( قال - C - وإذا أستأجر عبدا للخدمة كل شهر بأجر مسمى فهو جائز ) لأنه عقد متعارف وقد كانت الصحابة - رضوان الله عليهم - يباشروا ذلك فهو عمل مباح معلوم في نفسه فيجوز الاستئجار عليه وله أن يستخدمه من السحر إلا أن تنام الناس بعد العشاء الأخيرة لأن بمطلق التسمية يستحق ما هو المتعارف وابتداء الاستخدام من وقت السحر متعارف فمن يبتكر يحتاج إلى أن يسرج الخادم ويهيأ أمر طهوره ويرفع فراش نومه ويبسط ثوب تعبده وكذلك إلى ما بعد العشاء الأخيرة قد يجلسون ساعة خصوصا في زمن طول الليالي ثم يحتاج إلى خادم يبسط فراش نومه ويطوي ثيابه ويطفئ السراج فلهذا كان له أن يستخدمه إلى هذا الوقت وإنما يخدمه كما يفعل الناس فما يكون من أعمال الخدمة معلوم عند الناس يطلبون ذلك من المماليك والخدم ولا يكلفونهم فوق ذلك فكذلك في وسط الليل الاستخدام غير متعارف ولا يكون له أن يكلفه ذلك ويكره له أن يستأجر امرأة حرة أو أمة يستخدمها ويخلو بها لقوله - A - لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان ولأنه لا يأمن من الفتنة على نفسه أو عليها إذا خلا بها ولكن هذا النهي لمعنى في غير العقد فلا يمنع صحة الإجارة ووجوب الأجر إذا عمل كالنهي عن البيع وقت النداء .
وإذا استأجر العبد كل شهر بكذا ففي قول أبي حنيفة - C - الأول يطالبه بالأجر شهرا فشهرا وفي قوله الآخر يوما بيوم وقد بينا نظيره .
وإن دفع عبده إلى رجل يقوم عليه أشهر مسماة في تعليم النسخ علء أن يعطيه لبمولى كل شهر شيئا مسمى فهو جائز لأنه استأجرهه ليتعلم عنده وتعليم الأعمال معلوم عند أهل الصنعة فيصح الاستئجار عليه عند بيان المدة وإن كان الأستاذ هو الذي شرط للمولى أن يعطيه ذلك ويقوم على غلامه في تعليم ذلك فهو جائز لأنه يستخدم الغلام ويستعمله في حوائجه واستأجره مدة معلومة بما سمى من البدل وتعليم العمل وكل واحد منهما يصلح عوضا عند الانفراد فكذلك عند الجمع بينهما وكذلك تعليم سائر الأعمال وتعليم الخط والهجاء والحساب .
فإن شرط عليه أن يحذقه في ذلك فهو غير جائز لأن التحذيق ليس في وسع المعلم فالحاذقة لمعنى في المتعلم دون المعلم وإن أراد أن يدفع عبده إلى عامل بأجر مسمى سنة فأراد رب العبد أن يستوثق من الأستاذ فإنه يؤاجر الشهر الأول بجميع الأجرة إلا درهما وباقي السنة بنفسه حتى إذا أراد الأستاذ فسخ العقد بعد مضي الشهر لا يتضرر مولى العبد بذلك ويمتنع الأستاذ من ذلك لما لحقه من زيادة الأجر .
( قال ) ( وإن أراد الأستاذ أن يستوثق جعل السنة كلها إلا الشهر الأخير بدرهم والشهر الأخير ببقية الأجر وهذا العقد جائز ) لأنهما عقدا عقدين كل واحد منهما في مدة معلومة ببدل معلوم .
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - : يخالف الأجرين فيجعل أحدهما دنانير والآخر دراهم فهذا أقرب إلى التوثق وإنما قصدا بهذا التحرز عن جهل بعض الحكام كيلا يجعلوا عقدا واحدا لاتصال المدة بعضها ببعض واتحاد جنس الأجر .
وإذا دفع غلامه إلى عامل ليعلمه عملا ولم يشترط واحد منهما على صاحبه أجرا أو دفعه على وجه الإجارة فلما علمه العمل قال الأستاذ لي الأجر وقال رب العبد لي الأجر فإني أنظر إلى ما تصنع أهل تلك البلاد في ذلك العمل فإن كان المولى هو الذي يعطي الأجر جعلت عليه أجر مثله للأستاذ وإن كان الأستاذ هو الذي يعطي الأجر جعلت على الأستاذ أجر مثله للمولى لأن العقد كان مطلقا بينهما فيجب حمله على المتعارف ولأن الظاهر شاهد لمن يوافق العرف قوله والبناء على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه .
قال - Bه - كان شيخنا الإمام - C - يقول العمل الذي يشترط للأستاذ فيه الأجر في ديارنا عمل المغازل فإنه يفسد الحسب حتى يتعلم وكذلك الذي ينقب الجواهر وما أشبه ذلك من الأعمال الذي يفسد المتعلم بعض ما هو متقوم حتى يتعلم فإذا كان بهذه الصفة فالأجر للأستاذ ولو لم يكن الأجر مسمى عند العقد فيصار إلى أجر المثل .
فإذا استأجر الرجل غلاما في عمل مسمى كل شهر بكذا فالعقد لازم على كل شهر واحد لأنه اضاف كلمة كل إلى ما لا يعرف منتهاه فيتأمل أدناه وعد شعر يستعمله فيه بعد ذلك فله الأجر فإذا دخل من الشهر الثاني يوم واحد واستعمله فيه فقد لزمته الإجارة في ذلك لوجود الرضى منهما دلالة وبعد لزوم العقد لا يكون له أن يخرجه إلا من عذر .
وإذا أبق العبد من المستأجر فله أن يفسخ الإجارة لتعذر استيفاء المعقود عليه فإن لم يفسخها حتى رجع العبد فالإجارة لازمة له فيما بقي من المدة لزوال العذر .
وقد بينا أن الإجارة في حكم عقود متفرقة فيما يفسخ العقد في بعض المدة لفوات المعقود عليه فذلك لا يمنع لزومه فيما بقي من المدة .
وإذا استأجر عبدا شهرين شهرا بخمسة وشهرا بستة فهو جائز لأن كل واحد من العقدين يتناول مدة معلومة ببدل معلوم ثم الشهر الأول يجب فيه من البدل ما ذكر أولا إن كان ذكر الخمسة أولا ففي الشهر الأول يجب خمسة لأنه لو اقتصر على المذكور أولا يتعين له الشهر الأول فلا بد من أن يصرف المذكور آخرا إلى الشهر الثاني .
وإن استأجر ثلاثة أشهر شهرين بدرهم وشهرا بخمسة فالشهران الأولان بدرهم لأن الكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم لذلك التفسير وإنما بدأ بتفسيره بالشهرين الأولين بدرهم وإن استأجر للخدمة بالكوفة فليس له أن يسافر به لأن خدمة السفر أشق من خدمة الحضر فليس له أن يكلفه فوق ما التزم لأن السفر شقة من العذاب فليس له أن يكلفه بمطلق العقد .
( فإن قيل ) : هو في ملك منافعه ينزل منزلة المولى في منافع عبده وللمولى أن يسافر بعبده فلماذا لا يكون له أن يسافر بأجيره للخدمة .
( قلنا ) : إنما يسافر المولى في منافعه بعبده لأنه يملك رقبته وهو لا يملك رقبة أجيره وإنما يملك منافعه بالعقد والمسمى في العقد استخدامه في الكوفة فلا يكون له أن يجاوز ذلك .
( ألا ترى ) أنه يزوج عبده لملكه رقبته ولا يدل ذلك أنه له أن يزوج أجيره وأن سافر به فهو ضامن لمولاه لأنه صار غاصبا له بالإخراج والاستخدام لا على الوجه المستحق بالعقد ولا أجر عليه لأن الأجر والضمان لا يجتمعان ولأن المعقود عليه منافع العبد بالكوفة ولا يتصور وجود ذلك بعد إخراجه من الكوفة .
وإن استأجره بالكوفة ليستخدمه كل شهر بأجر مسمى ولم يشترط الخدمة بالكوفة فهو على الخدمة بالكوفة أيضا وليس له أن يسافر به لأن مطلق العقد ينصرف إلى المتعارف ولأنه بالعقد يستحق الاستخدام فقط والسفر به وراء الاستخدام وهو يلزم مولاه مؤنة الرد فلا يكون ذلك إلا عن شرط .
فإن سافر به بغير إذن مولاه فهو اضمن ولا أجر عليه لما قلنا وليس له أن يضرب العبد فإن ضربه بغير إذن صاحبه فعطب فهو ضامن ثم على قول أبي حنيفة - C - ظاهر فقد بيناه في الدابة إن استأجرها أنه لو ضربها فعطبت ضمن عنده ففي العبد أولى .
وهما يفرقان فيقولان العبد مخاطب يؤمر وينهى فيفهم ذلك ولا يحتاج إلى ضربه عند الاستخدام عادة فلا يصير مأذونا فيه بمطلق العقد بخلاف الدابة فإنها لا تفهم الأمر والنهي ولا تتفاوت في السير إلا بالضرب فيكون له أن يضربها ضربا متعارفا .
وإن دفع الأجر عند غرة الشهر الأول إلى العبد .
فإن كان المولى هو الذي أجره لم يبرأ من الأجر لأن حقوق العقد في الإجارة تتعلق بالعاقد والعبد ليس بعاقد ولا مالك للأجر فالدفع إليه كالدفع إلى أجنبي آخر .
وإن كان العبد هو الذي أجر نفسه فهو بريء من الأجر لأنه هو العاقد وإليه قبض البدل بحكم العقد وله أن يكلفه كل شيء من خدمة البيت ويأمره أن يغسل ثوبه وأن يخيط ويخبز ويعجن إذا كان يحسن ذلك ويعلق على دابته وينزل بمتاعه من ظهر بيت أو يرقى به إليه ويحلب شاته ويستقى له من ماء البئر فهذا كله يعد من الخدمة وما يكون من الخدمة معلوم عند الناس باعتبار العادة وفي اشتراط تسمية كل ذلك عند العقد حرج والحرج مدفوع وليس له أن يقعده خياطا ولا في صناعة من الصناعات وإن كان حاذقا في ذلك لأنه استأجره للخدمة وهذا العمل من التجارة ليس من الخدمة في شيء .
وليس على المستأجر إطعامه إلا أن يتطوع بذلك أو يكون فيه عرفا ظاهرا فله أن يأمره بخدمة أضيافه لأن ذلك من خدمته فالإنسان يستأجر الخادم لينوب عنه فيما هو من حوائجه وخدمة أضيافه من جملة حوائجه وله أن يؤاجره من غيره للخدمة لأن هذا مما لا يتفاوت الناس فيه عادة كسكنى الدار ونحوه ولأن العبد عاقل لاينقاد إذا كلف فوق طاقته وبعد الطاقة لا فرق بين أن يستخدمه المستأجر الأول والثاني .
وإن تزوج المستأجر امرأة فقال لها اخدميني وعيالي فله ذلك لأن خدمة العيال من حوائجه وإنما يستأجر الخادم في العادة لذلك وكذلك المرأة إن كانت هي المستأجرة فتزوجت فقالت اخدمني وزوجي فلها ذلك لأنه من حوائجها وهو أظهر فخدمة الزوج عليها فإنما استأجرته لينوب عنها فيما يحق عليها .
وإن استأجرت امرأة رجلا ليخدمها فهو جائز وأكره أن يخلو بها حرا كان أو عبدا لما فيه من خوف الفتنة .
وإذا استأجر الرجل امرأته لتخدمه كل شهر بأجر مسمى لم يجز لأن خدمة البيت مستحقة عليها دينا ومطلوب منها بالنكاح عرفا على ما روى أن النبي - A - لما زوج فاطمة من علي - Bهما - جعل أمور داخل البيت عليها وأمور خارج البيت عليه ولأن الشرع ألزمه نفقتها لتقوم بخدمة بيته فلا تستحق مع ذلك أجرا آخر وإن سمى .
وإن استأجرها لترضع ولدا له من غيرها أو لترعى دوابه أو تعمل عملا سوى خدمة البيت فهو جائز لأن هذا العمل غير مستحق عليها ولا مطلوب بالنكاح منها .
وإن استأجرت المرأة زوجها ليخدمها فهو جائز لأن خدمتها غير مستحقة على الزوج وقال في كتاب الآثار له أن يمتنع من الخدمة لأنه يلحقه مذلة بأن يخدم زوجته وذلك عذر في فسخ الإجارة كالحرة إذا أجرت نفسها للظؤرة ولم تكن معروفة بذلك ولو خدمها كان له الأجر عليها وكذلك لو استأجرته يرعى غنمها أو يقوم على عمل لها فإنه في ذلك كأجنبي آخر .
وإن استأجر الرجل ابنه ليخدمه في بيته لم يجز ولا أجر عليه لأن خدمة الأب مستحق على الابن دينا وهو مطالب به عرفا فلا يأخذ عليه أجرا ويعد من العقوق أن يأخذ الولد الأجر على خدمة أبيه والعقوق حرام .
وكذلك إن استأجرته الأم لأن خدمتها أوجب عليه فإنها أحوج إلى ذلك وأشفق عليه .
وإن كان أحدهما استأجره ليرعيه غنما أو يعمل غير الخدمة جاز فإن ذلك غير مستحق عليه ولا هو مطلوب في العرف وإن استأجر الابن أباه أو أمه أو جده أو جدته لخدمته لم يجز لأنه منهى عن استخدام هؤلاء لما فيه من الإذلال فلا يجوز أن يصير ذلك مستحقا له قبلهم بعقد الإجارة وكيف يستحق هو ولا يترك هو ليستخدم والده ولا الوالدة تخدمه ولكن إن عمل شيئا من ذلك فله الأجر لأن بعد الاستخدام لو لم يوجب عليه الأجر كان معنى الإذلال فيه أكبر ولأنا لم نحكم بصحة العقد في الابتداء لكن لا تصير خدمته مستحقة عليه وقد زال هذا المعنى حتى أقام العمل .
وإن كان الابن مكاتبا فاستأجره أبوه لخدمته وأبوه حر غني عن خدمته أو محتاج إليها فهو جائز لأن المملوك لا يلزمه خدمة أحد من أقاربه سوى مولاه فهو في ذلك كأجنبي آخر ولأن خدمته لمولاه ولا سبب بين المولى وبين المستأجر والمكاتب بمنزلة العبد مملوك حتى لا تلزمه نفقة أبيه الحر وإن كان محتاجا فكذلك لا تلزمه خدمته .
وإن كان الأب عبدا والابن حرا فاستأجره من مولاه ليخدمه بطل ذلك ولم يجز لأن الابن ممنوع من إذلال أبيه وإن كان عبدا ولهذا يعتق عليه إذا ملكه وفي استخدامه إذلاله ولا يلحقه الذل في أن يخدم ابنه وليس للمرأ أن يذل نفسه فإن عمل جعلت له الأجر لما قلنا .
فإن كان الأب كافرا والابن مسلما أو الابن كافرا والأب مسلما فاستأجره لخدمته لم يجز لأن خدمة الأب مستحقة على الابن دينا مع اختلاف الدين .
( ألا ترى ) أنه يلزمه نفقته فهو كاستئجار ابنه للخدمة إذا كان موافقا له في الدين ويجوز الاستئجار للخدمة بين الأخوة وسائر الأقارب كما يجوز بين الأجانب بخلاف الاستخدام بملك اليمين فإن ذلك يثبت بطريق القهر من غير أن يرضي به الخادم والقرابة القريبة تصان عن مثله فأما هذا عقد يعتمد المراضاة والاستخدام عن تراض لا يكون سببا لقطيعة الرحم بينهما .
فإن استأجر الذمي أو المستأمن مسلما لخدمته حرا أو عبدا فهو جائز ولكن يكره للمسلم خدمة الكافر لما فيه من معنى الذل وليس للمؤمن أن يذل نفسه ولكن هذا النهي لمعنى وراء ما به يتم العقد وإن استأجر المسلم ذميا أو مستأمنا لخدمته كان جائزا ولكن لا ينبغي أن يستخدمه في أمور دينه من أمر الطهور ونحوه فربما لا يؤدي الأمانة فيه قال الله تعالى : { لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } ( آل عمران : 118 ) أي لا يقصرون في الإفساد من دينكم والله أعلم بالصواب