رسوله عليه الصلاة و السلام إلى المشاورة بقوله : { و شاورهم في الأمر } مع انفتاح باب الوحي فغيره أولى و عن أبي هريرة Bه أنه قال : ما رأيت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر مشاورة لأصحابه منه .
و روى : [ أنه عليه السلام كان يقول لسيدنا أبي بكر و سيدنا عمر Bه تعالى عنهما قولا فإني فيما لم يوح إلي مثلكما ] و لأن المشاورة في طلب الحق من باب المجاهدين في الله D فيكون سببا للوصول إلى سبيل الرشاد قال الله D : { و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } .
و ينبغي أن يجلس معه من يوثق بدينه و أمانته لئلا يضمن بما عنده من الحق و الثواب بل يهديه إلى ذلك إذا رفع إليه و لا ينبغي أن يشاورهم بحضرة الناس لأن ذلك يذهب بمهابه المجلس و الناس يتهمونه بالجهل و لكن يقيم الناس عن المجلس ثم يشاورهم أو يكتب في رقعة فيدفع إليهم أو يكلمهم بلغة لا يفهمها الخصمان .
هذا إذا كان القاضي لا يدخله حصر بإجلاسهم عنده ولا يعجز عن الكلام بين أيديهم فإن كان لا يجلسهم فإن أشكل عليه شيء من أحكام الحوادث بعث إليهم و سألهم .
و منها : أن يكون له جلواز و هو المسمى بصاحب المجلس في عرف ديارنا يقوم على رأس القاضي لتهذيب المجلس و بيده سوط يؤدب به المنافق و ينذر به المؤمن و قد روى : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يمسك بيده سوطا ينذر به المؤمن و يؤدب به المنافق ] و كان سيدنا أبو بكريمسك سوطا و سيدنا عمر اتخذ درة و منها : أن يكون له أعوان يستحضرون الخصوم و يقومون بين يديه إجلالا له ليكون مجلسا مهيبا و يذعن المتردد للحق و هذا في زمان الصحابة و التابعين Bهم فما كان تقع الحاجة إلى أمثال ذلك لأنهم كانوا ينظرون إلى الأمراء و القضاة بعين التبجيل و التعظيم و يخافونهم و ينقادون للحق بدون ذلك .
فقد روى ان سيدنا عمر Bه كان يقضي في المسجد فإذا فرغ استلقى على قفاه و توسد بلحصى و ما كان ينقص ذلك من حرمته و روى أنه لبس قميصا فاذدادت أكمامه عن أصابعه فدعا بالشفرة فقطعهما و كان لا يكفهما أياما و كانت الأطراف متعلقة منها و الناس يهابونه غاية المهابة فأما اليوم فقد فسد الزمان و تغير الناس فهان العلم و أهله فوقعت الحاجة إلى هذه التكليفات للتوسل إلى إحياء الحق و إنصاف المظلوم من الظالم .
و منها : أن يكون له ترجمان لجواز أن يحضر مجلس القضاء من لا يعرف القاضي لغته من المدعي و المدعى عليه و الشهود و الكلام في عدد الترجمان و صفاته على الاتفاق و الاختلاف كالكلام في عدد المزكي و صفاته كما تقدم و الله أعلم .
و منها : أن يتخذ كاتبا لنه يحتاج إلى محافظة الدعاوي و البينات و الإقرارات التي لا يمكنه حفظها فلا بد من الكتابة و قد يشق من عليه أن يكتب بنفسه فيحتاج إلى كاتب يستعين به و ينبغي أن يكون عفيفا صالحا من أهل الشهادة و له معرفة بالفقه أما العفة و الصلاح فلأن هذا من باب الأمانة و الأمانة لا يؤديها إلا العفيف الصالح و أما أهلية الشهادة فلأن القاضي قد يحتاج إلى شهادته و أما معرفته بالفقه فلأنه يحتاج إلى الاختصار و الحذف من كلام الخصمين و النقل من لغة و لا يقدر على ذلك إلا من له معرفة بالفقه فإن لم يكن فقيها كتب كلام الخصمين كما سمعه و لا يتصرف فيه بالزيادة و النقصان لئلا يوجب حقا لم يجب و لا يسقط حقا واجبا لأن تصرف غير الفقيه بتفسير الكلام لا يخلو عن ذلك .
و ينبغي أن يقعد الكاتب حيث يرى ما يكتب و ما يصنع فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط ثم في عرف بلادنا يقدم كتابة الدعوى على الدعوى فيكتب دعوى المدعي و يترك موضع التاريخ بياضا لجواز أن تتخلف الدعوى عن و قت الكتابة و يترك موضع الجواب أيضا بياضا لأنه لا يدري أن المدعى عليه يقر أو ينكر و يكتب أسماء الشهود إن كان للمدعي شهود و يترك بين كل شاهدين بياضا ليكتب القاضي التاريخ و جواب الخصم و شهادة الشهود بنفسه ثم يطوي الكاتب الكتاب و يختمه ثم يكتب على ظهره خصومه فلان ابن فلان مع فلان في شهر كذا في سنة كذا و يجعله في قمطرة و ينبغي أن يجعل لخصومات كل شهر قمطرا على حدة ليكون أبصر بذلك ثم يكتب القاضي في ذلك الشهر أسماء الشهود بنفسه على بطاقة أو يستكتب الكتاب بين يديه فيبعثها إلى المعدل سرا و هي المسماة يالمستورة في عرف ديارنا و الأفضل أن يبعث على يدي عدلين و إن يبعث على يدي عدل فهو على الاخلاف الذي ذكرنا و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و منها : أن يقدم الخصوم على مراتبهم في الحضور الأول فالأول لقوله E : [ المباح لمن سبق إليه ] و إن اشتبه عليه حالهم استعمل القرعة فقدم من خرجت قرعته إلا الغرباء إذا خاصموا بعض أهل المصر إليه أو خاصم بعضهم بعضا أو خاصمهم بعض أهل المصر فإنه يقدمهم في الخصومة على أهل المصر لما روي عن سيدنا عمر Bه أنه قال : قدم الغريب فإنك إذا لم ترفع به رأسا ذهب و ضاع حقه فتكون أنت الذي ضيعته ندب Bه إلى تقديم الغريب و نبه على المعنى لأنه لا يمكنه الانتظار فكان تأخيره في الخصومة تضييعا لحقه إلا إذا كانوا كثيرا بحيث يشتغل القاضي عن أهل المصر فيخلطهم بأهل المصر لأن تقديمهم يضر بأهل المصر .
و كذا تقديم صاحب الشهود على غيره لأن إكرام الشهود واجب قال E : [ أكرموا الشهود فإن الله يحيي بهم الحقوق ] و ليس من الإكرام حبسهم على باب القاضي .
و هذا إذا كان واحدا فإن كانوا كثيرا أقرع بينهم و ينبغي أن يقدم الرجال على حدة و النساء على حدة لما في الخلط من خوف الفتنة و لو رأى أن يجعل لهن يوما على حدة لكثرة الخصوم فعل لأن إفرادهن بيوم أسترلهن .
و منها : أن لا يتعب نفسه في طول الجلوس لأنه يحتاج إلى النظر في الحجج و بطول الجلوس يختل النظر فيها فلا ينبغي أن يفعل ذلك و يكفي الجلوس طرفي النهار و قدر مالا يفتر عن النظر في الحجج و إذا تقدم إليه الخصمان هل يسأل المدعي عن دعواه ؟ ذكر في أدب القاضي أنه يسأل ذكر في الزيادات أنه لا يسأل و ذكر في الزيادات أنه لا يسأل حتى يقول له المدعي : سله عن جواب دعواي .
وجه ما ذكرنا في الزيادات : أن السؤال عن الدعوى إنشاء الخصومة و القاضي لا ينشىء الخصومة .
وجه ما ذكر في الكتاب : أن من الجائز أن أحد الخصمين يلحقه مهابة مجلس القضاء فيعجز عن البيان دون سؤال القاضي فيسأل عن دعواه .
و منها : أن المدعي إذا أقام البينة فادعى المدعي عليه الدفع و قال : لين بينه حاضرة أمهله زمانا لقول سيدنا عمر Bه في كتاب السياسة : اجعل للمدعي أمدا ينتهي إليه و أراد به مدعي الدفع ألا ترى أنه قال : و إن عجز استحللت عليه القضاء و لأنه لو لم يمهله و قضى ببينة المدعي ربما يحتاج إلى نقص قضائه لجواز أن يأتي بالدفع مؤخرا فهو من صيانة القضاء عن النقص ثم ذلك مفوض إلى رأي القاضي إن شاء أخر إلى آخر المجلس و إن شاء إلى الغد و إن شاء إلى بعد الغد و لا يزيد عليه لأن الحق قد توجه عليه فلا يسعه التأخير أكثر من ذلك و إن أدى ببينة غائبه لا يلتفت إليه بل يقضي للمدعي .
و منها : أن يجلس للقضاء في أشهر المجالس ليكون أرفق بالناس و هل يقضي في المسجد ؟ قال أصحابنا رحمهم الله يقضي و قال الشافعي C : لا يقضي بل يقضي في بيته .
و جه قوله : أن القاضي يأتيه المشرك و الحائض و النفساء و الجنب و يجري بين الخصمين كلام اللغو و الرفث و الكذب لأن أحدهما كاذب و تنزيه المسجد عن هذا كله واجب .
و لنا : الاقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم و الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقضي في المسجد و كذا الخلفاء الراشدين و الصحابة و التابعون Bهم كانوا يجلسون في المسجد للقضاء و الاقتداء بهم واجب و لا بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح إن طمع منهم ذلك قال الله تبارك و تعالى : { و الصلح خير } فكان الرد إلى الصلح ردا إلى الخير .
و قال سيدنا عمر Bه : ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن فندب Bه القضاء إلى رد الخصوم إلى الصلح و نبه على المعنى و هو حصول المقصود من غير ضغينة و لا يزيد على مرة أو مرتين فإن اصطلحا و إلا قضى بينهما بما يوجب الشرع و إن لم يطمع منهم الصلح لا يردهم إليه بل ينفذ القضية فيهم لأنه لا فائدة في رد و هل للقاضي أن يأخذ الرزق فإن كان فقيرا له أن يأخذ لأنه يعمل للمسلمين فلا بد له من الكفالة و لا كفالة له فكانت كفايته في بيت المال إلا أن يكون له ذلك أجرة عمله و ينبغي للإمام أن يوسع عليه و على عياله كيلا يطمع في أموال الناس .
و روى : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث عتاب بن أسيد Bه إلى مكة و ولاه أمرها رزقه أربعمائة درهم في كل عام ] .
و روى أن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم : أجروا لسيدنا أبي بكر الصديق Bه كل يوم درهما و ثلثين من بيت المال .
و كذا روي أنه كان لسيدنا عمر Bه : مثل ذلك من بيت المال و كان لسيدنا علي Bه كل يوم قصعة من ثريد و رزق سيدنا عمر Bه شريحا و روى أن سيدنا عليا فرض له خمسمائة درهم في كل شهر و إن كان غنيا اختلفوا فيه قال بعضهم : لا يحل له أن يأخذ لأن الأخذ بحكم الحاجة و لا حاجة له إلى ذلك .
و قال بعضهم : يحل له الأخذ والأفضل له أن يأخذ أما الحل فلما بينا أنه عامل للمسلمين فكانت كفاية عليهم لا من طريق الأجر و أما الأفضلية فلأنه و إن لم يكن محتاجا إلى ذلك فربما يجيء بعده قاض محتاج و قد صار ذلك سنة ورسما فتمتنع السلاطين عن إبطال رزق القضاة إليهم خصوصا سلاطين زماننا فكان الامتناع من الأخذ شحا بحق الغير فكان الأفضل هو الأخذ و ليس للقاضي أن يسنحلف إلا إذا أذن له الإمام بذلك لأنه يتصرف بالتفويض فيقتدر بقدر ما فوض إليه كالوكيل و لو استخلف تتوقف قضايا خليفته على إجازته بمنزلة الوكيل الخاص إذا و كل غيره فتصرف و لو كان الإمام أذن له ذلك كالوكيل العام و هي آداب القضاء و ما ندب القاضي إلى فعله كثرة لها كتاب مفرد هناك إن شاء الله تعالى