قال - C - ذكر عن عمارة بن عقبة قال قدمت إلى عثمان بن عفان - Bه - وسألني عن ما لي فأخبرته أن لي غلمانا حجامين لهم غلة وحماما له غله فكره لي غلة الحجامين وغلة الحمام وقد تقدم الكلام في كسب الحجام فأما غلة الحمام فقد كرهه بعض العلماء - رحمهم الله - أخذا بظاهر الحديث قالوا الحمام بيت الشيطان فسماه رسول الله - A - شر بيت تكشف فيه العورات وتصب فيه الغسالات والنجاسات ومنهم من فصل بين حمام الرجال وحمام النساء فقالوا يكره اتخاذ حمام النساء لأنهن منعن من الخروج وأمرن بالقرار في البيوت واجتماعهم قل ما يخلو عن فتنة وقد روي أن نساء دخلن على عائشة - Bها - فقالت أنتن من اللاتي يدخلن الحمام وأمرت بإخراجهن .
والصحيح عندنا أنه لا بأس باتخاذ الحمام للرجال والنساء جميعا للحاجة إلى ذلك خصوصا في ديارنا والحاجة في حق النساء أظهر لأن المرأة تحتاج إلى الاغتسال من الحيض والنفاس والجنابة ولا تتمكن من ذلك إلا في الأنهار والحياض كما يتمكن منه الرجل ولأن المطلوب به معنى الزينة بإزالة الدرن وحاجة النساء فيما يرجع إلى الزينة أكثر وقد صح في الحديث أن النبي - A - دخل حمام الجحفة وتأويل ما روي عن كراهة الدخول إذا كان مكشوف العورة فأما بعد الستر فلا بأس بدخول الحمام ولا كراهة في غلة الحمام كما لا كراهة في غلة الدور والحوانيت .
وإذا استأجر الرجل حماما مدة معلومة بأجر معلوم فهو جائز لأنه عين منتفع به على وجه مباح شرعا فإن كان حماما للرجال وحماما للنساء وقد جددهما جميعا فسمى في كتاب الإجارة حماما فهو فاسد في القياس لأنه إنما استأجر حماما واحدا فإن النكرة في موضع الإثبات تخص ولا يدري أيهما استأجروهما يتفاوتان في المقصود فتتمكن المنازعة بسبب هذه الجهالة .
ولكني أدعي القياس وأجيز له الحمامين جميعا لعرف اللسان فإنه يقال حمام فلان وهما حمامان والمعروف بالعرف كالمشروط بالنص .
وعمارة الحمام في صاروجه وحوضه ومسيل مائه وإصلاح قدره على رب الحمام لأن المنفعة المقصودة بالحمام لا تتم إلا بهذه الأشياء وعلى المؤاجر أن يمكن المستأجر من الانتفاع بما أجره على الوجه الذي هو مقصوده ولأن المرجع في هذا إلى العرف وفي العرف صاحب الحمام هو الذي يحصل هذه الأعمال .
فإن اشترط المرمة على المستأجر فسدت الإجارة لأن المرمة على الآجر فهذا شرط مخالف لمقتضى العقد ثم المشروط على المستأجر من ذلك أجره وهو مجهول المقدار والجنس والصفة وجهالة الأجرة تفسد الإجارة .
ولو اشترط عليه رب الحمام عشرة دراهم في كل شهر لمرمته مع الأجرة وأذن له أن ينفقها عليه فهو جائز لأنه معلوم المقدار وقد جعله نائبا عن نفسه في إنفاقه على ملكه فبهذا يستدل أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - على أبي حنيفة - C - في مسألة كتاب البيوع إذا قال لمدينه أسلم ما لي عليك فإن هناك لم يبين له من يشتري منه ما يرم به الحمام ومن يستأجره لذلك ومع هذا جوز التوكيل وكذلك ذكر بعد هذا في إجارة الدواب لو أمره بإنفاق بعض الأجرة على الدابة على علفها جاز ذلك وهما سواء حتى زعم بعض مشايخنا - رحمهم الله - أن الجواب قولهما .
وفي القياس قول أبي حنيفة - C - لا يجوز ذلك والأصح أنه قول الكل وإنما استحسن هنا أبو حنيفة - C - للتيسير فالمستأجر للحمام يلحقه الحرج باستطلاع رأي صاحب الحمام عند كل مرة والمستأجر للدابة كذلك ثم قد عين له المحل الذي أمره بصرف الدين إليه فنزل ذلك منزلة تعيين من يعامله كما لو أمر المدين بأن ينفق على عياله من الدين الذي له عليه بخلاف مسألة السلم .
فإن قال المستأجر قد أنفقتها عليه لم يصدق إلا ببينته لأن الأجر دين في ذمته والمدين إذا ادعى قضاء الدين لا يقبل ذلك منه إلا بحجة ويستحلف رب الحمام على عمله لأنه لو أقر به لزمه فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله ولكن الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم .
وكذلك لو اشترط عليه أنه أمين في هذه النفقة وأن القول قوله فيها لم يكن القول قوله لأن المدين ضامن ما في ذمته واشتراط كون الضامن أمينا مخالف لحكم الشرع فكان باطلا ولو جعلا بينهما رجلا يقبضها ونفقتها على الحمام فقال المستأجر دفعتها إليه وكذبه رب الحمام .
فإن أقر العدل بقبضها برئ المستأجر لأنه وكيل رب الحمام في القبض فيصح منه الإقرار بالقبض ويجعل كإقرار الموكل بذلك فإن رب الحمام حين سلطه على القبض فقد سلطه على الإخبار به ثم العدل أمين فيما يصل إليه فيكون القول قوله فيما يدعي من ضياع أو نفقة مع يمينه كالمودع .
وإن كان العدل كفيلا بالأجر كان مثل المستأجر غير مؤتمن ولا يصدق لأن الكفيل ضامن لما التزمه في ذمته كالأصيل وليس لرب الحمام أن يمنعه بئر الماء ومسيل ماء الحمام أو موضع سرقينه وإن لم يشترط لأن هذا من مرافقه ومجامعه ولا يتم الانتفاع إلا به فكان بيعا والبيع يصير مذكورا بذكر الأصل فهو بمنزلة مدخل الحمام وفنائه يدخل في العقد من غير شرط .
ولو اختلفا في قدر الحمام فهي لرب الحمام لأنها مركبة في بنائه ولأن الظاهر فيها يشهد لرب الحمام فإن اتخاذ القدر واصلاحه عليه .
ولو أراد رب الحمام أن يقعد مع المستأجر أمينا يقبض عليه يوما بيوم لم يكن له ذلك لأن المستأجر صار أحق بالانتفاع بتلك النفقة فليس لأحد أن يقعد معه في ذلك الموضع بغير إذنه لأنه ليس لرب الحمام من غلة الحمام شيء إنما له أجر مسمى في ذمة المستأجر فأما في الغلة فهو وأجنبي آخر سواء .
ولو انقضت مدة الإجارة وفي الحمام سرقين كثيرا وادعاه كل واحد منهما فهو للمستأجر لأنه منقول كسائر الأمتعة ولأن الظاهر فيه يشهد للمستأجر لأن ذلك عليه دون رب الحمام ويؤمر بنقله لأن موضعه مملوك لرب الحمام ولم يبق للمستأجر فيه حق فعليه أن يفرغ ملك الغير عن متاعه وكذلك في الرماد إذا كان منتفعا به فقال كل واحد منهما هو لي وأنا أنتفع به فالقول قول المستأجر .
فإن أنكر المستأجر أن يكون الرماد من عمله فالقول قوله لأن رب الحمام يدعي لنفسه قبله حقا وهو نقل ذلك الرماد ويفرغ ذلك الموضع منه فعليه أن يبينه بالبينة والقول قول المستأجر مع يمينه .
ولو اشترط عليه في الإجارة نقل الرماد والسرقين والغسالة لم يفسد ذلك الإجارة لأن ذلك مستحق عليه بمطلق العقد سواء كان مسيل الماء ظاهرا أو مسقفا بخلاف البالوعة والكرياس وقد بينا الفرق .
وإذا كان عليه بدون الشرط فلا يزيد بالشرط إلا وكادة وإن اشترط شيئا من ذلك على رب الحمام في الإجارة فسدت الإجارة لأنه شرط مفيد لأحد المتعاقدين ولا ينقضه العقد وذلك مفسد للبيع فكذلك الإجارة .
ولو قال رب الحمام للمستأجر قد تركت أجر شهرين لمرمة الحمام فهذا لا يفسد الإجارة لأنه وكله بأن ينفق ذلك القدر من دينه على حمامه فإن قال قد أنفقتها لم يصدق إلا ببينة وهو نظير ما بينا من العشرة في كل شهر .
وإذا استأجر حمامين شهورا مسماة كل شهر بكذا فانهدم أحدهما قبل قبضهما فله أن يترك الباقي .
وإن انهدم بعد قبضهما فالباقي له لازم بحصته من الأجر لأن تمام الصفقة بقبض الحمام على ما بينا أن العين المنتفع بها تقام مقام المنفعة في إضافة العقد إليه فكذلك في إتمام الصفقة في قبضه وتفريق الصفقة قبل التمام يثبت الخيار للعاقد وبعد التمام لا يثبت كما لو اشترى عبدين فهلك أحدهما قبل القبض أو استحق كان له الخيار في الباقي بخلاف ما بعد القبض .
ولو استأجر بيتين فانهدم أحدهما بعد القبض فلا خيار له في الباقي بخلاف ما قبل القبض .
ولو شرط عليه رب الحمام كل شهر عشرة طلاآت فالإجارة فاسدة لأن النورة التي اشترط مجهولة لا يعرف مقدارها ولا مقدار ثمنها في كل وقت وضم المجهول إلى المعلوم يوجب جهالة الكل .
ولو استأجر حماما وعبدا وقبضهما فمات العبد لزمه الحمام بحصته لأن المقصود هو الانتفاع بالحمام وبموت العبد لا يتمكن فيه نقصان .
وقد بينا أن تفرق الصفقة بعد التمام لا يثبت للعاقد حق الفسخ وإن انهدم الحمام وإنما استأجر العبد ليقوم على الحمام في عمله فله أن يترك العبد إن شاء لأن استئجار العبد لم يكن مقصودا لعينه وإنما كان لعمل الحمام وقد تعذر بانهدام الحمام فيكون ذلك عذرا له في فسخ الإجارة في العبد كما استأجر الرحا مع الثور ليطحن به فانهدم الرحا فإنه يكون له الخيار في الثور لما قلنا بخلاف ما إذا استأجر حمامين فانهدم أحدهما بعد القبض لأن الانتفاع بكل واحد منهما مقصودا ومنفعة أحدهما بعد القبض لأن الانتفاع بكل واحد منهما إذ منفعة أحدهما غير متصلة بمنفعة الآخر .
وإذا استأجر حماما واحدا فانهدم منه بيت قبل القبض أو بعده فله أن يتركه لأن منفعة بعض بيوت الحمام متصل بالبعض وبعدما انهدم بعض البيوت لا يتمكن من الانتفاع بالباقي من الوجه الذي كان متمكنا من قبل .
( ولو أن رجلا دخل الحمام بأجر وأعطى ثيابه لصاحب الحمام يحفظها له فضاعت لم يكن عليه ضمانها ) هكذا روي عن شريح - C - وهذا لأن صاحب الحمام في الثياب أمين كالمودع فإن ما يأخذه ليس بأجر على حفظ الثياب ولكنه غلة الحمام وإنما حبس لجمع الغلة لا لحفظ ثياب الناس فلا يكون ضامنا .
فأما الثيابي وهو الذي يحفظ ثياب الناس بأجر فهو بمنزلة الأجير المشترك في الحفظ فلا ضمان عليه فيما سرق عند أبي حنيفة - C - وعندهما يضمن .
وإن لبس إنسان ثوب الغير بمرأى العين منه فلم يمنعه لأن ظنه صاحب الثوب فهو ضامن بالاتفاق ولأنه مضيع تارك للحفظ ولا معتبر بظنه ولو دخل الحمام بدانق على أن ينوره صاحب الحمام فهو فاسد في القياس لجهالة قدر ما شرط عليه في النورة لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس ولكنه ترك القياس فيه لأنه عمل الناس .
وكذلك لو أعطاه فلسا على أن يدخل الحمام فيغتسل فهو فاسد في القياس لجهالة مقدار مكثه ومقدار ما يصب من الماء ولكنه استحسن وجوزه لأنه عمل الناس وقد استحسنوه وقال A ( ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ) ولأن في اشتراط أعلام مقدار ذلك حرجا والحرج مدفوع شرعا . ( رجل أستأجر حماما سنة بغير قدر واستأجر القدر من غيره فانكسرت القدر ولم يعمل في الحمام شهرا فلصاحب الحمام أجره ) لأنه سلم الحمام إليه كما التزمه بعقد الإجارة والمستأجر متمكن من الانتفاع بأن يستأجر قدرا آخر فعليه الأجر لرب الحمام بخلاف ما إذا كانت القدر لرب الحمام فانكسرت فإن هناك المستأجر لا يتمكن من الانتفاع كما استحقه بعقد الإجارة ما لم يصلح رب الحمام قدره ولا أجر لصاحب القدر من يوم انكسرت لزوال تمكنه من الانتفاع بالقدر ولا ضمان عليه في ذلك سواء انكسرت من عمله أو من غير عمله المعتاد ولأنه أمين في القدر مسلط على الاستعمال من جهة صاحب القدر والله أعلم