قال - C - ( وإذا استأجر راعيا يرعى له غنما معلوما مدة معلومة فهو جائز لأن المعقود عليه معلوم مقدور التسليم ثم الراعي قد يكون أجير واحد وقد يكون مشتركا فإن شرط عليه رب الغنم أن لا يرعى غنمه مع غنم غيره فهو جائز ) لأنه يجعله بهذا الشرط أجير واحد وتبين أن المعقود عليه منافعه في المدة والشرط الذي يبين المعقود عليه لا يزيد العقد إلا وكادة فإن مات منها شاة لم يضمنها لأنه أمين فيما في يده من الغنم ولا ينقص من أجره بحسابها لأن المعقود عليه منافعه وبهلاك بعض الغنم لا يتمكن النقصان من منافعه ولا في تسليمها وليس له أن يرعى معها شيئا لأن منافعه صارت مستحقة للأول فلا يملك إيجاب الحق فيها لغيره لأن ذلك تصرف منه في ملك الغير .
ولو ضرب منها شاة ففقأ عينها كان ضامنا لأنه لم يأذن له صاحبها بضربها فهو كما لو قتلها بضربته ولو سقاها من نهر فغرقت شاة منها لم يضمن لأنه مأذون في سقيها وما تلف بالعمل المأذون فيه لا يضمن أجير الواحد كما في الدق وكذلك لو عطبت منها شاة في المرعى أو أكلها سبع وهو مصدق فيما هلك مع يمينه لأنه أمين فيما في يده والقول قول الأمين مع اليمين .
ولو هلك من الغنم نصفها أو أكثر كان له الأجر تاما ما دام يرعاها لأن استحقاق الأجر بتسليم نفسه لذلك العمل ولهذا لو كان الراعي مشتركا يرعى لمن شاء على قول أبي حنيفة - C - وهو ضامن لما يهلك بفعله من سباق أو سقي أو غير ذلك لأن الأجير المشترك ضامن لما حنت يده .
وإن لم يخالف في إقامة العمل ظاهرا كما في القصار إذا دق الثوب فتخرق وما هلك من غير فعله بموت أو سرقة من غير تضييع أو أكل سباع فلا ضمان عليه .
وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - هو ضامن بجميع ذلك إلا الموت لأنه لا يمكن الاحتراز عنه ولكنه لا يصدق على ما يدعيه من الموت إلا ببينة تقام له على ذلك لأن على أصلهما القبض في حق الأجير المشترك يوجبه ضمان العين عليه فدعواه الموت بعد ذلك بمنزلة دعوى الرد من حيث أنه يدعي ما يسقط الضمان به عن نفسه فلا يصدق في ذلك إلا بحجة كالغاصب .
ولو شرط عليه في الإجارة ضمان ما هلك من فعله لم يفسد ذلك الإجارة لأن ذلك عليه من غير شرط فلا يزيده الشرط إلا وكادة .
وإن شرط عليه ضمان ما مات فالإجارة فاسدة لأن هذا الشرط مخالف لحكم الشرع ولأنه يلتزم بهذا الشرط ما ليس في وسعه وهو الحفظ عن الموت واشتراط ما ليس في وسع العاقد في العقد مفسد للعقد .
وإن شرط عليه الضمان فيما سرق من غير عمله أو يأكله السبع فعند أبي حنيفة - C - يفسد العقد لأنه شرط مخالف لحكم الشرع وعندهما لأن ذلك عليه من غير شرط .
وإذا كان الراعي أجير واحد فاشتراط هذا عليه مفسد للعقد لأنه لا ضمان عليه بدون الخلاف واشتراط الضمان على الأمين باطل وببطلان الشرط يبطل عقد الإجارة .
وإذا أتى الراعي المشترك بالغنم إلى أهلها فأكل السبع منها شاة وهي في موضعها فلا ضمان عليه لأنه بتسليمها إلى أهلها يخرج من عهدتها ولأن عليه عمل الرعي وقد انتهى ذلك حين أتى بها إلى أهلها فلا ضمان عليه فيما يعطب بعد ذلك وله أن يبعث الغنم مع غلامه وأجيره وولده بعد أن يكون كبيرا في عياله سواء كان مشتركا أو خاصا لأن يد هؤلاء في الحفظ والرعي كيده وكذلك في الرد وهذا بالعرف فإن الراعي يلتزم حفظ الغنم على الوجه الذي يحفظ غنم نفسه وذلك بيده تارة وبيد من في عياله تارة .
وإذا استأجر راعيا شهرا ليرعى له غنما فأراد أن يرعى لغيره بأجر فلرب الغنم أن يمنعه من ذلك لأنه بدأ بذكر المدة وذكر المدة لتقدير المنفعة فيه فتبين أن المعقود عليه منافعه فيكون أجيرا له خاصا .
فإن لم يعلم رب الغنم بما فعله حتى رعى لغيره فله الأجر على الثاني ويطيب له ذلك ولا ينقص من أجر الأول شيء لأنه قد حصل مقصود الأول بمكماله وتحمل زيادة مشقة في الرعي لغيره فما يأخذ من الثاني عوض عمله فيكون طيبا له وقد تقدم نظيره في الظئر .
ولو كان يبطل من الشهر يوما أو يومين لا يرعاها حوسب بذلك من أجره سواء كان من مرض أو بطالة لأنه يستحق الأجر بتسليم منافعه وذلك ينعدم في مدة البطالة سواء كان بعذر أو بغير عذر .
ولو سأل راعيا أن يرعى غنمه هذه بدراهم في الشهر أو قال شهرا فهو جائز وهو مشترك له أن يرعى لغيره لأنه لما بدأ بذكر العمل بين مقدار عمله ببيان محله وهو الغنم عرفنا أن المعقود عليه العمل دون منافعه فيكون مشتركا سواء رعى لغيره أو لم يرع .
وإن شرط عليه أن لا يرعى معها شيئا غيرها كان جائزا وكان بمنزلة الباب الأول في أنه أجير واحد لأنا إنما جعلناه مشتركا استدلالا بالبداية بذكر العمل وسقط اعتبار هذا الاستدلال إذا صرح بخلافه بالشرط ولو دفع إليه غنمه يرعاها على أن أجره ألبانها وأصوافها فهو فاسد لأنه مجهول وإعلام الأجر لا بد منه لصحة الإجارة .
وإن اشترط عليه جبنا معلوما وسمنا لنفسه وما بقي بعد ذلك للراعي فهو كله فاسد والراعي ضامن لما أصاب من ذلك لأنه يتناول ملك الغير فإن الزيادة المنفصلة تملك بملك الأصل وله أجر مثله لأنه أقام العمل بعقد فاسد .
ولو أن راعيا مشتركا خلط غنما للناس بعضا ببعض ولم يعرف ذلك أهلها فالقول فيه قول الراعي مع يمينه لأنها في يده والقول في تعيين المقبوض قول القابض أمينا كان أو ضمينا كالمودع مع الغاصب .
فإن قال لا أعرفها فهو ضامن لقيمة الغنم كلها لأهلها لأن الخلط على وجه يتعذر معه التمييز استهلاك فإن كل واحد منهم لا يقدر على الوصول إلى عين ملكه وبمثل هذا الخلط يكون الراعي ضامنا وتكون الغنم له بالضمان والقول قوله في قيمتها يوم خلطها لأن الضمان عليه فالقول في مقداره قوله مع يمينه كالغاصب .
وإن كان الراعي مشتركا يرعى في الجبال فاشترط عليه صاحب الغنم أن يأتيه بسمة ما يموت منها وإلا فهو ضامن فهذا الشرط غير معتبر لأنها قد تموت في موضع لا يمكنه أن يأتي بسمتها وقد يفتعل فيما يأتي من السمة بأن يأكل بعض الغنم ثم يأتي بسمته ويقول قد مات فإن السمة لا تختلف بالذبح والموت فعرفنا أن هذا الشرط غير مفيد .
ثم على قول أبي حنيفة - C - القول قوله وإن لم يأت بالسمة لأنه أمين في العين عنده وعندهما هو ضامن وإن أتى بالسمة إلا أن يقيم البينة على الموت ولا يسع المصدق أن يصدق غنما مع الراعي حتى يحضر صاحبها لأن المصدق يأخذ الزكاة والزكاة تجب على المالك ويتأدى بأدائه ونيته والراعي في ذلك ليس بنائب عنه .
فإن أخذ المصدق الزكاة من الراعي فلا ضمان على الراعي في ذلك لأن الراعي لا يتمكن من أن يمنع المصدق من ذلك فهو في حقه بمنزلة الموت .
وإن خاف الراعي على شاة منها فذبحها فهو ضامن لقيمتها يوم ذبحها لأن صاحبها لم يأمره بذبحها بل منعه من ذلك .
وإن اختلفا في عدة ما سلمه إلى الراعي فالقول قول الراعي لإنكاره قبض الزيادة والبينة بينة صاحب الغنم لإثباته الزيادة ببينته ثم يكون ضامنا للفضل بجحوده وليس للراعي أن يسقي من ألبان الغنم ولا يأكل ولا يبيع ولا يقرض لأنه مأمور بالرعي وهذا ليس من عمل الرعي فهو فيه كسائر الأجانب فيكون ضامنا إن فعل شيئا من ذلك ولو أن رب الغنم باع نصف غنمه .
فإن كان استأجر الراعي شهرا على أن يرعى له لم يحطه من الأجر شيء لأن المعقود عليه منافعه وإنما يستوجب الأجر بتسليم نفسه في المدة ولو أراد رب الغنم أن يزيد في الغنم ما يطيق الراعي كان له ذلك لأنه مالك لمنافعه في المدة فهو بمنزلة عبده في ذلك يستعمله في ذلك العمل بقدر طاقته .
وإن استأجر شهرا يرعى له هذه الغنم بأعيانها لم يكن له أن يزيد فيها بالقياس لأن التعيين إذا كان مفيدا يجب اعتباره والتعيين في حق الراعي مفيد لأن المشقة عليه تختلف باختلاف عدد الغنم فهو ما التزم إلا رعي ما عينه عند العقد فلا يكون لرب الغنم أن يكلفه شيئا آخر كما لا يكون له أن يكلفه عملا آخر .
ولكنه استحسن فقال : له أن يكلفه من ذلك بقدر طاقته لأن المعقود عليه منافعه فإنه بدأ بذكر المدة وتعيينه الأغنام لبيان ما قصد من تملك منافعه بالإجارة لا لقصر حكم العقد عليه .
فإذا بقيت منافعه بعد هذا التعيين مستحقة لرب الغنم كان له أن يكلفه في ذلك بقدر طاقته ولكن لا يكلف عملا آخر لأنه تبين مقصوده عند العقد وهو الرعي فما ليس من عمل الرعي لا يكون داخلا في حكم العقد ثم قال أرأيت لو ولدت الغنم أما كان عليه أن يرعى أولادها معها والقياس والاستحسان فيهما لأن الولد بعد الانفصال كشاة أخرى ولكن من عادته الاستشهاد بالأوضح فالأوضح .
ولو لم يستأجره شهرا ولكنه دفع إليه غنما مسماة على أن يرعى له كل شهر بدرهم لم يكن له أن يزيد فيها شاة لأن المعقود عليه هنا عمل الرعي وإنما التزم إقامة الكل في المحل الذي عينه فليس له أن يكلفه فوق ذلك وإن باع منها طائفة فإنه ينقصه من الأجر بحساب ذلك لأن المعقود عليه لما كان هو العمل فإنما يستوجب الأجر بقدر ما يقيم من العمل كالخياط والقصار وإذا ولدت الغنم لم يكن له عليه أن يرعى أولادها معها لأن الولد بعد الانفصال في عمل الرعي كشاة أخرى .
فإن كان اشترط عليه حين دفع الغنم إليه أن يولدها ويرعى أولادها معها فهو فاسد في القياس لأن المعقود عليه هو العمل فلا بد من إعلامه وإعلامه ببيان محله وهنا محل العمل مجهول لأنه لا يدري ما تلد منها وكم تلد وجهالة المعقود عليه مفسدة للعقد .
ولكنه استحسن ذلك فأجازه لأنه عمل الناس ولأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة بينهما والجهالة بعينها لا تفسد العقد فكل جهالة لا تفضي إلى المنازعة فهي لا تؤثر في العقد والإبل والبقر والخيل والحمير والبغال في جميع ما ذكرنا كالغنم وليس للراعي أن ينزي على شيء منها بغير أمر ربها لأن ذلك ليس من عمل الراعي فهو فيه كالأجنبي ضامن لما يعطب منها إن فعله .
ولو لم يفعله الراعي ولكن الفحل الذي فيها نزى على بعضها فعطب فلا ضمان على الرعي في ذلك لأن صاحب الغنم قد رضي بذلك حين خلط الفحل بالإناث من غنمه والراعي لا يمكنه المنع من ذلك فلا ضمان عليه في ذلك .
ولو ندت واحدة منها فخاف الراعي إن باع ما ند منها أن يضيع ما بقي فهو في سعة في ترك ما ند منها لأنه ابتلى ببليتين فيختار أهونهما ولأنه لو باع ما ند منها كان مضيعا لما بقي ولا يعلم أنه هل يقدر على أخذ ما ندأ ولا يقدر وليس له أن يضيع ما في يده فلهذا كان في سعة من ذلك .
ولا ضمان عليه فيما ند في قول أبي حنيفة - C - لأنه ضاع بغير فعله وهو في ترك أتباعه مقبل على حفظ ما بقي وليس بمضيع لما ند .
وهو ضامن في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأنه تلف بما يمكن التحرز عنه في الجملة وإن استأجر من يجيء بتلك الواحدة فهو متطوع في ذلك كغيره من الناس لأن صاحبها لم يأمره بالاستئجار وكذلك إن تفرقت فرقا فلم يقدر على أتباعها كلها فأقبل على فرقة منها وترك ما سواها فهو في سعة من ذلك لأنه إقبال على حفظ ما هو متمكن من حفظه فهذا وما تقدم سواء .
فإن كان الراعي أجيرا مشتركا فرعاها في بلد فعطبت فقال صاحبها إنما اشترطت عليك أن ترعاها في موضع غير ذلك وقال الراعي بل شرطت على هذا الموضع فالقول قول رب السائمة لأن الإذن يستفاد من جهته .
ولو أنكره أصلا كان القول قوله مع يمينه والبينة بينة الراعي لأنه يثبت الإذن في هذا الموضع ببينته ثم لا يضمن في قول أبي حنيفة - C - وفي قولهما هو ضامن إلا أن يقيم البينة على الموت .
وإن كان أجيرا خاصا لم يضمن في قولهم جميعا إلا أن يخالف ولا أجر للراعي إذا خالف بعد أن تعطب الغنم لأنه غاصب ضامن وبالضمان يتملك المضمون من وقت وجوب الضمان فيتبين أنه في الرعي كان عاملا لنفسه فلا يستوجب الأجر على غيره فإن سلمت الغنم استحسنت أن أجعل له الأجر لحصول مقصود رب الغنم وهو الرعي مع سلامة أغنامه وهو بتعيين ذلك المكان ما قصد إلا هذا فإذا حصل له هذا بعينه في مكان وجب عليه الأجر والله أعلم