قال - C - ( وإذا هلك الثوب عند القصار بعد الفراغ من العمل فلا أجر له ولا ضمان عليه في قول أبي حنيفة - C - ) وهو قول زفر والحسن بن زياد - رحمهم الله .
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - هو ضامن إلا إذا تلف بأمر لا يمكن الاحتراز عنه كالحرق الغالب وكذلك الخلاف في كل أجير مشترك كالأجير المشترك في حفظ الثياب وغيره والمشترك من يستوجب الأجر بالعمل ويعمل لغير واحد ولهذا يسمى مشتركا ولا خلاف أن أجير الواحد لا يكون ضامنا لما تلف في يده من غير صنعه وهو الذي يستوجب البدل بمقابلة منافعه حتى إذا سلم النفس استوجب الأجر وإن لم يستعمله صاحبه ولا يملك أن يؤجر نفسه من آخر في تلك المدة .
وجه قولهما : أنه خالف بموجب العقد فكان ضامنا كما إذا دق الثوب وتخرق وبيان ذلك أن المعقود عليه هو الحفظ وعقد المعاوضة يقتضي سلامة المعقود عليه عن العيب فيكون المستحق بالعقد حفظا سليما فإذا سرق تبين أنه لم يأت بالحفظ السليم فكان مخالفا موجب العقد كما قلنا في الدق فالمستحق بالعقد وفى سليما عن عيب التخرق فإذا تخرق كان ضامنا وهذا في الأجير بالحفظ ظاهر وكذلك في القصار فإنه لا يتوصل إلى إقامة العمل إلا بالحفظ والعمل مستحق عليه وما لا يتوصل إلى المستحق إلا به يكون مستحقا والمستحق بالمعاوضة السليم دون المعيب والبدل وإن لم يكن بمقابلة الحفظ هنا لكن لما كان مستحقا بعقد المعاوضة تعتبر فيه صفة السلامة كأوصاف المبيع إلا أن ما لا يمكن التحرز عنه يكون عفوا كما في السراية في حق النزاع فإنه عفو لأنه لا يستطاع الامتناع منه .
والقياس ما قاله أبو حنيفة - C - لأنه قبض العين بإذن المالك لمنفعته وهو إقامة العمل له فيه فلا يكون مضمونا عليه كالمودع وأجير الواحد وهذا لأن الضمان إما أن يكون ضمان عقد أو ضمان جبران والعقد وارد على العمل لا على العين فلا تصير العين به مضمونة والجبران للفوات وهو ما فوت على المالك شيئا حين قبضه بإذنه وبهذا الطريق لا يضمن أجير الواحد فكذلك المشترك .
وهما يقولان يستحسن فنضمن المشترك احتياطا بخلاف الخاص فالعين هناك في يد صاحبه لأن أجير الخاص يعمل له في بيته ولأن البدل هناك ليس بمقابلة العمل فلا تشترط فيه السلامة عن العيب ولكن أبو حنيفة - C - يقول هذا نظر فيه ضرر في حق الأجير وهو أن يلزمه ما لم يلتزمه ونظر الشرع للكل فمن النظر للأجير أن لا يكون مضمونا عليه ولما تساوى الجانبان لم يجب الضمان بالشك وما قال إنما يستقيم أن لو كان التلف يتولد من الحفظ كما يتولد من العمل ولا يتصور تولد التلف من الحفظ إلا أن يضيع بترك الحفظ وعند ذلك هو ضامن لا أجر له عند أبي حنيفة - C - لأن المعقود عليه الوصف الحادث في الثوب بعمله وقد فات قبل تمام التسليم على صاحبه فلا أجر له بخلاف أجير الواحد فالمعقود عليه هناك منافعه في المدة وقد تم التسليم فيه فبهلاك العين عنده لا يبطل الأجر .
وأما عندهما رب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة الثوب مقصورا وأعطاه الأجر وإن شاء ضمنه قيمته غير مقصور ولا أجر له لأن المعقود عليه صار مسلما من وجه باتصاله بالثوب إلا أنه لم يتم التسليم حتى تغير إلى البدل وهو ضمان القيمة فيتخير صاحب الثوب إن شاء رضي به متغيرا فضمنه قيمته مقصورا وأعطاه الأجر وإن شاء لم يرض بالتغير وفسخ العقد فيه فيضمنه قيمة ثوبه أبيض بمنزلة ما لو قبل المبيع قبل القبض فإنه يتخير المشتري .
فأما إذا تلف بعمله بأن دق الثوب فتخرق فهو ضامن عندنا .
وقال زفر - C - لا ضمان عليه إن لم يجاوز الحد المعتاد .
وللشافعي - C - فيه قولان : .
في أحد القولين يقول : هو ضامن سواء تلف بفعله أو بغير فعله .
وفي قوله الآخر يقول : لا ضمان عليه سواء تلف بفعله أو بغير فعله .
وجه قول زفر - C - أنه عمل مأذون فيه فما تلف بسببه لا يكون مضمونا عليه كالمعين في الدق وأجير الواحد وبيانه أنه استأجره ليدق الثوب والدق عمل معلوم بحده وهو إرسال المدقة على المحل من غير عنف وقد أتى بتلك الصفة فكان مأذونا فيه ثم التخرق إنما كان لوهاء في الثوب وليس في وسع العامل التحرز من ذلك فهو نظير البزاغ والفصاد والحجام والختان إذا سرى إلى النفس لا يجب الضمان عليهم لهذا المعنى وهذا لأن العمل مستحق عليه بعقد المعاوضة وما يستحق على المرء لا يبعد بما ليس في وسعه وبه فارق المشي في الطريق والرمي إلى الهدف فإنه مباح غير مستحق عليه فقيد بشرط السلامة .
والدليل عليه أن أجير القصار إذا دق فتخرق الثوب لم يجب الضمان على الأجير وعندكم يجب الضمان على الأستاذ فإن كان هذا العمل مأذونا فيه لم يجب الضمان على أحد وإن لم يكن مأذونا فيه فهو موجب للضمان على من باشره فأما أن يقال من باشره لا يضمن وغيره يضمن بسببه فهو بعيد جدا وحجتنا في ذلك أن التلف حصل بفعل غير مأذون فيه فيكون مأذونا كما لو دق الثوب بغير أمره وبيان ذلك أن الإذن ثابت بمقتضى العقد والمعقود عليه عمل في الذمة والعقد عقد معاوضة فمطلقه يقتضي سلامة المعقود عليه عن العيب كعقد البيع وما في الذمة يعرف بصفته والموصوف بأنه سليم غير الموصوف بأنه معيب فإذا ثبت أن المعقود عليه العمل السليم المزين للثوب عرفنا أن المعيب المخرق للثوب غير المعقود عليه فلا يكون مأذونا فيه وبه فارق أجير الواحد .
ومن أصحابنا - رحمهم الله - من يقول : هناك البدل ليس بمقابلة السليم بل بمقابلة تسليم النفس دون العمل وصفة السلام في العمل بمقتضى عقد المعاوضة إلا أن هذا ليس بقوي فالمعقود عليه في الموضعين العمل والبدل بمقابلة المقصود إلا أن هناك يقام تسليم النفس مقام العمل دفعا للضرر عن الأجير لتضيق مدة التسليم عليه وهذا لا يدل على أنه إذا وجد ما هو المقصود لا يكون البدل بمقابلته كما يقام تسليم النفس في النكاح مقام ما هو المقصود .
ثم إذا وجد ما هو المقصود وهو الوطء كان البدل بمقابلته فالصحيح أن يقول المعقود عليه في حق أجير الواحد منافعه ولهذا يشترط إعلامه ببيان المدة ومنافعه عين والعين لا تختلف بكونه سليما أو معيبا كما في بيع العين فإنه وإن وجد بالمعقود عليه عيبا لا يخرج العقد به من أن يكون متناولا له فعرفنا أن الإذن متناول للعمل معيبا كان أو سليما وهنا المعقود عليه عمل في الذمة بمنزلة المسلم فيه وعقد السلم إذا تناول الجيد لا يكون الرديء معقودا عليه ما لم يسقط حقه في الجودة بالرضاء به فهنا ما دام العمل السليم معقودا عليه لا يكون المعيب معقودا عليه إلا أن يرضى به وهذا بخلاف المعين فإنه واهب للعمل والهبة لا تقتضي السلامة عن العيب فبالتخرق لا يخرج العمل من أن يكون مأذونا فيه وبخلاف البزاغ والفصاد والحجام فهناك العمل معلوم بحده لا بصفته لأنه حرج والحرج الذي هو غير ساري ليس في وسع البشر فإنما يلتزم بعقد المعاوضة ما يقدر على تسليمه دون ما لا يقدر فأما التحرز عن التخرق في وسع القصاء في الجملة إلا أنه ربما يلحقه الحرج فيه وذلك لا يمنع صحة التزامه بعقد المعاوضة .
يوضحه : أن التخرق إما أن يكون لشيء في طي الثوب أو لرقة في الثوب أو لحدة في المدقة وكل هذا يمكن الوقوف عليه عند التأمل فأما السراية فلضعف الطبيعة عن دفع أثر الجناية ولا طريق للوقوف بحال .
يوضحه : أن التلف هناك لا يحصل في حال العمل وإنما يكون بعد الفراغ منه بمدة والعمل مضمون عليه لأنه يقابله بدل مضمون فما يقابل المضمون يكون مضمونا إلا أنه بالفراغ منه يصير مسلما إلى صاحبه فإنما حصل التلف بعد خروجه من ضمان العاقد وهنا التخرق يحصل في حال العمل لا بعد الفراغ من العمل وفي حال العمل التسليم لم يوجد بعد وهو عمل مضمون عليه لأنه يقابله بدل مضمون والمتولد من المضمون يكون مضمونا فأما أجير القصار فهو أجير واحد والبدل في حقه بمقابلة منافعه فلهذا لا يكون ضامنا ثم عمله للأستاذ كعمل الأستاذ بنفسه وهو لو قام بالثوب بنفسه فخرق الثوب كان ضامنا فكذلك إذا عمل له أجيره .
إذا عرفنا هذا فنقول لصاحب الثوب الخيار إن شاء ضمنه قيمته مقصورا وأعطاه الأجر وإن شاء ضمنه قيمته غير مقصور ولا أجر له .
قال بشر بن غياث - C - : وهذا الجواب صحيح على أصل أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأن عندهما قبضه ضمان فله أن يضمنه قيمته وقت القبض غير مقصور فأما عند أبي حنيفة - C - هو خطأ لأن عنده قبل قبض القصار قبض أمانة وإنما الموجب للضمان عليه العمل فيكون له أن يضمنه قيمته معمولا ولا خيار له في ذلك .
ولكن الأصح ما قلنا فإنا لا نقول نضمنه قيمته بالقبض ولكنه يضمنه قيمته بالإتلاف إن شاء معمولا وإن شاء غير معمول لأن العمل يصير مسلما من وجه باتصاله بالثوب وذلك العمل يجوز أن يكون معقودا عليه عند الرضاء به كالرديء في باب السلم مكان الجيد يكون معقودا عليه عند التجوز به فإذا وقع التغير في العمل كان له الخياران شاء رضي به متغيرا فضمنه قيمته معمولا وأعطاه الأجر وإن شاء لم يرض به فيخرج العمل به من أن يكون معقودا عليه ويضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له .
وإن لم يهلك الثوب وأراد صاحبه أخذه كان للقصار أن يمنعه حتى يستوفي الأجر وقد بينا خلاف زفر - C - في هذا .
والحاصل أن كل أجير يكون أثر عمله قائما في المعمول كالنساج والقصار والصباغ والفتال فله حق الحبس لأن المعقود عليه الوصف الذي أحدثه في الثوب وهو قائم فيكون له أن يحبسه ببدله وكل من ليس لعمله أثر في المعمول كالحمال فإنه لا يستوجب الحبس لأن المعقود عليه نفس العمل ولم يبق بعد الفراغ منه فلا يكون له أن يحبس .
فإن ( قيل ) : في القصار عمله في إزالة الدرن والوسخ لا في إحداث البياض في الثوب فالبياض للقطن صفة أصلية .
( قلنا ) : نعم ولكن لما غلب الدرن والوسخ حتى استتر به صار في حكم المعدوم وحين أظهره القصار بعمله جعل ظهوره مضافا إلى عمله فيكون أثر عمله قائما في المعمول فإن منعه فهلك فالجواب على ما بينا لأن المنع كان بحق فلا يكون سببا موجبا للضمان فيما ليس بمضمون فلهذا يستوي الهلاك بعد المنع وقبله .
وعلى قول زفر - C - ليس له حق الحبس فإذا حبسه كان ضامنا للقيمة .
وإن أراد أن يأخذ الثوب قبل تمام العمل بغير إذنه ويعطيه من الأجر بمقدار ما عمل لم يكن له ذلك حتى يفرغ منه لأن العقد لازم من الجانبين لكونه معاوضة فما ليس للقصار أن يفرق الصفقة على صاحب الثوب فيمتنع من إقامة بعض العمل بغير إذنه فكذلك لا يكون ذلك لرب الثوب وكما أن إقامة العمل مستحق على القصار فإمساك العين إلى أن يفرغ من العمل مستحق له ولهذا لا يأخذه منه صاحبه .
وإن استأجر حمالا ليحمل له شيئا على ظهره أو على دابته إلى موضع معلوم فحمله وصاحبه يمشي معه أو ليس معه فانكسر في بعض الطريق أو عثر فانكسرت الدابة فانكسر المتاع .
قال - Bه - اعلم بأن الحمال أجير مشترك بمنزلة القصار وإن تلف في يده بغير فعله بأن زحمه الناس ففي وجوب الضمان عليه خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه - رحمهم الله - كما بينا .
وإن تلف بفعله بأن تعثر فانكسر المتاع فهو ضامن عندنا خلافا لزفر - C - فإن التلف حصل بجناية يده ثم عندنا لصاحب المتاع الخيار إن شاء ضمنه قيمته محمولا إلى الموضع الذي سقط وأعطاه من الأجر بحصته وإن شاء ضمنه قيمته غير محمول ولا أجر له وهذا لأن العمل صار مسلما إن كان صاحبه يمشي معه فلا يشكل وكذلك إن كان لا يمشي معه فإنه يصير مسلما باتصاله بملكه ثم تغير قبل تمام التسليم فيثبت الخيار لهذا .
وكان أبو بكر الرازي - C - يقول الصفقة قد تفرقت عليه فيما لم يحصل المقصود إلا بجملته فإن مقصود صاحب المتاع لا يحصل إلا بوصول المتاع إلى موضع حاجته فإذا انكسر في بعض الطريق فقد انفسخ العقد فيما بقي للفوات فعرفنا أن الصفقة قد تفرقت فإن شاء رضي بهذا التفرق وقرر العقد فيما استوفى من العمل وأعطاه من الأجر بحصته وإن شاء أبى ذلك وفسخ العقد في الكل فيضمنه قيمته غير محمول ولا أجر له ولهذا كان الخيار لصاحب المتاع .
ولو هلك في نصف الطريق بغير فعله لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة - C - وكان له نصف الأجر بخلاف ما سبق العمل من القصار لأن المعقود عليه هنا صار مسلما بنفسه ولهذا لا يستوجب الحبس إذا فرغ من العمل فكان هو في هذا الحكم كأجير الواحد بخلاف القصار فالتسليم هناك لا يتم بإقامة العمل بدليل أن له أن يحبس لاستيفاء الأجر .
وهذا الفصل يوهن طريقة الرازي - C - في الفصل الأول ويتبين به أن الصحيح ما قلنا أولا من أن ثبوت الخيار للتغير إلى البدل وقيام البدل مقام الأصل في فسخ العقد فيه حتى أن في هذا الموضع لما لم يجب البدل وهو الضمان لا يمكن فسخ العقد فيما أقام من العمل فكان له من الأجر بحصة ذلك .
وكان أبو حنيفة - C - يقول : في الكراء إلى مكة لا يعطي شيئا من كرائه حتى يرجع من مكة وكذلك كان يقول في جميع من يحمل الحمولة على ظهره أو على دابته أو سفينة ثم رجع عن ذلك فقال كل ما صار مسيرا له من الأجر شيء معروف فله أن يأخذه بذلك وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - وسواء كان الأجر دراهم أو ثوبا أو عبدا أو غير ذلك .
وأصل المسألة أن الأجرة لا تملك بنفس العقد ولا يجب تسليمها به عندنا عينا كان أو دينا وإنما تملك بأحد معان ثلاثة إما التعجيل أو شرط التعجيل أو استيفاء ما يقابله .
وعند الشافعي - C - تملك بنفس العقد ويجب تسليمها عند تسليم الدار أو الدابة إلى المستأجر .
وحجته في ذلك أن هذا عقد معاوضة فمطلقه يوجب ملك البدل بنفسه كعقد البيع والنكاح وهذا لأن ما هو المعقود عليه المنفعة ومنفعة العين في حكم العين فكما يملك البدل في العقد الوارد على العين بنفسه فكذلك في العقد الوارد على المنفعة .
والدليل على أن المنفعة في حكم العين صحة الاستئجار بأجرة مؤجلة وما ليس بعين فهو دين والدين بالدين حرام في الشرع وهذا لأن المنفعة وإن كانت معدومة عند العقد حقيقة فقد جعلت كالموجودة حكما بدليل جواز العقد ولزومه وعقد المعاوضة على المعدوم لا ينعقد ولا يلتزم وللشرع ولاية أن يجعل المعدوم حقيقة موجودا حكما لحاجة الناس إليه كما جعل النطفة في الرحم ولا حياة فيها كالحي حكما في حق الإرث والعتق والوصية وكما جعل الحي حقيقة كالميت حكما والمرتد اللاحق بدار الحرب وإذا صارت موجودة حكما التحقت بالموجود حقيقة فتصير مملوكة بالعقد وكما يصير مملوكا بالعقد حكما يصير مسلما بتسليم الدار بدليل أن المستأجر يملك التصرف فيه بالإجارة من الغير وأنه لو استأجر دارين فانهدمت أحدهما بالقبض لم يكن له خيار في رد الأخرى لتفرق الصفقة بعد التمام بخلاف ما قبل القبض وأنه لو تزوج امرأة على سكنى دار سنة فسلم الدار إليها لم يكن لها أن تحبس نفسها لاستيفاء المنفعة بخلاف ما قبل تسليم الدار إليه ولا يدخل على هذا ما إذا انهدمت الدار فإن المنفعة لا تتلف في ضمان المستأجر لأنا جعلناها كالموجودة المسلمة باعتبار عرضية الوجود في المدة وقد زال ذلك بانهدام الدار وهو كما لو جعلنا النطفة في الرحم كالحي لكونها معدة لذلك فإن زال ذلك بالانفصال ميتا بطل حكم العتق والإرث والوصية له لانعدام المعنى الذي لأجله جعل كالموجود والدليل عليه أن الأجرة تملك بشرط التعجيل ولو كان مقتضى مطلق العقد تأخر الملك في الأجر أو لم تجعل المنفعة كالموجودة حكما لما وجب الأجر بالشرط كما قلتم في الإجارة المضافة إلى وقت في المستقبل ولأن أكثر ما في الباب أن تقام عين الدار مقام المعقود عليه في حق انعقاد العقد فكذلك في ملك البدل كعقد السلم فإن الذمة لما أقيمت مقام المعقود عليه هناك في انعقاد العقد ولزومه ملك البدل به بنفس العقد .
وحجتنا في ذلك : أن هذا عقد معاوضة فيقتضي تقابل البدلين في الملك والتسليم كعقد البيع ثم أحد البدلين وهو المنفعة لم تصر مملوكة بنفس العقد فكذلك الأجرة وهذا لأنه معدوم في نفسه والملك من صفات الموجودات فالمعدوم لا يوصف بشيء سوى أنه معدوم والملك عبارة عن القدرة فلا يتحقق ذلك على المعدوم وإذا لم يملك المعقود عليه في الحال فلو ملك البدل بغير عوض وذلك ليس بقضية المعاوضة ثم عند الحدوث تملك المنفعة بعقد المعاوضة بغير عوض لأن العوض كان مملوكا له من قبل وملكه لا يكون عوضا عن ملكه .
ولا وجه أن يقال إن المنافع التي تحدث في المدة تجعل موجودة حكما لأنه إنما يقدر الشيء حكما إذا كان يتصور حقيقة كما فيما استشهدوا به فإن الحي يتصور فيه الموت والميت يتصور فيه الحياة ولا تصور لوجود المنافع التي تحدث في المدة جملة فلا يجوز أن يقدر حكما فأما جواز العقد ليس باعتبار أن المنفعة تجعل موجودة حكما وكيف يقال هذا والموجود من المنفعة حقيقة لا يقبل العقد فإن المنفعة عرض لا يتصور بقاؤها وقتين والتسليم بحكم العقد يكون عقيبه والجزء الموجود حقيقة لا بقاء له ليسلم عقيب العقد وما لا يتصور فيه التسليم بحكم العقد لا يكون محلا لعقود المعاوضة فلو جعلناها كالموجودة حقيقة لم تقبل العقد .
فبهذا تبين أن جواز العقد لم يكن بالطريق الذي قاله الخصم بل بأحد الطريقين إما بإقامة عين الدار المنتفع بها مقام المنفعة في حق صحة الإيجاب ثم انعقاد العقد في حق المعقود عليه في حكم المضاف إلى وقت الحدوث وهو معنى ما قلنا إن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة وهذا لأن الإيجاب بعد الوجود لا يتحقق وحكم الانعقاد بعد الإيجاب يحتمل التأخير في حكم المحل كالطلاق المضاف والعتق المضاف والوصية والمزارعة على أصل الخصم والمضاربة بالاتفاق أو باعتبار أنه لما تعذر الإيجاب بعد وجود المنفعة سقط اعتبار الوجود فيه شرعا لانعقاد العقد تيسيرا . ولكن عرضية الوجود بكون العين منتفعا بها تكفي لانعقاد العقد كما لو تزوج رضيعة صح النكاح باعتبار أن عرضية الوجود فيما هو المعقود عليه وهو ملك الحل يقام مقام الوجود وعلى الطريقين جميعا إقامة الشيء مقام غيره تكون بطريق الضرورة فتقدر بقدر الضرورة ولا ضرورة في ملك البدل بنفس العقد لأن الملك حكم السبب والحكم قد يتأخر عن السبب وإنما الشرط أن لا يخلو السبب عن الحكم فأما أن يقترن به فلا وفي حكم ملك البدل لا ضرورة فاعتبرنا ما هو الأصل وهو أن يتأخر إلى وجود الملك فيما يقابله .
والدليل عليه أن قبل تسليم الدار لا يجب تسليم الأجر ولو جعلت المنفعة كالعين لكان أول التسليمين على المستأجر كالثمن في بيع العين ولا يقول أن المنفعة دين فإن الدين محله الذمة وهو لا يلتزم المنفعة في الذمة فكيف نقول ذلك وإنما يتحقق العدم عند العقد فما يكون دينا فهو في حكم الموجود بوجود محله ولهذا جعلنا المسلم فيه مملوكا بنفس العقد وجعلنا بدله مملوكا حتى وجب على رب السلم تسليمه بنفس العقد وهذا بخلاف النكاح فالمعقود عليه هناك العين والملك في باب النكاح لا يحتمل التأخر عن السبب فلهذه الضرورة جعلناه كالموجود في حكم الملك .
فأما إذا شرط التعجيل فنقول امتناع الملك بنفس العقد كان بمقتضى مطلق المعاوضة وذلك يتغير بالشرط بمنزلة البيع فإن مقتضى مطلق العقد ملك المبيع بنفس العقد ثم يتأخر بشرط الخيار ومقتضى مطلق البيع وجوب تسليم الثمن بنفس العقد ثم يتعين شرط الأجل بخلاف الإجارة المضافة فإن امتناع ثبوت الملك هنا ليس بمقتضى العقد بل بالتصريح بالإضافة إلى وقت في المستقبل والمضاف إلى وقت لا يكون موجودا قبل ذلك الوقت فلا يتغير هذا المعنى بالشرط .
وإذا ثبت أنه يملك بشرط التعجيل ثبت أنه تملك بالتعجيل أيضا لأنه فوق اشتراط التعجيل وذلك لأن الملك يثبت بالقبض وللقبض تأثير في إثبات الملك فيما لم يملك بنفس العقد كما في الهبة ونفقة الزوجة تملك بالقبض لمدة في المستقبل ولا يملك بنفس العقد ثم كما لا ضرورة في الملك لا ضرورة في التسليم لأنه قد يتأخر التسليم عن العقد فلا يجعل مسلما بتسليم الدار وهذا لأن تأثير التسليم بحكم المعاوضة في نقل الضمان ولما لم ينتقل إلى ضمان المستأجر عرفنا أنه لم يصر مسلما إليه وجواز تصرفه من الوجه الذي يجوز فيه تصرف الآخر لعجزه عن التصرف بعد الوجود حقيقة كما بينا وكذلك في حكم تفرق الصفقة فإنه لا يمكن إثبات ذلك عند القبض حقيقة فتقام الدار فيه مقامه كما في حكم التصرف وصحة تسمية المنفعة صداقا لأنه ليس من ضرورة صحة العقد ملك المسمى بنفس العقد فإنه في حكم البيع عندنا .
ولهذا لو تزوج امرأة على عبد الغير صحت التسمية ويتأخر الملك إلا أن يحصل الزوج ملك العقد لنفسه وإنما يعتبر مجرد تسليم الدار في سقوط حقها في الحبس لوجود الرضاء منها بذلك فإنها لما جعلت الصداق المنافع التي توجد في المدة مع علمها أنه لا يتصور تسليمها جملة فقد صارت راضية بسقوط حقها في الحبس عند تسليم الدار إليها لتحدث المنفعة على ملكها بمنزلة ما لو زوجت نفسها بمهر منجم .
وكان أبو حنيفة - C - يقول أولا في الكراء إلى مكة لا يعطيه شيئا من الكراء حتى يرجع من مكة وهو قول زفر - C - لأن مقصوده لا يتم إلا به ووجوب تسليم الأجر بعد حصول المقصود كما لو استأجر خياطا ليخيط له ثوبا لا يلزمه إيفاء الأجر ما لم يفرغ من العمل ثم رجع فقال كلما سار مسيرا له من الأجر شيء معروف فله أن يأخذه بذلك وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأن العمل بحسبه يصير مسلما وإنما يجب تسليم الأجر عند تسليم ما يقابله وكان ينبغي في القياس أنه كلما سار شيئا ولو خطوة يجب تسليم ما يقابله من الأجر ولكن ذلك القدر لا يعرف فلو أخذنا بالقياس لم نتفرغ إلى شغل آخر بل يسلم الأجر في كل ساعة بقدر ما يستوفي من العمل وذلك بعيد .
وكان الكرخي - C - يقول : كلما سار مرحلة أو في حصته من الأجر .
وعن أبي يوسف - C - قال إذا سار ثلث الطريق طالب بحصته من الأجر لأن هذا القدر من الطريق قد يكتري المرء فيه دابة ثم ينتقل إلى أخرى وعلى هذا لو استأجر دارا مدة معلومة ففي قوله الأول ما لم تنته المدة لا يجب تسليم الأجر وفي قوله الآخر إذا مضى من المدة ماله حصة معلومة من الأجر يجب إيفاء الأجر بحسابه فالكرخي - C - قدر ذلك بيوم وإن عجل الأجر كله فهو جائز لأنه أخذ بالفضل وأوفى قبل وجوب الإيفاء فهو كمن عليه الدين المؤجل إذا عجله وليس له أن يرجع فيما عجل من الأجر لأن المستأجر ملك ذلك بالقبض بعد انعقاد العقد فلا يرجع فيه حال بقاء العقد .
وإن شرط في العقد أن لا يسلم الأجر حتى يرجع أو حتى تنتهي المدة فهو جائز أما في قوله الأول فهذا شرط يوافق مقتضى العقد وفي قوله الآخر هذا اشتراط الأجل في الأجر والأجر قياس الثمن يثبت الأجل فيه إذا كان دينا ولا يصح التأجيل فيه إذا كان عينا ولو أبرأه عن جميع الأجر أو وهبه له .
فإن كان ذلك دينا لم يصح ذلك في قول أبي يوسف الآخر - C - وصح في قوله الأول وهو قول محمد - C تعالى - ولا تبطل به الإجارة وإن كان عينا لم يصح حتى يقبل الآخر فإن قبل بطلت الإجارة لأن المعين من الأجر كالمبيع والمشتري إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض لا تصح الهبة ما لم يقبل فإذا قبل انفسخ العقد .
فأما إذا كان دينا فمن أصحابنا - رحمهم الله - من يقول في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد - رحمهما الله - يجب الأجر بالعقد مؤجلا والإبراء عن الدين المؤجل صحيح .
وفي قوله الآخر : لا يجب بنفس العقد عينا كان أو دينا والإبراء قبل الوجوب لا يصح وعلى هذا الأصل بنوا مسألة المصارفة على هذا ولكن هذا شيء لا يروى عن محمد - C - نصا وفي الجامع بنى المسائل على أن الأجر لا يجب بنفس العقد عينا كان أو دينا .
ولكن وجه قوله الأول أن سبب الوجوب هو العقد والعقد منعقد إلا أن الوجوب تأخر لتأخر ما يقابله والإبراء بعد وجوب سبب الوجوب صحيح كالإبراء عن نفقة العدة مشروطا في الخلع وهذا لأن السبب لما اعتبر في جواز أداء الواجب وأقيم مقام الوجوب فكذلك في الإسقاط .
وجه قوله الآخر أن الإبراء إسقاط وإسقاط ما ليس بواجب لا يتحقق والهبة تمليك وتمليك ما ليس بمملوك لا يصح ولو جاز الإبراء وبقي العقد بملك المستأجر المنفعة عند الاستيفاء بغير عوض وهذا يخالف قضية الإجارة فإنه من حكم الإعارة ولا خلاف بينهما أن الإبراء عن بعض الأجرة قبل استيفاء شيء من المنفعة صحيح لأن هذا بمنزلة الحط فيلتحق بأصل العقد ويصير كأنه عقد في الابتداء بما بقي .
ولو باعه بالأجر متاعا وسلمه إليه فهو جائز لأن الشراء لا يتعلق بالدين المضاف إليه بل بمثله دينا في الذمة .
ألا ترى أنه لو اشترى بالدين المظنون شيئا ثم تصادقا على أن لا دين بقي الشراء صحيحا ثم لما اتفقا على المقاصة بالأجر مع علمهما بأنه لا يجب بنفس العقد فكأنهما شرطا تعجيل الأجر ويجعل ذلك مضمرا في كلامهما لتحصيل مقصودهما كما إذا قال أعتق عبدك عني على ألف درهم يجعل التمليك مضمرا لتحصيل مقصودهما فيصير الأجر بالثمن قصاصا بهذا الطريق ولا يكون للبائع حق حبس المبيع باستيفاء الثمن فإن لم يوفه العمل لعذر رجع عليه بالدراهم دون المتاع لأنه لما انفسخ العقد بعدما صار مستوفيا للأجر بالمقاصة وجب رد ما استوفى كما لو استوفاه حقيقة أو لما انفسخ العقد ظهر أن الأجر غير واجب وأن المقاصة لا تقع به ولكن أصل الشراء بقي صحيحا بثمن في ذمته فيطالبه بالثمن .
وإن باعه المستأجر بالدراهم دنانير ودفعها إليه قبل استيفاء المنفعة فهو جائز في قول أبي يوسف - C - الأول وهو قول محمد - C .
وفي قوله الآخر الصرف باطل فإذا افترقا قبل إيفاء العمل فوجه قوله الأول أنهما لما أضافا عقد الصرف إلى الأجرة فقد قصد المقاصة بها ولا وجه لتحصيل مقصودهما إلا بتقديم اشتراط التعجيل فيقدم ذلك لتحصيل مقصودهما ثم المضمر كالمصرح به .
ولو صرح باشتراط التعجيل ثم صارف به دينارا وقبضه لم يبطل العقد بالافتراق فكذلك إذا ثبت ذلك ضمنا في كل منهما وهو نظير الشراء .
والدليل عليه أن من كفل عن غيره عشرة دراهم بأمره ثم صارف به مع المكفول عنه دينارا قبل أن يؤدي جاز ذلك لوجود السبب .
وإن لم يجب دينه على المكفول عنه ما لم يود مثله وجه قوله الآخر أن وجوب العشرة مقترن بعقد الصرف وما يجب بعقد الصرف إذا لم يقبض حتى افترقا بطل العقد كما لو تصارفا دينارا بعشرة دراهم مطلقا .
وبيان ذلك أن الأجر لم يجب بعقد الإجارة بالاتفاق قبل استيفاء العمل ولا سبب للوجوب بعده سوى الصرف فعرفنا أنه واجب بعقد الصرف والذي قال من أنه يقدم اشتراط التعجيل ليس بقوي لأن الحاجة إلى اشتراط التعجيل للمقاصة به لا لصحة عقد الصرف فعقد الصرف صحيح بدراهم في ذمته وأوان المقاصة بعد عقد الصرف فهب أن شرط التعجيل يثبت مقدما على المقاصة فإنما يكون ذلك بعد عقد الصرف أو معه وبدل الصرف لا يجوز أن يكون قصاصا بدين يجب بعده .
فإن ( قيل ) : يجعل شرط التعجيل مقدما على عقد الصرف لأنه لا يمكن تحصيل مقصودهما وهو المقاصة إلا به .
قلنا : إنما يقدم على العقد بطريق الإجبار ما هو من شرائط العقد ووجوب الأجر ليس من شرائط عقد الصرف بدليل أنه لو نقد العشرة في المجلس كان العقد صحيحا ثم لا يشتغل بالاحتيال لبقاء العقد صحيحا .
( ألا ترى ) أنه لو باعه عشرة وثوبا بعشرة وثوب وافترقا قبل القبض بطل العقد في الدراهم ولو صرفنا الجنس إلى خلاف الجنس لم يبطل ولكن قيل يحتال للتصحيح في الابتداء ولا يحتال للبقاء على الصحة والدليل عليه أن الأجرة إذا كانت بقرة بعينها فصارف بها دينارا وافترقا قبل قبض البقرة لم يصح ولو كان اشتراط التعجيل معتبرا في إبقاء العقد صحيحا لاستوى فيه العين والدين .
وأما مسألة الكفيل فبالكفالة كما وجب للطالب على الكفيل وجب للكفيل على الأصيل ولكنه مؤجل إلى أدائه والمصارفة بالدين المؤجل صحيح وقد بينا ههنا أن الأجر لا يجب بنفس العقد عينا كان أو دينا فيبطل عقد الصرف بالافتراق قبل قبض الدراهم .
وإن مات قبل أن يوفيه العمل وقد حمله بعض الطريق أو لم يحمله فإنه يرد عليه من الدراهم بقدر ما لم يوفه من العمل وفي قوله الأول لأنه صار مستوفيا للأجر بطريق المقاصة فبقدر ما ينفسخ العقد فيه يلزمه رده وفي قوله الآخر الصرف باطل فعليه رد دينار .
وإن شرط في الأجل مدة معلومة فذلك صحيح واعتبار الأجل من حين يجب الأجر لأن الأجل يؤخر المطالبة ولا يتحقق ذلك قبل الوجوب .
وإن كان الأجر شيئا له حمل ومؤنة فلم يشترط له مكان الإيفاء في قياس قول أبي حنيفة - C - العقد فاسد وفي وقول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - هو جائز وهو نظير اختلافهم في المسلم فيه وقد بيناه في البيوع .
فإن قيل : أليس أن الأجر بمنزلة الثمن في البيع ولو كان الثمن شيئا له حمل ومؤنة لا يشترط فيه بيان مكان الإيفاء فكيف يشترط ذلك في الأجر عند أبي يوسف - C .
قلنا : في الثمن إن لم يكن مؤجلا فالإيفاء يجب بنفس العقد ويتعين موضع العقد لإيفائه لأنه مكان وجوب التسليم وإن كان مؤجلا ففيه روايتان عن أبي حنيفة - C .
إحداهما : أنه لا بد من بيان مكان الإيفاء كما في السلم لأن وجوب التسليم الآن عند حلول الأجل ولا يدري في أي مكان يكون عند ذلك فلا يصح العقد إلا ببيان مكان الإيفاء .
وفي الرواية الأخرى يجوز لأن البيع في الأصل يوجب تسليم الثمن بنفسه وباعتبار هذا المعنى يتعين موضع العقد للتسليم لأن في ذلك إمكان وجوب التسليم وإنما تأخر بعارض شرط الأجل لأن شرط الأجل معتبر في تأخير المطالبة لا في نفي الوجوب فبقي مكان العقد متعينا للتسليم بمقتضى العقد فأما السلم فلا يوجب تسليم المسلم فيه عقيب العقد بحال وإنما يوجب ذلك عند سقوط الأجل فلا يتعين مكان العقد فيه للتسليم والإجارة نظير السلم لأن مطلق العقد لا يوجب تسليم الأجر عليه عقيبه بحال فلا يتعين موضع العقد لإيفائه ولا بد من بيان مكان الإيفاء لأن بدون بيان المكان تتمكن فيه جهالة تفضي إلى المنازعة .
فأما عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - فالعقد صحيح هنا كما في السلم إلا أن هناك عندهما يتعين موضع العقد للتسليم لأن وجوب التسليم فيه بنفس العقد وهنا في إجارة الأرض والدار تعين موضع الأرض والدار للإيفاء لأن وجوب الأجر هنا باستيفاء المنفعة لا بنفس العقد والاستيفاء يكون عند الدار فيجب تسلم الأجر في ذلك الموضع وفي الحمولة حيث ما وجب له ذلك وفي العمل بيده حيث يوفيه العمل فإن طالبه به في بلد آخر لم يكلف حمله إليه ولكن يستوثق له منه حتى يوفيه في موضعه لأنه يطالب بإيفاء ما لزمه ولم يلزمه الحمل إلى مكان آخر ولكن يستوثق منه مراعاة لجانب الطالب وله أن يأخذه في الدراهم والدنانير حيث شاء لأنه صار دينا في ذمته وليس له حمل ومؤنة فيطالبه بالإيفاء حيثما لقيه والله أعلم