- الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطانا كان أو لصا .
وإذا أكره الرجل على بيع ماله أو على شراء سلعة أو على أن يقر لرجل بألف أو يؤاجر داره - وأكره على ذلك بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس المديد - فباع أو اشترى فهو بالخيار : إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه .
وإن كان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع .
وإن كان قبضه مكرها فليس بإجازة وعليه رده إن كان قائما في يده وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره ضمن قيمته .
وللمكره أن يضمن المكره إن شاء .
ومن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر - وأكره على ذلك بحبس أو ضرب أو قيد - لم يحل له إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه فإذا خاف ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم .
وإن أكره على الكفر بالله D أو سب النبي E : بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه فإذا خاف ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به ويورى فإذا أظهر ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه وإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا .
وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك ولصاحب المال أن يضمن المكره .
وإن أكره بقتل على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يقتل فإن قتله كان آثما والقصاص على الذي أكرهه إن كان القتل عمدا .
وإن أكرهه على طلاق امرأته أو عتق عبده ففعل وقع ما أكره عليه ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد .
وبنصف مهر المرأة إن كان الطلاق قبل الدخول .
وإن أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة إلا أن يكرهه السلطان وقال أبو يوسف ومحمد : لا يلزمه الحد .
وإذا أكرهه على الردة لم تبن امرأته منه .
_________ .
كتاب الإكراه .
مناسبته للقسمة أن للقاضي إجبار الممتنع فيهما .
وهو لغة : حمل الإنسان على أمر يكرهه وشرعا : حمل الغير على فعل بما يعدم رضاه دون اختياره لكنه قد يفسده وقد لا يفسده .
قال في التنقيح : وهو إما ملجئ : بأن يكون بفوت النفس أو العضو وهذا معدم للرضا مفسد للاختيار وإما غير ملجئ : بأن يكون بحبس أو قيد أو ضرب وهذا معدم للرضا غير مفسد للاختيار .
والحاصل كما في الدرر : أن عدم الرضا معتبر في جميع صور الإكراه وأصل الاختيار ثابت في جميع صوره ولكن في بعض الصور يفسد الاختيار وفي بعضها لا يفسده .
وشرطه : قدرة المكره على إيقاع ما هدد به وخوف المكره وامتناعه عنه قبله كما أشار إليه بقوله ( الإكراه يثبت حكمه ) أي الآتي ( إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطانا كان أو لصا ) أو نحوه إذا تحقق منه القدرة لأنه إذا كان بهذه الصفة لم يقدر المكره على الامتناع وهذا عندهما وعند أبي حنيفة لا يتحقق إلا من السلطان لأن القدرة [ بهذه الصفة ] لا تكون بلا منعة والمنعة للسلطان قالوا : هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان لأن في زمانه لم يكن لغير السلطان من القوة ما يتحقق به الإكراه فأجاب بناء على ما شاهد وفي زمانهما ظهر الفساد وصار الأمر إلى كل متغلب فيتحقق الإكراه من الكل والفتوى على قولهما درر عن الخلاصة .
( وإذا أكره الرجل على بيع ماله أو ) أكره ( على شراء سلعة أو على أن يقر لرجل بألف ) من الدراهم مثلا ( أو يؤاجر داره وأكره على ذلك بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس المديد فباع أو اشترى ) خشية من ذلك ( فهو بالخيار : إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه ) ورجع بالمبيع لأن من شرط صحة هذه العقود التراضي والإكراه يعدم الرضا فيفسدها بخلاف ما إذا أكره بضرب سوط أو حبس يوم أو قيد يوم لأنه لا يبالي به بالنظر إلى العادة فلا يتحقق به الإكراه إلا إذا كان الرجل صاحب منصب يعلم أنه يستضر به لفوات الرضا هداية .
( وإن كان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع ) لأنه دلالة الإجازة كما في البيع الموقوف وكما إذا سلم طائعا بأن كان الإكراه على البيع لا على الدفع لأنه دليل الإجازة ( الضمير في " لأنه " يعود إلى التسليم مع الطواعية ) هداية .
( وإن كان قبضه مكرها فليس بإجازة ) لعدم الرضا ( وعليه رده إن كان قائما في يده ) لفساد العقد ( وإن ) كان قد ( هلك المبيع في يد المشتري وهو ) أي المشتري ( غير مكره ) والبائع مكره ( ضمن ) المشتري ( قيمته ) للبائع لتلف مال الغير في يده من غير عقد صحيح فتلزمه القيمة .
قيد بكونه المشتري غير مكره لأنه إذا كان مكرها أيضا يكون الضمان على المكره دونه .
( وللمكره ) بالبناء المجهول ( أن يضمن المكره ) بالبناء للمعلوم ( وإن شاء ) لأنه آلة للاكراه فيما يرجع للاتلاف فكأنه دفعه بنفسه إلى المشتري فيكون مخيرا في تضمين أيهما شاء كالغاصب وغاصب الغاصب فلو ضمن المكره رجع على المشتري بالقيمة وإن ضمن المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته العقود لأنه تملكه بالضمان فظهر أنه باع ملكه ولا ينفذ ما كان قبله لأن الاسناد إلى وقت قبضه بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا منها حيث يجوز ما قبله وما بعده لأنه أسقط حقه وهو المانع فعاد الكل إلى الجواز هداية .
( ومن أكره على أن يأكل الميتة ) أو الدم أو لحم الخنزير ( أو يشرب الخمر وأكره على ذلك ) بغير ملجئ : بأن كان ( بحبس أو قيد أو ضرب ) لا يخاف منه على تلف على النفس أو عضو من الأعضاء ( لم يحل له ) الإقدام إذ لا ضرورة في إكراه غير ملجئ إلا أنه لا يحد بالشرب للشبهة ولا يحل له الإقدام ( إلا أن يكره ) بملجئ : أي ( بما يخاف منه على ) تلف ( نفسه أو على ) تلف ( عضو من أعضائه فإذا خاف ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه ) بل يجب عليه ولذا قال ( ولا يسعه ) أي لا يجوز له ( أن يصبر على ما توعد به ) حتى يواقعوا به الفعل ( فإن صبر حتى أوقعوا به ) فعلا ( ولم يأكل فهو آثم ) لأنه لما أبيح له ذلك كان بالامتناع معاونا لغيره على إهلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة .
( وإن أكره على الكفر بالله ) D ( أو سب النبي A بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها ) لأن الإكراه بهذه الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر كما مر ففي الكفر أولى بل ( حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه فإذا خاف ذلك وسعه أن يظهر ) على لسانه ( ما أمروه به ويورى ) وهي أن يظهر خلاف ما يضمر ( فإذا أظهر ذلك ) على لسانه ( وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه ) لأنه بإظهار ذلك لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه الميل إلى إظهار ما طلبوه ( وإن صبر ) على ذلك ( حتى قتلوه ولم يظهر الكفر كان مأجورا ) لأن الامتناع لإعزاز الدين عزيمة .
( وإن أكره على إتلاف مال ) امرئ ( مسلم بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك ) لأن مال الغير يستباح للضرورة كما في حالة المخمصة وقد تحققت الضرورة ( ولصاحب المال أن يضمن المكره ) بالكسر لأن المكره بالفتح كالآلة .
( وإن أكره بقتل على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يقتل فإن قتله كان آثما ) لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما فكذا بهذه الضرورة هداية ( و ) لكن ( القصاص على الذي أكرهه إن كان القتل عمدا ) قال في الهداية : وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال زفر : يجب على المكره وقال أبو يوسف : لا يجب عليهما .
قال الإسبيجاني : والصحيح قول أبي حنيفة ومشى عليه الأئمة كما هو الرسم تصحيح .
( وإن أكرهه على طلاق امرأته ) أو نكاح امرأة ( أو عتق عبده ففعل وقع ما أكره عليه ) لأنها تصح مع الإكراه كما تصح مع الهزل كما مر في الطلاق ( ويرجع ) المكره ( على الذي أكرهه بقيمة العبد ) في الإعتاق لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف فيضاف إليه ( في نسخة " فلا يضاف إليه " ومن الممكن تصحيح كلتا النسختين فتأمل ) . فله أن يضمنه موسرا كان أو معسرا لكونه ضمان إتلاف كما مر ولا يرجع الحامل على العبد بالضمان لأنه مؤاخذ بإتلافه درر .
( وبنصف مهر المرأة ) في الطلاق ( إن كان ) الطلاق ( قبل الدخول ) وكان مهر مسمى في العقد لأن ما عليه كان على شرف السقوط بوقوع الفرقة من جهتها وقد تأكد ذلك بالطلاق فكان تقريرا للمال من هذا الوجه فيضاف تقريره إلى الحامل والتقرير كالإيجاب درر . قيد بما إذا كان قبل الدخول لأنه لو كان دخل بها تقرر المهر بالدخول لا بالطلاق . وقيدنا بكون المهر مسمى في العقد لأنه لو لم يكن مسمى فيه إنما يرجع بما لزمه من المتعة ولا يرجع في النكاح بشيء لأن المهر إن كان مهر المثل أو أقل كان العوض مثل ما أخرجه عن ملكه أو أكثر وإن كان أكثر من مهر المثل فالزيادة باطلة ويجب مقدار مهر المثل ويصير كأنهما سميا ذلك المقدار حتى إنه يتنصف بالطلاق قبل الدخول جوهرة . وفيها عن الخجندي : الإكراه لا يعمل في الطلاق والعتاق والنكاح والرجعة والتدبير والعفو عن دم العمد واليمين والنذر والظهار والإيلاء والفئ فيه والإسلام اه .
( وإن أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة إلا أن يكرهه السلطان ) لأن الإكراه عنده لا يتحقق من غيره ( وقال أبو يوسف ومحمد : لا يلزمه الحد ) لأن الإكراه يتحقق من غيره وعليه الفتوى قال قاضيخان : الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان في قول الإمام وفي قول صاحبيه يتحقق من كل متغلب يقدر على تحقيق ما هدد به وعليه الفتوى وفي الحقائق : والفتوى على قولهما وعليه مشى الإمام البرهاني والنسفي وغيرهما تصحيح .
( وإذا أكره ) الرجل ( على الردة لم تبن امرأته منه ) لأن الردة تتعلق بالاعتقاد ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئنا بالإيمان لا يكفر وفي اعتقاده الكفر شك فلا تثبت البينونة بالشك فإن قالت المرأة " قد بنت منك " وقال هو " قد أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان " فالقول قوله استحسانا لأن اللفظ غير موضوع للفرقة وهي بتبدل الاعتقاد ومع الإكراه لا يدل على التهدل فكان القول قوله هداية