قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C تعالى - إملاء : اعلم بأن أداء الشهادة بالحق مأمور به شرعا قال الله تعالى { وأقيموا الشهادة لله } ( الطلاق : 2 ) أمروا به للوجوب وقال الله تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } ( البقرة : 282 ) والنهي عن الإباء عند الدعاء أمر بالحضور للأداء وقال الله تعالى { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } ( البقرة : 283 ) واستحقاق الوعيد بترك الواجب وقال A ( كاتم الشهادة بالحق كشاهد الزور وشهادة الزور من الكبائر ) قال A في خطبته ( أيها الناس عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله تعالى ثم تلا قوله تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ) ( الحج : 30 ) وفي هذا بيان كرامة المؤمن فقد جعل الله تعالى الشهادة عليه بما لا أصل له بمنزلة شهادة الكافر على ذاته بما لا أصل له من شريك أو صاحب أو ولد وقال A ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا نعم قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فاستوى جالسا ثم قال ألا وقول الزور فجعل يكررها حتى قلنا ليته يسكت ) وفي رواية ( سأله رجل عن الكبائر فقال A الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس بغير حق وقول الزور ) وفي حديث سعيد بن المسيب - Bه - أن النبي - A - قال : ( الشاهد بالزور لا يرفع قدميه من مكانهما حتى تلعنه الملائكة في السموات الأرض ) فيحق على كل مسلم الاجتناب عنها بجهده والتوبة عنها متى وقع فيها خطأ أو عمدا وذلك بأن يرجع عن الشهادة وليكن رجوعه في مجلس القضاء لأنه فسخ للشهادة التي أداها وقد اختصت الشهادة بمجلس القضاء فالرجوع عنها كذلك وهذا لأن التوبة بحسب الجريمة قال A ( السر بالسر والعلانية بالعلانية ) فإذا كانت جريمته في مجلس القضاء جهرا فلتكن توبته بالرجوع كذلك .
ولا يمنعه الاستحياء من الناس وخوف اللائمة من إظهار الرجوع في مجلس القضاء فلأن يراقب الله تعالى خيرا له من أن يراقب الناس ورجوعه صحيح مقبول في حقه وإن كان مردودا فيما يرجع إلى حق غيره حتى إذا رجع قبل القضاء لم يقض القاضي بشهادته لبطلانها بالرجوع .
وإذا رجع بعد القضاء لم يبطل برجوعه حق المقضى له .
والأصل فيه الحديث الذي بدأ الكتاب به ورواه عن الشعبي - C تعالى - أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب - Bه - على رجل بالسرقة فقطع يده ثم أتيا بعد ذلك بآخر فقال أوهمنا إنما السارق هذا فقال علي - Bه - لهما لا أصدقكما على هذا الآخر وأضمنكما دية يد الأول ولو أني أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما .
ففيه دليل أن الرجوع عن الشهادة صحيح في حقه وأنه عند الرجوع ضامن ما استحق بشهادته وأنه غير مصدق في حق غيره للتناقض في كلامه والمناقض لا قول له في حق غيره ولكن التناقض لا يمنع إلزامه حكم كلامه .
ثم الشافعي - C تعالى - يستدل بالحديث في فصلين : .
أحدهما : في وجوب القصاص على الشهود إذا رجعوا بعدما استوفى العقوبة بشهادتهم وزعموا أنهم تعمدوا ذلك في شهادتهم .
وفي أن اليدين يقطعان بيد واحدة فقد قال : ولو أني أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما فإذا جاز قطع اليدين في يد واحدة بطريق الشهادة فبالمباشرة أولى .
ولكنا نقول : هذا اللفظ منه على سبيل التهديد بدون التحقيق وقد تهدد الإمام بما لا يتحقق قال عمر - Bه - ولو تقدمت في المتعة لرجمت والمتعة لا توجب الرجم بالاتفاق ثم لم يكن من علي - Bه - هكذا كذبا لأنه علق بما لا طريق إليه وهو العلم بأنهما فعلا ذلك عمدا فلم يكن هذا كذبا بهذا التعليق ويحصل المقصود وهو الزجر وهو نظير قوله تعالى بل { فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون } ( الأنبياء : 63 ) ثم لم يكن هذا الكلام من إبراهيم - صلوات الله عليه - كذبا لأنه علقه بما لا يكون ومعناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم والدليل عليه أن من مذهب علي - Bه - أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة فقد روي ذلك عنه في الكتاب فبهذا تبين أن مراده التهديد .
وذكر عن حماد - Bه - أنه كان يقول في الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة بعد قضاء القاضي فإنه ينظر إلى حالهما يوم رجعا فإن كان حالهما أحسن منه يوم شهدا صدقهما القاضي في الرجوع ورد القضاء وأبطله وإن كان حالهما يوم رجعا مثل حالهما يوم شهدا دون ذلك لم يصدقهما القاضي ولم يقبل رجوعهما ولم يضمنهما شيئا وكان القضاء الأول ماضيا وبهذا كان أبو حنيفة - C تعالى - يقول أولا ثم رجع فقال لا أبطل القضاء بقولهما الآخر .
وإن كان أعدل منهم يوم شهدا ولكن أضمنهما المال الذي شهدا به وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى .
وجه قوله الأول : أن كل واحد من الخبرين متردد بين الصدق والكذب فإنما يترجح جانب الصدق فيه بالعدالة وحسن حال المخبر فإذا كانت عدالته عند الرجوع أظهر وحاله عند ذلك أحسن فرجحان جانب الصدق في هذين الخبرين بين والظاهر أن رجوعه توبة واستدرك لما كان منه من التفريط والقاضي يتبع الظاهر لأنه ما وراء ذلك غيب عنه .
وإذا كان حاله عند الرجوع دون حاله عنه الشهادة فرجحان جانب الكذب في الرجوع أبين والظاهر أنه بالرجوع قاصد إلى الإضرار بالمقضى له وإن كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند أداء الشهادة فعند المساواة يترجح الأول بالسبق واتصال القضاء به فإن الشيء لا ينقضه ما هو مثله أو دونه وينقضه ما هو فوقه ولا ضمان عليه لأنه ما يتناول شيئا إنما أخبر بخبر وذلك لم يكن موجبا للإتلاف بدون القضاء والقاضي يختار في قضائه فذلك يمنع إضافة الإتلاف إلى الشهادة فلهذا لا يضمن الشاهد شيئا .
وجه قوله الآخر : أن ظاهر العدالة ترجح جانب الصدق في الخبر ولكن لا ينعدم به معنى التناقض في الكلام وهو بالرجوع مناقض في كلامه فعدالته عند الرجوع لا تعدم التناقض وكما أن القاضي لا يقضي بالكلام المتناقض فكذلك لا ينقض ما قضاه بالكلام المتناقض ثم جانب الصدق يعين في الشهادة وتأكد ذلك بقضاء القاضي في حق المقضى له فيه بتعين جانب الكذب في الرجوع وإذا كانت تهمة الكذب عند الرجوع لفسقه يمنع القاضي من إبطال القضاء فتعين الكذب فيه بدليل شرعي لأنه يمنعه من إبطال القضاء أولى .
فلو أبطل القضاء باعتبار هذا المعنى أدى إلى ما لا يتناهى لأنه يأتي بعد ذلك فيرجع عن هذا الرجوع فيجب إعادة القضاء الأول ولكن يجب الضمان عليه لإقراره عند الرجوع أنه أتلف المال على المشهود عليه بشهادته بغير حق والتناقض لا يمنع ثبوت حكم إقراره على نفسه والإتلاف .
وإن كان يحصل بقضاء القاضي فسبب القضاء شهادة للشهود وإنما يحال بالحكم على أصل السبب وهذا لأن القاضي بمنزلة الملجأ من جهتهم فإن بعد ظهور عدالتهم يحق عليه القضاء شرعا ثم السبب إذا كان تعديا بمنزلة المباشرة في إيجاب ضمان المال وقد أقر بالتعدي في السبب الذي كان منهما وبهذا السبب سلط المشهود له على مال المشهود عليه .
ولو تسلطا عليه بإثبات اليد لأنفسهما ضمنا فكذلك إذا سلطا الغير عليه لأن وجوب الضمان للحاجة إلى الجيران ودفع الضرر والخسران عن المتلف عليه وقد تحققت الحاجة إلى ذلك ولا يمكن إيجاب الضمان على القاضي لأنه غير متعد في القضاء بل هو مباشر لما فرض عليه ظاهرا فتعين الشهود لإيجاب الضمان عليهم .
وعن إبراهيم - C تعالى - قال : إذا شهد شاهدان على قطع يد فقضي القاضي بذلك ثم رجعا عن الشهادة فعليهما الدية وإن رجع أحدهما فعليه نصف الدية وبه نأخذ لأنهما سببا لقطع اليد بطريق هو تعدي منهما وهو سبب معتاد في الناس فقد يقصد المرء الإضرار بغيره في نفسه أو ( ماله ) بالشهادة الباطلة عند عجزه عن تحصيل مقصوده بالمباشرة والتسبب بهذه الصفة موجب ضمان الدية كحفر البئر ووضع الحجر في الطريق إلا أن ضمان الدية في مالهما لأن وجوبه بقولهما وهو إقرارهما على أنفسهما عند الرجوع وقولهما ليس بحجة على العاقلة وإذا ( كانا ) ضامنين للدية إذا رجحا كان أحدهما ضامنا لنصف الدية إذا رجع لأن بشهادة كل واحد منهما يقوم بنصف الحجة فببقاء أحدهما على الشهادة تبقى الحجة في النصف أيضا فيجب على الراجح من الضمان بقدر ما انعدمت الحجة فيه وذلك النصف .
وكذلك لو شهد بمال فقضى القاضي به ثم رجع أحدهما فعليه نصف المال فإن رجعا جميعا فعليهما المال كله وهذا بخلاف ما إذا رجع قبل قضاء القاضي حتى امتنع القاضي من القضاء للمشهود له لأنهما لم يتلفا عليه شيئا مستحقا له فالشهادة قبل القضاء لا توجب شيئا للمشهود له فأما بعد القضاء فقد أتلفا على المشهود عليه ما كان مستحقا له من المال فيضمنان له ذلك .
وعن الشعبي - C تعالى - أن رجلين شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا وفرق القاضي بينهما ثم تزوجها أحد الشاهدين ثم رجع عن شهادته فلم يفرق بينهما الشعبي وبه كان يأخذ أبو حنيفة - C تعالى - وكان يقول فرقة القاضي جائزة ظاهرا وباطنا ولا يرد القاضي المرأة إلى زوجها برجوع الشاهدين ولا يفرق بينهما وبين الزوج الثاني إن كان هو الشاهد .
وقال محمد - C تعالى - لا يصدق الشاهد على إبطال شهادته الأولى ولكنه يصدق على نفسه فيفرق بينه وبينها إن كان هو تزوجها وإلى هذا رجع أبو يوسف - C تعالى .
وأصل المسألة أن قضاء القاضي بالعقود والفسوخ والنكاح والطلاق والعتاق بشهادة الزور تنفذ ظاهرا وباطنا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول - رحمهما الله تعالى .
وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد والشافعي - رحمهم الله تعالى - ينفذ قضاؤه ظاهرا لا باطنا حتى إذا ادعى نكاح امرأة وأقام شاهدي زور فقضى القاضي له بالنكاح وسعه أن يطأها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول - رحمهما الله تعالى - ولا يحل له ذلك في قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد والشافعي - رحمهم الله تعالى - وحجتهم في ذلك قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام } ( البقرة : 188 ) فقد نهى الله تعالى عن أكل مال الغير بالباطل محتجا بحكم الحاكم فهو تنصيص على أنه وإن قضى القاضي له بالشراء بشهادة الزور لا يحل له تناوله ويكون ذلك منه أكلا باطلا وقال النبي - A - ( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له بقطعة من نار ) والمعنى فيه أن قضاءه اعتمد سببا باطلا فلا ينفذ باطنا كما إذا قضى بشهادة العبيد أو الكفار أو المحدودين في القذف وبيان الوصف أن قضاءه اعتمد شهادة الزور وهو سبب باطل فإنه كبيرة وحجة القضاء مشروعة والكبيرة ضدها .
وإذا كانت تهمة الكذب تخرج الشهادة من أن تكون حجة للقضاء فحقيقة الكذب أولى ولأن ما قضى به لا كون له فيكون قضاؤه باطلا كما لو قضى بنكاح منكوحة الغير لإنسان بشهادة الزور وبيان الوصف أنه أظهر بقضائه نكاحا كان قد تقدم وإذا لم يكن بينهما نكاح فلا يتصور إظهاره بالقضاء عرفنا أنه قضى بما لا كون له ولا يجوز أن يجعل قضاؤه إن شاء لأن ولاية الإنشاء لم تثبت له فإن سبب ولايته دعوى المدعي وشهادة شهوده وهو إنما ادعى عقدا سابقا وبذلك شهد شهوده فلا يتمكن القاضي من القضاء بما لم يدعه المدعي ولا يشهد به الشهود ولأن القاضي لم يقصد إن شاء العقد بينهما وإنما ينفذ قضاءه على الوجه الذي قصده .
ألا ترى أن قضاءه في الأملاك المرسلة لا ينفذ باطنا لهذا المعنى ولا يجعل ذلك إنشاء تمليك منه وبه فارق قضاء القاضي بالفرقة بين المتلاعنين وبيعة التركة في الدين الثابت بشهادة الزور لأنه قصد الإنشاء هنا وما ظهر عنده من الحجة يصلح للإنشاء أيضا وكذلك في المجتهدات يثبت له ولاية الإنشاء بما لاح عنده من الدليل وقضاؤه إن شاء أيضا بطريق القصد منه إلى ذلك فأما هنا إنما قصد الإمضاء فلا يمكن أن يجعل منشئا .
ألا ترى أن رجلا وامرأة لو أقرا بالنكاح وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما لم يثبت النكاح بينهما باطنا بهذا الإقرار وهما يملكان الإنشاء ولكنهما بالإقرار أظهرا عقدا قد كان بينهما فلا يجعل ذلك إنشاء منهما ولأن المدعي متيقن بما لو تبين القاضي به امتنع من القضاء فلا ينفذ قضاؤه في حقه .
وإن كان القاضي معذورا لخفاء هذه الحقيقة عليه كما لو كانت امرأة مجوسية أو مرتدة أو منكوحة الغير أو أخته من الرضاعة .
والدليل على أن قضاءه ليس بإنشاء أنه لا يستدعي شرائط الإنشاء من الشهود والمهر والولي .
وأبو حنيفة - C تعالى - احتج بما روى أن رجلا ادعى على امرأة نكاحا بين يدي علي - Bه - وأقام شاهدين فقضى علي - Bه - بالنكاح بينهما فقالت المرأة إن لم يكن بدا يا أمير المؤمنين فزوجني منه فإنه لا نكاح بيننا فقال علي - Bه - شاهداك زوجاك فقد طلبت منه أن يعفها عن الزنا بل يعقد النكاح بينهما فلم يجبها إلى ذلك .
ولا يقال إنما يجبها إلى ذلك لأن الزوج لم يرض بذلك .
لأنا نقول : ليس كذلك بل الزوج راض لأنه يدعي النكاح والمرأة رضيت أيضا حيث قالت فزوجني منه وكان يتيسر عليه ذلك فقد كان الزوج راغبا فيها ثم لم يشتغل به وبين أن مقصودهما قد حصل بقضائه فقال شاهداك زوجاك أي الزماني القضاء بالنكاح بينكما فثبت النكاح بقضاء وما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله - A - فلا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة بالرأي ويتبين بهذا أن ما استدلوا به من الآية والحديث في الأملاك المرسلة وبه يقول .
والمعنى فيه أنه قضى بأمر الله تعالى فيما له فيه ولاية الإنشاء وقضاؤه بأمر الله تعالى يكون نافذا حقيقة لاستحالة القول بأن يأمر الله تعالى بالقضاء ثم لا ينفذ ذلك القضاء منه .
وبيان الوصف : أنه لما تفحص عن أحوال الشهود وزكوا عنده سرا وعلانية وجب عليه القضاء بشهادتهم حتى لو امتنع من ذلك يأثم ويخرج ويعزل ويعذر فعرفنا أنه صار مأمورا بالقضاء وهذا لأنه لا طريق له إلى معرفة حقيقة الصدق والكذب من الشهادة لأن الله تعالى لم يجعل لنا طريقا إلى معرفة حقيقة الصدق من خبر من هو غير معصوم عن الكذب ولا يتوجه عليه شرعا لوقوف على ما لا طريق له إلى معرفته لأن التكليف بحسب الوسع والذي في وسعه التعرف عن أحوال الشهود .
فإن استقصى ذلك غاية الاستقصاء فقد أتى بما في وسعه وصار مأمورا بالقضاء لأن ماوراء هذا ساقط عنه باعتبار أنه ليس في وسعه ثم إنما يتوجه عليه الأمر بحسب الإمكان والمأمور به أن يجعلها بقضائه زوجته فلذلك طريقان إظهار نكاح إن كان وإن شاء عقد بينهما فإذا لم يسبق منهما عقد تعذر إظهاره بالقضاء فيتعين الإنشاء إذا ليس هنا طريق آخر فيثبت له ولاية الإنشاء بهذا النوع من الدليل الشرعي ويجعل إنشاءه كإنشاء الخصمين فيثبت الحل به بينهما حقيقة بل قضاؤه أولى وأقوى من إنشاء الخصمين عن اتفاق .
ألا ترى أن في المجتهدات صفة اللزوم يثبت بإنشاء القاضي ولا يثبت بإنشاء الخصمين فعرفنا أن قضاءه أقوى من إنشاء الخصمين .
وشرط صحة الإنشاء الشهادة والمحل القابل له ولا شك أن المحل شرط حتى إذا كانت المرأة منكوحة الغير أو محرمة عليه بسبب لا ينفذ قضاؤه لانعدام المحل فكذلك الشهادة شرطه إلا أن مجلس القضاء لا يخلو عن شاهدين فلهذا لم يذكر الشهادة فأما الولي ليس بشرط عندنا ولا حاجة إلى ذكر المهر ويجب هذا التحقيق حكمه بالفة وهو أن لا يجتمع رجلان على امرأة واحدة أحدهما بنكاح ظاهر له والآخر بنكاح باطن له ففي ذلك من القبح ما لا يخفى والدين مصون عن مثل هذا القبح ولا يكون القاضي بقضائه ممكنا من الزنا ففيه من الفساد ما لا يخفى وإذا كان يثبت له ولاية إنشاء التفريق بين المتلاعنين وبين امرأته لنفيها به عن الزنا ويثبت له ولاية تزويج الصغير والصغيرة لمعنى النظر لهما فلأن يثبت له ولاية انعقاد العقد هنا لنفيها به عن الزنا ويصون قضاءه به عن التمكين من الزنا أولى وكذلك يثبت له ولاية إنشاء التفريق بين المتلاعنين لقطع المنازعة مع يقينه بكذب أحدهما كما قال - A - ( الله يعلم أن أحدكما لكاذب ) فكذلك يثبت له ولاية الإنشاء مع كذب الشهود لتوجه الأمر بالقضاء عليه شرعا وأمر القبلة على هذا فإنه لما توجه عليه الأمر بالصلاة إلى جهة القبلة وأتى بما في وسعه في طلب القبلة يثبت له ولاية نسب القبلة حتى أن الجهة التي أدى إليها اجتهاده تنتصب قبلة في حقه فتجوز صلاته إليها وإن تبين له الخطاء بعد ذلك وبهذا يتبين فساد ما قالوا أن المدعي عالم بما لو علمه القاضي امتنع من القضاء ففي اللعان الكاذب منهما عالم بما لو علمه القاضي امتنع من التفريق ومع ذلك نفذ القضاء في حقه لتوجه الأمر على القاضي وتوجه الأمر بالانقياد واتباع أمر القاضي في حق الناس وهذا بخلاف ما إذا ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون في قذف فإن هذه أسباب يمكن الوقوف عليها عند الاستقصاء ولكن ربما يلحقه الحرج في ذلك فللحرج تعذر بترك الاستقصاء ولكن لم يسقط الخطاب باصابتها حقيقة فلا يتوجه الأمر بالقضاء بدونها حقيقة فأما حقيقة الصدق فلا طريق إلى الوقوف عليه والأمر بالقضاء يتوجه بدونه وهو بمنزلة ما لو توضأ بماء أو صلى في ثوب لم يتبين أنه كان نجسا فإنه يلزمه الإعادة لهذا المعنى أو هو بمنزلة ما لو قضى باجتهاده ثم ظهر نص بخلافه .
فأما الأملاك المرسلة فليس للقاضي هناك ولاية الإنشاء لأن تمليك المال من الغير بغير سبب ليس فيه ولاية القاضي ولا لصاحب المال أيضا وفي أسباب تمليك المال كثرة فلا يمكن تعيين شيء منها فعرفنا أنه ليس له في ذلك الموضع إلا ولاية إظهار الملك .
فإذا لم يكن هناك ملك سابق فلا تصور لإظهاره بالقضاء والتكليف بحسب الوسع فبهذا تبين أنه لم يكن مأمورا بالقضاء باطنا فأما هنا له ولاية الإنشاء وطريقه متعين من الوجه الذي قلنا فباعتبار يصير مأمورا بالقضاء بالنكاح بينهما حقيقة .
يوضحه : أن هناك القاضي لا يقول للمدعي ملكتك هذا المال وإنما يقصر يد المدعى عليه عن المال ويأمره بالتسليم إليه ليأخذه على أنه ملكه كما يدعيه وقضاؤه بهذا نافذ فأما هنا نقول قضيت بالنكاح بينكما وجعلتها زوجة لك فينبغي أن يثبت النكاح بينهما بقضائه .
إذا عرفنا هذا فنقول إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها ثلاثا وأقامت على ذلك شاهدي زور فقضى القاضي بالفرقة بينهما فتزوجها أحد الشاهدين بعد انقضاء العدة فعلى قول أبي حنيفة - C تعالى - يحل للثاني أن يطأها ولا يحل للأول ذلك لأن الفرقة وقعت بينهما وبين الأول حقيقة وصلح النكاح بينهما وبين الثاني بعد انقضاء العدة .
وعلى قول أبي يوسف - C تعالى - ليس للأول أن يطأها لقضاء القاضي بالفرقة بينهما وكيف يطؤها ولو فعل ذلك كان زانيا عند القاضي وعند الناس فلا يجوز للمرء أن يعرض نفسه لهذه التهمة ولا يحل للثاني أن يطأها لأنه يعلم أنها منكوحة الغير وأنه كان كاذبا فيما يشهد به من الطلاق وذلك كان كبيرة منه فلا يحل له ما كان حراما عليه .
وقال محمد - C تعالى - ليس للثاني أن يطأها لهذا ويحل للأول أن يطأها ما لم يدخل بها الثاني فإذا دخل بها الثاني لا يحل للأول أن يطأها بعد ذلك لوجوب العدة عليها من الثاني بالوطء بالشبهة والمنكوحة إذا وجبت عليها العدة من غير الزوج حرم على الزوج وطؤها .
وقال الشافعي - C تعالى - لا يجب عليها العدة من الثاني لأنهما زانيان في هذا الوطء يعلمان حقيقة الأمر فهو يقول يطؤها الأول سرا بنكاح باطن له والثاني علانية بنكاح ظاهر له .
وهذا قبيح فإنه يؤدي إلى اجتماع رجلين على امرأة واحدة في طهر واحد وقد نهى رسول الله - A - عن ذلك إلا أنهم يقولون معنى الصيانة عن هذا القبح بالنهي ونحن ننهي كل واحد عن مثل هذا التلبيس وهو نظير ما يقولون فيما إذا كان ادعى جارية في يد رجل أنها له وقضى القاضي له بشهادة شاهدي زور فإنها في الباطن مملوكة للأول يطؤها سرا وفي الظاهر مملوكة للثاني يطؤها علانية وهذا القبح يتقرر فيه ولكن معنى الصيانة عن هذا القبح يحصل بالنهي ثم التمكن من هذا الظاهر يلتبس والناس أطور وقليل منهم الشكور .
وما ذهب إليه أبو يوسف فيه نوع ضرر أيضا فإن المرأة تبقى معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة إذ هي لا تحل للأول ولا للثاني وليس لها أن تتزوج بزوج آخر ولدفع هذا الضرر أمر الشرع بالتفريق بين العنين وامرأته فعرفنا أن الوجه بطريق الفقه ما ذهب إليه أبو حنيفة - C تعالى - واتبع فيه عليا - Bه - وأن قضاء القاضي ينفذ وأنها تحل بالنكاح للثاني .
( رجل ادعى على رجل أنه باع منه جاريته هذه بألف درهم والمشتري يجحد ذلك فأقام عليه شاهدين فألزمه القاضي البيع والمشتري يعلم أنه لم يشترها منه ثم رجعا عن شهادتهما لم يصدقا على نقض البيع ) لأن شهادتهما ما تأدت بحكم الحاكم وتناقض كلامهما في الرجوع .
ولا ضمان عليهما لأنهما أتلفا على المشتري الثمن بعوض يعدله وهو الجارية فإن ماليتها مثل مالية الثمن والإتلاف بعوض لا يوجب الضمان على المتلف لأن وجوب الضمان للجبران والنقصان هنا منجبر بعوض يعدله المشتري في حل من وطئها في قول أبي حنيفة - C تعالى - لأن القاضي له ولاية الإنشاء في البيوع فإنه يبيع التركة في الدين ويبيع مال اليتيم والغائب لمعنى النظر فيكون قضاؤه كإنشاء البيع لمعنى النظر للخصمين في ذلك .
وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد - C تعالى - لا يحل له أن يطأها لأن قضاءه إمضاء لبيع كان فإذا لم يكن بينهما بيع كان باطلا وإذا شهد شاهدان على رجل أنه قذف امرأته بالزنا والرجل يعلم أنهما شهدا بباطل فأمره القاضي بأن يلتعن هو وامرأته وفرق بينهما لم يسع للزوج أن يطأها .
ولو تزوجت بعد انقضاء العدة وسعها ذلك أما عند أبي حنيفة - C تعالى - ظاهر وعندهما لأن للقاضي هنا إنشاء التفريق بينهما فينفذ قضاءه على الوجه الذي قصده وقد بينا نظيره في بيع التركة في دين ثبت بشهادة الزور .
قال : ألا ترى أن الزوج لو قذفها وهو يعلم أنه كاذب فكره أن يكذب نفسه فلاعن القاضي بينهما وفرق لم يسع الزوج أن يطأها وإن كان يعلم أنها لم تزن ولو تزوجت بعد انقضاء العدة وسعها ذلك .
وإن كانت تعلم أن الزوج كاذب فيما رماها به لما أن للقاضي إنشاء التفريق وهو قضاء منه في موضعه لولاية التفريق له بسبب اللعان عند اشتباه الحال حتى إذا كان الحال معلوما لا يفرق بينهما فالاشتباه لا يؤثر في المنع من نفوذ قضائه على الوجه الذي قصده في اللعان وأبو حنيفة - C تعالى - يقول في هذا كله بعد قضائه لأنه مأمور باتباع الظاهر وما سوى ذلك مما لا طريق له إلى معرفته ساقط عنه .
ألا ترى أنه لو خلا بامرأته ولم يدخل بها ثم طلقها وأقرت هي بذلك أن لها المهر كاملا يسعها أن تأخذه وإن كانت قد علمت أن الزوج لم يقر بها ولكن لما سقط عنها ما ليس في وسعها وأتت بما عليها من التسليم تقرر حقها في المهر ولزمها العقد فلا يسعها أن تتزوج قبل انقضاء عدتها ولا يسع الزوج أن يتزوج أختها في عدتها فيه يتضح مما سبق من فصول اللعان والشهادة .
وكذلك لو قذف امرأته بالزنا وهو صادق فجحدته المرأة ولاعن القاضي بينهما وفرق وانقضت عدتها فهي في سعة من أن تتزوج غيره وله أن يتزوج أختها وإن كانا يعلمان من زناها ما لو علمه القاضي لم يفرق بينهما .
وإذا شهد شاهدان على رجل أنه اعتق أمته هذه فأجاز القاضي ذلك وأعتقها وتزوجت ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمتها للمولى لأن ملك المولى فيها كان مالا متقوما وقد أبطلا ذلك بشهادتهما فإذا زعما بالرجوع أنهما أتلفاه بغير حق صدقا على أنفسهما وضمنا قيمتها للمولى ولم يسع المولى وطؤها لأنها عتقت بحكم الحاكم ومن ضرورة سلامة الضمان للمولى أن لا تبقى هي على ملكه وبدون ملك الرقبة لا يثبت له عليها ملك الحل بغير سبب .
ولو أن صبيا وصبية سبيا وكبرا وعتقا وتزوج أحدهما ( الآخر ) ثم جاء حربي مسلما وأقام بينة أنهما ولداه فقضى القاضي بذلك وفرق بينهما ثم رجعا عن شهادتهما لم يقبل رجوعهما ولا يسع الزوج أن يطأها وإن علم أنهما شهدا بزور وكيف يطؤها وقد جعلها القاضي أخته ولم يضمن الشاهدان شيئا عندنا .
وعند الشافعي - C تعالى - يضمنان له مهر مثلها وهذا بناء على أصل نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى وهو أن البضع عند خروجه من ملك الزوج لا يتقوم عندنا فلم يتلفا عليه مالا متقوما بشهادتهما .
وعند الشافعي - C تعالى - يتقوم بمهر المثل عند خروجه من ملكه كما يتقوم عند دخوله في ملكه .
ولو كانت صبية في يدي رجل يزعم أنها أمته فشهد شاهدان أنه أقر أنها ابنته فقضى بذلك القاضي لم يسع المولى أن يطأها وإن علم أنهما شهدا زورا لأن القاضي حكم بأنها ابنته فإن رجعا ضمنا قيمتها لأنهما أقرا بالرجوع أنهما أتلفا عليه مالا متقوما بشهادتهما وهو ملكه في رقبتها ولو مات وتركت ميراثا وسعه أن يأكل ميراثها .
وكذلك لو مات الأب كانت في سعة من أكل ميراثه أما في جانبها فهو واضح لأنه لا علم لها بحقيقة الأمر فحالة العلوق غيب عنها وفي مثله عليها اتباع قضاء القاضي فيسعها أن تأكل ميراثه وأما في جانبه فهو مشكل لأن الميراث ( يثبت ) النسب مما ليس للقاضي فيه ولاية الإنشاء وهو يعلم أنها ليست بابنته حقيقة فينبغي أن لا يسعه أن يأكل ميراثها حتى قيل تأويله أنه يأكل ميراثها بسبب الولاء لأن القاضي قضى بالعتق وله فيه ولاية الإنشاء فيثبت الولاء له والأصح أن يقال لما كان للقاضي ولاية الإنشاء في قطع النسب باللعان فكذلك له ولاية الإنشاء في القضاء بالنسب إذا صادف محله فقد صادف محله وهنا فإنه ليس لها نسب معروف فلهذا يسعه أن يأكل ميراثها .
ولو شهدا على مال فقضى به القاضي فقبضه أو لم يقبضه ثم رجعا ضمنا المال إذا أخذه المقضي له من المقضي عليه وقبل الأخذ لا يضمنها المقضي عليه شيئا لأن تحقق النقصان عند تسليم المال إلى المقضي له فأما ما بقيت يده على ماله فلا يتحقق الخسران في حقه ولأن الضمان مقدر بالمثل وهما أتلفا عليه دينا حين ألزماه ذلك بشهادتهما فلو ضمنهما عينا قبل الأداء كان قد استوفى منهما عينا مماثلة الدين ولا مماثلة بين العين والدين وفي الأعيان يثبت الملك للمقضي له بقضاء القاضي ولكن المقضي عليه يزعم أن ذلك باطل لأن الملك في يده ملكه فلا يكون له أن يضمن الشاهدين شيئا ما لم يخرج المال من يده بقضاء القاضي وكذلك هذا في العقار فإن بالشهادة الباطلة يضمن العقار كالمنقول لأن فيها إتلاف الملك واليد على المقضي عليه والعقار يضمن بمثل هذا السبب فإن إتلاف الملك يتحقق فيها بخلاف الغصب على قول من يقول العقار لا يضمن بالغصب .
ولو شهد ثلاثة نفر على رجل بمال وقضى به القاضي ثم رجع أحدهم لم يضمن شيئا لأن الأصل في ضمان الرجوع أنه يعتبر بقاء من بقي على الشهادة لا رجوع من رجع وقد بقي على الشهادة حجة تامة فلا يضمن الراجع شيئا وهذا لأن الراجع وإن زعم أنه متلف بشهادته عليه فما أتلفه يستحق عليه بشهادة غيره واستحقاق ذلك عليه بالحجة يمنعه من الرجوع عليه على المتلف بالضمان كمن غصب مال إنسان أو أتلفه ثم استحق رجل ذلك المال بالبينة فلا ضمان للمتلف عليه إذا لم يضمنه المستحق شيئا .
ولو رجع اثنان منهم ضمنا نصف المال لأنه بقي على الشهادة لم يثبت نصف المال بشهادته وإنما انعدمت الحجة في النصف خاصة فيضمن الراجعان ذلك .
ولو شهد رجل وامرأتان ثم رجعت امرأة فعليها ربع المال لأن الثابت بشهادتهما ربع المال ولأنه قد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته ثلاثة أرباع المال فعلى الراجع ربع المال وإن رجعت المرأتان فعليهما النصف .
وإن رجع الرجل وحده فعليه نصف المال وإن رجع رجل وامرأة فعليهما ثلاثة أرباع المال على الرجل النصف وعلى المرأة الربع وإن رجعوا جميعا فعلى الرجل نصف المال وعلى المرأتين النصف لأن الثابت بشهادة الرجل مثل ما ثبت بشهادة المرأتين فقد قامتا في الشهادة مقام رجل واحد كما قال - A - في نقصان عقل النساء عدلت شهادة اثنتين منهن شهادة رجل فإن شهد رجل وعشر نسوة فقضى القاضي ثم رجعوا جميعا فعلى الرجل سدس المال وعلى النساء خمسة أسداس المال في قول أبي حنيفة - C تعالى - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - على الرجل النصف وعلى النساء النصف لأن النساء وإن كثرن في الشهادة لا يقمن إلا مقام رجل واحد .
ألا ترى أن الحجة لا تتم ما لم يشهد معهن رجل فكان الثابت بشهادته نصف المال وبشهادتهن نصف المال .
يوضحه : أن الرجل متعين في هذه الشهادة للقيام بنصف الحجة ولهذا لا تتم الحجة إلا بوجوده فلا يتغير هذا الحكم بكثرة النساء وإذا ثبت نصف الحق بشهادته ضمن ذلك عند الرجوع والنصف الآخر يثبت بشهادة النساء فعليهن ضمانه عند الرجوع .
وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : كل امرأتين في الشهادة يقومان مقام الرجل الواحد فعشر نسوة بخمسة من الرجال وهذه المسألة بمنزلة ما لو شهد ستة من الرجال ثم رجعوا فيكون الضمان عليهم أسداسا .
ودليل صحة هذا الكلام أن حكم الشهادة كحكم الميراث وفي الميراث عند كثرة البنات مع الإبن يجعل كل اثنتين كإبن واحد ولم يجعل حالة الاختلاط كحالة انفراد البنات فعند الانفراد لا يزاد لهن على الثلثين ثم عند الاختلاط يجعل كل اثنتين كإبن فكذلك في الشهادة وهذا لأن النقصان على أدنى العدد في الشهادة يمنع القضاء .
فأما الزيادة على النصاب معتبر في أن القضاء يكون بشهادة الكل فبكثرة النساء عند وجود الرجل يزداد النصاب ويكون القضاء بشهادة الكل على أن كل امرأتين كرجل واحد فعند الرجوع كذلك يقضي بالضمان ولو رجع ثمان نسوة لم يكن عليهن شيء لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت الاستحقاق بشهادته وهو رجل وامرأتان .
فإن رجعت امرأة بعد ذلك كان عليها وعلى الثمان ربع المال لأن الحجة إنما بقيت في ثلاثة أرباع الحق فيجب الضمان بقدر ما انعدمت الحجة فيه وليس البعض بأولى من البعض في وجوب ذلك عليه فلهذا ضمن التسع ربع المال عليهن بالسوية وإن رجعت العاشرة فعليها وعلى التسع نصف المال أما عندهما ظاهر لأن الثابت بشهادتهن نصف المال .
وعند أبي حنيفة - C تعالى - لأنه بقي على الشهادة من يثبت نصف المال بشهادته بمنزلة ما لو شهد ستة من الرجال ثم رجع خمسة .
ولو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا كان الضمان على الرجلين دون المرأة لأن المرأة الواحدة لا تكون شاهدة فإن المرأتين شاهد واحد فالمرأة الواحدة شطر العلة في كونها شاهدا وبشطر العلة لا يثبت شيء من الحكم فكان القضاء بشهادة رجلين دون المرأة فلا يضمن عند الرجوع شيئا ولو شهد رجل وثلاث نسوة ثم رجع رجل وامرأة ضمن الرجل نصف المال لأن الحجة بقيت في نصف المال فقد بقي امرأتان على الشهادة ثم هذا النصف عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - على الرجل خاصة لما بينا أن عندهما نصف المال متعين في أنه ثابت بشهادة الرجل ونصف ثابت بشهادة النساء وقد بقي من النساء على الشهادة من يثبت نصف المال بشهادته فعرفنا أن الحجة انعدمت في النصف الذي هو ثابت بشهادة الرجل خاصة فيكون الضمان عليه دون المرأة .
وينبغي في قياس قول أبي حنيفة - C تعالى - أن يكون النصف أثلاثا على الرجل والمرأة لأن القضاء هنا بشهادة الكل فكل امرأة منهن إذا ضمتها إلى الأخرى كانتا شاهدا فلا يكون القضاء محالا به على شهادة البعض دون البعض وقد بقيت الحجة في نصف الحق فيجب ضمان نصف الحق على الراجعين أثلاثا لأن الثابت بشهادة الرجل ضعف ما يثبت بشهادة المرأة .
ولو رجعوا جميعا كان على الرجل النصف وعلى النسوة النصف في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى .
وفي قول أبي حنيفة - C تعالى - على الرجل خمسا المال وعلى النسوة ثلاثة أخماسه كما ذكرنا في الفصل الأول .
وإذا شهد رجلان وامرأتان ثم رجعوا فالضمان أثلاث لأن المرأتين قامتا مقام رجل واحد فكأنه شهد ثلاثة بالمال ثم رجعوا .
وإذا شهد شاهدان بمال قضى به القاضي ثم ادعى المشهود عليه أنهما رجعا وأرادا يمينهما فلا يمين عليهما في ذلك ولا تقبل عليهما به بينة لأنه ادعى عليهما رجوعا باطلا لما بينا أن الرجوع فسخ للشهادة فيختص بمجلس الحكم كالشهادة فلما أن شهادتهما في غير مجلس القاضي باطلة فكذلك رجوعهما والحدود والقصاص في هذا كالأموال .
وإذا رجعا عن شهادتهما وأشهدا بالمال على أنفسهما من قبل الرجوع ثم جحدا ذلك فشهدت عليهما شهود بالمال عليهما قبل الرجوع والضمان لم يقبل ذلك لأن الرجوع في غير مجلس القضاء باطل فإنما أشهدا على أنفسهما بالمال بسبب باطل وذلك لا يلزمهما شيء وكذلك لو شهدوا على زنا واحصان فرجمه القاضي بذلك ثم أشهد الشهود عليهم بالرجوع لم يكن عليهم بالرجوع حد ولا ضمان لأنهم بالرجوع ما صاروا قاذفين له ولكن الشهادة تنفسخ بالرجوع فيصير كلام الشاهدين قذفا عند ذلك وفسخ الشهادة بالرجوع مختص بمجلس الحكم .
( قال ) ( ولو أوجبت عليهما الحد لأوجبت عليهما الضمان ) وقد بينا أنهم لا يضمنون بالرجوع في غير مجلس الحكم فلا يحدون أيضا وإذا لم يقض القاضي بشهادة شاهدين حتى رجعا عنها لم يقض بها لأن القضاء يستدعي قيام الحجة عنده ولم تبق الحجة حين رجعا ولأن شهادتهما تتأكد بالقضاء فبالرجوع قبل التأكد يبطل بحيث لا يبقى له أثر ولا ضمان عليهما لأنهما لم يتلفا شيئا على أحد أما المشهود عليه فقد بقي المال على ملكه وأما المشهود له فلم يثبت له استحقاق قبل القضاء .
ولو اشترى رجل دارا بألف درهم وهي قيمتها ونقده الثمن فشهد شاهدان أن هذا الرجل شفيعها وأن هذه الدار التي هي في يديه ملزقة بداره فقضى القاضي له بالشفعة ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما لأنهما أتلفا على المشتري ملكه فيها بعوض يعد له وهو الثمن الذي أخذه من الشفيع .
فإن كان المشتري قد بنا فيها بناء فأمره القاضي بنقضه ضمن الشاهدان له قيمة بنائه لأنه كان مستحقا لقرار البناء بملكه الدار وقد شهد أن الشفيع أحق بملكها منه فكانا متلفين للبناء عليه فيضمنان له قيمة البناء مبنيا ويكون النقض لهما بالضمان بمنزلة ما هدماه بأيديهما .
وإذا رجع الشاهدان عن شهادة شهدا بها عند غير القاضي الذي شهدا عنده فإنه يقضي عليهما بالضمان لأن شرط صحة الرجوع مجلس القاضي لا مجلس ذلك القاضي الذي شهدا عنده فرجوعهما في مجلس القاضي الآخر كرجوعهم في مجلس القاضي الذي شهدا عنده أرأيت لو مات الأول أو عزل فرجع في مجلس القاضي الذي قام مقامه أليس يقضي عليهما بالضمان فكذلك إذا رجعا في مجلس القاضي الآخر .
فإن قضى بذلك عليهما فلم يؤديا حتى تخاصهما إلى القاضي الذي شهدا عنده أول مرة وجحدا الرجوع فقامت عليهما البينة بالرجوع وبقضاء القاضي عليهما بالضمان فإنه ينفذ ذلك عليهما ويضمنها المال لأن المدعي أثبت المال عليهما بالحجة بسبب صحيح فيضمنهما المال به وكذلك لو رجعا عند القاضي الذي شهدا عنده فيضمنهما ذلك ثم اختصموا إلى غيره وكذلك لو شهد عليهما شاهدان بإقرارهما أنهما رجعا عند قاض من القضاة وأنه ضمنهما ذلك فالثابت من إقرارهما بالبينة كالثابت بالمعاينة .
ولو سمع القاضي إقرارهما بذلك ضمنها المال فكذلك إذا أثبت المدعي ذلك بالحجة ولو رجع عند غير قاض وضمنهما المال وكتابه على أنفسهما صكا ونسب المال إلى الوجه الذي هو له منه ثم جحدا ذلك عند القاضي لم يقض بذلك عليهما لأنهما كتبا على أنفسهما الصك بمال بسبب باطل وهو رجوعهما عند غير القاضي وكذلك لو أقر بذلك ضمنهما المال فكذلك إذا أثبت المدعي ذلك بالحجة .
ولو رجعا عند غير قاض وضمنهما المال على الوجه الذي هو له منه ثم جحدا ذلك عند القاضي لم يقض بذلك عليهما لأنهما كتبا على أنفسهما الصك بسبب باطل وهو رجوعهما عند غير القاضي .
وكذلك لو أقر بذلك عند صاحب الشرط أو عامل كورة ليس القضاء إليه لأن الرجوع معتبر بالشهادة فكما أن الشهادة عند هؤلاء كالشهادة عند غيرهم من الرعايا فكذلك الرجوع .
وإذا شهدا على رجل أنه باع عبده هذا من فلان بألف درهم والبائع يجحد والمشتري يدعي ثم رجعا عن الشهادة فإن كانت قيمة العبد ألف درهم أو أقل فلا ضمان على الشاهدين لأنهما أدخلا في ملك البائع ما يعدل ما أخرجاه عن ملكه أو يزيد عليه وهو الثمن الذي استوفاه من المشتري .
وإن كانت قيمة العبد أكثر من ألف ضمنا الفضل لأنهما أتلفا الفضل عليه بغير عوض يعد له والبعض معتبر بالكل .
وكذلك كل بيع أو صرف شهدا به .
وإن أخر المقضي عليه الضمان عنهما جاز لأن هذا تأجيل دين واجب في الذمة وهو وسائر الديون سواء ثم إذا أجل رب الدين للمدين صح هذا التأجيل فكذا هنا ولأن الواجب عليهما ليس ببدل الصرف وإنما هو بدل الغصب أو مال مستهلك وقد تقدم بيان صحة التأجيل به وإذا كان لرجل على رجل دين فشهد شاهدان أنه وهبه أو تصدق به عليه أو أبرأه منه أو حلله أو أوفاه ثم رجع ضمنا المال لأنهما أتلفا عليه المال بشهادتهما .
فإن ( قيل ) : قد