قال - C - وإذا استأجر بعيرين من الكوفة إلى مكة فحمل على أحدهما محملا فيه رجلان وما يصلحهما من الوطء والدثر وإحديهما زاملة يحمل عليه كذا مختوما والسويق وما يصلحهما من الخل والزيت والمعاليق وقد رأى الرجلين ولم ير الوطأ والدثر ولم يبين ذلك وشرط حمل ما يكفيه من الماء ولم يبين ذلك فهذا كله فاسد في القياس لجهالة وزن الوطأ ولدثر وجهالة مقدار الماء والخل والزيت والمعاليق وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة فإن الضرر على الإبل تختلف بقلة ذلك وكثرته .
وفي الاستحسان يجوز لأنه متعارف وفي إشتراط إعلام وزن كل شيء من ذلك بعض الحرج ثم المقصود على أحد الحملين الرجلان وقد رآهما الحمال وعلى الحمال الآخر الدقيق والسويق وما سوى ذلك تبع إذا صار ما هو الأصل معلوما فالجهل في البيع عفو ومقدار البيع يصير معلوما أيضا بطريق العرف وعلى هذا لو اشترط عليه أن يحمل له من هدايا مكة من صالح ما يحمل الناس فهو جائز أيضا لأنه متعارف معلوم المقدار عرفا .
ولو بين وزن المعاليق والهدايا كان أحب إلينا لأنه أبعد من المنازعة وإذا أرادا الاحتياط في ذلك فينبغي أن يسمي لكل محل قربتين من ماء أو ادواتين من أعظم ما يكون من ذلك ويكتب في الكتاب أن الحمل قد رأى الوطأ والدثر والقربتين والأداوتين والخيمة والقبة فإن ذلك أوثق وإنما يكتب الكتاب على أوثق الوجوه .
وإن اشترط عليه عقبة الأجير فهو جائز ويكتب وقد رأى الحمال الأجير .
وفي تفسير عقبة الأجير قولان : .
أحدهما : أن المستأجر ينزل في كل يوم عند الصباح والمساء فذلك معلوم فيركب أجيره في ذلك الوقت وسمى ذلك عقبة الأجير .
والثاني : أن يركب أجيره في كل مرحلة فرسخا أو نحوه مما هو متعارف على خشبة خلف المحمل ويسمى ذلك عقبة الأجير .
وفي كتاب الشروط قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - يرى أن يشترط من هدايا مكة كذا وكذا منا لأن ذلك أبعد من المنازعة والمحمول من الهدايا يختلف في الضرر على الدابة باختلاف مقدار الوزن .
وإن تكاريا شق محمل أو شق زاملة فاختلفا فقال الحمال إنما عينت عيدان المحمل وقال المستكري بل عينت الإبل .
فإن كان الكراء كما يتكارى به الإبل إلى مكة فهو على الإبل وإن كان كما يتكارى به شق محمل خشب فالقول قول الحمال مع يمينه لأنه إذا كان كما يتكارى به الأول فالظاهر يشهد للمستكري وإن كان شيئا يسيرا كما يتكارى به الخشب فالظاهر يشهد للحمال وعند المنازعة يجعل القول قول من يشهد له الظاهر كما لو اشترى قربة ماء بدانق فقال إنما اشتريت القربة دون الماء لا يصدق .
ولو اشتراها بعشرين درهما قال السقاء بعت الماء دون القربة وكذلك لو اشترى مبطخة ثم قال المشتري اشتريت الأرض وقال البائع إنما بعت البطيخ فإنه يحكم الثمن من ذلك فيجعل القول قول من يشهد له الظاهر .
وإذا تكارى من الكوفة إلى مكة إبلا مسماة بغير أعيانها فقال الحمال أخرجك في عشر ذي القعدة فقال المستكري أخرجني في خمس مضين أو على عكس ذلك فإنه يخرجه في خمس مضين في الوجهين جميعا لأنه لا يخاف الفوت إذا خرج بعد خمس مضين .
فإن أراد الحمال أن يخرجه قبل ذلك فهو يريد أن يلزمه ضرر السفر من غير حاجة إليه فيسقط عن نفسه مؤنة العلف فلا يمكن من ذلك .
وإذا طلب المستكري في عشر ذي القعدة وهو يريد أن يلزم الحمال ضرر السفر من غير حاجة ليكون هو مترفها في نفسه فلهذا لا يمكن من ذلك ولأن بمطلق العقد إنما يثبت المتعارف والمتعارف الخروج من الكوفة بخمس مضين .
فإذا أراد الحمال أن يتأخر إلى نصف ذي القعدة وأبى ذلك المستكري فليس للحمال ذلك لأنه يخاف الفوت في هذا التأخير ويلحق المستكري مشقة عظيمة باستدامة السفر .
وإن قال المستأجر أخرجني للنصف من ذي القعدة وقال الحمال أخرجك بخمس مضين فإنه يرتكب مؤنة العلف فإني أؤخره لعشر مضين من ذي القعدة ولا أؤخره لأكثر من ذلك لأن الغالب إدراك الحج إذا خرج بعشر مضين والغالب هو الفوات إذا أخر الخروج أكثر من ذلك والمستحق بمطلق العقد صفة السلامة لا نهاية الجودة وإن كان بينهما شرط حملهما على ذلك قوله - A - الشرط أملك : أي يوفى به ولا بأس بأن يسلف في كراء مكة قبل الحج سنة أو بأشهر لأن وقت الحج معلوم لا يجهل وهذا بناء على مذهبنا أن الإجارة المضافة إلى وقت في المستقبل تصح .
( وعلى قول ) الشافعي - C - لا تصح الدار والحانوت والدواب وغير ذلك فيه سواء وهذا بناء على أصله أن جواز العقد باعتبار أن المنافع جعلت كالأعيان القائمة فإنما يتحقق ذلك إذا اتصل المعقود عليه بالعقد في الإجارة المضافة ولا يوجد ذلك ثم الإضافة إلى وقت في المستقبل كالتعليق بالشرط حتى أن ما يحتمل التعليق بالشرط يجوز إضافته إلى وقت في المستقبل كالطلاق والعتاق وما لا فلا كالإجارة والبيع ثم الإجارة لا تحتمل التعليق بالشرط فلا تحتمل الإضافة إلى وقت في المستقبل والدليل عليه أنه لا يتعلق به اللزوم ولا يملك الأجر بنفس العقد وإن شرط التعجيل فلو انعقد العقد صحيحا لانعقد بصفة اللزوم ويملك الأجر به إذا شرط التعجيل فإن ذلك موجب العقد .
وحجتنا في ذلك : أن جواز عقد الإجارة لحاجة الناس وقد تمس الحاجة إلى الاستئجار مضافا إلى وقت في المستقبل لأن في وقت حاجته ربما لا يجد ذلك أو لا يجده بأجر المثل فيحتاج إلى أن يسلف فيه قبل ذلك ثم قد بينا أنه .
وإن أطلق العقد فهو في معنى المضاف في حق المعقود عليه لأنه يتجدد انعقاده بحسب ما يحدث من المنفعة أو تقام العين المنتفع بها مقام المعقود عليه في هذا العقد ولا فرق في هذا بين المضاف إلى وقت في المستقبل وبين المعقود عليه في الحال وهذا لأن ذكر المدة لبيان مقدار المعقود عليه كالكيل فيما يكال وذلك لا يختلف به وبه فارق التعليق بالشرط فإن التعليق يمنع انعقاد العقد في الحال والإضافة لا تمنع من ذلك .
وفي لزوم الإجارة المضافة روايتان وأصح الروايتين أنه يلزم وليس لأحدهما أن يفسخ إلا بعذر فإن الأجر لا يملك بشرط التعجيل وقد بينا الفرق بين هذا وبينما إذا شرط التعجيل في عقد الإجارة في الحال لأن هناك تأخر الملك بقضية المساواة فيحتمل التغير بالشرط وهنا تأخر الملك لنصيبهما على التأخير بإضافة العقد إلى وقت في المستقبل فلا يتغير ذلك بالشرط ولو تكارى إبلا إلى مكة بشيء من المكيل أو الموزون معلوم القدر والصفة وجعل له أجلا مسمى فهو جائز وإن لم يسم الموضع الذي يوفيه فيه وقد نص على الخلاف فيما تقدم أن على قول أبي حنيفة - C - لا بد من بيان المكان فتبين بذلك أن هذا الجواب قولهما .
وإن حل الأجل بمكة وأراد أخذه هناك وأبى المستأجر فإن استوثق من المستأجر على أن يوفيه بالكوفة حيث تكارى وقد ذكرنا على قولهما أن في إجارة الدار يتعين للإيفاء موضع الدار وهنا ذلك غير ممكن لأن الأجر يجب شيئا فشيئا بحسب سير الدابة في الطريق فيتعذر تعيين موضع استيفاء المعقود عليه للإيفاء وربما يتعين للتسليم موضع السبب وهو العقد .
وإن كان الأجر شيئا بعينه مما له حمل ومؤنة فإنما يتعين لإيفائه الموضع الذي فيه ذلك العين لأنه ملك في ذلك الموضع بعينه كالمبيع بخلاف ما لا حمل له مؤنة فإنه يسلم إليه بعد الوجوب حيث ما لقيه وقد بينا الفرق بينهما في البيوع .
ولو تكارى منه حملا وزاملة وشرط حملا معلوما على الزاملة فما أكل من ذلك الحمل أو نقص من الكيل والوزن كان له أن يتم ذلك في كل منزل ذاهبا وجائيا لأنه استحق بالعقد حملا مسمى على البعير في جميع الطريق فيكون له أن يستوفي ما استحقه بالشرط وليس للحمال أن يمنعه من ذلك بخلاف المحمل فإنه إذا شرط فيه انسانين معلومين فليس له أن يحمل غيرهما إلا برضاء الحمال لأن الضرر على الدابة يختلف باختلاف الراكب .
وإن خرج بالبعيرين يقودهما ولا يركبهما ولم يحمل عليهما جائيا فعليه الأجر كاملا لتمكنه من استيفاء المعقود عليه .
وكذلك لو بعث بهما مع عبده يقودهما لما بينا أن المعقود عليه خطوات الدابة في الطريق وقد صار مسلما إلى المستأجر نقود الدابة معه في الطريق .
وإذا مات الرجل بعدما قضي المناسك ورجع إلى مكة فإنما عليه من الأجر بحساب ذلك لأن العقد فيما بقى قد بطل بموته فيسقط الأجر بحسابه ويجب في تركته بحساب ما استوفى ثم بين فقال يلزمه من الكراء خمسة أعشار ونصف ويبطل عنه أربعة أعشار ونصف وبيان تخريج هذه المسألة أن من الكوفة إلى مكة سبعا وعشرين مرحلة فذلك للذهاب والرجوع كذلك وقضاء المناسك تكون في ستة أيام في يوم التروية يخرج إلى منى وفي يوم عرفة يخرج إلى عرفات وفي يوم النحر يعود إلى مكة لطواف الزيارة وثلاثة أيام بعده للرمى فيحسب لكل يوم مرحلة فإذا جمع ذلك كله كان ستين مرحلة كل سنة من ذلك عشر .
فإذا مات بعد قضاء المناسك والرجوع إلى مكة فقد تقرر عليه ثلاثة وثلاثون جزأ من ستين جزأ من الأجر سبعة وعشرين جزأ للذهاب إلى مكة وستة أجزاء لقضاء المناسك وذلك خمسة أعشار ونصف عشر كل عشر ستة وربما يشترط الممر على المدينة فيزداد به ثلاثة مراحل فإن من الكوفة إلى مكة على طريق المدينة ثلاثين مرحلة فإن كان شرط ذلك في الذهاب تكون القسمة على ثلاثة وستين جزءا ويتقرر عليه ستة وثلاثون جرءا من ثلاثة وستين جزءا من الأجر ثلاثون للذهاب وستة لقضاء المناسك وإن كان الشرط الممر على المدينة في الرجوع فعليه ثلاثة وثلاثون جزءا من ثلاثة وستين جزءا من الأجر سبعة وعشرين للذهاب ولقضاء المناسك ستة أجزاء وإن كان الشرط بينهما أن الذهاب من طريق المدينة والرجوع كذلك فالقسمة على ستة وستين جزءا وإنما يتقرر عليه ستة وثلاثين جزءا من ستة وستين للذهاب ثلاثون ولقضاء المناسك ستة أجزاء فحاصل ما يتقرر عليه ستة أجزاء من إحدى عشر جزءا من الأجر .
وحرف هذه المسألة أنه لم يعتبر السهولة والوعورة في المراحل لقسمة الكراء عليها لأن ذلك لا يملك ضبطه والكراء لا يتفاوت باعتباره عادة وإنما يتفاوت بالقرب والبعد فلهذا قسمه على المراحل بالسوية كما بينا .
( وإن تكارى قوم مشاة بعيرا إلى مكة واشترطوا على المكاري أن يحمل من مرض منهم أو أعيا فهذا فاسد ) للجهالة وربما تفضي هذه الجهالة إلى المنازعة .
ولو اشترطوا عليه عقبة لكل واحد منهم كان جائزا لأن ذلك معلوم لا تمكن بعده المنازعة وإذا أراد المستأجر أن يبدل محمله ليحمل محملا غيره فإن لم يكن في ذلك ضرر فله ذلك لما بينا أن التعيين الذي ليس بمفيد لا يكون معتبرا .
وإن أراد أن ينصب على المحمل كنيسة أو قبة فليس له ذلك إلا برضاء من المكاري لما في ذلك من زيادة الضرر على البعير وذلك لا يستحق إلا بالشرط .
وإن اشترط عليه كنيسة بعينها فأراد أن يحمل كنيسة أعظم منها أو قبة فليس له ذلك لأن هذا تعيين مفيد وفي التبدليل زيادة ضرر على دابته .
وإن أراد أن يحمل كنيسة دونها فله ذلك لأنها أخف على البعير من المشروط .
وإن أراد الحمال أن لا يخرج إلى مكة فليس له عذر لأنه يتمكن من تسليم المعقود عليه من غير أن يخرج بأن يبعث بالإبل مع أجيره أو مع غلامه .
وإن أراد المستأجر أن لا يخرج من عامه ذلك فهذا عذر لأنه لا يتمكن من الاستيفاء إلا بتحمل مشقة السفر وفيه من الضرر ما لا يخفى وكذل لو كان اكترى الإبل لحمل الطعام إلى مكة فبلغه كساد أو خوف أو بدا له ترك التجارة في الطعام فهذا عذر له لأنه لا يتمكن من استيفاء المعقود عليه إلا بضرر لم يلتزمه بأصل العقد وذلك عذر لفسخ الإجارة والله أعلم بالصواب