حكم الصلح .
فصل : و أما بيان حكم الصلح فنقول و بالله التوفيق : إن الصلح أحكاما بعضها أصلي لا ينفصل عنه جنس الصلح المشروع و بعضها دخيل يدخل في بعض أنواع الصلح دون البعض .
أما الأصلي : فهو انقطاع الخصومة و المنازعة بين المتداعيين شرعا حتى لا تسمع دعواهما بعد ذلك و هذا حكم لازم جنس الصلح .
فأما الدخيل : فأنواع : منها حق الشفعة للشفيع و جملته أن المدعي لو كان دارا و بدل الصلح سوى الدار من الدراهم و الدنانير و غيرهما فإن كان الصلح عن إقرار المدعى عليه يثبت للشفيع فيها حق الشفعة لأنه في معنى البيع من الجانبين فيجب حق الشفعة و إن كان الصلح عن إنكار لا يثبت لأنه ليس في معنى البيع من جانب المدعى عليه بل هو بذل المال لدفع الخصومة و اليمين لكن للشفيع أن يقوم مقام المدعي فيدلي بحجته على المدعى عليه فإن كانت للمدعي بينة أقامها الشفيع عليه و أخذ الدار بالشفعة لأن بإقامة البينة تبين له أن الصلح كان في معنى البيع .
و كذلك إن لم تكن له بينة فحلف المدعى عليه فنكل و إن كان بدل الصلح دارا و الصلح عن إقرار المدعى عليه يثبت للشفيع حق الشفعة في الدارين جميعا لما مر أن الصلح هنا في معنى البيع من الجانبين فصار كأنهما تبايعا دارا بدار فيأخذ شفيع كل دار الدار المشفوعة بقيمة الدار الأخرى .
و إن تصالحا على أن يأخذ المدعي الدار المدعاة و يعطي المدعى عليه دارا أخرى فإن كان الصلح عن إنكار وجبت فيهما الشفعة بقيمة كل واحدة منهما لأن هذا الصلح في معنى البيع من الجانبين و إن كان الصلح عن إقرار لا يصح لأن الداريين جميعا ملك المدعي لاستحالة أن يكون ملكه بدلا عن ملكه و إذا لم يصح الصلح لا تجب الشفعة و لو صالح عن الدار على منافع لا تثبت الشفعة و إن كان الصلح عن إقرار لأن المنفعة ليست بعين مال فلا يجوز أخذ الشفعة بها و إن كان الصلح عن إنكار يثبت للشفيع حق الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح و لا يثبت في الدار المدعاة لأن الأخذ بالشفعة يستدعي كون المأخوذ مبيعا في حق من يأخذ منه لأن الصلح عن إنكار في جانب المدعي معاوضة فكان بدل الصلح بمعنى البيع في حقه إذا كان عينا فكان للشفيع حق الأخذ منه بالشفعة و في جانب المدعى عليه ليس بمعاوضة بل هو إسقاط الخصومة و دفع اليمين عن نفسه فلم يكن للدار المدعاة حكم المبيع في حقه فلم يكن للشفيع أن يأخذها بالشفعة إلا أن يدلي بحجة المدعي فيقيم البينة أو يحلف المدعى فينكل على ما ذكرنا .
و منها : حق الرد بالعيب و إنه يثبت من الجانبين جميعا إن كان الصلح عن إقرار لأنه بمنزلة البيع .
و إن كان عن إنكار يثبت في جانب المدعي و لا يثبت في جانب المدعى لأن هذا بمنزلة البيع في حقه لا في حق المدعى عليه و العيب على المدعى عليه في دعواه فإن أقام البينة أخذ حصة العيب و إن لم يثبت المدعى عليه حق الرد بالعيب لم يرجع في شيء .
و كذا لو استحق عليه الدار و قد بنى فيها بناء فنقض لا يرجع على المدعي بقيمة البناء و كذا لو كان المدعي جارية فاستولدها لم يكن مغرورا و لا يرجع بقيمة الولد لأن ما أخذه المدعي ليس بدل المدعي في حقه إلا أنه إذا استحقت الدار المدعاة يرجع على المدعي بما أدى إليه لأن المؤدي بدل الخصومة في حقه و قد تبين أنه لا خصومة له فيه فكان له حق الرجوع بالمؤدى و لو وجد ببدل الصلح عيبا فلم يقدر على رده للهلاك أو للزيادة أو للنقصان في يد المدعي فإن كان الصلح عن إقرار يرجع على المدعى عليه بحصة العيب في المدعي و إن كان عن إنكار يرجع بحصة العيب على المدعى عليه في دعواه فإن أقام البينة أخذ حصة العيب و كذا إذا حلفه فنكل و إن حلف فلا شيء عليه .
و منها : الرد بخيار الرؤية في نوعي الصلح .
و فرق الطحاوي بينهما و الحق الرد في الصلح عن إنكار ببدل الصلح عن القصاص و بالمهر و بدل الخلع و الرد بخيار الرؤية غير ثابت في تلك العقود فكذا ههنا .
و في كتاب الصلح أثبت حق الرد في النوعين جميعا من غير فصل هو الصحيح لأن الخيار ثبت للمدعي فيستدعي كونه معاوضة عن حقه و قد وجد و كذلك الأحكام تشهد بصحة هذا على ما نذكر .
و منها : أنه لا يجوز التصرف في بدل الصلح قبل القبض إذا كان منقولا في في نوعي الصلح فلا يجوز للمدعي بيعه وهبته و نحو ذلك و إن كان عقارا يجوز عند أبي حنيفة و أبي يوسف و عند محمد : لا يجوز و يجوز ذلك في الصلح عن القصاص للمصالح أن يبيعه و يبرئ عنه قبل القبض و كذلك المهر و الخلع و الفرق أن المانع من الجواز في سائر المواضع التحرز عن انفساخ العقد على تقدير الهلاك و لم يوجد هنا لأن الصلح عن القصاص بما لا يحتمل الانفساخ فلا حاجة إلى الصيانة بالمنع كالموروث .
و بذا تبين أن إلحاق العقد بالعقود التي هي مبادلة مال على ما ذكره الطحاوي غير سديد .
و لو صالح عن القصاص على عين فهلكت قبل التسليم فعليه قيمتها لأن الصلح لم ينفسخ فبقي وجوب التسليم و هو عاجز عن تسليم العين للمصلح فيجب تسليم القيمة .
و منها : أن الوكيل بالصلح إذا صالح ببدل الصلح يلزمه أو يلزم المدعى عليه فهذا في الأصل لا يخلو من وجهين : إما أن يكون الصلح في معنى المعاوضة و إما أن يكون في معنى استيفاء عين الحق فإن كان في معنى المعاوضة يلزمه دون المدعى عليه لأنه يكون جاريا مجرى البيع و حقوق البيع راجعة إلى الوكيل و إن كان في معنى استيفاء عين الحق فهذا على وجهين أيضا : إما إن ضمن بدل الصلح و أما إن لم يضمن فإن لم يضمن لا يلزمه لأنه يكون سفيرا بمنزلة الرسول فلا ترجع إليه الحقوق و إن ضمن لزمه بحكم الكفالة لا يحكم العقد .
و أما الفضولي : فإن نفذ صلحه فالبدل عليه و لا يرجع به على المدعى عليه لأنه متبرع و إن وقف صلحه فإن رده المدعى عليه بطل و لا شيء على واحد منهما و إن أجازه جاز و البدل عليه دون الفضولي