قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C - إملاء أعلم بأن القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله تعالى وهو من أشرف العبادات لأجله أثبت الله تعالى لآدم - عليه السلام - اسم للخلافة فقال جل جلاله { إني جاعل في الأرض خليفة } ( البقرة : 30 ) وأثبت ذلك لداود عليه السلام فقال D { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } ( ص : 26 ) وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى { إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور يحكم بها النبيون } ( المائدة : 44 ) وقال الله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } ( المائدة : 49 ) وهذا لأن في القضاء بالحق إظهار العدل وبالعدل قامت السموات والأرض ورفع الظلم وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل وإنصاف المظلوم من الظالم واتصال الحق إلى المستحق وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ولأجله بعث الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وبه اشتغل الخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم .
وقد دل على جميع ما قلنا الحديث الذي بدأ به محمد - C - الكتاب ورواه عن أبي بكر الهذلي عن أبي المليح عن أسامة الهذلي أن عمر بن الخطاب - Bه - كتب إلى أبي موسى الأشعري - Bه .
( أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ) وما كتب عمر إلى أبي موسى - Bهما - عند الناس يسمونه كتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم وقوله أما بعد أي بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله - A - وهذه الكلمة علامة بها يعرف تحول الكاتب إلى بيان مقصوده من الكتاب وعد من فصل الخطاب قيل في تأويل قوله تعالى { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } الحكمة النبوة وفصل الخطاب أما بعد وقال قتادة الحكمة الفقه وفصل الخطاب البينة على المدعى واليمين على من أنكر وقوله فإن القضاء فريضة محكمة أي مقطوع بها ليس فيها احتمال نسخ ولا تخصيص ولا تأويل فتفسير الحكم هذا بيانه في قوله تعالى { آيات محكمات هن أم الكتاب } ومنه يقال بناء محكم والفرض هو التقدير والقطع قال الله تعالى { سورة أنزلناها وفرضناها } ( النور : 1 ) وقوله سنة متبعة أي طريقة مسلوكة في الدين يجب اتباعها على كل حال فالسنة في اللغة الطريقة وما يكون متبعا منها فأخذها هدى وتركها ضلالة ( قال ) ( فافهم إذا أدلى إليك ) الخصمان والإدلاء رفع الخصومة إلى الحاكم والفهم إصابة الحق فمعناه عليك ببذل المجهول في إصابة الحق إذا أدلي إليك وقيل معناه اسمع كلام كل واحد من الخصمين وافهم مراده وبهذا يؤمر كل قاضي لأنه لا يتمكن من تمييز الحق من المطبل إلا بذلك وربما يجرى على لسان أحد الخصمين ما يكون فيه إقرار بالحق لخصمه فإذا فهم القاضي ذلك أنفذه وإذا لم يفهم ضاع وإليه أشار في قوله ( فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ) وقيل المراد استمع إلى كلام الشهود وأفهم مرادهم فإنهم يتكلون بالحق بين يديك وإنما يظهر منفعة ذلك لتنفيذ القاضي إياه ثم قال ( أس بين الناس ) معناه سو بين الخصمين فالتأسي في اللغة التسوية قال قائلهم : .
فلولا كثرة الباكين حولي .
على إخوانهم لقتلت نفسي .
وما يبكون مثل أخي ولكن .
أعز النفس عنهم بالتأسي .
وفيه دليل أن على القاضي أن يسوي بين الخصوم إذا تقدموا إليه اتفقت مللهم أو اختلفت فاسم الناس يتناول الكل وإنما يسوى بينهم فيما أشار إليه في الحديث فقال ( في وجهك ومجلسك وعدلك ) يعني في النظر إلى الخصمين والإقبال عليهما في جلوسهما بين يديه حتى لا يقدم أحدهما : على الآخر وفي عدله بينهما وبالعدل أمر وحكي أن أبا يوسف - C - قال في مناجاته عند موته اللهم إن كنت تعلم أني ما تركت العدل بين الخصمين إلا في حادثة واحدة فاغفرها لي قيل وما تلك الحادثة قال ادعى نصراني على أمير المؤمنين دعوى فلم يمكني أن آمر الخليفة بالقيام من مجلسه والمحاباة مع خصمه ولكني رفعت النصراني إلى جانب البساط بقدر ما أمكنني ثم سمعت الخصومة قبل أن أسوي بينهما في المجلس فهذا كان جوري ليعلم أن هذا من أهم ما ينبغي للقاضي أن ينصرف إليه في العناية لما أشار في الحديث فقال ( لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك ) والحيف هو الظلم قال الله تعالى { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } ( النور : 50 ) فإذا قدم الشريف طمع في ظلمه وانكسر بهذا التقديم قلب خصمه الضعيف فيخاف الجور وربما يتمكن للشريف عند هذا التقديم من التلبس ويعجز الضعيف عن إثبات حقه بالحجة والقاضي هو المسبب لذلك بإقباله على أحدهما وتركه التسوية بينهما في المجلس ويصير به متهما بالميل أيضا وهو مأمور بالتحوز عن ذلك بأقصى ما يمكنه ( قال ) ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) وهذا اللفظ مروى عن رسول الله - A - وعد من جوامع الكلم على ما قال صلوات الله وسلامه ( أوتيت جوامع الكلم ) واختصر لي اختصارا وقد أملينا فوائد هذين الحديثين في شرح كتاب الدعوى .
( قال ) ( والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما ) وهذا أيضا مروي عن رسول الله - A - وفيه دليل جواز الصلح وإشارة إلى أن القاضي مأمور بدعاء الخصمين إلى الصلح وقد وصف الله تعالى الصلح بأنه خير فقال D { والصلح خير } ( النساء : 128 ) وذلك دليل النهاية في الخيرية ويستدل الشافعي - C - بظاهر الاستثناء في إبطال الصلح مع الإنكار .
( قال ) ( هو صلح حرم حلالا وأحل حراما ) لأن المدعي إذا كان مبطلا فأخذ المال كان حرام عليه والصلح يحل له ذلك وإن كان محقا فالصلح يكون على بعض الحق عادة وما زاد على ذلك إلى تمام حقه كان أخذه حلالا قبل الصلح حرم عليه ذلك بالصلح وكان حراما على الخصم منعه قبل الصلح أحل له ذلك بالصلح .
ولكنا نقول ليس المراد هذا ولكن المراد تحليل محرم العين أو تحريم ما هو حلال العين بأن وقع الصلح على خمر أو خنزير أو في الخصومة بين الزوجات صالح إحدى المرأتين على أن لا يطأ الأخرى أو صالح زوجته على أن يحرم أمته على نفسه فهذا هو الصلح الذي حرم حلالا أو أحل حراما وهذا باطل عندنا .
( قال ) ( ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) وفيه دليل أنه إذا تبين للقاضي الخطأ في قضائه بأن خالف قضاؤه النص أو الإجماع فعليه أن ينقضه ولا ينبغي أن يمنعه الاستحياء من الناس من ذلك فإن مراقبة الله تعالى في ذلك خير له وإلى ذلك أشار عمر - Bه - حين ابتلى بالحديث في الصلاة الحديث إلى أن قال كدت أن أمضي في صلاتي استحياء منكم ثم قلت لأن أراقب الله تعالى خير من أن أراقبكم فمن ابتلي بشيء من ذلك فليراقب الله تعالى وهذا ليس في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ والمفتي والقاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليظهر رجوعه عن ذلك فزلة العالم سبب لفتنة الناس كما قيل إن زل العالم زل بزلته العالم ولكن هذا في حق القاضي أوجب لأن القضاء ملزم وقوله الحق قديم يعنى هو الأصل المطلوب ولأنه لا تنكتم زلة من زل بل يظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهره على نفسه كان أحسن حالا عند العقلاء من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل .
ثم ( قال ) : ( الفهم مما يتلجلج في صدرك ) وقد بينا تفسير هذه اللفظ وفي تكراره مرة بعد مرة بيان أنه ينبغي للقاضي أن يصرف العناية إلى ذلك خصوصا إذا تمكن الاستيفاء في قلبه فإنه عند ذلك مأمور بالتثبت ممنوع عن المجازفة خصوصا فيما لا نص فيه من الحوادث وإليه أشار في قوله ما لم يبلغك في القرآن والحديث .
وفيه بيان أنه لا ينبغي للمرء أن يتقلد القضاء مختارا إلا إذا كان مجتهدا وأقرب ما قيل في حق المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معانيه وعلم السنة بطرقها ومتونها ووجوه معانيها وأن يكون مصيبا في القياس عالما بعرف الناس ومع هذا قد ابتلي بحادثة لا يجد لها في الكتاب والسنة ذكرا فالنصوص معدودة والحوادث ممدودة فعند ذلك لا يجد بدا من التأمل وطريق تأمله ما أشار إليه في الحديث فقال : ( اعرف الأمثال والأشتباه وقس الأمور عند ذلك ) فهو دليل جمهور الفقهاء - رحمهم الله - على أن القياس حجة فإن الحوادث كلها لا توجد في الكتاب والسنة بخلاف ما يقوله أصحاب الظواهر ثم ( قال ) : ( واعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى ) وهذا هو طريق القياس أن ترد حكم الحادثة إلى أقرب الأشياء معنى ولكن إنما يعتبر السنة في المعنى الذي هو صالح الإثبات ذلك الحكم به .
( ثم قال ) ( اجعل للمدعى أمدا ينتهي إليه ) فإن أحضر بينة أخذ بحقه وإلا وجهت القضاء عليه فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر وفيه دليل على أن القاضي عليه أن يهمل كل واحد من الخصمين بقدر ما يتمكن من إقامة الحجة فيه حتى إذا قال المدعي بينتي حاضرة أمهله ليأتي بهم فربما لم يأت بهم في المجلس الأول بناء على أن الخصم لا ينكر حقه لوضوحه فيحتاج إلى مدة ليأتي بهم وبعدما أقام البينة إذا ادعى الخصم الدفع أمهله القاضي ليأتي بدفعه فإنه مأمور بالتسوية بينهما في عدله وليكن إمهاله على وجه لا يضر بخصمه فإن الاستعجال إضرار بمدعي الدفع وفي تطويل مدة إمهاله إضرار بمن أثبت حقه وخير الأمور أوسطها وقوله ( فإن أحضر بينته أخذ بحقه وإلا وجهت القضاء عليه ) إن كان مراده دعوى الدفع فهو أوضح لأنه إذا عجز عن إثبات ما ادعي من الدفع وجه القاضي إليه القضاء ببينة المدعي وما لم يظهر عجزه عن ذلك لا يوجه القضاء عليه لأن الحجة إنما تقوم عليه إذا ظهر عجزه عن الدفع بالطعن والمعارضة وإن كان مراده جانب المدعي فمعنى قوله وجهت القضاء عليه ألزمته الكف عن أذى الناس والخصومة من غير حجة .
وقوله ( فإن ذلك أجلى للعمى ) لإزالة الاشتباه وأبلغ في العذر للقاضي عند من توجه القضاء عليه لأنه إذا وجه القضاء عليه بعد ما أمهله حتى يظهر عجزه عن الدفع انصرف من مجلسه شاكرا له ساكتا وإذا لم يمهله انصرف شاكيا منه يقول مال إلى خصمي ولم يستمع حجتي ولم يمكني من إثبات الدفع عنده .
ثم قال ( والمسلمون عدول بعضهم على بعض ) وقد نقل هذا اللفظ عن رسول الله - A - وهو دليل لأبي حنيفة - C - على جواز القضاء بشهادة المستور قبل السؤال عنه إذا لم يطعن الخصم وصفة العدالة ثابتة لكل مسلم باعتبار اعتقاده فإن دينه يمنعه من الإقدام على ما نعتقد الحرمة فيه فيدل على أنه صادق في شهادته فالكذب في الشهادة محرم في اعتقاد كل مسلم قال - A - في خطبته عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله تعالى ثم قرأ { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ( الحج : 30 ) ثم قال ( إلا مجلودا حدا ) قيل المراد من ظهر عليه ارتكاب كبيرة بإقامة حد تلك الكبيرة عليه فالحدود مشروعة في ارتكاب الكبائر وبظهور ذلك عليه تنعدم العدالة الثابتة ما لم تظهر توبته وانزجاره عنه وقيل المراد المحدود في القذف وقد ذكره في بعض الروايات إلا مجلودا حدا في قذف فهو دليل لنا على أن المحدود في القذف لا تقبل شهادته وإن تاب وإن العدالة المعتبرة لأداء الشهادة تنعدم بإقامة حد القذف عليه كما أشار الله تعالى إليه في قوله { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } ( النور : 4 ) ثم قال أو محرما عليه شهادة زور فإنه إذا عرف منه شهادة الزور فقد ظهر منه الجناية في هذه الأمانة ومن ظهرت جنايته في شيء لا يؤتمن على ذلك ولأنه ظهر منه ارتكاب الكبيرة على ما روي أن النبي - A - قال : ( أكبر الكبائر الإشراك بالله تعالى وعقوق الوالدين ألا وقول الزور فما زال يقول ذلك حتى قلنا ليته سكت ) .
ثم قال : لوظننا في ولاء أو قرابة أي منهما بسبب قرابة أو ولاء وهو الموالات فهو دليل على أن شهادة الوالد لولده لا تكون مقبولة وهو دليل لنا على أن شهادة أحد الزوجين لصاحبه لا تقبل فالزوجية من أقوى أسباب الموالاة وهو مما يجعل كل واحد منهما مائلا إلى صاحبه وقد أشار إلى نفس الولاء والقرابة أنهما لا يقدحان في العدالة ولكن إذا تمكنت التهمة حينئذ يمتنع العمل بالشهادة حتى قيل في معناه إذا ظهر منه الميل إلى مولاه وقرابته في كل حق وباطل حتى يؤثره على غيره وهو تفسير القانع بأهل البيت كما ذكره في الحديث المرفوع .
( قال ) ( فإن الله تعالى تولى منكم السرائر ) يعني أن المحق والمبطل ليس للقاضي طريق إلى معرفته حقيقة فإن ذلك غيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى ولكن الطريق للقاضي العمل بما يظهر عنده من الحجة وإليه أشار في قوله ( ودرأ عنكم بالبينات ) يعنى درأ عنكم اللوم في الدنيا والإثم والعقوبة في الآخرة وهو معنى الحديث المروى عن رسول الله - A - قال : ( القضاء جمرة فادفع الجمر عنك بعودين ) يعنى شهادة الشاهدين ثم قال : ( إياك والضجر والقلق ) وهما نوعان من إظهار الغضب فالقلق الحدة والضجر رفع الصوت في الكلام فوق ما يحتاج إليه والقاضي منهى عن ذلك لأنه يكسر قلب الخصم به ويمنعه من إقامة حجته ويشتبه على القاضي بسببه طريق الإصابة وربما لا يفهم كلام أحد الخصمين عند ذلك .
( قال ) ( والبادي بالناس ) يعني إظهار البادين بكثرة الخصوم بين يديه وإظهار الملال منهم والمراد البادي بما يسمع من بعض الخصوم مما لا حاجة به إليه فقد يطول أحد الخصمين كلامه ولكن لا ينبغي للقاضي أن يظهر البادي بذلك ما لم يجاوز الحد فإذا تكلم بما يرجع إلى الاستخفاف بالقاضي أو يذهب به حشمة مجلس القضاء فحينئذ يمنعه عن ذلك ويؤدبه عليه .
ثم ( قال ) ( والتنكر للخصوم ) وهو أن يقطب وجهه إذا تقدم إليه خصمان فإن فعل ذلك مع أحدهما فهو جور منه وإن فعله معهما ربما عجز المحق عن إظهار حقه فذهب وترك حقه .
( ألا ترى ) إلى قوله تعالى { ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك } ( آل عمران : 159 ) ثم قال في مواطن الحق التي يوجب الله تعالى بها الأجر ويحس بها على الذخر يعنى في مجالس الحكم فالحلم وترك الضجر والقلق وإظهار البشر مع الناس محمود في كل موضع وفي مجلس القضاء البشر وطلاقه الوجه أولى بعد أن يكون فعله ذلك لوجه الله تعالى كما قال فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس وإلى نحوه أشار - A - في قوله ( من أخلص سريرته أخلص الله علانيته ) ثم قال ( ومن يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه يسبه ) يعنى إذا راءى بعمله والمراءاة مذمومة حرام على كل أحد وهو في حق القاضي آكد لأنه غير محتاج إلى ذلك وإنما يفعل المرء ذلك عند حاجته ولأنه يقلد القضاء ليكون خليفة رسول الله - A - فيما يحكم به بين الناس فينبغي أن يكون أشبه برسول الله - A - وهو كان أبعد الناس عن المراآة والنفاق وقوله يسبه الله أي يفضحه الله تعالى على رؤوس الأشهاد قال - A - من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به ) .
ثم قال ( فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته ) معناه أي أن المرائي بعمله يقصد اكتساب محمد أو منال شيء مما في أيدي الناس وما يفوته به إذا ترك الإخلاص من ثواب الله تعالى فالعاقل إذا قابل ما هو موعود له من الله تعالى عند التقوى والإخلاص بما يطمع فيه من جهة الناس ترجح ما عند الله تعالى لا محالة وذلك عاجل الرزق كما قال الله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } ( الطلاق : 2 ) والمغفرة والرحمة كما قال الله تعالى { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ( الأعراف : 56 ) أي المتقين المخلصين فالحديث من أوله إلى آخره دليل على أن للقاضي أن يستشعر التقوى فيما يفعل فهو ملاك الأمر قال - A - ملاك دينكم الورع وقال التقي ملجم .
وعن عامر قال كتب عمر بن الخطاب - Bه - إلى معاوية - Bه - أما بعد فإنني كتبت كتابا في القضاء ما لم آلك ونفسي فيه خيرا .
وفيه دليل أن الإمام ينبغي له أن يكتب إلى عماله في كل وقت يوصهم وقد كان معاوية - Bه - عامله بالشام فكتب إليه في القضاء بهذا الكتاب وبين أنه لم يقصر بل بالغ في اكتساب الخير لنفسه وله ثم إن عمر - Bه - قال الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ فيه بأفضل خطك إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضي الذي لا يعلم الغيب فمن تمسك به سلم له دينه ونال أفضل الحظ من المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمعنى اليمين القاطعة للخصومة والمنازعة .
ثم ( قال ) : ( وأدن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه ) ولم يرد بهذا الأمر تقديم الضعيف على القوي وإنما أراد الأمر بالمساواة لأن القوي يدنو بنفسه لقوته والضعيف لا يتجاسر على ذلك والقوي يتكلم بحجته وربما يعجز الضعيف عن ذلك فعلى القاضي أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوي قلبه وينبسط لسانه فيتكلم بحجته .
ثم ( قال ) : ( وتعاهد الغريب فإنك إن لم تعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه ) قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء فإن الغريب قلبه مع أهله فينبغي للقاضي أن يقدمه في سماع الخصومة ليرجع إلى أهله وقد كان رسول الله - A - يأمر بتعاهد الغرباء وقيل مراده أن الغريب منكسر القلب فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن إظهار حجته فيترك حقه ويرجع إلى أهله والقاضي هو المسبب لتضييع حقه حين لم يرفع به رأسه ثم قال وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فضل القضاء وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصم إلى الصلح خصوصا في موضع اشتباه الأمر وبه كان يأمر رسول الله - A - فيقول : ( ردوا الخصوم كي يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن ) .
وعن شريح - C أن عمر - Bه - كتب إليه أن لا يشار ولا يضار ولا يبيع ولا يبتاع في مجلس القضاء ولا ترتشي ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان .
أما قوله ( لا يشار ) منهم من يروي بالشين قالوا المراد المشورة أنه لا ينبغي للقاضي في مجلس القضاء أن يشتغل بالمشورة وليكن ذلك في مجلس آخر فإنه إذا اشتغل بالمشورة في مجلس القضاء ربما يشتبه طريق الفصل عليه وربما يظن جاهل أنه لا يعرف حتى يسأل غيره فيزدري به وقد وقع مثل هذا لعمر - Bه - في حادثة بيناها في المناسك .
والأظهر بالشين لا يشار معناه لا يشار أحد الخصمين لأن ذلك يقصر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل من حيث إن خصمه يظن أنه فيما يشار بصابعه على رشوة ولذلك لا يشار غير الخصمين في مجلس القضاء لأن مجلس القضاء يجمع الناس ومشارة الاثنين في مثل هذا المجلس تؤدي إلى فتنة الآخرين قال - A - ( إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه ) .
وقوله ( لا يضار ) من الضرر أي لا يقصد الإضرار بالخصوم في تأخير الخروج ولا ينغص الخصوم في استعجاله ليعجز عن إقامته حجته وفي رفع الصوت عليه أو في أخذه يسقط من كلامه إن زل فلمجالس القضاء من المهابة والحشمة ما يعجز كل أحد عن مراعاة جميع الحدود في الكلام فإذا لم يعرض القاضي عن بعض ما يسمع كان ذلك منه مضارة والقاضي منهي عن ذلك .
وفيه دليل على أنه لا يشتغل بالبيع والشراء في مجلس القضاء لأن بذلك ينقص حشمة مجلس القضاء ولأنه مجلس إظهار الحق وبيان أحكام الدين فلا ينبغي أن يخلط به شيئا من عمل الدنيا .
وقوله ( لا يرتشي ) المراد الرشوة في الحكم وهو حرام قال - A - ( الراشي والمرتشي في النار ) ولما قيل لابن مسعود - Bه - الرشوة في الحكم سحت قال ذلك الكفر إنما السحت أن ترشو من تحتاج إليه أمام حاجتك .
وفي قوله ( ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان ) دليل على أن القاضي ينبغي أن لا يشتغل بالقضاء في حال غضبه ولكنه يصبر حتى يسكن ما به فإنه مأمور بأن يقضي عند اعتدال حاله ولهذا ينهى عن القضاء إذا كان جائعا أو كظيظا من الطعام أو كان يدافع الأخبثين لأنه ينعدم به اعتدال الحال فكذلك بالغضب ينعدم اعتدال الحال وربما يجري على لسانه في غضبه ما لا ينبغي أن يسمع الناس ذلك منه وربما يتغير لونه على وجه لا ينبغي أن يراه الناس على تلك الصفة أو إذا ظهر به الغضب عجز صاحب الحق عن إظهار حقه بالحجة خوفا منه ولهذا قلنا يقوم أو ينحى الناس عن قربه حتى يسكن ما به وهذا إذا كان يعتريه ذلك في بعض الأوقات فإن كان ذلك من عادته وذلك نوع من الحدة التي قال فيها رسول الله - A - إنها تعتري خيار أمتي فلا يكف عند ذلك عن القضاء لأنه يلتبس به عقله ويشتبه عليه وجد القضاء بخلاف ما يعتريه من الغضب في بعض الأوقات وعن عمر - Bه - أنه دعا قاضيا كان بالشام حديث السن فقال له بم تقضي قال أقضي بما في كتاب الله تعالى قال : ( فإذا لم تجد في كتاب الله تعالى قال أقضي بما قضى - رسول الله - A - ) الحديث .
وفيه دليل على أنه يجوز أن يقلد القضاء من هو حديث السن إذا كان عالما فقد كان عمر - Bه - أكثر الناس نظرا في ذلك ثم قلده مع حداثة سنه وبعث رسول الله - A - عتاب بن أسيد - Bه - إلى مكة قاضيا وأميرا وكان حديث السن .
ويحكى أن المأمون قلد يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان ابن ثمان عشرة سنة فطعن بعض الناس في ذلك لحداثة سنة فكتب إليه المأمون كم سن القاضي فكتب في جوابه أنا على سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله - A - وكان عمر - Bه - بلغه مثل هذا الطعن في مثل هذا القاضي لحداثة سنه فامتحنه بالعلم فقال بم تقضي قال أقضي بما في كتاب الله تعالى وأصاب في ذلك لأن كتاب الله تعالى إمام المتقين أنزل للعمل به .
قال : فإذا لم تجد في كتاب الله قال أقضي بما قضى به رسول الله - A - وأصاب في ذلك أيضا قلنا في رسول الله - A - أسوة حسنة وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به .
قال : فإذا لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله - A - قال أقضي بما قضي به أبو بكر وعمر - Bهما - وقد أصاب في ذلك أيضا فقد أمرنا بالاقتداء بهما بعد رسول الله - A - اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر - Bهما - وقال النبي - A - عليكم بسنتي وسنة خلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ .
قال : فإذا لم تجد ذلك في قضائهم قال اجتهد رأيي وأصاب في ذلك فالقاضي مأمور بأن يجتهد رأيه فيما لا نص فيه وهو دليلنا على جواز العمل بالقياس فيما لا نص فيه فاجتهاد الرأى هو القياس يرد حكم الحادثة إلى أشباهها مما هو منصوص وإذا جاز اجتهاده الرأي في باب القبلة عند الاشتباه وانقطاع الأدلة وفي المعاملات من الحروب وغير ذلك فكذلك في القضاء فلما أصاب في جميع ما أجاب قال له عمر - Bه - أنت قاضيها أي أني لا أعزلك عن القضاء ما دمت على هذه الطريقة .
وفيه دليل أن الإمام إذا علم من حال من قلده أنه صالح لذلك ينبغي أن يقرره على العمل ولا يعزله بطعن بعض المتعنتين ما لم يتبين له شيء مما لا يحمد من السيرة منه .
وعن أبي مسعود - Bه - قال لقد أتى علينا زمان لسنا نسأل ولسنا هنالك ثم قضى الله تعالى إن بلغنا من الأمر ما يرون قيل هذا إشارة منه إلى زمن رسول الله - A - فقد كان الوحي ينزل وكان E يبين لهم فكانوا لا يحتاجون فيه إلى ابن مسعود - Bه - وغيره .
وقيل بل مراده الإشارة إلى زمن أبي بكر وعمر - Bهما - فقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم متوافرين في ذلك الوقت وما كان يحتاج إلى ابن مسعود - Bه - وقيل هذا منه إشارة إلى حال صغره وجهله وإنما قصد بهذا التحدث بنعمة الله تعالى حيث رفعه من تلك الدرجة إلى ما بلغه إليه لأنه قال هذا حين كان بالكوفة وله أربعة آلاف تلميذ يتعلمون بين يديه حتى روي أنه لما قدم علي - Bه - الكوفة وخرج إليه ابن مسعود - Bه - مع أصحابه حتى سدوا الأفق فلما رآهم علي - Bه - قال ملأت هذه القرية علما وفقها قال فمن ابتلي منكم بقضاء فليقض بما في كتاب الله تعالى .
وفي هذا إشارة إلى أن التحرز عن تقلد القضاء أولى فقد عده ابن مسعود - Bه - من البلوى بقوله فمن ابتلى منكم وهو اختيار أبي حنيفة - C - فإنه تحرز عن تقلد القضاء بعد ما حبس وضرب لأجله مرارا .
حتى قال بعض أصحابه - رحمهم الله - لو تقلدت نفعت الناس فنظر إليه شبه المغضب وقال لو أمرت أن أقطع البحر سباحة أكنت أقدر على ذلك وكأني بك قاضيا ومن اختار تقلد القضاء .
قال : هذا اللفظ من البلاء الذي هو نعمة قال الله تعالى : { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } ( الأنفال : 17 ) وإنما أراد من أنعم الله تعالى عليه بهذه الدرجة فليقض بما في كتاب الله تعالى وبذلك كان يأمر رسول الله - A - فيقول إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وقيل أهل بيته الأقربون والأبعدون فإن تمسكتم بهما لم تضلوا .
قال : فإن لم يجد ذلك في كتاب الله تعالى فليقض بما قضي به رسول الله - A - وبذلك كان يأمرهم رسول الله - A - حين قال لأبي رواحة - Bه - في حادثة أما كان لك في أسوة فقال أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها فقال - A - إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله .
قال فإن لم يجد ذلك فيما قضى به رسول الله - A - فليقض بما قضى الصالحون يعنى أبي بكر وعمر - Bهما - كما جاء في الحديث إذا ذكر الصالحون فحيعلا بعمر .
قال : فإن لم يجد فليجتهد رأيه ولا يقولن إني أرى وإني أخاف وفيه دليل على أن للقاضي أن يجتهد فيما لا نص فيه وإنه لا ينبغي أن لا يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه فكما لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد فيما لا نص فيه ثم بين طريق الحق في ذلك بقوله فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وهذا اللفظ مروى عن رسول الله - A - رواه الحسن - C .
وفيه بيان أن المجتهد إذا لم يترك الاحتياط في موضع الريبة فهو مؤدي لما كلف أصاب المطلوب باجتهاده أو أخطأ وهو ما نقل عن أبي حنيفة - C - كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد أى مصيب في طريق الاجتهاد ابتداء وقد يخطى انتهاء فيما هو المطلوب بالاجتهاد ولكنه معذور في ذلك لما أتى بما في وسعه وذكر عن معاذ بن جبل - Bه - قال : قال لي رسول الله - A - حين بعثني إلى اليمين ( بم تقضي يا معاذ ؟ قلت : بما في كتاب الله قال E فإن لم تجد ذلك في كتاب الله تعالى ؟ قلت : أقضي بما قضى به رسول الله - A - قال - A - فإن لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله - A - قلت : أجتهد رأيي فقال - صلوات الله عليه وسلامه - الحمد لله الذي وفق رسول رسوله ) وفيه دليل على أن الإمام إذا أراد أن يقلد الإنسان القضاء ينبغي له أن يجربه فإن رسول الله - A - لما فعل ذلك بمعاذ - Bه - مع أنه كان معصوما فغيره بذلك أولى فكان هذا منه على وجه التعليم لأمته ثم حمد الله تعالى حين ظهر من التجربة كما تفرس فيه وهكذا ينبغي للإمام إذا بلغه عن عامل له ما يرضى به أن يعد ذلك نعمة من نعم الله تعالى عليه فليقابلها بالشكر .
وفيه دليل جواز اجتهاد الرأى والعمل بالقياس فيما لانص فيه من العلماء - رحمهم الله - من يقول جواز العمل بالقياس والاجتهاد بعد رسول الله - A - وما كان يجوز ذلك في حياته لأن الوحي كان ينزل وهو كان يبين لهم ما كانوا يحتاجون إلى الاستنباط في ذلك الوقت والحكم يثبت بالنص مقطوعا به فلا يصار إليه في غير موضع الضرورة .
والصحيح عندنا أن كان ذلك جائز لهم في حياته - A - كما بعده وحديث معاذ - Bه - يدل عليه فإن لم ينكر عليه رسول الله - A - في قوله بين يديه اجتهد رأيى ولما قال لعمرو بن العاص - Bه - أقض بين هذين قال أقضي وأنت حاضر أو جالس قال - A - نعم قال على ماذا أقضي قال - A - على أنك إن اجتهدت فأصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر واحد فقد جوز له - A - الاجتهاد بحضرته وقد كان يشاورهم .
( ألا ترى ) أنه شاورهم في أسارى بدر وأشار أبو بكر - Bه - بالفداء وأخذ به رسول الله - A - وشاور السعدين - Bهما - يوم الأحزاب في صلح بني فزارة على بعض ثمار المدينة وأخذ بما أشارا به ولما أشار إليه أسيد بن حطير في النزول عند الماء يوم بدر أخذ برأيه في ذلك وكان صوابا .
وينبني على هذا الفصل الاختلاف بين العلماء - رحمهم الله - في أنه - A - هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه فيه فمنهم من يقول كان ينتظر الوحي وما كان يفصل بالاجتهاد .
والصحيح عندنا أنه - A - كان يجتهد وما كان يقر على الخطأ بيانه أنه لما شاور أبا بكر وعمر - Bهما - في حادثة قال - A - قولا فإني فيما لم يوح إلى مثلكما وقال - A - للخثعمية ( أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه فقالت نعم قال - A - فدين الله أحق ) وهذا قول بالاجتهاد وقال عليه السلام لعمر - Bه - في القبلة أرأيت لو تمضمضت بماء ثم بججته أكان يضرك .
وقال - A - في بيان حرمة الصدقة على بنى هاشم أرأيت لو تمضمضت بماء أكنت شاربه فهذا ونحوه دليل أنه كان يقضي باجتهاده وما كان يقر على الخطأ فقضاؤه يكون شريعة والخطأ لا يجوز أن يكون أصل الشريعة فعرفنا أنه ما كان يقر على الخطأ وبيان ذلك في قوله تعالى عفى الله عنه لم أذنت لهم الآية .
وعن عمر بن عبدالعزيز - C - قال : إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كمل وإن كان فيه أربع ولم يكن فيه واحدة ففيه وصمة وإن كان فيه ثلاث ولم يكن فيه اثنين ففيه وصمتان وهذا عبارة عن النقصان .
والوصم : كسر يسير وفوقه القصم ونظيره القنص بالأنامل وفوقه القبض باليد وفوقه الأخذ وهو التناول .
قال : فقال قائل : ما هي يا أمير المؤمنين قال علم بما كان قبله ( وهو إشارة إلى ما بينا في حق المجتهد ) قال : ونزهة عن الطمع ( وهو مأخوذ من النزاهة فمن يتحرز عن شيء يقال هو يتنزه عن كذا والأظهر وتزهد عن الطمع من الزهادة ) فكل الفتنة للقاضي في طمعه فيما في أيدي الناس .
ولما امتحن علي - Bه - قاضيا قال له بم صلاح هذا الأمر قال بالورع قال فيما فساده قال بالطمع قال حق لك أن تقضي .
فينبغي للقاضي أن يكون منزها عن الطمع ليأمن الفتنة ويخلص عمله لله تعالى .
( قال ) ( وحكم عن الخصم ) يعني أن يحكم في بعض ما يسمع من الخصوم مع قدرته على منعه وهو معنى قول عمر - Bه - لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف القوي من غير عنف قال واستخفاف باللائمة معناه لا ينبغي للقاضي فيما يفصل من القضاء أن يخاف اللائمة من الناس فإنه إذا خاب ذلك يتعذر عليه القضاء بالحق وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله { ولا يخافون لومة لائم } ( المائدة : 54 ) وهذا لأنه لا بد من أن ينصرف أحد الخصمين من مجلسه شاكيا يلوم القاضي مع أصدقائه على ما كان منه وإليه أشار شريح - C - حيث قيل له كيف أصبحت قال أصبحت وشطر الناس علي غضبان .
فإذا تفكر القاضي واشتغل بالتحرز عن اللائمة يتعذر عليه فصل القضاء قال ومشاورة أولى الرأى .
وفيه دليل على أن القاضي وإن كان عالما فينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء وقد كان رسول الله - A - أكثر الناس مشاورة لأصحابه - Bهم - يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم قال - A - ( المشورة تلقح العقول ) وقال - A - ( ما هلك قوم عن مشورة قط ) .
وكان عمر - Bه - يستشير الصحابة - رضوان الله عليهم - مع فقهه حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا إلي عليا وادعوا إلي زيد بن أبي كعب - Bهم - فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه فعرفنا أنه لا ينبغي للقاضي أن لا يدع المشاورة وإن كان فقيها ولكن في غير مجلس القضاء على ما بينا أن الاشتغال بالمشورة في مجلس القضاء ربما يحول بينه وبين فصل القضاء ويكون سببا لإزدراء بعض الجهال به وعن مسروق قال لأن أقضي يوما بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة فإن مسروقا ممن يقدم تقلد القضاء على الامتناع عنه .
وقد كان السلف - رحمهم الله - في ذلك مختلفين وابتلى مسروق بالقضاء ومن دخل في شيء فإنما يروي محاسن ذلك الشيء وقد بينا طريق أبي حنيفة - C - في إيثار التحرز عن تقلد القضاء وإنما قال مسروق إن القضاء يوما بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة لما في إظهار الحق من المنفعة للناس ودفع الظلم عن المظلوم واتصال الحق إلى المستحق ومنع الظالم عن الظلم وإليه أشار النبي - A - في قوله ( عدل ساعة خير من عبادة سنة ) وقال - A - ( لأن يقام حد في أرض خير من أن تمطر السماء فيها أربعين صباحا ) .
وعن علي - Bه - قال ( القضاة ثلاثة فاثنان في النار وواحد في الجنة فأما اللذان في النار فرجل علم علما فقضى بخلافه ورجل جاهل يقضي بغير علم وأما الآخر أتاه الله علما فقضى به فذلك في الجنة ) ولا شبهة في حق من قضى بخلاف ما علم فإنه أقدم على النار عن بصيرة وكتم ما علم من الحق فكان فعله كفعل رؤساء اليهود وفيه نزل قوله تعالى D { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } ( البقرة : 159 ) وقال الله تعالى { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } ( البقرة : 146 ) وأما الجاهل فما كان ينبغي له أن يتقلد القضاء ويلتزم أداء هذه الأمانة لأنه لا يقدر على أدائها إلا بالعلم ففي التزام ما لا يقدر على القيام به ظلم نفسه وبعد التقلد لا ضرورة له إلى القضاء بغير علم لتمكنه من أن يتعلم أو يسأل العلماء ويقضي بفتواتهم فلهذا جعله في النار حين قضى بغير علم والذي قضى بعلمه أظهر الحق بحكمه وأنصف المظلوم من خصمه فهو في الجنة ومثل هذا لا يعرف إلا بالرأي فإنما يحمل على أن عليا - Bه - كان سمعه من رسول الله - A - ولكنهم فيما يسمعون ربما يرفعون وربما يرسلون .
وعن أبي مسعود - Bه - قال يجاء بالقاضي يوم القيامة وملك أخذ بقفاه ثم يلتفت فإذا أقبل أدفعه دفعة في مهواة أربعين خريفا وأهل الحديث يروون هذا الحديث يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة ليعلم أن حال من يعدل إذا كان بهذه الصفة فما ظنك في حال من يجور في قوله ( وملك آخذ بقفاه ) إشارة إلى ما يلقى من الذل يوم القيامة وإن كان عادلا في قضائه في الدنيا فإنما يفهم من الأخذ بالقفا في عرف الناس الاستخفاف والذل .
وقيل في تأويله : أنه وإن كان عادلا فقد نال بعض الوجاهة في الدنيا بسبب تقلد القضاء فلهذا له في الآخرة لما نال من الجاه في الدنيا بطريق هو طريق العمل للآخرة .
ومعنى قوله ( أدفعه في مهواة أربعين خريفا ) أي دفعه على وجهه في النار كما قال الله تعالى { يوم يسحبون في النار على وجوههم } ( القمر : 48 ) وكان المراد من هذا أن من نافق وأظهر ما يعلم الله منه خلافه فقد كان قصده من ذلك حفظ ماء وجهه يلقى في النار على وجهه ولا يستقر إلا في قعر جهنم هو المراد من قوله في مهواة أربعين خريفا وهذا بيان في قوله تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } ( النساء : 145 ) .
( قال ) ( وبلغنا عن رسول الله - A - أنه قال ( من ابتلي أن يقضي بين اثنين فكأنما يذبح نفسه بغير سكين ) ) والحصاف - C - يروي هذا ( من ابتلي بالقضاء فكأنما ذبح بغير سكين ) وفيه بيان التحرز عن طلب القضاء والتحريز عن التقلد فكل عاقل ممتنع من أن يذبح نفسه بغير سكين فينبغي أن يكون تحرزه عن طلب القضاء بتلك الصفة فذكر المثل من النبي - A - كان للتقريب من الفهم .
( قال ) رحمه وكان شيخنا الإمام - C - يقول ( ولا ينبغي لأحد أن يزدري بهذا اللفظ كيلا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي ) فقد حكي أن قاضيا روى له هذا الحديث فازدرى به وقال كيف يكون هذا ثم دعا في مجلسه بمن يسوى شعره فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه إذ عطس فأصابه الموسى فأبقى رأسه بين يديه .
( قال ) ( ومن ابتلي أن يقضي بين اثنين فلينصفهما في الكلام والنظر ولا ينبغي له أن يرفع صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر ) وقد بينا فائدة هذا اللفظ وما يؤمر به للقاضي من التسوية .
وعن عامر أن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب - Bهما - اختصما في شيء فحكما زيد ابن ثابت - Bه - فأتياه في منزله قال زيد - Bه - هلا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين قال - عمر - Bه - في بيته يؤتي الحكم وفي هذا بيان أنه كان يقع بينهم منازعة وخصومة ولا يظن كل واحد منهم سوى الجميل .
وإنما كان يقع ذلك عند اشتباه حكم الحادثة عليهم ويتقدمون إلى القاضي لطلب البيان لا للقصد إلى التلبيس والإنكار ولهذا كان القاضي يدعى مفتيا وفيه دليل جواز التحكيم فقد حكما زيد ابن ثابت - Bه - وإنما حكماه لفقهه فقد كان مقداما معروفا فيهم بذلك حتى روي أن ابن عباس - Bهما - كان يختلف إليه وأخذ بركابه لما أراد أن يركب وقال هكذا أمرنا أن نصنع بفقهائنا فقبل زيد - Bه - يده وقال هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا .
وفيه دليل على أن الإمام لا يكون قاضيا في حق نفسه فعمر - Bه - في خصومة حكم زيدا ابن ثابت - Bه .
وفيه دليل على أن من احتاج إلى العلم ينبغي له أن يأتي العالم