قال - C - ( وإذا استأجر ثوبا ليلبسه يوما إلى الليل بأجر مسمى فهو جائز لأنه عين منتفع به بطريق مباح وليس له أن يلبسه غيره ) لأن المعقود عليه لبسه بنفسه وهذا لأن التعيين متى أفاد اعتبر وهذا تعيين مفيد لأن الناس يتفاوتون في لبس الثياب فلبس الدباغ والقصار لا يكون كلبس العطار بخلاف سكنى الدار فالناس لا يتفاوتون في ذلك .
فإن أعطاه غيره فلبسه ذلك اليوم ضمنه إن أصابه شيء لأنه غاصب في إلباسه غيره .
وإن لم يصبه شيء فلا أجر له لأن المعقود عليه ما يصير مستوفي بلبسه فما يكون مستوفي بلبس غيره لا يكون معقودا عليه واستيفاء غير المعقود عليه لا يوجب البدل .
( ألا ترى ) أنه لو استأجر ثوبا بعينه ثم غصب منه ثوبا آخر ولبسه لم يلزمه الأجر فكذلك إذا ألبس ذلك الثوب غيره لأن تعيين اللابس كتعيين الملبوس .
فإن قيل : هو قد يتمكن من استيفاء المعقود عليه وذلك يكفي لوجوب الأجر عليه كما لو وضعه في بيته ولم يلبسه .
قلنا : تمكنه من الاستيفاء باعتبار يده وإذا وضعه في بيته فيده عليه معتبرة ولذا لو هلك لم يضمن فأما إذا ألبسه غيره فيده عليه معتبرة حكما .
ألا ترى أنه ضامن وإن هلك من غير اللبس وأن يد اللابس عليه يد معتبرة حتى يكون لصاحبه أن يضمن غير اللابس ولا يكون إلا بطريق تفويت يده حكما فلهذا لا يلزمه الأجر وإن سلم وإن استأجره ليلبس يوما إلى الليل ولم يسم من يلبسه فالعقد فاسد لجهالة المعقود عليه فإن اللبس يختلف باختلاف اللابس وباختلاف الملبوس فكما أن ترك التعيين في الملبوس عند العقد يفسد العقد فكذلك ترك تعيين اللابس .
وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة لأن صاحب الثوب يطالبه بإلباس أرفق الناس في اللبس وصيانة الملبوس وهو يأبى أن يلبس إلا أخشن الناس في ذلك ويحتج كل واحد منهما بمطلق التسمية ولا تصح التسمية مع فساد العقد وإن اختصما فيه قبل اللبس فسدت الإجارة .
وإن لبسه هو وأعطاه غيره فلبسه إلى الليل فهو جائز وعليه الأجر استحسانا .
وفي القياس عليه أجر المثل وكذلك لو استأجر دابة للركوب ولم يبين من يركبها أو للعمل ولم يسم ما يعمل عليها فعمل عليها إلى الليل فعليه المسمى استحسانا وفي القياس عليه أجر المثل لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد ووجوب المسمى باعتبار صحة التسمية ولا تصح التسمية مع فساد العقد .
وجه الاستحسان : أن المفسد وهو الجهالة التي تفضي إلى المنازعة قد زال وبانعدام العلة المفسدة ينعدم الفساد وهذا لأن الجهالة في المعقود عليه وعقد الإجارة في حق المعقود عليه كالمضاف فإنما يتجدد انعقادها عند الاستيفاء ولا جهالة عند ذلك ووجوب الأجر عند ذلك أيضا فلهذا أوجبنا المسمى وجعلنا التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء ولا ضمان عليه إن ضاع منه لأنه غير مخالف سواء لبس بنفسه أو ألبس غيره بخلاف الأول فقد عين هناك لبسه عند العقد فيصير مخالفا بإلباس غيره .
وإذا استأجر قميصا ليلبسه يوما إلى الليل فوضعه في منزله حتى جاء الليل فعليه الأجر كاملا لأن صاحبه مكنه من استيفاء المعقود عليه بتسليم الثوب إليه وما زاد على ذلك ليس في وسعه وليس له أن يلبسه بعد ذلك لأن العقد انتهى بمضي المدة والإذن في اللبس كان بحكم العقد فلا يبقى بعد انتهاء العقد .
وإن ارتدى به يوما إلى الليل كان عليه الأجر كاملا لأن هذا لبس ولكنه غير تام فإن المقصود بالقميص ستر البدن به وبهذا الطريق يحصل بعض الستر وإن اتزر به إلى الليل فهو ضامن إن تخرق لأن الاتزار بالقميص غير معتاد وبمطلق التسمية إنما يتمكن من اللبس المعتاد فكان غاصبا إذا اتزر به ضامنا أن تخرق بخلاف ما إذا ارتدى به فإن ذلك معتاد في بعض الأوقات .
توضيحه : أن الإتزار مفسد للقميص فما أتى به أضر بالثوب مما يتناوله العقد والإتزار غير مفسد بل ضرره كضرر اللبس أو دونه وإن سلم فعليه الأجر استحسانا .
وفي القياس لا أجر عليه لأنه مخالف ضامن والضمان والأجر لا يجتمعان كما لو ألبسه غيره .
وجه الاستحسان : أنه متمكن من استيفاء المعقود عليه باعتبار يده وإنما كان ضامنا بزيادة ضرر مفسد للثوب فيبقى الأجر عليه لتمكنه من استيفاء المعقود عليه بخلاف ما إذا تخرق فهناك لما تقرر عليه الضمان ملك الثوب من حين ضمنه ولا يجب الأجر عليه في ملك نفسه وإذا سلم فهو لم يملك الثوب فيلزمه الأجر لتمكنه من الاستيفاء .
وإذا استأجرت المرأة درعا لتلبسه ثلاثة أيام فلها أن تلبسه بالنهار وفي أول الليل وآخره ما يلبس الناس لأن مطلق التسمية ينصرف إلى المعتاد في لبس الثوب الصيانة بالنهار ومن أول الليل إلى وقت النوم ومن آخر الليل أيضا فقد يبكرون خصوصا عند طول الليالي وإن لبست الليل كله فهي ضامنة لأنها خالفت فإن ثوب الصيانة لا ينام فيه عادة وهو مفسد للثوب فتكون ضامنة أن تخرق بالليل .
وإن تخرق من لبسها في غير الليل فلا ضمان عليها لأن الخلاف قد ارتفع بمجيء النهار وإنما كانت ضامنة بالخلاف لا بالإمساك فإن لها أن تمسك الثوب إلى انتهاء المدة والأمين إذا ضمن بالخلاف عاد أمينا بترك الخلاف كالمودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق .
فإن تخرق من لبسها بالليل فهي ضامنة وليس عليها أجر في تلك الساعة التي تخرق فيها الثوب وعليها الأجر فيما كان قبل ذلك وبعده لأنها مستوفية للمعقود عليه .
وإن سلم ولم يتخرق فعليها الأجر كله لاستيفاء جميع المعقود عليه وهذا لأن الضمان لا ينافي العقد ابتداء وبقاء .
وإذا بقي العقد تحقق منها استيفاء المعقود عليه فعليها الأجر إلا في الساعة التي ضمنت بالتخرق لأنها في تلك الساعة غاصبة عاملة لنفسها ولهذا تقرر عليها الضمان .
وإن كان الدرع ليس بدرع الصيانة إنما هو درع بذلة ينام في مثله فلا ضمان عليه إن نامت فيه وعليها الأجر لأن بمطلق العقد يستحق ما هو المعتاد والنوم في مثله معتاد فلا تكون به مخالفة .
وإن كانت استأجرته لمخرج تخرج فيه يوما بدرهم فلبسته في بيتها فعليها الأجر لأنها استوفت المعقود عليه ولبسها في بيتها ولبسها إذا خرجت سواء وربما يكون لبسها في بيتها أخف وكذلك لو لم تلبس ولم تخرج لأنها تمكنت من استيفاء المعقود عليه ولو ضاع الدرع منها ذلك اليوم ثم وجدته بعد ذلك فلا أجر عليها إذا صدقها رب الثوب لأنها لم تكن متمكنة من اللبس بعدما ضاع الدرع منها .
وإن لبسته في اليوم الثاني ضمنته لانتهاء العقد بمضي المدة وإن كذبها رب الدرع .
فإن كان الثوب في يدها حين اختلفا فالقول قول رب الدرع لأن تمكنها من اللبس في الحال دليل على أنها كانت متمكنة منه فيما مضى ولأن تسليمه الثوب إليها تمكين لها من لبسه وذلك أمر ظاهر وما تدعيه من الضياع عارض غير ظاهر فعليها أن تبينه بالبينة .
والقول قول رب الدرع لإنكاره مع يمينه على علمه لأنه يحلف على الضياع من يد غيره ولا طريق له إلا معرفة حقيقة ذلك فيحلف على علمه وإن سرق منها أو تخرق من لبسها فلا ضمان عليها .
وكذلك لو أصابه أقرض ( فأر ) وحرق نار أو لحس سوس .
والحاصل أن المستأجر في العين أمين لأن يده كيد المالك فإنه يتقرر حق المالك في الأجر باعتبار يده ولهذا لو أصابه عهده رجع به على الآخر فكان أمينا فيه كالمودع بخلاف الأجير المشترك على قول من يضمنه فإنه في الحفظ عامل لنفسه فإنه يتمكن به ما تقرر حقه في الأجر فكان ضامنا .
ولو أمرت خادمها أو ابنتها فلبسته فتخرق كانت ضامنة كما لو ألبست أجنبية أخرى ولا أجر عليها .
وإن سلم الثوب بعد أن صدقها رب الثوب وإن كذبها فالقول قول رب الثوب مع يمينه على علمه وإن أجرته ممن تلبسه بفضل أو نقصان فهي ضامنة للخلاف والأجر لها بالضمان وعليها التصدق به إلا عند أبي يوسف - C - وقد بيناه .
ولو لبسه خادمها أو ابنتها بغير أمرها فلا ضمان عليها بمنزلة ما لو غصبه إنسان والأجر عليها ولا ضمان عليها لأنها لم تخالف ولم تخرق من لبس الخادم كان الضمان في عنق الخادم لأنها غاصبة وضمان الغصب يجب دينا في عنق المملوك ولو استأجر قبة لينصبها في بيته ويبيت فيها شهرا فهو جائز لأن القبة من المساكن .
فإن قيل : لا يمكن استيفاء المعقود عليه إلا بما لم يتناوله العقد وهو الأرض التي ينصب فيها القبة وذلك يمنع الإجارة كما لو استأجر أحد زوجي المقراض لقرض الثياب .
قلنا : المعتبر كون العين منتفعا به وأن يتمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه وذلك موجود فالإنسان لا يعدم الأرض لينصب فيها القبة ولأن المقصود بالقبة الاستظلال ودفع أذى الحر والبرد والمطر وذلك بالمعقود عليه دون الأرض وإن لم يسم البيوت التي ينصبها فيها فالعقد جائز أيضا لأن ذلك لا يختلف باختلاف البيوت وترك تعيين غير مفيد لا يفسد العقد .
وإن سمى بيتا فنصبها من غيره فهو جائز وعليه الأجر لأن هذا تعيين غير مفيد فالضرر لا يختلف باختلاف البيوت فإن نصبها في الشمس أو المطر كان عليها في ذلك ضرر فهو ضامن لما أصابها من ذلك لأنه مخالف فالشمس تحرقها والمطر يفسدها وإنما رضي صاحبها بنصبها في البيت ليأمن من ذلك .
وإذا وجب عليه الضمان بطل الأجر لأن الأجر والضمان لا يجتمعان ولأنه تملكها بالضمان من حين ضمن وإن سلمت القبة كان عليه الأجر استحسانا لأنه استوفى المعقود عليه حين استظل بالقبة وإنما كان ضامنا باعتبار زيادة الضرر فإذا سلمت سقط اعتبار تلك الزيادة فيلزمه الأجر باستيفاء المعقود عليه ولو شرط أن ينصبها في داره فنصبها في دار في قبيلة أخرى في ذلك المصر فعليه الأجر ولا ضرر عليه لأن هذا تعيين غير مفيد وليس له أن يخرجها من المصر لأن فيه الزام مؤنة على صاحبها وهو مؤنة الرد وهو لم يلتزم ذلك .
فإن أخرجها إلى السواد فنصبها فسلمت أو انكسرت فلا أجر عليه لأنه غاصب حين أخرجها من المصر .
( ألا ترى ) إنه لو وجب الأجر كان مؤنة الرد على صاحب القبة وهو غير ملتزم لذلك فجعلناه غاصبا ضامنا لتكون مؤنة الرد عليه فلهذا لا أجر عليه وإذا استأجر رحا يطحن عليه فحمله فذهب به إلى منزله فلما فرغ منه فمؤنة الرد على صاحب الرحا ولو كانت ذلك عارية كانت مؤنة الرد على المستعير لأن الرد فسخ لعمل النقل فإنما تجب المؤنة على من حصل له منفعة النقل ومنفعة النقل في العارية للمستعير فمؤنة الرد عليه وفي الإجارة على رب الرحا لأن بالنقل يتمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه وبه يجب الأجر لرب الرحا فلهذا كانت مؤنة الرد عليه .
وإذا استأجر منه عيدان حجلة أو كسوتها مدة معلومة جاز لأنه عين منتفع به .
والحاصل أن كل عين منتفع به معتاد الاستئجار فيه صحيح وعلى هذا استئجار البسط والوسائد والصناديق والسرر والقدور والقصاع .
ولو استأجر منه قدورا بغير عينها لم يجز لأن المعقود عليه مجهول فإن القدور مختلفة في الصغر والكبر والانتفاع بها بحسبها .
فإن جاءه بقدر فقبله على الكراء الأول فهو جائز والأجر له لازم إما لأن التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء أو لأن الإجارة تنعقد بالتعاطي كالبيع .
وكذلك لو استأجر منه ستورا يعلقها على بابه وقتا معلوما .
ولو كفل كفيل بشيء من هذه الأمتعة الأجر عن المستأجر فالكفالة باطلة لأن العين أمانة في يد المستأجر والكفالة بالأمانات لا تصح والأجارة جائزة لأن الكفالة لم تكن مشروطة فيه .
وإن أعطاه بالأجر كفيلا فهو جائز لأنه مضمون في ذمة المستأجر وعلى هذا لو استأجر ميزانا ليزن به والسنجات والقبان والمكاييل فهذا كله متعارف جائز .
وإن استأجر سرجا ليركبه شهرا فأعطاه غيره فركبه فهو ضامن لأن هذا مما يختلف فيه الناس فمن يحسن الركوب على السرج لا يضر به ركوبه ومن لا يحسن الركوب عليه يضر به ركوبه .
وإذا اعتبر التعيين كان ضامنا بالخلاف ولا أجر عليه .
وإذا استأجر إكافا ينقل عليه حنطته شهرا فهو جائز وحنطته وحنطة غيره سواء والجوالق كذلك لأن هنا تعيين غير مفيد وكذلك استئجار المحمل إلى مكة وكذلك الرجل يستأجره ليركب عليه فهو جائز وليس له أن يحمل غيره عليه فإن فعل فهو ضامن إن أصابه شيء للتفاوت بين الناس في الإضرار بالرجل عند الركوب عليه وكذلك الفسطاط يستأجره ليخرج به إلى مكة .
فإن أسرج في الخيمة أو الفسطاط أو القبة أو علق فيه القنديل فلا ضمان عليه لأن ذلك معتاد وقد بينا أنه يستحق بمطلق العقد الاستعمال المعتاد .
وإن اتخذ فيه مطبخا فهو ضامن لأنه غير معتاد إلا أن يكون ذلك معدا لذلك العمل .
وذكر عن الحسن - C - قال : لا بأس بأن يستأجر الرجل حلي الذهب بالذهب وحلي الفضة بالفضة وبه نأخذ فإن البدل بمقابلة منفعة الحلي دون العين ولا ربا بين المنفعة وبين الذهب والفضة ثم الحلي عين منتفع به واستئجاره معتاد فيجوز .
وإذا شرطت أن تلبسه فألبست غيرها ضمنت ولا أجر عليها كما في الثياب لأن الضرر على الحلي عند اللبس يختلف باختلاف اللابس وإن قال رب الحلي أنت لبستيه وقد هلك الحلي فقد أبرأها من الضمان والضمان واجب له فقوله مقبول في إسقاطه ويكون له عليها الأجر لأن الظاهر شاهد لرب الحلي وقد أقرت هي أن الحلي كان عندها وذلك يوجب الأجر عليها ولو استأجرته يوما إلى الليل .
فإن بدا لها فحبسته فلم ترده عشرة أيام فالإجارة عشرة أيام فالإجارة على هذا الشرط فاسدة في القياس لجهالة المعقود عليه أو لتعلق العقد بالخطر فيما بعد اليوم وهو أن يبدو لها وتعليق الإجارة بالخطر لا يجوز ولكني أستحسن وأجيزها وأجعل عليها الأجر كل يوم بحسابه لأن هذا الشرط متعارف محتاج إليه فإنها إذا خرجت إلى وليمة أو عرس لا تدري كم تبقى هناك فتحتاج إلى هذا الشرط لدفع الضرر والضمان عن نفسها ثم قد بينا أن وجوب الأجر عليها عند الاستعمال والخطر قبل ذلك فيزول ذلك عند استعمالها فلهذا يلزمها الأجر لكل يوم تحبسه فيه والله أعلم