اعلم أن العلماء اختلفوا في صلاة الخوف في فصول : .
أحدها : أنه مشروع بعد رسول الله A في قول " أبي حنيفة " " ومحمد " رحمهما الله تعالى .
وقال " أبو يوسف " C تعالى أولا كذلك ثم رجع فقال كانت في حياته خاصة ولم تبق مشروعة بعده هكذا ذكره في نوادر " أبي سليمان " Bه لقوله تعالى : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } " النساء : 102 فقد شرط كونه فيهم لإقامة صلاة الخوف لأن الناس كانوا يرغبون في الصلاة خلفه ما لا يرغبون في الصلاة خلف غيره فشرع بصفة والمجيء لينال كل فريق فضيلة الصلاة خلفه .
صفحة [ 46 ] قد ارتفع هذا المعنى بعده فكل طائفة يتمكنون من أداء الصلاة بإمام على حدة فلا يجوز لهم أداؤها بصفة الذهاب والمجيء .
وحجتنا في ذلك أن الصحابة أقاموها بعد رسول الله A روي ذلك عن " سعد بن أبي وقاص " " وأبي عبيدة بن الجراح " وأن " سعيد ابن العاص " سأل عنها " أبا سعيد الخدري " فعلمه فأقامها وسببه وهو الخوف يتحقق بعد رسول الله A كما كان في حياته ولم يكن ذلك لنيل فضيلة الصلاة خلفه فترك المشي واجب في الصلاة ولا يجوز ترك الواجب لإحراز الفضيلة ثم الآن يحتاجون إلى إحراز فضيلة تكثير الجماعة فإنها كلما كانت أكثر فهي أفضل وقوله " : { إذا كنت فيهم " } النساء : 102 معناه أنت أو من يقوم مقامك في الإمامة كما في قوله : { " خذ من أموالهم صدقة " } التوبة : 103 وقد يكون الخطاب مع رسول الله A ولا يختص هو به كما في قوله تعالى : " { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " } الطلاق : 1 .
والثاني : وهو أنه لا ينتقص عدد الركعات بسبب الخوف عندنا وكان " ابن عباس " Bه يقول صلاة المقيم أربع ركعات وصلاة المسافر ركعتان وصلاة الخوف ركعة وبه أخذ بعض العلماء .
واستدل بما " روى أن النبي E صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع بكل طائفة ركعة فكانت له ركعتان ولكل طائفة ركعة " .
وتأويل هذا عندنا ولكل طائفة ركعة مؤداة مع رسول الله A وركعة أخرى صلوها وحدهم .
والثالث في صفة صلاة الخوف : .
فالمذهب عندنا أن يجعل الإمام الناس طائفتين فيصلي بالطائفة الأولى ركعة فإذا رفع رأسه منها ذهبوا فوقفوا بإزاء العدو وجاءت الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويسلم ثم ذهبوا فوقفوا بإزاء العدو وجاءت الطائفة الأولى فيتمون صلاتهم بلا قراءة ثم ذهبوا وجاءت الطائفة الأخرى فيصلون الركعة اولى بقراءة وهكذا " روى " ابن مسعود " Bه : " أن النبي A جعل الناس طائفتين فصلى بكل طائفة ركعة وقضت كل طائفة ركعة أخرى " وهكذا " روى " سالم " عن " ابن عمر " Bه : أن النبي A صلى صلاة الخوف بالطائفتين بهذه الصفة . " وكان " ابن أبي ليلى " يقول : إذا كان العدو في ناحية القبلة جعل الناس صفين وافتتح الصلاة بهم جميعا فإذا ركع الإمام ركعوا معه وإذا سجد الإمام سجد معه الصف الأول والصف الثاني قيام يحرسونهم وإذا رفعوا رؤوسهم سجد الصف الثاني والصف الأول قعود يحرسونهم فإذا رفعوا رؤوسهم سجد الإمام السجدة الثانية .
صفحة [ 47 ] وسجد معه الصف الأول والصف الثاني قعود يحرسونهم فإذا رفعوا رؤوسهم سجد الصف الثاني والصف الأول قيام يحرسونهم فإذا رفعوا رؤوسهم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني فصلى بهم الركعة الثانية بهذه الصفة أيضا فإذا قعد وسلم سلموا معه واستدل " بحديث " أبو عياش الزرقي " رضي الله تعالى عنه أن النبي A صلى صلاة الخوف " بعسفان " بهذه الصفة " وأبو يوسف يجوز صلاة الخوف بهذه الصفة لأنه ليس فيها ذهاب ومجيء . وعندنا إذا كان العدو في ناحية القبلة فإن صلوا بهذه الصفة أجزأهم وإن صلوا بصفة الذهاب والمجيء كما بينا أجزأهم لأن ظاهر الآية شاهد لذلك قال الله تعالى : { " ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك " } النساء : 102 . وقال " مالك " Bه : يجعل الناس طائفتين فيصلي بالطائفة الأولى وطائفة تقف بإزاء العدو ثم ينتظر الإمام حتى تصلي الطائفة الأولى الركعة الثانية ويسلمون فيذهبون إلى العدو وجاءت الطائفة الثانية فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ويسلمون فيذهبون إلى العدو وجاءت الطائفة الثانية فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يسلم ويقومون لقضاء الركعة الأولى وهكذا " روى " صالح بن خوات " C تعالى أن النبي A فعله ب " ذي قرد " " وذكر " الطحاوي " حديث " صالح ابن خوات " في شرح الآثار أن النبي A صلى صلاة الخوف يوم ذات الرقاع وذكر فيه أن النبي A ثبت جالسا للطائفة الأخرى حتى أتموا لأنفسهم ثم سلم بهم " وبه أخذ " الشافعي " رضي الله تعالى عنه أيضا إلا أنه يقول لا يسلم الإمام حتى تقضي الطائفة الثانية الركعة الأولى ثم يسلم ويسلمون معه وقال كما ينتظر فراغ الطائفة الأولى من إتمام صلاتهم فكذلك يفعل بالطائفة الثانية ولم نأخذ بهذا لأن فيه فراغ المؤتم من صلاته قبل فراغ الإمام وذلك لا يجوز بحال بخلاف المشي فقد ورد به الأثر في حق من سبقه الحدث مع الإمام فجوزنا ذلك في حالة الخوف . " وروى " أبو هريرة " رضي الله تعالى عنه أن النبي A لما صلى بالطائفة الأولى ركعة انتظرهم حتى أتموا صلاتهم وذهبوا إلى العدو وجاءت الطائفة الأخرى فبدؤوا بالركعة الأولى والنبي E ينتظرهم ثم صلى بهم الركعة الثانية " ولم يأخذ بهذا أحد من العلماء لأنه حكم كان في الابتداء أن المسبوق يبدأ بقضاء ما فاته ثم بأداء ما أدرك مع الإمام وقد ثبت انتساخه . " وروي أن النبي A صلى بكل طائفة ركعتين فكان له أربع ركعات ولكل طائفة ركعتان " ولم نأخذ بهذا لأن في حق الطائفة الثانية يحصل اقتداء المفترض بالمتنفل إلا أن يكون تأويله .
صفحة [ 48 ] أنه كان مقيما فصلى بكل طائفة ركعتين وقضت كل طائفة ركعتين وهو المذهب عندنا فإنه يصلي بكل طائفة شطر الصلاة . وأما في صلاة المغرب فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة عندنا . وقال " الثوري " C تعالى : يصلي بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين لأن فرض القراءة في الركعتين الأوليين فينبغي أن يكون لكل طائفة في ذلك حظ . ولنا أنه إنما يصلي بكل طائفة شطر الصلاة وشطر المغرب ركعة ونصف فثبت حق الطائفة الأولى في نصف ركعة والركعة الواحدة لا تجزئ فثبت حقهم في كلها ولأن الركعتين شطر المغرب ولهذا كان القعدة بعدهما وهي مشروعة للفصل بين الشطرين ثم الطائفة الأولى تصلي الركعة الثالثة بغير قراءة لأنهم لاحقون والطائفة الثانية يصلون الركعتين الأوليين بالقراءة ويقعدون بينهما وبعدهما كما يفعله المسبوق بركعتين في المغرب قال : ومن قاتل منهم في صلاته فسدت صلاته عندنا وقال " مالك " Bه لا تفسد وهو قول " الشافعي " Bه في القديم لظاهر قوله تعالى : { " وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " } النساء : 102 والأمر بأخذ السلاح لا يكون إلا للقتال به .
ولكنا نقول القتال عمل كثير وهو ليس عمل من أعمال الصلاة ولا تتحقق فيه الحاجة لا محالة فكان مفسدا لها كتخليص الغريق واتباع السارق لاسترداد المال والأمر بأخذ الأسلحة لكيلا يطمع فيهم العدو إذا رآهم مستعدين أو ليقاتلوا بها إذا احتاجوا ثم يستقبلون الصلاة . قال : ولا يصلون وهم يقاتلون وإن ذهب الوقت " لأن النبي A شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن بعد هدء من الليل وقال : شغلونا عن صلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبطونهم نارا " فلو كانت تجوز الصلاة في حالة القتال لما أخرها رسول الله A . وكذلك من ركب منهم في صلاته عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته لأن الركوب عمل كثير وهو مما لا يحتاج إليه بخلاف المشي فإنه لا بد منه حتى يقفوا بإزاء العدو وجواز العمل لأجل الضرورة فيختص بما يتحقق فيه الضرورة قال : ولا يصلون جماعة ركبانا لأن بينهم وبين الإمام طريقا فيمنع ذلك صحة الاقتداء إلا أن يكون الرجل مع الإمام على دابة فيصح اقتداؤه به لأنه ليس بينهما مانع . وقد روي عن " محمد " C تعالى أنه جوز لهم في الخوف أن يصلوا ركبانا بالجماعة وقال أستحسن ذلك لينالوا فضيلة الصلاة بالجماعة فقد جوزنا لهم ما هو أعظم من ذلك وه الذهاب والمجيء لنيالوا فضيلة الجماعة . ولكنا نقول ما أثبتناه .
صفحة [ 49 ] من الرخصة أثبتناه بالنص ولا مدخل للرأي في إثبات الرخص قال : وإن صلوا صلاة الخوف من غير أن يعاينوا العدو جاز للإمام ولم يجز للقوم إذا صلوا بصفة الذهاب والمجيء لأن الرخصة إنما وردت إذا كانوا بحضرة العدو فإذا لم يكونوا بحضرته لم يتحقق سبب الترخص بالذهاب والمجيء فلا تجوز صلاتهم بها وأما الإمام فلم يوجد منه الذهاب والمجيء فتجوز صلاته