بيان ما يغير حال المعقود عليه من الأمانة إلى الضمان .
فصل : و أما بيان ما يغير حال المعقود عليه من الأمانة إلى الضمان فأنواع : منها ترك الحفظ لأنه بالعقد التزم حفظ الوديعة على وجه لو ترك حفظها حتى هلكت يضمن بدلها و ذلك بطريق الكفالة و لهذا لو رأى إنسانا يسرق الوديعة و هو قادر على منعه ضمن لترك الحفظ الملتزم بالعقد و هو معنى قول مشايخنا إن المودع يؤخذ بضمان العقد .
و منها : ترك الحفظ للمالك بأن خالفه في الوديعة بأن كانت الوديعة ثوبا فلبسه أو داعبه فركبها أو عبدا فاستعمله أو أودعها من ليس في عياله و لا هو ممن يحفظ ماله و لا هو ممن يحفظ ماله بيده عادة لأن الملتزم بالعقد هو الحفظ للمالك فإذا حفظ لنفسه فقد ترك الحفظ للمالك فدخلت في ضمانه .
و حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوي أنه منع دخول العين في ضمانه في المناظر حين قدم بخارى و سأل عن هذه المسألة و هذا خلاف إطلاق الكتاب فإنه قال : يبرأ عن ضمان و البراءة عن الضمان بعد الدخول في الضمان تكون و كذلك المودع إذا اختلفا فقال المودع : هلكت الوديعة او رددتها إليك و قال المالك : استهلكتها إن كانت قبل الخلاف فالقول قول المودع و إن كان بعده فالقول قول المالك و نحو ذلك مما يدل على دخول الوديعة في ضمانه بالخلاف و إن خالف في الوديعة ثم عاد الوفاق يبرأ عن الضمان عند علمائنا الثلاثة و عند زفر و الشافعي لا يبرأعن الضمان .
وجه قولهما : أن الوديعة لما دخلت في ضمان المودع بالخلاف فقد ارتفع العقد فلا يعود إلا بالتجديد و لم يوجد فصار كما لو جحد الوديعة ثم أقر بها و كذلك المستعير و المستأجر إذا خالفا ثم عادا إلى الوفاق لا يبرأن عن الضمان لما قلنا كذا هذا .
و لنا : أنه بعد الخلاف مودع و المودع إذا هلكت الوديعة من غير صنعه لا ضمان عليه كما قبل الخلاف .
و دلالة أنه بعد الخلاف مودع أن المودع من يحفظ مال غيره له بأمره و هو بعد الخلاف و الاشتغال بالحفظ حافظ مال المالك له بأمره لأن الأمرتناول ما بعد الخلاف .
قوله : الوديعة دخلت في ضمان المودع فيرتفع العقد : معنى الدخول في ضمان المودع أنه العقد سبب و جوب الضمان موقوفا و جوبه على و جود شرطه و هو الهلاك في حالة الخلاف لكن هذا لم يوجب ارتفاع العقد أليس أن من و كل إنسانا ببيع عبده بألفي درهم فباعه بألف و سلمه إلى المشتري دخل العبد في ضمانه لانعقاد سبب وجوب الضمان و هو تسليم مال الغير إلى غيره من غير إذنه و مع ذلك بقي العقد حتى لو أخذه كان له بيعه بألفين كذا هذا .
على أنا إن سلمنا أن العقد انفسخ لكن في قدر ما فات و حكمه من حقه و هو الحفظ الملتزم للمالك في زمان الخلاف لا بقي في المستقبل كما إذا استحفظه بأجر كل شهر بكذا و ترك الحفظ في بعض الشهر ثم اشتغل به في الباقي بقي العقد في الباقي يستحق الأجر بقدره و الجامع بينهما أن الارتفاع لضرورة فوات حكم العقد فلا يظهر إلا في قدر الفائت بخلاف الإجارة و الإعارة لأن الإجارة تمليك المنفعة و هي تمليك منافع مقدرة بالمكان أو الزمان فإذا بلغ المكان المذكور فقد انتهى العقد لا نتهاء حكمه فلا يعود إلا بالتجديد و كذا الإعارة لأنها تمليك المنفعة عندنا إلا أنها تمليك المنفعة بغير عوض و الإجارة تمليك المنفعة بعوض .
و أما حكم عقد الوديعة : فلزوم الحفظ للمالك مطلقا أو شهر أو زمان ما بعد الخلاف داخل في المطلق و الوقت فلا ينقضي بالخلاف بل يتقرر فهو الفرق و منها جحود الوديعة في وجه المالك عند طلبه حتى لو قامت البينة على الإبداع أو نكل المودع عن اليمين أو أقر به دخلت في ضمانه لأن العقد لما ظهر بالحجة فقد ظهر ارتفاعه بالجحود أو عنده لأن المالك لما طلب منه الوديعة فقد عزله عن الحفظ و المودع لما جحد الوديعة حال حضرة المالك فقد عزل نفسه عن الحفظ فانفسخ العقد فبقي مال الغير في يده بغير إذنه فيكون مضمونا عليه فإذا هلك تقرر الضمان .
و لو جحد الوديعة ثم أقام البينة على هلاكها فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه : إما إن أقام البينة على أنها هلكت بعد الجحود أو قبل الجحود أو مطلقا فإن أقام البينة على أنها هلكت بعد الجحود أو مطلقا لا ينتفع ببينته لأن العقد ارتفع بالجحود أو عنده فدخلت العين في ضمانه و الهلاك بعد ذلك يقرر الضمان لا أن يسقطه .
و إن أقام البينة على أنها هلكت قبل الجحود تسمع بينته و لا ضمان عليه لأن الهلاك قبل الجحود لما ثبت بالبينة فقد ظهلر انتهاء العقد قبل الجحود فلا يرتفع بالجحود فظهر أن الوديعة هلكت من غير صنعه فلا يضمن و لو ادعى الهلاك قبل الجحود و لا بينه له و طلب اليمين من المودع حلفه القاضي با لله تعالى مالم يعلم أنها هلكت قبل جحوده ؟ لأنه الأصل في باب الاستحلاف أن الذي يستحلف عليه لو كان أمرا لو أقر به الحالف للزمة فإذا أنكر يستحلف و هنا كذلك لأن المالك لو أقر بالهلاك قبل الجحود لقبل منه و يسقط الضمان عن المودع فإذا أنكر يستحلف لكن على العلم لأنه يستحلف على فعل غيره .
هذا إذا جحد حال حضرة المالك فإن جحد عند غير المالك حال غيبته قال أبي يوسف : لا يضمن و قال زفر C : يضمن في الحالين جميعا .
وجه قول زفر : أن ما هو سبب وجوب الضمان لا يختلف بالحضرة و الغيبة كسائر الأسباب .
وجه قول أبي يوسف : أن الجحود سبب للضمان من حيث إنه يرفع العقد بالعزل على ما بينا و لا يصح العزل حاله الغيبة فلا يرتفع العقد و لأن الجحود عند غير المالك حال غيبته معدود من باب الحفظ والصيانة عرفا و عادة لأن مبنى الإيداع على الستر و الإخفاء فكان الجحود عند غير المالك حال غيبته حفظا معنى فكيف يكون سببا لوجوب الضمان ؟ .
و منها : الإتلاف حقيقة أو معنى و هو إعجاز المالك عن الانتفاع بالوديعة لأن إتلاف مال الغير بغير إذنه سبب لوجوب الضمان حتى لو طلب الوديعة فمنعها المودع مع القدر على الدفع و التسليم إليه حتى هلكت يضمن لأنه لما حبسها عنه عجز عن الانتفاع بها للحال فدخلت في ضمانه فإذا هلكت تقرر العجز فيجب الضمان .
و لو أمر غيره بالإتلاف و ادعى أنه كان بإذن المالك لا يصدق إلا ببينة لأن الإتلاف سبب لوجوب الضمان في الأصل و قوله كان بإذن المالك دعوى أمر عارض فلا تقبل إلا بحجة و كذلك المودع إذا خلط الوديعة بماله خلطا لا يتميز يضمن لأنه إذا كان لا يتميز فقد عجز المالك من الانتفاع بالوديعة فكان الخلط منه إتلاف فيضمن و يصير ملكا بالضمان و إن مات كان ذلك لجميع الغرماء و المودع أسوة الغرماء فيه و لو اختلطت بماله بنفسها من غير صنعه لا يضمن و هو شريك لصاحبها أما عدم وجود الضمان فلا انعدام الإتلاف منه بل تلفت بنفسها لانعدام الفعل من جهته و أما كونه شريكا لصاحبها فلوجود معنى الشركة و هو اختلاف الملكين .
و لو أودعه رجلان كل واحد منهما ألف درهم فخلط المودع المالين خلطا لا يتميز فلا سبيل لهما على أخذ الدراهم و يضمن المودع لكل واحد منهما ألفا و يكون المخلوط له و هذا قول أبي حنيفة و قال أبي يوسف و محمد : هما بالخيار إن شاءا اقتسما المخلوط نصفين و إن شاءا ضمن المودع ألفين و على هذا الخلاف سائر المكيلات و الموزونات إذا خلطا الجنس بالجنس خلطا لا يتميز كالحنطة و الشعير بالشعير و الدهن بالدهن .
وجه قولهما : أن الوديعة قائمة بعينها لكن عجز المالك عن الوصول إليها بعارض الخلط فإن شاءا اقتسما لاعتبار جهة القيام و إن شاءا ضمنا لاعتبار جهة العجز وجه قول أبي حنيفة C : أنه لما خلطهما خلطا لا يتميز فقد عجز كل واحد منهما عن الانتفاع بالمخلوط فكان الخلط منه إتلاف الوديعة عن كل واحد منهما فيضمن و لهذا يثبت اختيار التضمين عندهما و اختيار التضمين لا يثبت إلا بوجود الإتلاف دل أن الخلط منه وقع إتلافا .
و لو أودعه رجل حنطة و آخر شعيرا فخلطهما فهو ضامن لكل واحد منهما مثل حقه عند أبي حنيفة لأن الخلط إتلاف و عندهما لهما أن يأخذ العين و يبيعها و يقتسما الثمن على قيمة الحنطة مخلوطا بالشعير و على قيمة الشعير غير مخلوط بالحنطة لأن قيمة الحنطة تنقص بخلط الشعير و هو يستحق الثمن لقيام الحق في العين و هو مستحق العين بخلاف قيمة الشعير لأن قيمة الشعير تزداد بالخلط و تلك الزيادة ملك الغير فلا يستحقها صاحب الشعير و لو أنفق المودع بعض الوديعة ضمن قدر ما أنفق و لا يضمن الباقي لأنه لم يوجد منه إلا إتلاف قدر ما أنفق و لو رد مثله فخلطه بالباقي يضمن الكل لوجود إتلاف الكل منه النصف بالإتلاف و النصف الباقي بالخلط لكون الخلط إتلافا على ما بينا .
و لو أخذ بعض دراهم الوديعة لينفقها فلم ينفقها ثم ردها إلى موضعها بعد أيام فضاعت لا ضمان عليه عندنا و عند الشافعي C يضمن وجه قوله : أنه أخذها على وجه التعدي فيضمن كما لو انتفع بها .
و لنا : أن نفس الأخذ ليس بإتلاف و نية الإتلاف ليس بإتلاف فلا توجب الضمان و الأصل فيه ماروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله تبارك و تعالى عز شأنه عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها مالم يتكلموا أو يفعلوا ] ظاهر الحديث يقتضي أن يكون ما حدثت به النفس عفوا على العموم إلا ما خص بدليل .
و على هذا الخلاف إذا أودعه كيسا مسدودا فحله المستودع أو صندوقا مقفلا ففتح القفل ولم يأخذ منه شيئا حتى ضاع أو مات المودع فإن كانت الوديعة قائمة بعينها ترد على صاحبها لأن هذا عين ماله [ و من وجد عين ماله فهو احق به على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و إن كانت لا تعرف بعينها فهي دين في تركه يحاص الغرماء لأنه لما مات مجهلا للوديعة فقد أتلفها معنى لخروجها من أن تكون منتفعا به في حق المال بالتجهيل و هو تفسير الإتلاف و لو قالت الورثة : إنها هلكت او ردت على المالك لا يصدقون على ذلك لأن الموت مجهلا سبب لوجود الضمان لكونه إتلافا فكان دعوى الهلاك و الرد دعوى أمر عارض فلا يقبل إلا بحجة و يحاض المودع الغرماء لأنه دين الاستهلاك على ما ذكرنا فيساوي دين الصحة و الله سبحانه و تعالى أعلم