قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C تعالى - إملاء : اعلم بأن اشتقاق الشهادة من المشاهدة وهي المعاينة فمن حيث إن السبب المطلق للأداء المعاينة سمى الأداء شهادة وإليه أشار النبي - A - في قوله ( للشاهد إذا رأيت مثل هذا الشمس فاشهد وإلا فدع ) .
وقيل : هي مشتقة من معنى الحضور يقول الرجل شهدت مجلس فلان أي حضرت قال الله تعالى { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } ( البروج : 7 ) ومن حيث إنه يحضر مجلس القاضي للأداء يسمى شاهدا وتسمى أداء شهادة ثم القياس يأبى كون الشهادة حجة في الأحكام لأنه خبر محتمل للصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة ملزمة ولأن خبر الواحد لا يوجب العلم والقضاء ملزم فيستدعي سببا موجبا للعلم وهو المعاينة فالقضاء أولى .
ولكنا تركنا ذلك بالنصوص التي فيها أمر للأحكام بالشهادة من ذلك قول الله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ( البقرة : 282 ) وقال الله تعالى { اثنان ذوي عدل منكم } ( المائدة : 106 ) وقال - A - ( البينة على المدعي ) وفيه معنيان أحدهما حاجة الناس إلى ذلك لأن المنازعات والخصومات تكثر بين الناس وتتعذر إقامة الحجة الموجبة للعلم في كل خصومة والتكليف بحسب الوسع والثاني معنى إلزام الشهود حيث جعل الشرع شهادتهم حجة لإيجاب القضاء مع احتمال الكذب إذا ظهر رجحان جانب الصدق وإليه أشار النبي - A - في قوله ( أكرموا الشهود فإن الله تعالى يحيي الحقوق بهم ) ولما خص الله تعالى هذه الأمة بالكرامات وصفهم بكونهم شهداء على الناس في القيامة قال الله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } ( البقرة : 143 ) وقد يجب العمل بما لا يوجب علم اليقين كالقياس في الأحكام بغالب الرأي في موضع الاجتهاد ثم القياس بعد هذا أن يكتفي بشهادة الواحد لأن رجحان جانب الصدق يظهر في خبر الواحد بصفة العدالة ولهذا كان خبر الواحد العدل موجبا للعمل وكما لا يثبت علم اليقين بخبر الواحد لا يثبت بخبر العدد ما لم يبلغوا أحد التواتر فلا معنى لاشتراط العدد ولكن تركنا ذلك بالنصوص ففيها بيان العدد في الشهادات المطلقة كما لو تلونا من الآيات قال الله تعالى { واشهدوا ذوي عدل منكم } ( الطلاق : 2 ) وقال الله تعالى { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ( النساء : 15 ) وقال - A - للمدعي ( ليس لك إلا شاهد شاهداك أو يمينه ) .
فإن ( قيل ) : هذه النصوص بيان جواز العمل بشهادة العدد وليس فيها بيان نفى ذلك بدون العدد .
قلنا : لا كذلك فالمقادير في الشرع إما لمنع الزيادة والنقصان دون الزيادة كأقل مدة الحيض والسفر أو لمنع الزيادة دون النقصان كأكثر مدة الحيض وهنا التقدير ليس لمنع الزيادة فلو لم يفد منع النقصان لم يبق لهذا التقدير فائدة وحاشا أن يكون التقدير المنصوص خاليا عن الفائدة ثم فيه معنى طمأنينة القلب وذلك عند إخبار العدد أظهر منه في خبر الواحد وفي الشهادة محض الإلزام وخبر الواحد لا يكفي لذلك بخلاف الديانات فإن في الديانات التزام السامع باعتقاده والمخبر يلزم نفسه ثم يتعدى إلى غيره فلم يكن ذلك إلزاما محضا فلهذا لا يشترط فيه العدد بخلاف الشهادة وفيه معنى التوكيد فالتزوير والتلبيس في الخصومات يكثر فيشترط العدد في الشهادات صيانة للحقوق المعصومة ثم يشترط فيها ما يشترط في الخبر من العقل والضبط والعدالة لأن البيان لا يحصل إلا باعتبار عقل المتكلم والشهادة بينة ومعرفة عقل المرء باختياره فيما يأتي ويذر وحسن نظره في عاقبة أمره والمطلق من الشيء ينصرف إلى الكامل منه إلا أنه لا حد يرجع إليه في كمال معرفة العقل سوى ما جعله الشرع حدا وهو البلوغ والعقل تيسيرا للأمر على الناس ولهذا لم يكن الصبي والمعتوه أهلا للشهادة ومعنى الضبط حسن السماع والفهم والحفظ إلى وقت الأداء وتعتبر صفة الكمال فيه أيضا لما في النقصان من شبهة العدم ولهذا لم يجعل من اشتدت غفلته أو مجازفته فيما يقول ويسمع من أهل الشهادة إذا كان ذلك ظاهرا عند الناس وأما معرفة العدالة فلرجحان جانب الصدق .
فالحجة الخبر الذي هو صدق ولا طريق لمعرفة الصدق في خبر من هو غير معصوم عن الكذب إلا العدالة .
والعدالة هي الاستقامة وليس لكمالها نهاية فإنما يعتبر منه القدر الممكن وهو انزجاره عما يعتقده حراما في دينه ولكن هذا شرط العمل بالشهادة لا شرط الأهلية للشهادة وباعتبار هذا المعنى لا يجعل المحدود في القذف أهلا لأداء الشهادة لأنه محكوم بكذبه شرعا فلا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره بعد الحكم بكذبه شرعا ولم يشترط الإسلام في الأهلية للشهادة لأن رجحان جانب الصدق يظهر في خبره مع كفره إذا كان منزجرا عما يعتقده حراما في دينه غير أن خبره لا يقبل في أمر الدين لأنه متهم في ذلك فإنه يعتقد السعي في هدمه ولهذا لا يجعل من أهل الشهادة في حق المسلمين لأنه يعتقد عداوة المسلمين وينعدم فيما بينهم فيكون بعضهم أهلا للشهادة في حق البعض وسوى هذا يشترط في الشهادة أهلية للولاية حتى لا يكون المملوك أهلا للشهادة وإن كان خبره في الديانات مقبولا لما في الشهادات من محض الإلزام وإلزام الغير لا يكون إلا عن ولاية فشرطنا الأهلية للولاية في الشهادة كما شرطنا العدد وجعلنا النساء أحط رتبة في الشهادة من الرجال لنقصان الولاية بسبب الأنوثة .
وبيان ذلك : في الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن شريح - C تعالى - قال لا تجوز شهادة النساء في الحدود وذكر بعد هذا عن الزهري قال : مضت السنة من لدن رسول الله - A - والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود وبه نأخذ لأن في شهادة النساء ضرب من الشبهة فإن الضلال والنسيان يغلب عليهن ويقل معهن معنى الضبط والفهم بالأنوثة إلى ذلك أشار الله تعالى في قوله D { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ( البقرة : 282 ) ووصف رسول الله - A - النساء بنقصان العقل والدين والحدود تندرئ بالشبهات وما يندرئ بالشبهات لا يثبت بحجة فيها شبهة تيسيرا للتحرز عنها ولا يقال فالشبهة في شهادة الرجال قائمة ما لم يبلغوا أحد التواتر ولهذا لا يثبت علم اليقين بخبرهم لأن تلك الشبهة لا يمكن التحرز عنها بجنس الشهود فسقط اعتبارها ولا يجوز أقل من شاهدين في الحقوق بين الناس ولا في الجراحات يعني عند إمكان اشتراط العدد من غير جرح وذلك فيما يطلع عليه الرجال للإناث التي بلونا في اشتراط العدد في الشهود قال ولو كان يجوز شهادة رجل واحد لم يكن لخزيمة بن ثابت - Bه - فضل في شهادته وقد جعل رسول الله - A - شهادته شهادة رجلين خصه بذلك وقصة هذا الحديث ما روى أن النبي - A - ( اشترى ناقة من أعرابي وأوفاه الثمن ثم جحد الأعرابي استيفاء الثمن وجعل يقول واغداره هلم به شهيدا فقال - A - من يشهد لي فقال خزيمة بن ثابت - Bه - أنا أشهد لك يا رسول الله أنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال - A - كيف تشهد لي ولم تحضرنا فقال يا رسول الله إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من أداء ثمن الناقة فقال - A - من شهد له خزيمة فحسبه ) . ثم هذا النوع من الشهادة ينقسم ثلاثة أقسام في اشتراط العدد فقسم يشترط فيه عدد الأربعة في الشهود وهو الزنا الموجب للحد ثبت ذلك بقوله تعالى { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ( النساء : 15 ) وقوله تعالى { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ( النور : 41 ) ولا يشترط عدد الأربعة فيما سوى الزنا العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواء وليس في ذلك معنى سوى أن الله تعالى يحب الستر على العباد لا يرضي بإشاعة الفاحشة فلذلك شرط في الزنى زيادة العدد في الشهود ولهذا جعل النسبة إلى هذه الفاحشة في الأجانب موجبا للحد وفي الزوجات موجبا للعان بخلاف سائر الفواحش لستر العباد بعضهم على بعض وبيان ذلك في حديث ماعز - Bه - أن النبي - A - قال لعمه ( هلا سترته بثوبك ) وفي بعض الروايات ( شين وإلى اليتم أنت ) .
وفي قسم يشترط فيه شهادة رجلين وهو القصاص والعقوبات التي تندرئ بالشبهات .
وقسم يشترط فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وذلك فيما يثبت مع الشهادات بيانه في قوله تعالى { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ( البقرة : 282 ) معناه فإن لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان شهيدان ليكون تفسيرا لقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين } ( البقرة : 282 ) والآية في المداينات ولكن ذلك مما لا يندرئ بالشبهات فيكون ذلك دليلا على جواز العمل بشهادة رجل وامرأتين فيما لا يندرئ بالشبهات والنكاح والطلاق والعتاق والنسب من هذه الجملة عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - المعنى في المداينات كثرة المعاملات فيما بين الناس فإنما يجعل شهادة النساء مع الرجال حجة في ذلك خاصة وهي الأموال وحقوقها فإما فيما سوى ذلك فلا بد من شهادة رجلين وقد بينا المسألة في كتاب النكاح .
والشهادة على الشهادة جائزة في كل شيء ما خلا القصاص والحدود وذلك مروى عن إبراهيم - C تعالى - وهذا لأن الشهادة على الشهادة فيها ضرر شبهة ينعدم ذلك بجنس الشهود من حيث أن الخبر إذ تداولته الألسنة يمكن فيه زيادة ونقصان فهو بمنزلة شهادة الرجال مع النساء تكون حجة فيما يثبت مع الشبهات دون ما يندرئ بالشبهات بل أولى فإن الشهادة على الشهادة خلف حقيقة حتى لا يصار إليها إلا عند العجز عن شهادة الأصول وشهادة النساء مع الرجال في صورة الحلف قال الله تعالى { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ( البقرة : 282 ) وليس بحلف حقيقة حتى يجوز العمل بشهادة رجل وامرأتين مع القدرة على استشهاد رجلين عرفنا أن ذلك أقوى من الشهادة على الشهادة ولأنا نتيقن أن شاهد الفرع لم يعاين السبب ولا يتقين في ذلك شهادة النساء إنما فيه تهمة الضلال والنسيان فإذا لم تكن شهادة النساء مع الرجال حجة في الحدود والقصاص فالشهادة على الشهادة أولى .
والشافعي - C تعالى - يجعل الشهادة على الشهادة حجة في حقوق العباد أجمع العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواء لأنه حجة أصلية فيما هو المشهور به وهو شهادة الأصول فإثبات ذلك بشهادتهم في مجلس القضاء كثبوته بأدائهم لو حضروا بأنفسهم بخلاف شهادة النساء مع الرجال فشهادة النساء حجة ضرورية لأن النساء لا يحضرن محافل الرجال عادة فلا تجعل حجة إلا فيما تكثر فيه المعاملة لأن الضرروة تتحقق في ذلك وفي الحدود التي هي لله تعالى له قولان في أحد القولين يقول الشهادة على الشهادة لا تكون حجة في ذلك لأن شهادتهم على شهادة الأصول بمنزلة شهادتهم على إقرار المقر وذلك غير مقبول في الحدود التي هي لله تعالى ومقبول في حقوق العباد فكذلك الشهادة على الشهادة وهذا لتحقيق الحاجة والضرورة للعباد وذلك فيما هو لله تعالى .
وفي قول آخر يقول الشهادة على الشهادة حجة في ذلك إلا في الرجم فالشاهد على الزنا في جملة من يرجم يشترط حضوره لا محالة وفيما سوى ذلك من الحدود الإمام هو الذي يقيم إذا ظهر السبب عنده وظهر بالشهادة على الشهادة لأنها حجة أصلية وفيما ذكرنا جواب عن كلامه إذا تأملت .
ولا يجوز في شيء شهادة من لم يعاين ولم يسمع لأنه لا علم له بالشهود به وبدون العلم لا يجوز له أن يشهد قال الله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال الله تعالى وما شهدنا إلا بما علمنا وهذا لأن الشاهد يعلم القاضي حقيقة الحال ويميز الصادق المخبر من الكاذب ولا يتحقق ذلك منه إذا لم يعلم به وطريق العمل المعاينة إذا كان المشهود به مما يعاين والسماع إذا كان ذلك مما يسمع كإقرار المقر والله أعلم بالصواب