( قال - C - : دار في يدي رجل فادعى رجل أنها له منذ سنتين وأقام البينة وادعى ذو اليد أنها في يده منذ سنتين وأقام البينة ولم يشهدوا أنها له قضيت بها للمدعي ) لأن شهود المدعي شهدوا له بالملك نصا وشهود ذي اليد إنما شهدوا له باليد والأيدي تنوعت إلى يد أمانة ويد ضمان ويد ملك فلا تعارض بينته بينة الخارج ولأن الثابت من يده بالبينة كالثابت بالمعاينة وذلك لا يمنع القضاء بالملك للمدعي إذا أثبتها بالبينة في الحال فكذلك في الوقت الذي أسند شهوده إليه .
قال : ( دابة في يد رجل فأقام آخر البينة أنها له منذ عشر سنين فنظر القاضي في سنها فإذا هي أبنة ثلاث سنين يعرف ذلك فبينته باطلة ) لأن القاضي تيقن بمجازفة الشهود في شهادتهما فإنهم شهدوا بالملك له فيها في وقت يتيقن أنها لم تكن موجودة فيه والملك لا يسبق الوجود ولأنه لا يمكنه القضاء بالملك في الحال لأنه خلاف الشهادة ولا في الوقت المضاف إليه لأنه محال .
قال : ( وإذا كانت الدار في يدي رجل أقام آخر البينة أنها له منذ سنة وأقام آخر البينة أنها له اشتراها من آخر منذ سنتين وهو يملكها يومئذ فإني أقضي بها لصاحب الشراء ) لأنه أسبق تاريخا وقد أثبت الملك لنفسه في وقت لا ينازعه الآخر فيه وهو خصم عن بائعه في إثبات الملك له في الوقت الذي أرخ شهوده فكان هو أولى بها وكذلك لو شهدوا أنها له اشتراها من فلان منذ سنتين فشهادتهم بالملك للمشتري بمنزلة شهادتهم بالملك للبائع إذا شهدوا بالشراء .
وكذلك لو لم يشهدوا بالملك للبائع ولا للمشتري ولكن شهدوا أن فلانا باعها منه وسلمها إليه من سنتين أو لأنه اشتراها من فلان منذ سنتين وقبضها فهذا وشهادتهم بالملك له سواء لأن البائع في الظاهر إنما يتمكن من التسليم إذا كان مالكا للمبيع وكذلك المشتري إنما يتمكن من القبض إذا اشتراها من المالك ولأن سبب الملك يتأكد بالتسليم فشهادتهم على سبب ملك متأكد بمنزلة الشهادة على الملك .
( ولو شهدوا أن فلانا باعها منه واستوفى الثمن أو أنه اشتراها ونقد البائع الثمن ولم يشهدوا بالقبض والتسليم لم يقض لمدعي الشراء بشيء ) لأنهم شهدوا بمجرد العقد وذلك يتحقق من غير المالك موقوفا على إجازة المالك فلا يوجب الملك للمشتري قبل الإجازة فلم يكن في هذه الشهادة إثبات الملك للمشتري نصا ولا دلالة فلا يقضي بها له وفي كل موضع قضينا بالملك للمشتري إذا حضر البائع وأنكر أن يكون باعه لم يلتفت إلى إنكاره لأن ذا اليد انتصب خصما عن البائع في إنكاره للبائع البيع والمشتري لا يتوصل إلى إثبات الملك لنفسه إلا بإثبات سببه وهو الشراء من الغائب ومتى كان حق الحاضر متصلا بحق الغائب انتصب الحاضر خصما عن الغائب فقد اتصل القضاء ببينة قامت على خصم فلا حاجة إلى إعادتها بعد ذلك .
قال : ( دار في يدي رجل أقام رجل البينة أنها له ولم يوقت شهوده وأقام ذو اليد البينة أنها له منذ سنة فإني أقضي بها للمدعي ) لأن تاريخ ذي اليد ليس بدليل سبق ملكه فلعل شهود المدعي لو أرخوا ذكروا تاريخا سابقا فلا يستحق ذو اليد الترجيح بما هو محتمل في نفسه والتحق بما لو لم يذكر الوقت فتترجح بينة المدعي .
( ولو أقام المدعي البينة أنها له منذ سنة أو سنتين شك الشهود في ذلك وأقام ذو اليد البينة أنها له منذ سنتين قضيت بها لذي اليد ) لأن شهود الخارج شكوا فيما زاد على السنة ومع الشك لا يمكن إثبات التاريخ فإنما يثبت من تاريخهم ما يتفقوا به وذلك سنة فصار تاريخ ذي اليد أسبق فتترجح بينته وقد بينا اختلاف الروايات فيه فيما سبق .
( ولووقت شهود المدعي سنة ووقت شهود ذو اليد سنة أو سنتين شكوا في ذلك فهو للمدعي ) لأن ما شك فيه شهود ذي اليد لم يثبت وفيما اتفقوا فيه استوى تاريخ ذي اليد والخارج فتترجح بينة المدعي ولو شهد شهود المدعي أنها كانت له عام أول وشهود ذي اليد أنها له منذ العام قضيت بها للمدعي لأن تاريخ شهوده أسبق .
( ولو شهد شهود المدعي أنها له منذ العام وشهود ذي اليد أنها له عام أول قضيت بها لذي اليد ) لأن شهوده شهدوا بتاريخ أسبق من تاريخ المدعي فثبت ملكه في ذلك الوقت وبعد ثبوت ملكه لا يستحقه الغير إلا من جهته .
قال : ( دار في يد رجلين أقام أحدهما البينة أنها له منذ سنة وأقام الآخر البينة أنها له منذ سنتين قضيت بها لصاحب السنتين ) لأن في يد كل واحد منهما نصف الدار ففي النصف الذي في يد من أرخ شهوده سنة بينة الخارج قامت بتاريخ سابق فكان هو أولى وفي النصف الذي في يد من أرخ شهوده بسنتين بينة ذي اليد قامت على تاريخ سابق على بينة الخارج فيستحق الترجيح به أيضا .
( ولو أقام أحدهما البينة أن له ثلثها منذ سنة وأقام الآخر البينة أن له ثلثها منذ سنين فإني أقضي بالثلثين لصاحب السنتين ) لأن دعواه تنصرف إلى ما في يده أولا ثم فيما يفضل على ما في يده ينصرف دعواه إلى ما في يد صاحب لأن يده يدا محقة تحسينا للظن بالمسلم وحملا لفعله على الصحة .
ولو صرفنا دعواه إلى ما في يد غيره لم تكن يده يدا محقة وفي يده نصف الدار فما زاد على النصف إلى تمام الثلثين وهو السدس اجتمع فيه بينة الخارج وبينة ذي اليد وتاريخ الخارج أسبق فهو أولى ولأن الآخر ليس يدعي إلى الثلث ودعواه منصرفة إلى ما في يده فما زاد على الثلث هو لا ينازع الآخر فيه وقد أثبت الآخر استحقاقه بالبينة على ما في يده فيقضي له به وترك الثلث في يد صاحب الثلث فيكون ذلك له قضاء ترك لأن بينته لم تقم على منازع له فيه يد ولا ملكا فهذا الطريق فيما إذا كان من أرخ سن يدعي ثلثها والطريق الأول فيما إذا كان يدعي نصفها وقد اختلفت النسخ في وضع هذه المسألة .
قال : ( أمة في يد رجل فأقام رجل البينة أنها أمته منذ ستة أشهر وأنه أعتقها ألبتة منذ شهر وأقام آخر البينة أنها أمته منذ سنة وأنه أعتقها عن دبر منه منذ سنة فإنه يقضي بها مدبرة لمدعي التدبير ) لأن تاريخ شهوده أسبق فإنهم أثبتوا الملك والتدبير له منذ سنة والملك المتأكد بالتدبير لا يحتمل النقض فشهود الآخر إنما شهدوا بالعتق فيمن لا يملكها وذلك غير مفيد ذكره في بعض النسخ .
وفي قول أبي يوسف - C - الأول لبينة بينة مدعي العتق وهي حرة ألبتة وهذا بناء على ما سبق أن الخارجين إذا أرخا الملك بتاريخين في قوله الأول يقضي بها بينهما نصفان ولا يترجح أحدهما لسبق التاريخ وقد بينا هذا في باب دعوى الميراث فهنا لما استويا في إثبات الملك على هذا القول بقي الترجيح بما أثبتوا من العتق والعتق والتدبير إذا اجتمعا يترجح العتق لاستحالة أن يوطأ بملك اليمين وقد قامت البينة على حريتها من جهة من أثبت ملكه فيها بالحجة .
قال : ( دار في يد رجل ادعى رجل أنه اشتراها منه بمائة درهم ونقده الثمن وادعى آخر أنه اشتراها منه بمائتي درهم ونقده الثمن ولم توقت واحدة من البينتين وقتا فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصفه بنصف الثمن الذي بين شهوده وإن شاء ترك ) لأنهما تصادقا على أن الملك في الأصل كان لذي اليد وادعى كل واحد منهما التملك عليه بسبب الشراء وقد استويا في ذلك ولو استويا في إقامة البينة على الملك المطلق عليه قضي به بينهما نصفان فكذلك هنا .
فإن ( قيل ) : قد تيقن القاضي بكذب أحد الفريقين لأن التعين على دار واحدة من رجلين من كل واحد منهما بكماله لا يتصور في وقت واحد فينبغي أن تبطل البينتان .
( قلنا ) : الشهود شهدوا بنفس البيع لا بصحته ولم يشهدوا بوقوع البيعين معا ويتصور بيعان في وقتين من واحد لعين واحدة من كل واحد منهما وكل واحد منهما اعتمد سببا أطلق له الشهادة فيجب العمل بها بحسب الإمكان ولأن البيعين يتصور وقوعهما في وقت واحد من وكيل المالك ويضاف عقد الوكيل إلى الموكل مجازا فلعل الوكيلين باعا معا فيقضي لكل واحد من المشتريين بنصفها ويخير كل واحد منهما لتفرق الصفقة عليه فإنه أثبت عقده في الكل فلتبعض الملك حين لم يسلم له إلا النصف خيرهما فإن رضيا به فعلى كل واحد منهما من الثمن بقدر ما يسلم له من البيع وذلك النصف .
فإن رضي به أحدهما وأبى الآخر فليس للذي رضي به إلا نصفه لأن القاضي حين خيرهما فقد فسخ بيع كل واحد منهما في النصف حين قضي به لصاحبه فلا يعود بيع أحدهما بترك صاحبه المزاحمة معه إلا أن يكون ترك المزاحمة قبل أن يقضي القاضي بشيء فحينئذ تكون الدار للآخر بجميع الثمن فإنه أثبت شراءه في الكل ولم يفسخ القاضي بيعه في شيء وإنما كان القضاء له بالنصف لمزاحمة صاحبه معه فإذا زالت المزاحمة قضي له بالكل كالشفيعين إذا أسلم أحدهما قبل قضاء القاضي لهما يقضي للآخر بجميع الدار بخلاف ما لو كان تسليمه بعد القضاء فإنه لا يكون للآخر إلا نصف الدار .
( ولو وقتت كل واحدة من البينتين وقتا قضيت بها لصاحب الوقت الأول ) لأنه أثبت شراءه في وقت لا ينازعه الآخر فيه فاستحقها من ذلك الوقت فيتبين أن الآخر اشتراها من غير المالك فكان شراؤه باطلا .
( وإن وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى قضيت بها لصاحب الوقت ) لأن شراءهما حادث فإنما يحال بحدوثه على أقرب الأوقات ما لم يثبت التاريخ فإنما يثبت شراء الذي لم توقت شهوده في الحال وقد أثبت الآخر شراءه سابقا فكان هو أولى وهذا بخلاف ما إذا ادعى الشراء من رجلين ووقته أحدهما ولم يوقت الآخر يقضي بها بينهما نصفين لأن كل واحد منهما هناك خصم عن تابعه في إثبات الملك له وتوقيت أحدهما لا يدل على سبق ملك بائعه فلعل ملك البائع الآخر أسبق فلهذا قضينا به بينهما فأما هنا اتفقا على الملك لبائع واحد فإنما حاجة كل واحد منهما إلى إثبات سبب الانتقال إليه لا إلى إثبات الملك للبائع وسبب الملك في حق الذي وقت شهوده أسبق فكان هو بالدار أحق .
( وإن لم يوقت واحد منهما وكانت الدار في يد أحدهما وقد قبضها قضيت بها لذي اليد ) لأن قبضه صادر عن العقد الذي أثبته بالبينة حملا لفعله على الصحة فكان شراؤه متأكدا بالقبض فيترجح به لمعينين أحدهما أنه قبضه اقترن بعقد الآخر وهو صادر عن عقده فلا بد من أن يكون عقد سابقا ولأنه يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على البائع فقط وذلك في بينته .
فأما الخارج يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على ذي اليد كما يحتاج إلى إثباته على البائع وليس في بينته ما يوجب الاستحقاق على ذي اليد لجواز أن يكون عقد ذي اليد سابقا وهذا بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من اثنين واحدهما قابض فإن الخارج أولى هناك لأن كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه أولا فاجتمع في حق البائعين ببينة الخارج وبينة ذي اليد فكانت بينة الخارج أولى .
فأما هنا لا يحتاج إلى إثبات الملك للبائع بل هو ثابت بتصادقهما عليه إنما حاجتها إلى إثبات سبب الاستحقاق وسبب القابض أقوى فكان هو أولي فإن شهد شهود الخارج على وقت لم ينتفع به لأن تمكن القابض من القبض دليل سبق عقده وهو دليل معاين والتاريخ في حق الخارج مخبر به وليس الخبر كالمعاينة ثم يد ذي اليد ثابتة بيقين فلا ينقض إلا بيقين مثله وبذكر الوقت من شهود الخارج لا يزيل احتمال سبق عقد ذي اليد فلا ينقض قبضه إلا أن يشهدوا أن بيع الخارح كان قبل بيع ذي اليد فحينئذ يكون بيع الخارج أولى لأن تقدم العقد ثبت بنص من شهوده وتبين أن القابض اشترى من غير المالك .
( وإن كان المدعيان أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من رجل آخر والدار في يد المدعى عليه قضي بها بينهما نصفين ) لأن كل واحد منهما ثبت الملك لبائعه أولا وقد استوت البينتان في إثبات الملك للبائع فيقضي بها بينهما نصفين ويتخير كل واحد من المشتريين لما بينا وإذا اختار الأخذ رجع كل واحد منهما على بائعه بنصف الثمن إن كان نقده إياه لأنه لم يسلم له إلا نصف المبيع ولو وقتا وقتين كان صاحب الوقت الأول أولى لإثباته الملك لبائعه في وقت لا ينازعه الآخر فيه ويرجع الآخر بالثمن على بائعه لاستحقاق المبيع من يده .
( ولو أقام أحدهما البينة أنه اشتراها من فلان بثمن مسمى وهو يملكها وأقام الآخر البينة أن فلانا آخر وهبها له وقبضها منه وهو يومئذ يملكها قضي بها بينهما نصفين ) لأن كل واحد منهما ينتصب خصما عمن ملكه في إثبات الملك له أولا ثم لنفسه فالحجتان في إثبات الملك لهما سواء فيقضي بها بينهما نصفين وكذلك لو أقام ثالث البينة على الصدقة من ثالث مع القبض وأقام رابع البينة على إرثه من أبيه قضي بينهم أرباعا لما بينا أن كل واحد منهما خصم عمن ملكه .
فإن ( قيل ) : إنما وضع المسألة في الدار فكيف يجوز القضاء بالهبة والصدقة في جزء منهما مشاعا .
( قلنا ) : قيل موضوع هذه المسألة في الدابة ولئن كان في الدار فكل واحد منهما أثبات استحقاقه في الكل إلا أنه لأجل المزاحمة يسلم له البعض وهذه المزاحمة بعد القبض فكان شيوعا طارئا وذلك لا يبطل الهبة والصدقة وهذا بخلاف ما إذا كانت الدار في يد رجل فأقام آخر البينة أنه اشتراها من فلان بثمن مسمى وتقابضا وأقام آخر البينة أن فلانا ذلك وهبها منه وقبضها قضي بها لصاحب الشراء لأنهما لا يحتاجان هنا إلى إثبات الملك لمن ملكها فإنه ثابت بتصادقهما وإنما الحاجة إلى إثبات سبب الملك عليه والشراء أقوى من الهبة لأنه عقد ضمان يوجب الملك في العوضين والهبة تبرع لأن الشراء يوجب الملك بنفسه والهبة لا توجب الملك إلا بعد القبض فكان ملك مدعي الشراء سابقا فلهذا جعل أولى وكذلك لو ادعى أحدهما الشراء والآخر الصدقة وادعى أحدهما الشراء والآخر الرهن فالشراء أولى لما بينا .
وإذا ادعى رجل الشراء وادعت المرأة أن فلانا ذلك تزوجها عليها فعلى قول أبي يوسف - C - يقضي لكل واحد منهما بالنصف ثم للمرأة نصف القيمة على الزوج ويرجع المشتري بنصف الثمن إن كان نقده إياه وقال محمد - C - يقضي بها لصاحب الشراء وللمرأة على الزوج قيمة الدابة .
وجه قول محمد - C - أن تصحيح البينات والعمل بها واجب ما أمكن لأنها حجج وهنا يمكن تصحيح البينتين بأن يجعل الشراء سابقا فإن تسمية ملك الغير صداقا تسمية صحيحة موجبة لقيمة المسمى عند تعذر تسليم عينه فلهذا جعلنا الشراء سابقا ولأن الشراء مبادلة مال بمال موجب الضمان في العوضين والنكاح مبادلة مال بما ليس بما لغير موجب للضمان في المنكوحة فكان الشراء أقوى من هذا الوجه فجعل أولى .
وأبو يوسف - C - يقول : كل واحد من البينتين يثبت الملك لنفسهما فتتحق المساواة بينهما في الاستحقاق كما في دعوى الشرائين ومن وجه النكاح أقوى لأن الملك في الصداق يثبت بنفس العقد متأكدا حتى لا يبطل بالهلاك قبل التسليم بخلاف الملك في المشتري ويجوز التصرف في الصداق قبل القبض بخلاف المشتري فإن لم يترجح جانب النكاح بهذا فلا أقل من المساواة .
وفيما قال محمد - C - إثبات تاريخ لم يشهد به الشهود والتاريخ بين العقدين يثبت من غير حجة فإذا قضينا به بينهما نصفين استحق على المرأة نصف الصداق فيرجع بقيمة المستحق واستحق على المشتري نصف المبيع فيرجع بثمنه .
وإن ادعى أحدهما الرهن والقبض والآخر الهبة والقبض فالرهن أولى وذكر في كتاب الشهادات أن الهبة أولى في القياس ووجهه أن الهبة تفيد ملك العين والرهن لا يوجب فكان السبب الموجب لملك العين أقوى وجه الاستحسان أن الرهن عقد ضمان والهبة عقد تبرع وعقد الضمان أقوى من عقد التبرع ولأنه يثبت بدليل المرهون والدين والهبة لا تثبت إلا بدلا واحدا فكان الرهن أولى من الهبة وكذلك الرهن أولى من الصدقة والنكاح أولى من الهبة والصدقة لأنه يوجب الملك بنفسه كالشراء فأما الهبة والصدقة سواء حتى لو ادعى أحدهما الهبة والآخر الصدقة يستويان لأن كل واحد منهما تبرع لا يتم إلا بالقبض .
فإن ( قيل ) : الصدقة لا رجوع فيها بخلاف الهبة فكانت الصدقة أقوى .
( قلنا ) : امتناع الرجوع لحصول المقصود بها وهو الثواب لا لقوة السبب ولو حصل المقصود بالهبة وهو صلة الرحم لم يرجع فيها أيضا .
قال : ( دار في يد رجل فأقام آخر البينة أنه اشتراها من ذي اليد بألف درهم ونقده الثمن وأقام ذو اليد البينة أنه اشتراها من المدعي ونقده الثمن فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - تتهاتر البينتان جميعا سواء شهدوا بالقبض أو لم يشهدوا ويترك الدار في يد ذي اليد وعند محمد - C - يقضي بالبينتين جميعا ) فإن لم تشهد الشهود بالقبض يجعل شراء ذي اليد سالما فيأمن بتسليمه إلى الخارج وإن شهدوا بالقبض يجعل شراء الخارج سابقا فيسلم لذي اليد وجه قول محمد - C - أن البينات حجج فمهما أمكن العمل بالبينتين لا يجوز إبطال شيء منها كالحجج الشرعية وهنا العمل بالبينتين ممكن أما إذا لم تشهد الشهود بالقبض فإمكان العمل بها في جعل شراء ذي اليد سابقا لأنا لو جعلنا شراء الخارج سابقا لم يصح بيعه من بائعه قبل القبض ولأن قبض ذي اليد صادر عن عقده الذي أثبته بالبينة وذلك دليل سبق عقده فإن شهد الشهود بالقبض يجعل عقد الخارج سابقا لأن انقضاء قبضه دليل سبق عقده وقيام قبض الآخر دليل تأخر عقده ولأنا لو جعلنا عقد ذي اليد سابقا كان قبضه غصبا حراما ولو جعلنا عقده متأخرا كان قبضه بحق فلهذا أثبتنا التاريخ بين العقدين بهذه الصفة وهذا عمل بالدليل .
وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - قال : كل واحد منهما بدعوى الشراء أثبت إقرار صاحبه بالملك له فكل بائع مقر بوقوع الملك للمشتري فكان هذا بمنزلة ما لو أقام كل واحد منهما البينة على إقرار صاحبه بالملك له ولو كان كذلك تهاتر الإقرار لأن الثابت من الإقرارين بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاين إقرار كل واحد منهما بالملك لصاحبه معا بطل الإقرار أن جميعا فهذا مثله لمعنى أن شهود كل واحد منهما لم يشهدوا بالتاريخ فكل أمرين ظهرا ولا يعرف سبق أحدهما جعل كأنهما وقعا معا فلا يجوز إثبات التاريخ بينهما لأنه قضاء بما لم تشهد به الشهود فإذا جعلنا كالواقع معا بطلا للمنافاة بينهما وإنما يعتبر إمكان العمل بالبينتين بما شهدوا به دون ما لم يشهدوا به فإن وقت الشهود وقتين فهذا على وجهين إما أن يكون وقت الخارج سابقا أو وقت ذي اليد وكل وجه على وجهين إما أن تشهد الشهود بالقبض أو لم يشهدوا به فإن كان وقت الخارج سابقا .
فإن لم تشهد الشهود بالقبض قضي بها لذي اليد عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لأن شراءه ثبت سابقا ثم اشتراه منه ذو اليد قبل التسليم وبيع العقار قبل القبض عندهما جائز وعند محمد - C - يقضي بها للخارج لأنه لا يجوز بيع العقار قبل القبض .
وإن شهد الشهود بالقبض يقضي بها لذي اليد عندهم جميعا لأن الخارج باعها من بائعه بعد ما قبضها وذلك صحيح وإن كان وقت ذي اليد سابقا يقضي بها للخارج سواء كان الشهود شهدوا بالقبض أو لم يشهدوا .
أما إذا شهدوا بالقبض فلا إشكال وكذلك إن لم يشهدوا به لأن ذا اليد قابض وقد ثبت شراؤه سابقا فيجعل قبضه صادرا لا عن عقده ثم الخارج إنما اشتراها منه بعد قبضه فيؤمر بتسليمها إليه .
قال : ( أمة في يد رجل فأقام رجل البينة على الشراء منه وأقامت الأمة البينة على العتق أو التدبير فإن بينتها أولى ) لأن كل واحد من البينتين موجب للحق بنفسه والعتق أقوى فإنه لا يحتمل النقض بعد وقوعه وكذلك التدبير بخلاف الشراء ولأن العبد بالعتق يصير قابضا لنفسه ولأن العتق ينفرد به المعتق والشراء لا يتم إلا بالإيجاب والقبول وكان العتق والتدبير سابقا من هذا الوجه ولو استويا لم يمكن القضاء بالشراء لإقران العتق به فإن معتق البعض لا يحتمل البيع فلهذا جعلنا بينتها أولى وإن وقتت البينتان فأولهما أولاهما إن كان العتق أولا فغير مشكل وإن كان الشراء أولا فلأن المشتري أثبت الملك لنفسه في وقت لا تنازعه الأمة فيه ثم هي أثبتت العتق والتدبير من غير المالك وذلك لا يوجب لها حقا .
ولو وقتت بينة الشراء ولم توقت بينة العتق أو التدبير كان العتق والتدبير أولى لما بينا أن العتق والتدبير يقع مسلما بنفسه فوجد القبض في أحد الجانبين والوقت في الجانب الآخر وكان القبض أولى فإن كان المشتري قد قبضه فهو أولى لأن تمكنه من القبض دليل سبق عقده ولأن قبضه معاين وقبض الآخر ثابت حكما فكان المعاين أولى وحمل فعل المسلم على الصحة والحل واجب ما أمكن إلا أن تقوم البينة أن العتق أول أو وقتوا وقتا يعرف أنه أول فحينئذ يكون العتق أولي لانعدام مزاحمة المشتري في ذلك الوقت وكذلك إن لم يوقت بينة الشراء إلا أن المشتري قد قبضه فهو أولى لما بينا أن قبضه دليل تقدم عقده إلا أن تقوم البينة أن العتق أول .
وكذلك الهبة والصدقة مع العتق في جميع ما ذكرنا من التفريع لأن الهبة والصدقة مع القبض موجبة للملك كالشراء . ولو كانت الدار أو الأمة في يد رجل فأقام آخر البينة أن ذا اليد وهبها له وقبضها منه وأقام ذو اليد البينة على المدعي بمثل ذلك فإنه يقضي بها لذي اليد أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لتهاتر البينتين كما بينا وعند محمد - C - لأن الشهود شهدوا بالقبض فانقضا وقبض الخارج دليل سبق عقده وقيام قبض ذي اليد دليل بآخر عقده .
( ولو ادعى رجل أنه اشترى الأمة من ذي اليد بألف درهم وأنه أعتقها وأقام البينة وأقام آخر البينة على الشراء منه أيضا فإنه يقضي بها لصاحب العتق ) لأن سببه يتأكد بالعتق حتى لا يحتمل النقض ولأن العتق قبض منه فإن المشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير قابضا وقد بينا أن أحد المشتريين إذا أثبت القبض كان هو أولى .
( ولو ادعى رجل هبة مقبوضة وادعى الآخر صدقة مقبوضة وأقام البينة فإن وقتت إحدى البينتين ولم توقت الأخرى قضيت بها لصاحب الوقت ) لأن كل واحد منهما أثبت سبب ملك حادث فإنما يحال بحدوثه على أقرب الأوقات وقد أثبت أحدهما تاريخا سابقا بالتوقيت فيقضي بها له .
( وإن كانت في يد من لم يوقت شهوده قضي بها له ) لأن قبضه دليل سبق عقده وهو دليل معاين والوقت في حق الآخر مخبر به وليس الخبر كالمعاينة إلا أن يقيم الآخر البينة أنه أول فحينئذ يكون هو أولى لإثبات الملك في وقت لا ينازعه فيه صاحبه .
وإن لم يكن هناك تاريخ ولا قبض معاين لأحدهما ففيما لا يقسم يقضي بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق وفيما يحتمل القسمة كالدار ونحوه تبطل البينتان جميعا إذا لم يكن فيها ما يرجح إحداهما من قبض أو تاريخ لأنا لو عملنا بها قضينا لكل واحد منهما بالنصف الآخر والهبة والصدقة في مشاع تحتمل القسمة لا تجوز .
( قيل ) : هذا على قول أبي حنيفة - C - فأما على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - ينبغي أن يقضي لكل واحد منهما بالنصف على قياس هبة الدار من رجلين وقيل ينبغي على قولهم جميعا أن يقضي لكل واحد منهما بالنصف لأن كل واحد منهما أثبت قبضه في الكل ثم الشيوع بعد ذلك طارئ وذلك لا يمنع صحة الهبة والصدقة .
والأصح أن المذكور في الكتاب قولهم جميعا لأنا لو قضينا لكل واحد منهما بالنصف إنما يقضي بالعقد الذي شهد به شهوده وعند اختلاف العقدين لا تجوز الهبة من رجلين عندهم جميعا وإنما يثبت الملك بقضاء القاضي ويمكن الشيوع في الملك المستفاد بالهبة مانع صحتها .
وإذا اختصم رجلان في دابة أو عرض من العروض كائنا ما كان وهو قائم بعينه فإن القاضي لا يسمع من واحد منهما البينة والدعوى حتى يحضرا ذلك الذي اختصما فيه لأن إعلام المدعي شرط لصحة الدعوى والشهادة وتمام الإعلام بالإشارة إلى العين إحضار ما ينقل يتسر فيؤمر ذو اليد بإحضاره .
ولا يقال كيف كلف إحضاره ولم يثبت الاستحقاق عليه لأن بالإجماع يكلف الحضور بنفسه وإن لم يثبت عليه شيء بعد نظرا للمدعي ليتمكن من إثبات حقه فكذلك يكلف بإحضار العين إذ ليس عليه فيه كثير ضرر إلا أن يكون المدعي عقارا فحينئذ إحضاره متعذر فيقام ذكر الحدود في الدعوى والشهادة مقام الإشارة إلى العين لأنه هو المتيسر والواجب من التعريف في كل محل القدر المتيسر وهو نظير ذكر الاسم والنسب في حق الغائب والميت وإن كان العين المدعي مستهلكا فحينئذ يتعذر إحضاره فيقام ذكر الوصف والقيمة مقام الإشارة إلى العين في صحة الدعوى والشهادة ولأن المدعي هنا في الحقيقة دين في الذمة وهو القيمة فإعلامه بذكر صفته وقيمته والله أعلم