قال - C تعالى - : ذكر عن شريح - C تعالى - أنه كان إذا أخذ شاهد الزور بعث به إلى أهل سوقه إن كان سوقيا إلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا فيقول إن شريحا - C تعالى - يقرئكم السلام ويقول إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس وبهذا أخذ أبو حنيفة - C تعالى - فقال القاضي يكتفي في شهادة الزور بالتشهير ولا يعزره .
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - : يعاقبه بالتعزير والحبس على قدر ما يرى حتى يظهر توبته ولا يبلغ بالتعزيرات سبعين سوطا .
وقال أبو يوسف بعد ذلك يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا وقد بينا الكلام في مقدار التعزير في كتاب الحدود .
فأما الكلام في التعزير في حق شاهد الزور فهما استدلا بحديث عمر - Bه - حيث قال في شاهد الزور يضرب أربعين سوطا ويسخم وجهه ويطاف به إلا أن الدليل قد قام على انتساخ حكم التسخيم للوجه فإن ذلك مثله ( ونهى رسول الله - A - عن المثلة ولو بالكلب العقور ) فبقي حكم التعزير والتشهير بأن يطاف به ثم التشهير لإعلام الناس حتى لا يعتمد وإشهاده بعد ذلك والتعزير لارتكابه كبيرة فشهادة الزور من أعظم الكبائر فإنها عدلت بالشرك بالله تعالى قال الله تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ( الحج : 30 ) .
وفيه إشارة إلى عظم حرمة المسلم فقد جعل الله تعالى الشهادة عليه بالزور كالشهادة على نفسه بالزور وإذا ثبت أنه مرتكب للكبيرة قلنا يعذر على ذلك .
وأبو حنيفة - C تعالى - أخذ بقول شريح - C تعالى - فإنه كان قاضيا في زمن عمر وعلي - Bهما - فما يشتهر من قضاياه كالمروي عنهما ثم التشهير لمعنى النظر للمسلمين وذلك من حقهم فأما التعزير لحق الله تعالى وذلك يسقط بالتوبة وشاهد الزور من يقر على نفسه بذلك وإقراره على نفسه بذلك دليل توبته فلهذا لا يعزر ويكتفي بالتشهير ثم في التشهير نوع تعزير وهو تعزير لائق بجريمته لأن بالشهادة لا يحصل له سوى ماء الوجه وبالتشهير يذهب ماء وجهه عند الناس فكان هذا تعزيرا لائقا بجريمته فيكتفي به وما نقل عن عمر - Bه - محمول على معنى السياسة إذا علم الإمام أنه لا ينزجر إلا به .
ألا ترى أنه ذكر تسخيم الوجه وذلك بالاتفاق بطريق السياسة إذا علم المصلحة فيه فكذلك التقرير .
( قال ) ( وشاهد الزور عندنا المقر على نفسه بذلك ) لأنه لا تتمكن تهمة الكذب في إقراره على نفسه فلا طريق إلى ثبات ذلك بالبينة عليه لأنه نفي لشهادته والبينة حجة للإثبات دون النفي وكذلك من ردت شهادته لتهمة أو للدفع عن نفسه أو بالاختلاف في الشهادة أو بتكذيب الذي شهد له فإنه لا يكون شاهد الزور فيما ذكرنا من الحكم لأني لا أدري أيهما الصادق المشهود له أو الشاهد فلعل المشهود له أراد بالشاهد العقوبة والتهمة فقصر في دعواه عما شهد به شاهده وكذلك من ردت شهادته للتهمة فلعله صادق في شهادته .
وإذا اختلف الشاهدان في الشاهدة فلا يعرف الكاذب منهما فلهذا لا يعزر واحد من هؤلاء والرجال والنساء وأهل الذمة في شهادة الزور سواء لقيام الأهلية في حقهم جميعا فيما يتعلق بشهادة الزور .
وإذا شهد أحد الشاهدين على قتل أو جراحة عمدا أو خطأ وشهد الآخر على الإقرار بذلك لم تجز شهادتهما لاختلاف المشهود به فأحدهما يشهد بفعل معاين والآخر يقول مسموع والقول غير الفعل .
وكذلك لو اختلفا في الوقت أو في المكان الذي كان به القتل فأما في البيع اختلاف الشهود في المكان والزمان والإنشاء والإقرار لا يمنع الشهادة إلا على قول زفر - C تعالى - فإنه يقول لا تقبل لاختلافهما في المشهود به فالموجود في مكان غير الموجود في مكان آخر كالأفعال .
ولكنا نقول : القول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول في الحكم فبهذا الاختلاف لا يتحقق بينهما اختلاف في المشهود به وكذلك صيغة الإقرار والإنشاء في البيع واحدة بخلاف الأفعال فإنها لا تحتمل التكرار ولو شهد أحدهما في قرض مائة درهم وشهد الآخر على الإقرار بذلك جاز كما في البيع لأن البيع والقرض كلام كله .
وقال بعضهم هنا الجواب في القرض غلط فإن الإقراض فعل فإنه لا يتحقق إلا بتسليم المال والقبض بحكم القرض موجب ضمان المثل كالغصب وكما أن اختلاف الشهود في الغصب في الإقرار والإنشاء يمنع قبول الشهادة فكذلك في القرض ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن حكم القرض إنما يثبت بقوله أقرضتك لا بتسليم المال إليه فإن تسليم المال إليه بدون هذا القول يكون إيداعا وقوله أقرضتك صيغة الإقرار والإنشاء فيه واحد كما في البيع .
ولو شهد أحدهما على مائة والآخر على خمسين لم تقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة - C تعالى - لاختلاف الشاهدين في المشهود به لفظا وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - تقبل على الأقل إذا كان المدعي يدعي الأكثر حتى لا يصير مكذبا أحد شاهديه .
وقد بينا في كتاب الطلاق في التطليقة والتطليقتين ولا يجوز شهادة دافع عن نفسه مغرما أو جار إليها مغنما لأنه متهم في شهادته وقال - A - ( لا شهادة لمتهم ) ولأنه في معنى الشاهد لنفسه وشهادة المرء لنفسه دعوى .
ولا تجوز شهادة المفاوضة لشريكه في شيء ما خلا الحدود والقصاص والنكاح فذاك ليس من شركة ما بينهما فنزل كل واحد منهما في المشهود به من صاحبه منزلة الأجنبي وأما في الأموال هما بعقد المفاوضة صار في ذلك كشخص واحد فكل واحد منهما فيما يشهد به لصاحبه بمنزلة الشاهد لنفسه وشهادة الشريك لشريكه .
وإن كانا غير متفاوضين لا تجوز في تجارتهما للتهمة لأن فيما يكون من تجارتهما الشاهد يثبت الحق لنفسه وصاحبه كالوكيل عنه فهو كشهادة الموكل لوكيله فيما وكله به فأما فيما ليس من تجارتهما فهو كسائر الأجانب لأن تهمة الميل بسبب عقد الشركة لا تتمكن عند ظهور العدالة فإن بسبب الشركة يحصل بينهما الصداقة .
والصديق إذا كان عدلا عاقلا يمنع صديقه من أكل الحرام ولا يحمله على ذلك بالشهادة .
وكذلك شهادة أجير أحد الشريكين للشريك الآخر وشهادة الأجير لأستاذة لا تجوز في شيء .
وإن كان عدلا أخذ في ذلك بالثقة واستحسن لما بلغنا في ذلك عن شريح - C تعالى - ولحالة الناس التي هم عليها اليوم والمراد الإشارة إلى التهمة فالأجير هنا هو التلميذ الخاص وقد ظهر مثله إلى أستاذه وإيثاره على غيره فكان بمنزلة الزوجية في المنع من قبول الشهادة ولأنه هو الذي يقبض ما يجب لأستاذه فكأنه يثبت حق القبض لنفسه بشهادته وقد ورد الحديث بأن لا شهادة للقانع بأهل بيته .
ومعنى ذلك أنه يعد خيرهم خير نفسه وشرهم شر نفسه والأجير في حق أستاذه بهذه الصفة .
وقيل : مراده أجيرا استأجره مسانهة أو مشاهرة فإنما يستوجب الأجر بتسليم نفسه وفي الزمان الذي يسلم نفسه لأداء الشهادة له يستوجب الأجر فكان بمنزلة من استؤجر على أداء الشهادة فلهذا لا تقبل شهادته لأستاذه في شيء .
ولو أن رجلا كان عليه مال فشهد ابناه أن الطالب أبرأ أباهما واحتال به على فلان والطالب منكر لم تجز شهادتهما لأنهما يسقطان بشهادتهما مطالبة الطالب عن أبيهما فدفعهما عن أبيهما كدفعهما عن أنفسهما .
ولو كان المال على غير أبيهما فشهدا أن الطالب احتال به على أبيهما والطالب ينكر والمطلوب يدعي الحوالة والبراءة جازت شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما بالمال ويلزمانه المطالبة بشهادتهما وإنما يسقطان بها مطالبة الطالب عن المطلوب وهو أجنبي عنهما فلهذا قبلنا شهادتهما .
ولو شهد رجلان أن لهما ولفلان على فلان كذا لم تجز شهادتهما لأنهما شاهدان لأنفسهما وهذا لأنهما يشهدان بدين مشترك أو ينصرف واحد يثبت به المال لهما ولفلان .
وفإذا لم تقبل شهادتهما في حق أنفسهما وكان مدعيين في ذلك فكذلك في حق الثالث كما لو شهدا أنه قذف هذا وأمنا في كلمة واحدة .
وكذلك لو شهدا أن فلانا أبرأهما وفلانا من مال كان له عليهما وعليه لأن المشهود به كلام واحد وهو في حقهما دعوى لا شهادة وبين الدعوى والشهادة مغايرة .
فإذا كان كلامهما دعوى في البعض لا تكون شهادة معتبرة في الباقي وكذلك شهادة ولدهما لأنهما في البعض يشهدان لوالديهما ولا يجوز شهادة الأجير لمعلمه يريد به التلميذ وقد بينا المعنى فيه وإذا ادعى رجل دابة في يد رجل فقال هي دابة فلان دفعها إلى وديعة فردها عليه وجاء أحد الورثة فخاصمه في ذلك وقال هي دابتي تصدق بها على أبي فجاء الذي كانت في يده أولا وشهد أنها دابته .
( قال ) ( وإن كان يعلم أن هذا أودعها أباه ثم ردها عليه فشهادته جائزة وإلا فلا تجوز شهادته ) لأن هذا دافع مغرم ومعنى هذا أنه إذا علم أنه هو الذي أودعها إياه وأنه قد ردها عليه فقد خرج من ضمانها بيقين لأن المستودع يستفيد البراءة بالرد على من أودعه غاصبا كان أو مالكا فلا تتمكن تهمة في شهادته بالملك للمدعي بعد ذلك وأما إذا لم يعلم ذلك فقد صار هو مقرا على نفسه بثبوت يده عليها وذلك موجب للضمان عليه لمالكها ما لم تصل يده إليها فهو بهذه الشهادة يريد اتصالها إلى يده ليبرئ نفسه عن ضمانها فتتمكن تهمة في شهادته .
( قال ) ( وكذلك الدار ) قيل : هذا على قول من يقول العقار يضمن بالغصب .
وقيل : بل هو قول الكل لأنه يخاف أن يرفع إلى قاض يرى العقار كالمنقول في إيجاب الضمان على مثبت اليد عليها فيقضي عليه بالضمان فهو بهذه الشهادة يدفع المغرم على نفسه أيضا .
( رجل معه شاة فمر رجل فقال اذبحها فذبحها ثم جاء رجل فأقام البينة أن هذا أغصبها منه وأقام شاهدين أحدهما الذابح لم تجز شهادة الذابح ) لأنه دافع المغرم عن نفسه فالمدعي إذا ثبت ملكه يتمكن من تضمين الذابح والذابح بشهادته يصير مقرا بالضمان له عن نفسه فإنما يقصد بإخراج الكلام مخرج الشهادة دفع المغرم عن نفسه بأن يتوصل صاحبها إلى حقه في تضمين الغاصب ولأن ضمان الغصب إذا تقرر أوجب الملك للغاصب فهو بهذه الشهادة يريد أن يقرر الضمان على من أمره بالذبح ليثبت الملك له فيعتبر عند ذلك أمره في إسقاط الضمان عن الذابح فكان دافع المغرم من هذا الوجه والثاني يحتمل أن المالك غيره وغيره يضمنه وهو لا يضمنه باعتبار أن بينهما محبة ومودة فقد تمكنت التهمة في هذه الشهادة .
( قال ) ( ومن التهاتر أن يشهد الشاهدان أن هذا الشيء لم يكن له ) لأن هذا نفي والشهادة للإثبات دون النفي فإن النفي مما لا يعرف لأن الإنسان ما لم يصحب غيره أناء الليل وأطراف النهار لا يعلم أن هذا الشيء ليس له وهو وإن صحبه لا يعلم ذلك أيضا فقد لا يعرف الإنسان ذلك من نفسه بأن يكون ورث شيئا فيكون مملوكا له وهو لا يعلم بذلك فإذا كان لا يعرف هذا من نفسه فكيف يعرف غيره منه .
وكذلك لو شهد أنه لم يكن لفلان على فلان دين لأنه لا طريق إلى معرفة ما شهد به من نفي الدين عن ذمته وكذلك كل شهادة هكذا أنها لم تكن وأن فلانا لم يصنع كذا وأنه لم يحضر مكان كذا وإن كان بمكان كذا فهو كله باطل لأن القاضي يعلم أنه مجازف في شهادته إذ لا طريق له إلى معرفة ذلك حقيقة فإذا علم الحاكم أن الشاهد كاذب أو مجازف في شهادته لا تقبل شهادته .
وكذلك قولهم إنه لم يحضر يومئذ ذلك المكان فهذا نفي وكذلك قولهم إنه كان يومئذ بمكان كذا وكذا لأن المقصود ليس هو إثبات كونه في ذلك المكان وإنما المقصود لفي كونه في المكان الذي يدعيه المدعي يومئذ والمعتبر ما هو المقصود أو من التهاتر أن يقيم الرجل البينة على حق فيقضي له به فيقول المقضي عليه أنا أقيم بينة أنه لي فهذا لا يقبل منه لأنه يقيم البينة لإبطال قضاء القاضي عليه ودعواه ذلك غير مسموع فكيف تقبل بينة عليه وهذه البينة لو كانت قائمة له عند القضاء يمتنع القاضي من القضاء للمدعي فلان لا يبطل القضاء بها أولى .
فالشافعي يقول : كل امرأتين يقومان مقام رجل واحد في الشهادة كما في المذكورات فشهادة أربع نسوة بمنزلة شهادة رجلين فيما يطلع عليه الرجال .
فالشافعي يقول : كل امرأتين يقومان مقام رجل واحد في الشهادة كما في المذكورات فشهادة أربع نسوة بمنزلة شهادة رجلين فيما يطلع عليه الرجال .
توضيحه : أن حال الرجال في الشهادة أقوى من حال النساء وإذا كان لا يجوز إثبات شيء مما يطلع عليه الرجال بشهادة رجل واحد لمعنى الإلزام فلان لا يجوز إثباته بشهادة امرأة واحدة أولى ولا معنى لقول من يقول أن هذا خبر وليس بشهادة فإن الحرية فيه شرط بالاتفاق قال في الكتاب لو شهدت أمة أو كافرة لا تقبل وكذلك لفظ الشهادة لا بد منه فعرفنا أنه بمنزلة الشهادة في الحقوق وبهذا يستدل ابن أبي ليلى - C تعالى - أيضا إلا أنه يقول المعتبر في الشهادات شيئان العدد والذكورة وقد تعذر اعتبار أحدهما وهو الذكورة هنا ولو لم يتعذر اعتبار العدد فيبقى معتبرا كما في سائر الشهادات ولا معنى لقول من يقول إن نظر الواحدة أحق من نظر المثنى لأنه بالاتفاق والمثنى والثلاث أحوط فلو كان هذا معتبرا لما جاز النظر إلا لامرأة واحدة .
فالشافعي يقول : كل امرأتين يقومان مقام رجل واحد في الشهادة كما في المذكورات فشهادة أربع نسوة بمنزلة شهادة رجلين فيما يطلع عليه الرجال .
( قال ) ( ولو قبلت مثل هذا لقبلت من الآخر مثلها فيؤدي إلى ما لا يتناهى ) وذكر في الأصل المسألة التي بيناها في كتاب الحدود إذا شهد أربعة على شهود الزنا أنهم التزماه وقد بيناها ثمة والله أعلم