( قال - C - ( وإذا شهد شاهدان ذميا لذمي على ذمي بمال أو خمر أو خنزير فقضي بذلك ثم رجعا ضمنا المال وقيمة الخمر مثل قيمة الخنزير ) لأن ضمان الرجوع بمنزلة ضمان الغصب والإتلاف وأهل الذمة في ذلك يستوون بالمسلمين ويضمنون في الخمر المثل وفي الخنزير القيمة وإن كان الشاهدان أسلما ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمة الخنزير لأن الخنزير ليس من ذوات الأمثال وكان الواجب عليهما ضمان القيمة بنفس الإتلاف وإسلامهما لا يمنع نفوذ ذلك وفي الخمر عند محمد - C - يضمنان القيمة .
وعند أبي يوسف - C - لا يضمنان شيئا بناء على إسلام المسلمين المطلوب بعد إتلاف الخمر وقد بيناه في الغصب ولو لم يسلم الشاهدان وأسلم المشهود عليه ثم رجعا ضمنا قيمة الخنزير ولم يضمنا الخمر لأن الواجب عليهما مثل الخمر وإسلام الطالب يسقط الخمر لا إلى بدل فالمشهود عليه في حقهما طالب فأما إتلاف الخنزير يوجب القيمة وإسلام الطالب لا يمنع بقاءها واستيفاءها .
( ولو شهد ذميان بمال على ذمي وأسلم المشهود عليه قبل أن يقضي القاضي بشهادتهما لم يقض بها ) لأن إسلام المشهود عليه لو اقترن بشهادتهما منع العمل بها فكذلك إذا طرأ قبل القضاء وهذا لأن القاضي لا يقضي إلا بحجة وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلمين .
( وإذ شهد محدودان بقذف بشهادة ولم يعلم القاضي بذلك حتى قضي بشهادتهما ثم علم بذلك وليس من رأيه إمضاؤه فإنه يرد القضاء ويأخذ المال من المقضي له ) لأنه ظهر له الخطأ في قضائه وهذا بناء على أن قضاء القاضي في المجتهدات إنما ينفذ إذا صدر عن اجتهاد .
فأما إذا لم يكن عن اجتهاد وإنما كان عن تلبيس واشتباه لم ينفذ وهو ظاهر المذهب على ما أشار إليه في الجامع ذكره الخصاف وقد روي عن أبي حنيفة - C - أن قضاءه في المجتهدات نافذ وإن لم يكن عن اجتهاد منه لأنه لا ينقض قضاءه ما لم يتبين له الخطأ بيقين وفي الاجتهاد لا يتبين ذلك فعلى تلك الرواية لا ينقض القضاء هنا أيضا .
قال : ( وكذلك لو علم أنهما عبدان أو كافران أو أعميان ) أما في العبدين والكافرين فقد ظهر أن قضاءه كان بخلاف الإجماع فهو باطل وفي الأعميين الجواب مثل الجوب في المحدودين في القذف لأن قضاءه حصل فيما هو مجتهد فيه وإن لم يقصد الاجتهاد وقد نص على أنه قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله - يعني رد القضاء وأخذ المال من المقضي له .
( وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده وقضى القاضي بذلك ثم رجعا ضمنا قيمة العبد ) لأنهما أتلفا عليه ملكا هو مال متقوم ولا يمنع وجوب الضمان عليهما بثبوت الولاء للمولى لأن الولاء ليس بمال متقوم بل هو كالنسب فلا يكون عوضا عما أتلفا عليه من ملك المال .
ولو شهدا عليه أنه دبره فقضى القاضي بذلك ثم رجعا ضمنا ما نقصه التدبير لأنهما أوجبا حق العتق للعبد بذلك ثم رجعا ضمنا ما نقصه التدبير لأنهما أوجبا حق العتق للعبد وبذلك ينقض ملك المالية للمولى فيضمنان ذلك النقصان .
وقد بينا في كتاب العتق مقدار نقصان التدبير .
فإن مات المولى يخرج العبد من ثلثه عتق وضمن الشاهدان قيمته مدبرا لأن تلف ما بقي من المال عند موت المولى حصل بشهادتهما فالتدبير موجب حق العتق في الحال وحقيقة العتق في الثلث بعد الموت وقد كان ضمنا ما أتلفاه معجلا وما زاد على ذلك كان مؤجلا فيضمنان ذلك عند تحقق الإتلاف وذلك بعد موت المولى .
وإن لم يكن له مال غيره عتق ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته ويضمن الشاهدان ثلث القيمة إذا عجل العبد الثلثين فإن بدل ما زاد على الثلث قد سلم للورثة من جهة العبد فإتلاف الشاهدين لذلك حصل بعوض فلا يضمنانه عند الرجوع فأما مقدار الثلث أتلفاه على الورثة بغير عوض فيضمنان ثلث قيمته مدبرا ولا يرجعان بذلك الثلث على العبد لأن رجوعهما غير مقبول في حق العبد .
وإن لم يعجل العبد الثلثين من القيمة وعجز عنها فللورثة أن يرجعوا به على الشاهدين لأنهما حالا بين الورثة وبين ذلك القدر من ماليته بشهادتهما والعوض في ذمة المفلس فكأنهما أتلفا ذلك بغير عوض فيضمنان للورثة كالثلث ويرجع الشاهدان بذلك على العبد لأنهما قاما مقام الورثة حين ضمنا ذلك وقد كان للورثة حق الرجوع على العبد بذلك فكذلك لمن قام مقامه بخلاف ثلث القيمة وحالهما في الثلثين كحال شهود الكتابة فإنهما لو شهدا عليه أنه كاتب عبده على ألف درهم إلى سنة فقضي بذلك ثم رجعا وهو يساوي ألفين أو ألفا فإنهما يضمنان قيمته لأنهما حالا بين المولى وبين مالية العبد بشهادتهما عليه بالكتابة فكانا بمنزلة الناصبين ضامنين للقيمة ثم يتبعان المكاتب بالمكاتبة على نحوهما لأنهما قاما مقام المولى في ذلك حين ضمنا قيمته ولا يعتق المكاتب حتى يؤدي ما عليه لأنه قبل رجوع الشاهدين ما كان يعتق إلا بعد أداء جميع الألف إلى المولى فكذلك حاله مع الشاهدين بعد ما ضمنا القيمة فإذا أداه عتق والولاء للذي كاتبه لأن الشاهدين قاما مقام المولى في قبض بدل الكتابة منه فأداؤه إليهما كأدائه إلى المولى وهذا لأن رجوعهما في حق المكاتب غير صحيح وقد استحق المكاتب أن يعتق على المولى ويكون ولاؤه له فلا يبطل ذلك الحق برجوع الشاهدين وإن عجز ورد في الرق كان لمولاه لأن رقبته لم تصر مملوكة للشاهدين فالمكاتب ليس بمحل النقل من ملك إلى ملك فرجوعهما غير صحيح في حقه ويرد المولى ما أخذ من الشهود عليهم لأن الحيلولة قد زالت بعجز المكاتب فهو نظير غاصب المدبر إذا ضمن القيمة بعد ما أبق ثم رجع فيكون مردودا على مولاه ويرد المولى على الغاصب ما أخذ منه .
( ولو شهد شاهدان أنه حلف بعتقه إن دخل هذه الدار وشهد آخران أنه قد دخلها فقضى بعتقه ثم رجعوا جميعا ضمن شاهد اليمين قيمة العبد ولا ضمان على شاهدي الدخول عندنا ) .
وقال زفر - C - الضمان عليهم جميعا لأن تلف المال حصل بشهادة الفريقين جميعا .
ولكنا نقول : شهود اليمين أثبتوا بشهادتهما العلة الموجبة للعتق وهو قوله أنت حر وشهود الدخول إنما أثبتوا شرط العتق والشرط لا يعارض العلة في إحالة الحكم عليه فالحكم يضاف إلى علته حقيقة لأنه واجب بها شرعا وإلى الشرط مجازا لأنه موجود عند الشرط لا به والمجاز لا يعارض الحقيقة بل متى كانت العلة صالحة لإضافة الحكم إليها لا يضاف شيء إلى الشرط وهو نظير حافر البئر مع الملقي فإن الضمان على الملقى دون الحافر وعلى القائد دون الممسك لهذا المعنى .
وقد بينا هذا في مسألة شهود الإحصان في كتاب الحدود ولم يذكر هنا أن اليمين لو كانت ثابتة بإقرار المولى وشهد شاهدان بالشرط ثم رجعا ظن بعض مشايخنا - رحمهم الله - أنهما يضمنان في هذا الفصل وقالوا : إن العلة لا تصلح لإضافة الحكم إليها هنا فإنها ليست تتعدى فيكون الحكم مضافا إلى الشرط على أن الشرط يجعل حلفا عن العلة هنا باعتبار أن الحكم يضاف إليه وجودا عنده وشبه هذا حفر البئر وهو غلط بل الصحيح من المذهب أن شهود الشرط لا يضمنون بحال نص عليه في الزيادات وهذا لأن قوله أنت حر مباشرة الإتلاف للمالية وعند وجود مباشرة الإتلاف الحكم يضاف إليه دون الشرط سواء كان بطريق التعدي بخلاف مسألة الحفر فالعلة هناك ثقل الماشي وذلك ليس من مباشرة الإتلاف في شيء فلهذا يجعل الإتلاف مضافا إلى الشرط وهو إزالة المسكة بحفر البئر الذي في الطريق .
( ولو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده عن مدبر منه وآخران أنه أعتق عبده ألبتة فقضى به ثم رجعوا فضمان القيمة على شاهدين العتق ولا ضمان على شاهدي التدبير ) لأن القضاء كان بشهادة شاهدي العتق فمنع جر العتق المضاف إلى ما بعد الموت .
( ولو شهد شاهد التدبير فقضى القاضي به ثم شهد شاهدا العتق فقضى به ثم رجعوا فعلى شاهدي التدبير ) لأن ضمان ما نقصه التدبير ذلك الجر تلف بشهادتهما حين قضى بها القاضي ويضمن شاهدا العتق قيمته مدبرا لأنهما أتلفا مالية المولى بشهادتهما وعند شهادتهما كان هو مدبرا فيضمنان ذلك عند الرجوع .
( ولو كان شاهدا العتق على الثياب شهدا أنه أعتقه قبل التدبير فأعتقه القاضي ثم رجعوا ضمن شاهد العتق قيمته ولا ضمان على شاهدي التدبير ) لأنه تبين أن شاهدي التدبير ما أتلفا عليه شيئا وأن القاضي أخطأ في قضائه بالتدبير حين قامت الحجة على الحرية قبل ذلك فإنما حصل تلف المالية بشهادة شاهدي العتق فالضمان عليهما عند الرجوع .
( ألا ترى ) أنهما لو شهدا أنه باع عبده من هذا بألف درهم ووقتا لذلك وقتا قبل التدبير فإن القاضي يبطل التدبير وينفذ البيع .
فإن رجعوا بعد ذلك لم يضمن شهود التدبير شيئا وضمن شهود البيع فضل القيمة على الثمن لأن الإتلاف في الفضل حصل بشهادتهم بغير عوض وإن كانت القيمة أقل من الثمن والمشتري هو المنكر ضمنا للمشتري فضل الثمن على القيمة لأنهما أتلفا عليه الفضل بغير عوض .
ولو كان سواء وشهدا أنه نقد الثمن والبائع منكر ثم رجعا عن البيع ولم يرجعا عن نقد الثمن لم يضمنا شيئا لأنهما بالشهادة على البيع أزال ملكه عن العبد بعوض يعدله وهما ثلثان على شهادتهما بنقد الثمن فهو وما لو شهد به غيرهما سواء .
ولو رجع عن نقد الثمن ضمن الثمن لأنهما أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ملك البائع في الثمن بشهادتهما عليه بالاستيفاء .
ولو كان البائع هو المدعي والمشتري يجحد لم يضمنا شيئا لأنهما أدخلا في ملك المشتري ما يعدل ما ألزماه من الثمن .
( ولو شهد شاهدان على رجل أنه كاتب عبده على ألف درهم إلى سنة وقيمته خمسمائة فأجاز القاضي ذلك ثم رجعا فاختار المولى ضمان الشاهدين فله ذلك ) لأنهما حالا بينه وبين مالية العبد بشهادتهما وبدل الكتابة في ذمة العبد المفلس كالتأوي فإن قبض المولي منهما القيمة لم يعتق المكاتب حتى يؤدي ألف درهم إلى الشاهدين لأنهما قاما مقام المولي في استيفاء بدل الكتابة حين ضمنهما القيمة ويتصدقان بالفضل لأن ذلك ربح حصل لهما بكسب خبيث وهو شهادة الزور .
وإن لم يجبر المولى يضمنهما ولكن جعل يتقاضى المكاتب حتى قبض منه مائة درهم أو لم يقبضها غير أنه علم برجوع الشاهدين فهذا اختيار للمكاتبة .
ولا يضمن الشاهدان شيئا أبدا ما خلا خصلة واحدة وهي أن تكون المكاتبة أقل من القيمة فإن هنا له أن يأخذ المكاتب بالمكاتبة ويرجع على الشاهدين بفضل القيمة لأنه بعدما علم برجوع الشاهدين كان مخيرا بين تضمين الشاهدين القيمة ومطالبة المكاتب ببدل الكتابة فاختاره اتباع المكاتب بالتقاضي منه يتضمن براءة الشاهدين كما في الغصب مع غاصب الغاصب ولكن هذا في مقدار بدل الكتابة فأما ما زاد عليه إلى تمام القيمة فحقه فيه قبل الشاهدين خاصة فلا يكون اختياره اتباع المكاتب ببدل الكتابة أبرأ الشاهدين عن ذلك الفضل فلهذا يرجع عليهما به .
ولو شهدا أنه باع عبده من رجل بألف درهم إلى سنة وقيمته خمسمائة والمشتري يدعي ذلك والبائع يجحد فأجاز القاضي ثم رجعا فهو مخير بين أن يبيع المشتري الثمن وبين أن يضمن الشاهدين القيمة لإتيانهما الحيلولة بينه وبين ملكه في الحال والبدل لا يصل إليه إلا بعد مضي الأجل .
فإن ضمن الشاهدان القيمة قاما مقامه في الرجوع على المشتري بالثمن وتصدقا بالفضل لأنه حصل لهما بكسب خبيث ولأنه من وجه كالملك للثمن منهما .
فإن استوفي منهما من القيمة وتمليك الألف بالخمسمائة ربا فلشبهة بالربا يلزمهما التصدق بالفضل .
وإن اختار المولى ابتاع المشتري بالثمن لم يرجع على الشاهدين بشيء أبدا لأن ذلك منه رضا بالبيع بالثمن المؤجل .
وكذلك لو تقاضى المشتري بعد رجوعهما فذلك منه رضا بالثمن في ذمة المشتري فيكون مبرئا لهما باختيار اتباع المشتري فلا يتبع الشاهدين بشيء بعده أبدا نوي ماله على المشتري أو خرج .
وإذا شهد رجلان على رجل أنه حلف بعتق عبده أن في قيده عشرة أرطال وحلف الرجل بعتقه بين يدي القاضي أن لا يحل القيد أبدا فشهد شاهدان على المولى أن في قيده خمسة أرطال فأعتقه القاضي بشهادتهما ثم أطلقه من القيد ثم نظر إلى القيد فإذا فيه عشرة أرطال فإن أبا حنيفة - C - قال على الشاهدين قيمة العبد وهو قول أبي يوسف الأول - C .
وفي قوله الآخر لا ضمان على الشاهدين وهو قول محمد - C .
وهو بناء على ما تقدم من اختلافهم في نفوذ قضاء القاضي شهادة الزور باطنا فعند أبي حنيفة - C - لما نفذ قضاؤه ظاهرا وباطنا فإنما عتق بشهادتهما قبل أن يحل القيد .
وعندهما لم ينفذ قضاؤه باطنا فإنما عتق بحل القيد لا بشهادتهما والشهود في الصورة يشهدون بالشرط ولكن في المعنى يشهدون بتنجيز العتق لأن تعليق العتق بشرط موجود تنجيز ولا يقال كيف ينفذ قضاء القاضي باطنا وظاهرا هنا وقد تيقنا بكذبهم بمعرفة وزن القيد فيكون هذا بمنزلة ما لو ظهر نص بخلاف قضاء القاضي أو ظهر أن الشهود عبيد أو كفار وهذا لأن القاضي حين قضى بالعتق لم يكن مخاطبا بمعرفة وزن القيد حقيقة لأنه لا طريق إليه ما لم يحل القيد وحل القيد معتق للعبد وقضاؤه إنما ينفذ باطنا باعتبار أنه سقط عنه تعرف ما لا طريق له إلى معرفته وهذا موجود هنا ولو لم يحله وعلم أنهما شهدا بباطل رد في الرق عندهما لأن قضاء القاضي لم ينفذ باطنا وكذلك لو هلك العبد وأقر أنهما شهدا بزور فهو وما سبق سواء لأنهما رجعا عن شهادتهما في مجلس القاضي فذلك كمعرفة القاضي كذبهما أو أقوى منه في إيجاب الضمان عليهما .
( ولو شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده عام أول في من رمضان فأجاز القاضي شهادتهما وأعتقه ثم رجعا وضمنهما القيمة أو لم يضمنهما حتى شهد شاهدان أنه أعتقه عام أول في شوال فإنه لا تقبل شهادة الآخرين ) لأنه حكم بعتقه بشهادة الأولين في أول يوم من رمضان .
( ألا ترى ) أن حكمه في ذلك الوقت في جزاء جنايته وحدوده وغير ذلك حكم الأحرار فالفريق الثاني إنما شهدوا بإعتاق من هو محكوم بحريته وذلك لغو وعلى الأولين ضمان القيمة يوم أعتقه القاضي لأنهما بالرجوع أقرا أنهما أتلفا عليه ماليته حين أعتقه القاضي بشهادتهما بالزور وإقرارهما حجة عليهما فيضمنان قيمته في ذلك الوقت .
وكذلك لو شهدا على أن مولاه أقر به حين ولد أنه لهذا الرجل وأنكر المولى وشهد يوم شهدوا والعبد رجل شاب ثم قضي به القاضي ثم رجعا ضمنا قيمته يوم قضي القاضي لأنهما أتلفا عليه ماليته فيه يومئذ ولو شهدا عليه أنه أعتق عبده عام أول في رمضان فقضي به القاضي ثم رجعا ثم شهد آخران أنه أعتقه أول يوم من رمضان أول من عام الأول فإن شهادة الآخرين مقبولة ولا ضمان على الأولين وهذا قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله .
فأما عند أبي حنيفة - C - لا تقبل شهادة الفريق الثاني لأن من أصله أن الشهادة على عتق العبد لا تقبل من غير دعوى ولا مدعي لما شهد به الفريق الثاني لأن العبد محكوم بحريته فلا يمكنه أن يدعي بشهادتهما والفريق الأول لا تصح منهم الدعوى لأن كلامهم متناقض .
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - الشهادة على عتق العبد مقبولة من غير دعوى فيثبت بشهادة الفريق الثاني في عتقه في وقت سابق على الوقت الذي شهد به الفريق الأول ويتبين به أنهما شهدا بأنه أعتق حرا فيسقط الضمان عنهما كذلك بخلاف ما إذا كانت شهادة الفريق الثاني بالعتق بعد وقت العتق الأول حتى قالوا إذا كان هناك من يدعي حريته في وقت سابق على الوقت الذي شهد به الفريق الأول بأن كان يدعي عليه حدا أو قصاصا في الطريق فإن شهادة الفريق الثاني مقبولة ويسقط به الضمان عن الفريق الأول لوجود المدعي لما شهد به الفريق الثاني .
ولو شهدوا عليه أنه طلق امرأته عام أول في رمضان قبل أن يدخل بها فقضي به القاضي وألزمه بنصف المهر ثم رجعا فضمنهما القاضي بنصف المهر ثم شهد شاهدان أنه طلقها عام أول في شوال قبل أن يدخل بها لم يقبل ذلك ولم ينتفع به الأولان لأنها صارت مطلقة بقضاء القاضي في وقت سابق على الوقت الذي شهد به الفريق الثاني فإنما شهد به الفريق الثاني بطلاق من هي أجنبية منه في الحكم فكان ذلك لغوا .
ولو أقر الزوج بذلك عند القاضي لم يكن على الشاهدين ضمان ورد عليهما ما كان ضمنا له . وكذلك إقرار المولى في العتق لأن المولى بإقراره يزعم أنه تلف المالية عليه وتقرر نصف الصداق كان بمباشرته الطلاق والعتاق لا بشهادتهما ومباشرة ذلك رضا منه ضرورة وإقراره حجة عليه فتبين به أن الشهود ما أتلفوا عليه شيئا حين قضي القاضي بشهادتهما بخلاف البينة فإنها لا تكون إلا بقضاء القاضي والقاضي لا يقضي بشهادة الفريق الثاني بعد ما قضي بالطلاق والعتاق وفي وقت متقدم بشهادة الفريق الأول .
ولو شهد الفريق الثاني بالطلاق في وقت متقدم على الوقت الذي شهد به الفريق الأول قبلت الشهادة لأن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعوى وتبين بهذه الشهادة أن الفريق الأول ما أكد عليه شيئا من الصداق بشهادتهما فيسقط الضمان عنهما .
ولو شهدا عليه أنه حلف بعتق عبده أنه لا يدخل هذه الدار وأنكر ذلك المولى ثم دخل العبد الدار فقضي القاضي بعتقه ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمته لأنهما أثبتا سبب إتلاف المالية بشهادتهما وهو اليمين فعند وجود الشرط إنما يعتق العبد باليمين لا بوجود الشرط .
ولو ادعى العبد أن مولاه كاتبه على ألف درهم وهي قيمته وقال المولى كاتبته على ألفين وأقام البينة فقضي القاضي بذلك على المكاتب فأداها ثم رجعا فإن القاضي يضمنهما ألف درهم للمكاتب لأنه لولا شهادتهما لكان القول في المكاتب لإنكاره الزيادة في قول أبي حنيفة - C - الآخر فما زاد على الألف إنما لزمه بشهادتهما فيضمنان له ذلك عند الرجوع .
ولو كان المكاتب لم يدع المكاتبة وقال مولاه كاتبته على ألفين فجحد المكاتب ذلك وأقام المولى بينة فإنه لا تقبل بينته على ذلك لأن البينة إنما تقبل إذا كانت ملزمة وهذه بينة لا يلزم العبد شيئا فإنه يتمكن من أن يعجز نفسه ليفسخ الكتابة فلا معنى لقبول البينة من المولى على ذلك ولكن يقال للمكاتب إن شئت فامض على الكتابة وإن شئت فدعها وكن رقيقا بخلاف الأول فهناك يدعي العبد الكتابة فند دعواه الكتابة إنما يلزمه مقدار الألفين بشهادتهما فلهذا وجب قبول شهادتهما .
فإن كان المكاتب يدعي أنه حر فجاء المولى بشاهدين فشهدا أنه كاتبه على ألفين فقضي عليه بذلك وأدى المال ثم رجعا ضمنا الألفين للمكاتب وإن كانت قيمته أقل من ذلك لأنهما ألزماه الألفين بشهادتهما فإنه لولا شهادتهما لكان القول قول من يدعي أنه حر وقد أقر بالرجوع أنهما ألزماه الألفين بغير حق بشهادتهما فيضمنان له ذلك .
( ولو شهد شاهدان على رجل أنه عبد لهذا الرجل فقضي القاضي به ثم أعتقه على مال ثم رجعا عن شهادتهما لم يضمنا للمشهود عليه شيئا ) لأنهما ما ألزماه مالا بالشهادة إنما أبطلا حريته وألزماه الرق بشهادتهما وذلك ليس بمال وقد بينا أن ما ليس بمال لا يضمن بالمال بالشهادة الباطلة ثم العبد التزم المال باختياره حين قبل العتق بجعل وذلك لا يوجب الضمان على الشهود بخلاف الأول فقد ألزمه المال هناك .
ويوضحه : أنهما لو ضمنا إنما يضمنان باعتبار قضاء القاضي برقه فذلك الضمان يكون للمولى لأنه محكوم بأنه عبده فماله يكون لمولاه والمولى يكذبهما في الرجوع بخلاف مسألة المكاتب فهناك إنما يضمنان المال للمشهود عليه لا لمولاه وهو مصدق لهما في الرجوع .
ولو شهدا على رجل أنه أعتق عبده على خمسمائة وقيمته ألف درهم فأعتقه القاضي ثم رجعا فالمشهود عليه مخير إن شاء ضمن الشاهدين الألف ويرجعان على العبد بخمسمائة لأنهما قاما مقام المولى في ذلك .
وإن شاء رجع على العبد بخمسمائة وأيهما ما اختار ضمانه لم يكن له أن يرجع على الآخر بعد ذلك بشيء أبدا بمنزلة الغاصب مع غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه تضمين أحدهما والله أعلم بالصواب