شرائط الركن .
فصل : و أما شرائط الركن فأنواع : بعضها يرجع إلى المصالح و بعضها يرجع إلى المصالح عليه و بعضها يرجع إلى المصالح عنه .
أما الذي يرجع إلى المصالح فأنواع : منها أن يكون عاقلا و هذا شرط عام في جميع التصرفات كلها فلا يصح صلح المجنون و الصبي الذي لا يعقل لانعدام أهلية التصرف بانعدام العقل .
فأما البلوغ : فليس بشرط حتى يصح صلح الصبي في الجملة و هو الصبي المأذون إذا كان له فيه نفع أو لا يكون له فيه ضرر ظاهر بيان ذلك إذا وجب للصبي المأذون على إنسان دين فصالحه على بعض حقه فإن لم يكن له عليه بينة جاز الصلح لأن عند انعدام البينة لا حق له إلا الخصومة و الحلف و المال أنفه له منهما و إن كان له عليه بينة لا يجوز الصلح لأن الحط تبرع و هو لا يملك التبرعات و لو أخر الدين جاز سواء كانت له بينة أو لا فرقا بينه و بين الصلح لأن تأخير الدين من أعمال التجارة و الصبي المأذون في التجارات و الصبي المأذون في التجارات كالبالغ .
ألا ترى أنه يملك التأجيل في نفس العقد بأن يبيع بأجل فيملكه متأخرا عن العقد أيضا بخلاف الحط لأنه ليس من التجارة بل هو تبرع فلا يملكه إلا أنه يملك حط بعض الثمن لأجل البيع لأن حط بعض الثمن للعيب قد يكون أنفع من أخذ المبيع المعيب فكان ذلك من باب التجارة فيملكه .
و لو صالح الصبي المأذون من المسلم فيه على رأس المال جاز لأن الصلح من المسلم فيه على رأس المال إقالة للعقد و الإقالة من باب التجارة و كذلك لو اشترى سلعة و ظهر بها عيب فصالح البائع على أن قبلها جاز لأن الثمن أنفع من المبيع المعيب عادة .
و لو صالحه البائع فحط عنه بعض الثمن لا شك فيه أنه يجوز لأن الحط من البائع تبرع منه على الصبي فيصح و لو ادعى إنسان عليه دينا فأقر به فصالحه على أن حط عنه البعض جاز لأن إقرار الصبي المأذون بالدين صحيح فكان الصلح تبرعا على الصبي بحط بعض الحق الواجب عليه و الصبي من أهل أن يتبرع عليه فيصح .
و كذلك حرية المصالح ليست بشرط لصحة الصلح حتى يصح صلح العبد المأذون إذا كان له فيه منفعة أو كان من التجارة إلا أنه لا يملك الصلح على خط بعض الحق إذا كان له عليه بينة و يملك التأجيل كيف ما كان و يملك حط بعض الثمن لأجل العيب لما قلنا .
و لو صالحه البائع على حط بعض الثمن جاز لما ذكرنا في الصبي المأذون و كذلك لو ادعى على إنسان دينا و هو مأذون فأقر به ثم صالحه على أن حط بعضه جاز لأن إقرار العبد المأذون بالدين صحيح فكان الحط من المدعي تبرعا على العبد ببعض الدين فيصح .
و لو حجر عليه المولى ثم ادعى إنسان عليه دينا فأقر به و هو محجور ثم صالحه عنه على مال ضمنه بإقراره فإن لم يكن في يده مال لا ينفذ الصلح لأن إقرار المحجور لا ينفذ إذا لم يكن في يده مال و إذا لم ينفذ الصلح فلا يطالب به للحال و لكن يطالب به بعد العتق لأن إقراره من نفسه صحيح لصدوره من أهله إلا أنه إذا لم يظهر في حق المولى للحال لمانع و هو حق المولى فإذا عتق زال المانع فيظهر حينئذ و أما إذا كان في يده مال فيجوز إقراره عند أبي حنيفة و عندهما لا يجوز .
وجه قولهما : أن هذا إقرار المحجور لبطلان الإذن بالحجر و إقرار المحجور غير صحيح .
وجه قول أبي حنيفة : إن إقرار المحجور إذا كان في يده مال صحيح لأن العبد المحجور من أهل الإقرار و إنما المانع من ظهوره حق المولى فإذا كانت يده ثابتة على هذا المال منع ظهور حق المولى لأنه يحتمل أن يكون صادقا في إقراره فيمنع ظهور حق المولى فيه و يحتمل أن يكون كاذبا فلا يظهر فلا تبطل يده الثابتة عليه بالشك بخلاف ما إذا لم يكن في يده مال لأن يد المولى ثابتة حقيقة و الإقرار في نفسه محتمل فلا يوجب بطلان يده الثابتة حقيقة مع الشك و الاحتمال .
و كذلك المكاتب نظير العبد المأذون في جميع ما ذكرنا لأنه عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن عجز المكاتب فادعى رجل عليه دينا فاصطلحا على أن يأخذ بعضه و يؤخر بعضه فإن لم يكن له عليه بينة لا يجوز لأنه لما عجز فقد صار محجورا عن التصرف فلا يصح صلحه و إن كانت له عليه بينة جاز لأنه و إن عجز فالخصم في ديونه هو فيملك التصرف فيها لحط البعض بالصلح .
و منها : أن لا يكون المصالح بالصلح على الصغير مضرا به مضرة ظاهرة حتى أن من ادعى على صبي دينا فصالح أب الوصي من دعواه على مال الصبي الصغير فإن كان للمدعي بينة و ما أعطى من المال مثل الحق المدعى أو زيادة يتغابن في مثلها فالصفح جائز لأن الصلح في هذه الصورة لمعنى المعاوضة لإمكان الوصول إلى كل الحق بالبينة و الأب يملك المعاوضة من مال الصغير بالغبن اليسير و إن لم تكن له بينة لا يجوز لأن عند انعدام البينة يقع الصلح تبرعا بمال الصغير و أنه ضرر محض فلا يملكه الأب .
و لو صالح من مال نفسه جاز لأنه ما أضر بالصغير بل نفعه حيث قطع الخصومة عنه و لو ادعى أب الصغير على إنسان دينا للصغير فصالح على أن حط بعضه و أخذ الباقي فإن كان له عليه بينة لا يجوز لأن الحط منه تبرع من ماله و هو لا يملك ذلك .
و إن صالحه على مثل قيمة ذلك الشيء أو نقص منه شيئا يسيرا جاز لأن الصلح في هذه الصورة بمعنى البيع و هو يملك البيع فيملك الصلح و هل يملك الأب من دين وجب للصغير و الإبراء عنه هذا لا يخلو من أحد وجهين : .
إما أن كان ولي ذلك العقد بنفسه و إما أن لم يكن وليه فإن لم يكن وليه لا يجوز بالإجماع لأن الحط و الإبراء من باب التبرع و الأب لا يملك التبرع لكونه مضرة محضة .
و إن كان وليه بنفسه يجوز عند أبي حنيفة و محمد و عند أبي يوسف : لا يجوز و هذا على اختلافهم في الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري عن الثمن أو حط بعضه و قد ذكرناه في كتاب الوكالة و لا يجوز صلح أحد على حمل أبا كان المصالح أو غيره .
و إن خرج حيا بعد ذلك و ورث و جازت الوصايا لأنه لو صح عليه لكان لا يخلو إما أن يصح على اعتبار الحال و إما أن يصح على اعتبار الانفصال لا سبيل إلى الأول لأن الصلح عليه من باب تنفيذ الولاية و هو للحال لا يوصف بكونه موليا عليه و لا سبيل إلى الثاني لأن الصلح لا يحتمل الإضافة إلى الوقت و يملك الأب استيفاء القصاص في النفس و ما دونها و لا يملك الوصي استيفاء القصاص في النفس .
و الفرق : أن استيفاء القصاص تصرف على نفس الصغير بالإحياء و تحصيل التشفي قال الله تعالى عز شأنه : { و لكم في القصاص حياة } و كذا منفعة التشفي راجعة إلى نفسه و للأب ولاية على نفس الصغير و لا ولاية للوصي عليها و لهذا ملك إنكاحه دون الوصي إلا أنه يملك القصاص فيما دون النفس لأن ما دون النفس يسلك به مسلك الأموال لشبهة بالأموال .
ألا ترى أن القصاص لا يجري بين طرف الحر و العبد و لا بين طرف الذكر و الأنثى مع جريان القصاص بينهم في الأنفس و يستوفى القصاص فيما دون النفس في الحر كما يستوفى في سائر الحقوق المالية فيه و لا يستوفى القصاص في النفس فيه و يقضى بالنكول في الأطراف كما يقضى به في الأموال عند أبي حنيفة و لا يقضي به في الأنفس و له ولاية التصرف في الحال و المآل فيلي التصرف فيما دون النفس و يملك الأب الصلح عن القصاص في النفس و ما دونه لأنه لما ملك الاستيفاء فلأن يملك الصلح أولى لأنه أتفه من الاستيفاء .
و كذا الوصي يملك الصلح عن القصاص فيما دون النفس لأنه يملك الاستيفاء فيما دون النفس فكذا الصلح عند لأنه أنفع و هو يملك الصلح عن القصاص في النفس ذكر في كتاب الصلح أنه لا يملك .
و ذكر في [ الجامع الصغير ] أنه يملك و كذا روى القدوري C فعلى رواية الجامع يحتاج إلى الفرق بين الاستيفاء و بين الصلح و وجه الفرق بينهما ظاهر لما ذكرنا أن القصاص تصرف في النفس بتحصيل الحياة و التشفي و لا ولاية له على نفسه فلا يملك الاستيفاء فأما الصلح فصرف في المال و له ولاية التصرف في المال و أنه فرق واضح .
وجه رواية الصلح : أن الصلح اعتياض عن القصاص فكيف يملك الاعتياض عنه و لو صالح الأب أو الوصي على أقل من الدية في الخطأ و شبه العمد لا يجوز لأن الحط تبرع و هما لا يملكان التبرع بمال اليتيم و الحط القليل و الكثير سواء بخلاف الغبن اليسير في البيع أنهما يملكانه .
و الفرق : أن الحط نقصان متحقق لأن الدية مقدرة بمقدار معلوم فالنقصان عنه متحقق و إن قل و النقصان في البيع غير متحقق لأن العوض فيه غير مقدر لاختلافه بتقويم المقومين فإذا لم يتقدر العوض لا يتحقق النقصان .
و منها : أن يكون المصالح عن الصغير ممن يملك التصرف في ماله كالأب و الجد و الوصي لأن الصلح تصرف في المال فيختص بمن يملك التصرف فيه و منها أن لا يكون مرتدا عند أبي حنيفة و عندهما صلحة نافذ بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده و عندهما نافذة لكن عند محمد نفاذ تصرف المريض و عند أبي يوسف نفاذ تصرف من عليه القصاص في النفس و المسألة تعرف في موضعها إن شاء الله تعالى .
و أما المرتدة فصلحها جائز بلا خلاف لأن حكمها حكم الحربية إلا أنها إذا التحقت بدار الحرب و قضى القاضي بذلك بطل بعضه دون بعض كصلح الحربية لثبوت أحكام أهل الحرب في حقها بالتحاقها بدار الحر