بيان قدر القراءة .
و الزيادة على الشيء لا يقتضي أن يكون مثله و لهذا اختلف الشفعان في وصف القراءة من حيث الجهر و الإخفاء و في قدرها و هو قراءة السورة فلم يصح الاستدلال على أن في الكتاب و السنة بيان فرضية القراءة و ليس فيهما بيان قدر القراءة المفروضة و قد خرج فعل الصحابة Bهم على مقدار فيجعل بيانا لمجمل الكتاب و السنة بخلاف التطوع لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة حتى أن فساد الشفع .
الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول بخلاف الفرض و الله أعلم .
و أما في الأخريين فالأفضل أن يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب و لو سبح في كل ركعة ثلاث تسبيحات مكان فاتحة الكتاب أو سكت أجزأته صلاته و لا يكون مسيئا إن كان عامدا و لا سهو عليه إن كان ساهيا .
كذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه مخير بين قراءة الفاتحة و التسبيح و السكوت و هذا جواب .
ظاهر الرواية و هو قول أبي يوسف و محمد .
و روى الحسن عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنه إن ترك الفاتحة عامدا كان مسيئا و إن كان .
ساهيا فعليه سجدتا السهو .
و الصحيح جواب ظاهر الرواية لما روينا عن علي و ابن مسعود Bهما أنهما كانا يقولان : إن .
المصلي بالخيار في الأخريين إن شاء قرأ و إن شاء سكت و إن شاء سبح .
و هذا باب لا يدرك بالقياس فالمروي عنهما كالمروي عن النبي صلى الله عليه و سلم .
و أما بيان قدر القراءة فالكلام فيه يقع في ثلاث مواضع : .
أحدها : في بيان القدر المفروض الذي يتعلق به أصل الجواز .
و الثاني : في بيان القدر الذي يخرج به عن حد الكراهة .
و الثالث : في بيان القدر المستحب .
أما الكلام فيما يستحب من القراءة و فيما يكره فنذكره في موضعه و ههنا نذكر القدر الذي يتعلق به أصل الجواز .
و عن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات في ظاهر الرواية قدر أدنى المفروض بالآية التامة طويلة كانت أو قصيرة كقوله تعالى { مدهامتان } .
و قوله : { ثم نظر } و قوله : { ثم عبس وبسر } .
و في رواية الفرض غير مقدر بل هو على أدنى ما يتناوله الاسم سواء كانت آية أو ما دونها بعد أن قرأها على قصد القراءة .
و في رواية قدر الفرض بآية طويلة كآية الكرسي و آية الدين أو ثلاث آيات قصار و به أخذ أبو يوسف و محمد و أصله قوله تعالى : { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } فهما يعتبران العرف و يقولان مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف و أدنى ما يسمى المرء به قارئا في العرف أن يقرأ آية طويلة أو ثلات آيات قصار .
و أبو حنيفة يحتج بالآية من وجهين : .
أحدهما : أنه أمر بمطلق القراءة و قراءة آية قصيرة قراءة .
و الثاني : أنه أمر بقراءة ما تيسر من القرآن و عسى لا يتيسر إلا هذا القدر .
و ما قاله أبو حنيفة أقيس لأن القراءة مأخوذة من القرآن أي الجمع سمي بذلك لأنه يجمع السور فيضم بعضها إلى بعض و يقال قرأت الشيء قرانا أي جمعته فكل شيء جمعته فقد قرأته و قد حصل معنى الجمع بهذا القدر لاجتماع حروف الكلمة عند التكلم و كذا العرف ثابت فإن الآية التامة أدنق ما ينطلق عليه اسم القرآن في العرف فأما ما دون الآية فقد يقرأ لا على سبيل القرآن فيقال ! بسم الله أو الحمد لله أو سبحان الله فلذلك قدرنا بالآية التامة .
على أنه لا عبرة لتسميته قارئا في العرف لأن هذا أمر بينه و بين الله تعالى فلا يعتبر فيه عرف الناس و قد قرر القدوري الرواية الأخرى و هي إن المفروض غير مقدر و قال : المفروض مطلق القراءة من غير تقدير و لهذا يحرم ما دون الآية على الجنب و الحائض إلا أنه قد يقرأ لا على قصد القرآن و ذا لا يمنع الجواز فإن الآية التامة قد تقرأ لا على قصد القرآن في الجملة ألا ترى أن التسمية قد تذكر لافتتاح الأعمال لا لقصد القرآن و هي آية تامة و كلامنا فيما إذا قرأ على قصد القرآن فيجب أن يتعلق به الجواز و لا يعتبر فيه العرف .
لما بينا ثم الجواز كما يثبت بالقراءة بالعربية يثبت بالقراءة بالفارسية عند أبي حنيفة سواء كان يحسن العربية .
أو لا يحسن .
و قال أبو يوسف و محمد : إن كان يحسن لا يجوز و إن كان لا يحسن يجوز .
و قال الشافعي : لا يجوز أحسن أو لم يحسن .
و إذا لم يحسن العربية بسبح و يهلل عنده و لا يقرأ بالفارسية و أصله قوله تعالى : { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } أمر بقراءة القرآن في الصلاة فهم قالوا : إن القرآن هو المنزل بلغة العرب قال الله تعالى : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا } فلا يكون الفارسي قرآنا فلا يخرج به عن عهدة الأمر و لأن القرآن معجز و الإعجاز من حيث اللفظ يزول بزوال النظم العربي فلا يكون الفارسي قرآنا لانعدام الإعجاز و لهذا لم تحرم قراءته على الجنب و الحائض إلا إنه إذا لم يحسن العربية فقد عجز عن مراعاة لفظه فيجب عليه مراعاة معناه ليكون .
التكليف بحسب الإمكان .
و عند الشافعي C تعالى : هذا ليس بقرآنا فلا يؤمر بقراءته و أبو حنيفة يقول : إن الواجب في .
الصلاة قراءة القرآن من حيث هو لفظ دال على كلام الله تعالى الذي هو صفة قائمة به لما يتضمن من العبر و المواعظ و الترغيب و الترهيب و الثناء و التعظيم لا من حيث هو لفظ عربي .
و معنى الدلالة عليه لا يختلف بين لفظ و لفظ قال الله { وإنه لفي زبر الأولين } .
و قال : { إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى } و معلوم إنه ما كان في كتبهم بهذا اللفظ بل بهذا المعنى .
و أما قولهم : إن القران هو المنزل بلغة العرب فالجواب عنه من وجهين : أحدهما : إن كون العربية قرآنا لا ينفي أن يكون غيرها قرآنا وليس في الآية نفيه و هذا لأن العربية سميت قرآنا لكونها دليلا على ما هو القرآن و هي الصفة التي هي حقيقة الكلام و لهذا قلنا إن القرآن غير مخلوق على إرادة تلك الصفة دون العبارات العربية و معنى الدلالة يوجد في الفارسية فجاز تسميتها قرآنا دل عليه قوله تعالى : { ولو جعلناه قرآنا أعجميا } أخبر سبحانه و تعالى أنه لو عبر عنه بلسان العجم كان قرآنا و الثاني إن كان لا يسمى غير .
العربية قرآنا لكن قراءة العربية ما وجبت لأنها تسمى قرآنا بل لكونها دليلا على ما هو القرآن الذي هو صفة قائمة بالله بدليل أنه لو قرأ عربية لا يتأدى بها كلام الله تفسد صلاته فضلا من أن تكون قرآنا واجبا و معنى الدلالة لا يختلف فلا يختلف الحكم المتعلق به و الدليل على أن عندهما تفترض القراءة بالفارسية على غير القادر على العربية و عذرهما غير مستقيم لأن الوجوب متعلق بالقرآن و أنه قرآن عندهما باعتبار اللفظ دون المعنى فإذا زال اللفظ لم يكن المعنى قرآنا فلا معنى للإيجاب و مع ذلك وجب فدل أن الصحيح ما ذهب .
إليه أبو حنيفة و لأن غير العربية إذا لم يكن قرآنا لم يكن من كلام الله تعالى فصار من كلام الناس وهو يفسد الصلاة و القول بتعلق الوجوب بما هو مفسد غير سديد .
و أما قولهم : إن الإعجاز من حيث اللفظ لا يحصل بالفارسية فنعم لكن قراءة ما هو معجز النظم عنده ليس بشرط لأن التكليف ورد بمطلق القراءة لا بقراءة ما هو معجز و لهذا جوز قراءة آية قصيرة و إن لم تكن هي معجزة ما لم تبلغ ثلاث آيات و فصل الجنب و الحائض ممنوع .
و لو قرأ شيئا من التوراة أو الإنجيل أو الزبور في الصلاة إن تيقن أنه غير محرف يجوز عند أبي حنيفة لما قلنا : و إن لم يتيقن لا يجوز لأن الله تعالى أخبر عن تحريفهم بقوله : { يحرفون الكلم عن مواضعه } فيحتمل إن المقروء محرف فيكون من كلام الناس فلا يحكم بالجواز بالشك و الاحتمال .
و على هذا الخلاف إذا تشهد أو خطب يوم الجمعة بالفارسية و لو أمن بالفارسية أو سمى عند الذبح بالفارسية أولبى عند الإحرام بالفارسية أو بأي لسان كان يجوز بالإجماع و لو أذن بالفارسية قيل : إنه على هذا الخلاف .
و قيل : لا يجوز بالاتفاق لأنه لا يقع به الإعلام حتى لو وقع به الإعلام يجوز و الله أعلم