( قال ) ( الشيخ الإمام الأجل لزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء : القسمة من الحقوق اللازمة في المحل المحتمل لها عند طلب بعض الشركاء وجوازها بالكتاب والسنة ) أما الكتاب فقوله تعالى { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } ( القمر : 28 ) والسنة ما اشتهر من قسمة رسول الله - A - الغنائم بين الصحابة - رضوان الله عليهم - وقسمة المواريث وغير ذلك والناس يعاملون من لدن رسول الله - A - إلى يومنا هذا إنما تجب بعد طلب بعض الشركاء لأن كل واحد من الشريكين قبل القسمة منتفع بنصيب صاحبه فالطالب للقسمة يسأل القاضي أي يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع الغير من الانتفاع بملكه فيجب على القاضي إجابته إلى ذلك .
وفي القسمة شيئان المعادلة في المنفعة وتمييز نصيب أحدهما من نصيب الآخر .
وهي تتنوع نوعين : .
أحدهما : تمييز محض وهو القسمة في المكيلات والموزونات ولهذا ينفرد بعض الشركاء حتى أن المكيل والموزون من جنس واحد إذا كان مشتركا بين اثنين وأحدهما غائب كان للحاضر أن يتناول من ذلك من مقدار نصيبه وبعد ما اقتسما نصيب كل واحد منهما عين ما كان مملوكا له قبل القسمة ولهذا يبيعه مرابحة على نصف الثمن .
ونوع : هو تمييز فيه معنى المبادلة كالقسمة فيما يتفاوت من الثياب الحيوانات فإنما يتميز عند اتحاد الجنس وتقارب المنفعة ولهذا يجبر القاضي عليها عند طلب بعض الشركاء وفيها معنى المبادلة على معنى أن ما يصيب كل واحد منهما مما يصفه كان مملوكا له ونصفه عوض عما أخذه صاحبه من نصيبه ولهذا لا ينفرد به أحد الشريكين ولا يبيع أحدهما نصيبه مرابحة إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بحديث بشير بن يسار عن رسول الله - A - أنه قسم جبريل على ستة وثلاثين سهما جمع ثمانية عشر للمسلمين وسهم رسول الله - A - معهم وثمانية عشر سهما فيها أرزاق أزواج رسول الله - A - ونوائبه واعلم أن خيبر كانت ستة حصون الشق والنطاة والكيبة والسلاليم والغموس والوطيخة إلا أن الأموال والمزارع كانت في ثلاثة حصون منها والنسق والنطاة والكيبة وقد افتتح بعض الحصون منها عنوة وقهرا وبعضها صلحا على ما روي أن كنانة من أبي الحقيق مع قومه صالح على النزول وذلك معروف في المغازي فما افتتح منها كان لرسول الله - A - خالصا فإنهم إنما خرجوا لما وقع في قلوبهم من الرعب وقد خص الله سبحانه وتعالى رسوله A - بالنصرة بإلقاء الرعب في قلوب أعدائه قال - A - ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله { وما أفاء الله على رسوله منهم } ( الحشر : 6 ) إلى قوله { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } ( الحشر : 6 ) فجمع رسول الله - A - تلك الحصة مع الخمس في الشطر وقسم الشطر وبين الغانمين وقد فسر ذلك محمد بن إسحاق والكلبي على ما ذكر بعد هذا عنهما أن النبي - A - قسم خيبر على ثمانية عشر سهما جميعا كانت الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتي فرس وكان على كل مائة رجل فكان علي - Bه - على مائة وكان عبيد السها على مائة وكان عاصم بن عدي - Bه - على مائة وكان القاسم في النسق والنطاة وكانت النسق ثلاثة عشر سهما والنطاة خمسة أسهم وكانت الكتيبة فيها خمس الله وطعام أزواج رسول الله - A - وعطاياه وكان أول سهم خرج من النسق سهم عاصم - Bه - وفيه سهم رسول الله - A - الحديث إلى آخره .
فهذا الحديث يبين معنى الحديث الأول ففي الحديث الأول ذكر الشطرين وأن أصل القسمة كانت على ستة وثلاثين سهما وفي الحديث الآخر ذكر مقدار ما قسم بين الغانمين أنه قسم على ثمانية عشر سهما .
وفيه دليل على أن للإمام في المغانم قسمين قسمة على العرفاء وأصحاب الرايات وقسمة أخرى على الرؤوس الذين هم تحت كل راية وإنما يفعل ذلك لأن اعتبار المعادلة بهذا الطريق أيسر فإنه لو قسم ابتداء على الرؤوس ربما يتعذر عليه اعتبار المعادلة ثم لم يجعل رسول الله - A - باسم نفسه سهما ولكن كان سهمه مع سهم بن عاصم بن عدي - Bه - فقيل أنه تواضع بذلك وقيل إنما فعل ذلك لأنه ما كان يساوي اسمه اسم في المزاحمه عند خروج القرعة ولهذا خرج سهم عاصم بن عدي - Bه - أولا : لأن فيه سهم رسول الله - A - وهذا أولى مما يقوله بعض مشايخنا أن العرافة مذمومة في الجملة فيتحرز من ذلك فإن الجهاد وقسمة الغنائم العرافة غير مذمومة .
( ألا ترى ) أنه اختار لذلك الكبار من الصحابة كعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف - Bهم .
ثم بظاهر الحديث استدل أبو يوسف ومحمد في أن سهم الفرس ضعف سهم الرجل لأنه قال وكانت الرجال ألفا وأربعمائة والخيل أربعمائة فرس فعرفنا أنه كان لكل مائة من الرجال سهم وعرفنا أنه كان لكل مائة من الرجال سهم ولكل مائة من الخيل سهمان ولكن أبو حنيفة يقول المراد بالرجال الرجالة قال الله تعالى { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } ( الحج : 27 ) والمراد بالخيل الفرسان يقال عارت الخيل قال الله { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } ( الإسراء : 64 ) أي بفرسانك ورجالتك فهذا يتبين أن الرجال كانوا ألفا وستمائة وأنه أعطى الفارس سهمين والراجل سهما وفيه دليل أنه لا بأس باستعمال القرعة في القسمة فقد استعمل رسول الله - A - ذلك في قسمة الغنيمة مع نهيه صلوات الله عليه عن القمار فدل أن استعماله ليس من القمار .
وذكر عن مسروق - C - أنه لم يأخذ عن القضاء رزقا ففيه دليل أنه من ابتلي بالقضاء وكان صاحب يسار فالأولى له أن يحتسب ولا يأخذ كفايته من مال بيت المال .
وإن كان لو أخذ جاز له وبيانه بما روي عن عمر - Bه - فيه قال ما أحب أن يأخذ قاضي المسلمين أجرا ولا الذي على الغنائم ولا الذي على المقاسم ولم يرد به حقيقة الأجر فالاستئجار على القضاء لا يجوز ولا يستوجب الأجر على القضاء وإن شرط ولكن مراده الكفاية التي يأخذها القاضي من بيت المال فالمستحب له عند الاستغناء أن لا يأخذ ذلك قال الله تعالى { ومن كان غنيا فليستعفف } ( النساء : 6 ) وقد بينا الكلام في هذا الفصل فيما أمليناه من شرح أدب القاضي والذي على الغنائم يحفظها والذي على المقاسم من وجد كالقاضي لأنه عامل للمسلمين ولكنه ليس بمنزلة القاضي في الحكم حتى يجوز استئجاره على ذلك إن لم يكن له فيه نصيب وتأويل الحديث إذا كان له نصيب في ذلك فاستئجار أحد الشركاء على العمل في المال المشترك لا يجوز كما لا يجوز استئجار القاضي على القضاء ذكر عن يحيى بن جزار أن عبدالله بن يحيى كان يقسم لعلي - Bه - الدور والأرضين ويأخذ على ذلك الأجر وقد بينا فوائد هذا الحديث في أدب القاضي وجواز الاستئجار لعمل القسمة بخلاف عمل القضاء .
وعن عامر أن رسول الله - A - بعث عليا - Bه - إلى اليمن فأتى بركاز فأخذ منه الخمس وترك أربعة أخماسه للواجد .
وأتاه ثلاثة يدعون غلاما كل واحد يقول ابني فأقرع بينهم وقضى بالغلام للذي خرجت قرعته وجعل عليه الدية لصاحبيه قال الراوي فقلت لعامر هل رفع عنه بحصته قال لا أدري أما حكم الخمس في الركاز فقد بيناه في كتاب الزكاة .
وأما حكم القرعة فالشافعي - C - يستدل بظاهر هذا الحديث في المصر على القرعة في دعوى النسب عند الاشتباه .
ولسنا نأخذ بذلك أن فعله هذا كان بعد حرمة القمار أم قبله وأنه عرض ذلك على رسول الله - A - فرضي به أو لم يرض عليه ثم لعل القضاء له بحجة أقامها وكان استعماله القرعة ليطيب القلوب .
وإنما رجحه في القضاء لترجيح في حجته من يد أو غيره وقوله فقضى للذي خرجت قرعته مذكور على سبيل التعريف لا لأن الاستحقاق كان بالقرعة كما يقال قضى القاضي لصاحب الطيلسان وما ذكر في آخره من أنه جعل عليه الدية لصاحبيه مشكل لا يتضح فالحي الحر لا يتقوم بالدية .
وإن كان هذا الغلام مملوكا لهم أو من جارية مشتركة بينهم فإقرار كل واحد منهم أنه ابنه يوجب حرية نصيبه ويسقط حقه في التضمين وكذلك ما أشكل على السائل حيث قال هل رفع عنه بحصته فإن الدية اسم يجمع بدل النفس وقد كان في ذلك حصة الذي قرع فلا بد من أن يرفع عنه بحصته في الموضع الذي يجب كأحد الشركاء في العبد إذا قبله إلا أن عامر لم يحارف ألم يرد ما سمع فقال لا أدري فكأنه لم يتكلف لذلك لعلمه أن هذا ليس بحكم مأخوذ به فبهذا يتبين ضعف هذا الحديث في استعمال القرعة في النسب .
وعن إسماعيل بن إبراهيم قال : خاصمت أخي إلى الشعبي في دار صغيرة أريد قسمتها ويأبى ذلك فقال الشعبي - Bه - لو كانت مثل هذه فخط بيده مقدار آجرة قسمتها بينكم فقال وخطها على أربع قطع .
وفيه دليل على أن القاضي يقسم المشترك عند طلب بعض الشركاء وإن أبى ذلك بعضهم لأن الذي طلب القسمة متظلم من صاحبه أنه يشفع بملكه ولا بنصفه في الانتفاع والذي يتعنت وإنما يبني القاضي قضاءه على التماس المتظلم الطالب للإنصاف دون المتعنت ولهذا لا تجب القسمة فيما لا يحتملها عند طلب بعض الشركاء لأن الطالب هنا متعنة فإنه قبل القسمة ينتفع بنصيبه وبالقسمة تنقطع عنه المنفعة وأما قول الشعبي في مقدار آجرة خطها على الأرض قسمتها بينكم على وجه التمثيل دون التحقيق للمبالغة في دار الذي يأتي القسمة منهما فيما يحتمل لأن مقدار الآجرة يحتمل القسمة وهو نظير قوله - A - ( من بنى مسجدا لله كمفحص قطاه بنى الله له بيتا في الجنة ) والمسجد لا يكون كمفحص القطاة وإنما قال ذلك للمبالغة في بيان الميل .
وقال أبو حنيفة - C - أجرة القسام إذا استأجره الشركاء للقسمة بينهم على عدد الرؤوس لا على مقدار الإنصباء .
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي - رحمهم الله - على مقدار الإنصباء ويستوي في ذلك قاسم القاضي وغيره .
وهو رواية عن أبي حنيفة - C .
وجه قولهم أن هذه مأنة تلحق الشركاء بسبب الملك فيكون بينهم على وجه النفقة على قدر الملك كالنفقة وأجرة الكيال والوزان إن استأجروه ليفعل ذلك فيما هو مشترك بينهم وهذا لأن المقصود هنا بالقسمة أن يتوصل كل واحد منهم إلى الانتفاع بنصيبه ومنفعة نصيب صاحب الكبير أكبر من منفعة نصيب صاحب القليل أو لأن الغرم مقابل بالغنم ثم الغنم بين الشركاء على قدر الملك يعني الثمار والأولاد فكذلك الغرم عليهم بقدر الملك .
ولأبي حنيفة - Bه - أن عمله لهم سواء وإنما يستحق الأجر بذلك فيكون الأجر عليهم بالتسوية كما إذا استوت الإنصباء .
وبيان الوصف أن القسام لا يستحق الأجر بالمساحة ومد الإطناب والمشي على الحدود فإنه لو استعان في ذلك بأرباب الملك استوجب كمال الأجر إذا قسم بنفسه فعرفنا أنه لا يستوجب الأجر بالقسمة وهي تمييز نصيب كل واحد منهم ولا تفاوت بينهم في ذلك فكما يتميز نصيب صاحب الكبير بعمله عن نصيب صاحب القليل يتميز نصيب صاحب القليل عن نصيب صاحب الكبير وربما يكون عمله في نصيب صاحب القليل أكبر والحساب لا يدق إذا استوت الانصباء وإنما يدق عند تفاوت الانصباء وتزداد دقته بقلة بعض الانصباء فلعل تمييز نصيب صاحب القليل أسوأ من تمييز نصيب صاحب الكبير ولكن لا يعتبر ذلك لأن التمييز حصل بعمل واحد وهما في ذلك العمل سواء بخلاف الزوائد فإنها تتولد من الملك فإنما تتولد بقدر الملك وبخلاف النفقة فإنها لإبقاء الملك وحاجة الكبير إلى ذلك أكثر من حاجة صاحب القليل .
ولا معنى لما قال أن منفعة صاحب الكثير هنا أكثر لأن ذلك لكثرة نصيبه لا للعمل الذي استوجب الأجر به فأما أجر الكيال والوزان فقد قال بعض مشايخنا هو على الخلاف فإن المكيل والموزون يقسم بذلك والكيال والوزان بمنزلة القسام .
والأصح أن أبا حنيفة - Bه - يفرق بينهما فنقول هنا إنما لا يستوجب الأجر بعمله في الكيل والوزن .
ألا ترى أنه لو استعان في ذلك بالشركاء لم يستوجب الأجر وعمله في ذلك بالشركاء لم يستوجب الأجر وعمله في ذلك لصاحب الكثير أكثر فكل عاقل يعرف أن كيل مائة قفيز يكون أكثر من كيل عشرة أقفزة فلهذا كانت الأجرة عليهما بقدر الملك بخلاف القسام فذكر أن الأولى أن يجعل لقاسم الأرضين رزقا من بيت المال حتى لا يأخذ من الناس شيئا .
وإن لم يجعل رزقا فقسم بالأجر فهو جائز لأن القسمة ليست كعمل القضاء فالقضاء فرض هو عبادة والقاضي في ذلك نائب عن رسول الله - A - والقسمة ليست من ذلك في شيء ولكنها تتصل بالقضاء لأن تمام انقطاع المنازعة يكون بالقسمة فمن هذا الوجه القسام نائب عن القاضي فالأولى أن يجعل كفايته في مال بيت المال ومن حيث إن عمله ليس من القضاء في شيء يجوز له أخذ الأجر على ذلك والقسام بمنزلة الكاتب للقاضي في ذلك وقد قررنا هذا في أدب القاضي وكذلك ما ذكر بعده من حديث شريح - C - وما لي لا أرتزق استوفي منهم وأوفيهم أصبر لهم نفسي في المجلس وأعدل بينهم في القضاء فقد بينا أن شريحا - C - كان يأخذ كفايته من بيت المال على ما روي أن عمر - Bه - كان يرزقه مائة درهم على القضاء فزاده علي - Bه - وذلك لكثرة عياله حتى جعل له في كل شهر خمسمائة درهم ولعل عاتبه بعض أصدقائه على أخذ الأجر وقال له احتسب فقال شريح في جوابه ما قال ومراده أني فرغت نفسي عن أشغالي لعمل المسلمين فآخذ كفايتي من مال المسلمين .
وكأنه بهذا الكلام أشار إلى الاستدلال بما جعل الله تعالى من النصيب في الصدقات للعامين عليها فإنهم لما فرغوا أنفسهم لعمل الفقراء استحقوا الكفاية في مال الفقراء .
وذكر عن محمد بن إسحاق والكلبي أن رسول الله - A - كان إذا سافر أقرع بين نسائه قالت عائشة - Bها - فاصابتني القرعة في السفرة التي أصابني فيها ما أصابني تريد به حديث الإفك .
واعلم بأن المرأة لا حق لها في القسم عند سفر الزوج فكان لرسول الله - A - أن لا يسافر بواحدة منهن وأن يسافر بمن شاء منهن من غير قرعة ولكنه كان يقرع بينهن تطييبا لقلوبهن فاستعمال القرعة في مثل هذا الموضع جائز عند العلماء أجمع - رحمهم الله - وبهذا الحديث قلنا إذا تزوج أربع نسوة فله أن يقرع بينهن لابدائه بالقسم لأن له أن يبدأ بمن شاء منهن فيقرع بينهن تطييبا لقلوبهن ونفيا لتهمة الميل عن نفسه .
وإنما أورد الحديث للحكم المذكور بعده أنه لا بأس للقسام أن يستعجل القرعة في القسمة بين الشركاء قاسم القاضي وغيره في ذلك سواء وهو استحسان .
وفي القياس هذا لا يستقيم لأنه في معنى القمار فإنه تعليق الاستحقاق بخروج القرعة والقمار حرام ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمال القرعة في دعوى النسب ودعوى الملك وتعيين العتق ثم هذا في معنى الاستقسام بالإزلام الذي كان بعبادة أهل الجاهلية وقد حرم الله تعالى ذلك ونص على ذلك أنه رجس وفسق .
ولكنا تركنا بالسنة والتعامل الظاهر فيه من لدن رسول الله - A - إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ثم هذا ليس في معنى القمار ففي القمار أصل الاستحقاق يتعلق بما يستعمل فيه وفي هذا الموضع أصل الاستحقاق بكل واحد منهم لا يتعلق بخروج القرعة ثم القاسم لو قال عدلت أنا في القسمة فخذ أنت هذا الجانب وأنت هذا الجانب كان مستقيما إلا أنه ربما يتهم في ذلك فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه وذلك جائز .
ألا ترى أن يونس - عليه السلام - في مثل هذا استعمل هذا القرعة مع أصحاب السفينة كما قال الله تعالى { فساهم فكان من المدحضين } ( الصافات : 141 ) وهذا لأنه علم أنه هو المقصود ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما ينسب إلى مالا يليق بالأنبياء عليهم السلام فاستعمل القرعة لذلك وكذلك زكريا عليه السلام استعمل القرعة مع الأحبار في ضم مريم عليها السلام إلى نفسه وقد كان علم أنه أحق بها منهم لأن خالتها كانت تحته ولكن استعمل القرعة تطييبا لقلوبهم قال الله تعالى { إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } ( آل عمران : 144 ) ثم إن كان القاضي هو الذي يقسم بالقرعة أو نائبه فليس لبعض الشركاء أن يأبى ذلك بعد خروج بعض السهام كما لا يلتفت إلى إباء بعض الشركاء قبل خروج القرعة .
وإن كان القاسم يقسم بينهم بالتراضي فرجع بعضهم بعد خروج بعض السهام كان له ذلك إلا إذا خرجت السهام كلها إلا واحدا لأن التمييز هنا يعتمد التراضي بينهم فلكل واحد منهم أن يرجع قبل أن يتم وبخروج بعض السهام لا يتم فكان هذا كالرجوع عن الإيجاب قبل قول المشتري فأما إذا خرج جميع السهام إلا واحدا فقد تمت القسمة لأن نصيب ذلك الواحد تعين خرج أو لم يخرج فلا يملك بعضهم الرجوع بعد تمام القسمة .
( دار بين ورثة اقتسموها وفضلوا بعضا على بعض بفضل قيمة البناء على بعض بفضل قيمة البناء والموضع فهو جائز ) لأنه يعتبر في القسمة المعادلة في المالية والمنفعة ولا يتأتى ذلك في المساواة في الزرع والبناء يكون في جانب دون جانب وبعض العرصة تكون أفضل قيمة من البعض وأكثر منفعة فإن مقدم الدار يرغب فيه ما لا يرغب في مؤخره وفي اعتبار هذه المعادلة لا بد من تفضيل البعض على البعض في المساحة .
وإن اقتسموا الأرض مساحة والبناء والقيمة قيمة بقيمة عدل فهو جائز عند التراضي لا يشكل وكذلك إذا قضى القاضي به لأن المعادلة في الأرض باعتبار المساحة تتيسر وقد يتعذر ذلك في البناء لما بين الأبنية من التفاوت العظيم في القيمة فقسمة البناء بالتقديم تكون أعدل وإذا جاز قسمة الكل باعتبار القيمة فقسمة البعض كذلك .
وإن كان البناء حين اقتسموا الأرض غير معروف القسمة فهذا في القياس لا يكون لأن البناء والأرض تتناولهما قسمة واحدة .
وإذا لم تعرف قيمة البناء فقد تعذر تصحيح القسمة في البناء للجهالة فلا تصح القسمة في الأرض أيضا كما هو الأصل في العقد الواحد إذا فسد في بعض المعقود عليه فسد في الكل .
ولكنا استحسنا وجوزنا هذا لمعنيين : .
( أحدهما ) : أنهم ميزوا البناء عن الأرض في هذه القسمة حين خالفوا بينهما في طريق القسمة فاعتبروا في الأرض المعادلة في المساحة وفي البناء المعادلة في القيمة فصار بمنزلة أرضين يقسم كل واحدة منهما قسمة على حدة وفي ذلك تصح القسمة في أحديهما قبل ظهور المساحة في الأخرى فكذلك هنا تجوز القسمة في الأرض قبل أن يظهر قيمة البناء .
( والثاني ) : أن حكم القسمة في الأرض لا يتم بالمساحة ولكن يتوقف تمام القسمة فيها على معرفة قيمة البناء وقسمتها بالقيمة لا تتم القسمة إلا بعد ظهور المعادلة في الكل ومعرفة كل واحد من الشركاء نصيبه وإنما يعتبر حال تمام العقد .
وإذا كان يتم في المعلوم لم تضرهم الجهالة في الابتداء كما لو اشترى أحد الثياب الثلاثة على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء ويسمى لكل واحد ثمنا .
وإذا كانت الدار ميراثا بين قوم حضور كبار تصادقوا عند القاضي عليها وأرادوا القسمة بها فإن فعلوا ذلك عن تراضي منهم لم يمنعهم القاضي من ذلك لأن هذا تصرف منهم فيما بقي في أيديهم بطريق مشروع .
ولو تصرفوا في ذلك ببيع أو هبة لم يمنعوا منه فكذلك بالقسمة .
وإن سألوا القاضي أن يقسمها بينهم فإن أبا حنيفة قال : القاضي لا يقسم العقار بينهم بإقرارهم حتى تقوم البينة على أصل الميراث .
وقال أبو يوسف ومحمد : يقسمها بينهم ويشهد أنه قسمها بإقرارهم وقضى بذلك عليهم دون غيرهم لأن اليد فيها لهم ومن في يده شيء فقوله مقبول فيه ما لم يحضر خصم ينازعه في ذلك وليس هنا خصم ينازعهم فلا حاجة لهم إلى إقامة البينة لإثبات ملكهم فيها .
وإذا كان الملك ثابتا لهم بقولهم إنما سألوا القاضي أن يقسم بينهم ملكهم فعليه أن يجيبهم إلى ذلك كما لو زعموا أن الدار مملوكة لهم ولم يذكروا ميراثا ولا غيره وسألوه أن يقسمها بينهم قسمهم القاضي بطلبهم وأشهدوا أنه قضى بذلك عليهم دون غيرهم نظرا منه لغائب عسى يحضر فيدعي لنفسه فيها حقا فكذلك هنا .
والدليل عليه : أنه لو كانت في أيديهم عروض أو منقول سوى العقار فأقروا أنها ميراث بينهم وطلبوا قسمتها قسمها القاضي بإقرارهم وأشهد على أنه قسمها بإقرارهم لاعتبار يدهم فكذلك في العقار لأن اليد تثبت على العقار كما تثبت على المنقول .
وكذلك لو كان في أيديهم دار فأقروا أنها دارهم اشتروها من فلان الغائب وسألوا القاضي قسمتها أجابهم القاضي إلى ذلك بهذا الطريق فكذلك في الميراث إذ لا فرق بينهما لأنهم في الموضعين أقروا بأصل الملك لغيرهم ثم أخبروا بانتقال الملك إليهم بسبب محتمل مشروع فإذا جاز له أن يعتمد القسمة على قولهم فكذلك في الشراء وكذلك في الميراث ولأبي حنيفة - C - طريقان أحدهما : على قولهم في أن قضاء القاضي هنا يتناول الميت ويصير هو مقضيا عليه بقسمة القاضي وقولهم ليس بحجة عليه فلا بد لهم من إقامة البينة ليثبت بها حجة القضاء على الميت وبيانه من وجهين : .
( أحدهما ) : أن التركة قبل القسمة مبقاة على ملك الميت بدليل أن حقه يثبت في الزوائد التي تحدث حتى يقضي منه ديونه وينفذ وصاياه وبالقسمة ينقطع حق الميت عن التركة حتى لا يثبت حقه فيما يحدث بعد ذلك من الزوائد فكان فيه قضاء على الميت يقطع حقه .
( والثاني ) : أن القاضي يثبت له الولاية على الميت في تركته فيما يرجع إلى النظر وينفذ تصرفه إليه إذا كان فيه نظر للميت فبم يخبرون القاضي بثبوت ولايته على الميت ليلزم الميت قضاؤه فيما يرجع إلى النظر وذلك أمر وراء ما في أيديهم فلا يكون قولهم في ذلك حجة فيكلفهم إقامة البينة على ذلك وتقبل هذه البينة من غير خصم لأنها تقوم لإثبات ولاية النظر للقاضي في حق من هو عاجز عن النظر لنفسه وهذا بخلاف ما إذا اقتسموا بأنفسهم لأن فعلهم لا يلزم الميت شيئا وبخلاف العروض لأن معنى النظر للميت هناك في القسمة من وجهين : .
( أحدهما ) : أن العروض يخشى عليها النوى والتلف وفي القسمة تحصين وحفظا لها فأما العقار محصنة بنفسها لا يخشى عليها التلف ففي القسمة قضاء على الميت يقطع حقه عنها .
( والثاني ) : أن في العروض ما يأخذه كل واحد منهم بعد القسمة يصير مضمونا عليه بالقبض في حق غيرهم ففي جعل ذلك مضمونا عليهم معنى النظر للميت وذلك لا يوجد في العقار فإنها لا تصير مضمونة على من أثبت يده فيها عند أبي حنيفة - C - وهذا بخلاف ما زعموا أنها مملوكة لهم لأن القضاء بالقسمة هناك لا يقتصر عليهم ولا يتعدى إلى غيرهم إذ لم يثبت فيها أصل الملك لغيرهم .
فأما في الشراء فقد روي عن أبي حنيفة - C - في غير الأصول أن القاضي لا يقسمها بينهم وسوى بين الشراء والميراث .
ولكن على هذا الطريق نسلم كما هو ظاهر الرواية فنقول قضاؤه بالقسمة في المشتري لا يتضمن قطع حق البائع لأن بعد البيع والتسليم لا يبقى المبيع على حكم ملك البائع لخلاف الميراث ولأنه لا يثبت للقاضي الولاية على الغائب بالتصرف في أمواله فهم ما أخبروا القاضي بثبوت ولايته على البائع الغائب بخلاف الميراث على ما قررنا .
والطريق الآخر لأبي حنيفة أنه لا يتمكن من القضاء بالقسمة حتى يقضي بموت المورث ويتعلق بموته أحكام غير مقصودة على ما في أيديهم من وقوع التفريق بينه وبين زوجته وعتق أمهات أولاده ومدبراته وحلول آجاله وقولهم ليس بحجة في شيء من ذلك فلا يشتغل القاضي بالقسمة حتى تقوم البينة عنده على الموت وأصل الميراث بخلاف العروض فالقسمة فيها للتحصين لا لتحصيل الملك .
( ألا ترى ) أن القسمة في العروض تجري بين المودعين للحفظ فلا يتضمن القضاء بموته فأما في العقار القسمة لتحصيل الملك ولا يكون ذلك إلا بعد القضاء بموته وعلى هذا الطريق يأخذ في مسألة الشراء برواية النوادر لأنه لا يتمكن من القضاء بالقسمة حتى يقضي بالبيع وزوال ملك البائع وقولهم ليس بحجة عليه ولئن سلمنا فنقول الحكم المتعلق بالبيع هناك مقصود على ما في أيديهم فيستقيم أن يجعل ذلك نائبا في حقهم بإقرارهم بخلاف الميراث .
وإذا كان في الورثة صغير أو كبير غائب والدار في أيدي الكبار الحضور فكذلك الجواب عند أبي حنيفة - C - لا يقسمها القاضي بينهم حتى تقوم البينة على أصول المواريث لأنها لما لم يقسم في الفصل الأول مع أن الورثة كلهم كبار حضور ففي هذا الفصل أولى أن لا يقسم لأن في قسمته قضاء على الغائب والصغير بقولهم .
وعلى قول أبي يوسف ومحمد يقسمها بينهم ويعزل حق الغائب والصغير ويشهد أنه قسمها بإقرار الحضور الكبار وأن الغائب والصغير على حجتهما كما في الفصل الأول لأن الدار كلها في يد الكبار الحضور وليس في هذه القسمة قضاء على الصغير والغائب بإخراج شيء من يدهما بل فيها نظر لهما بظهور نصيبهما مما في يد الغير فإنه بالقسمة يعزل نصيب الغائب والصغير وكان هذا محض نظر في حق الغائب والصغير وللقاضي هذه الولاية .
وإن كان شيء من العقار في يد الصغير أو الغائب لم أقسمها بإقرار الحضور حتى تقوم البينة على أصل الميراث لأن في هذه القسمة قضاء على الغائب والصغير بإخراج شيء مما كان في يده عن يده وكذلك إن كان الكبير أودع ما كان في يده منها رجلا حين غاب لأن المودع أمين فلا يكون خصما في ذلك ولا يجوز للقاضي أن يقضي على الغائب بحضور أمينه فلهذا لا يقسم حتى تقوم البينة .
فإذا قامت البينة قبلها القاضي لأنها تقوم لإثبات ولاية القاضي في تركة الميت ولأن الورثة يخلفون الميت في الميراث فينتصبون خصما عنه وينصب بعضهم خصما عن بعض فقل ما تخلو تركة عن هذا فإن الورثة يكثرون وقل ما يحضرون فلو لم يقبل القاضي البينة ولم يقسمها لمكان غائب أو صغير أدى إلى الضرر والضرر مدفوع .
وكذلك إذا حضر القاضي اثنان من الورثة والعقار في أيديهما وأقاما البينة على أصل الميراث فإن القاضي يقسمها بينهم ويوكل بنصيب الغائب والصغير من يحفظه لأنه يجعل أحد الحاضرين خصما عن الميت وعن الصغير والغائب والآخر خصما عن نفسه فيتمكن من قبول هذه البينة والعمل بها بحضور مدع ومدعى عليه .
وإذا كان الحاضر واحدا لم يقسمها القاضي ولم يقبل منه البينة لأنه ليس معه خصم فإن الحاضر لو كان خصما عن نفسه فليس هنا خصما عن الميت وعن الغائب .
وإن كان هذا الحاضر خصما عنهما فليس هنا من يخاصم عن نفسه ليقيم البينة عليه بذلك بخلاف ما إذا كان الحاضر اثنين من الورثة .
والثاني : أن الحاضر إذا كان واحدا فهو غير متظلم في طلب القسمة ولا طالب للإنصاف إذ ليس معه من ينتفع بملكه حتى يقول للقاضي أقسمها بيننا لكيلا ينتفع بملكي غيري .
فإذا حضر اثنان فكل واحد منهما يطلب القسمة ليسأل القاضي أن يمنع صاحبه من الانتفاع بنصيبه وذلك مستقيم وإن كان فيهم خصم صغير جعل له القاضي وصيا لأن للقاضي ولاية النظر للصبي في نصيب الوصي ووصي الصغير قائم مقام الصغير فكأنه بالغ حاضر فتقبل البينة حينئذ ويأمر بالقسمة باعتبار أنه يجعل أحدهما مدعيا والآخر مدعى عليه وأحدهما خصما عن نفسه والآخر عن الميت والغائب .
وإن كان العقار شراء بينهم ومنهم غائب لم أقسمها بينهم وإن أقاموا البينة على الشراء حتى يحضر الغائب لأن في الميراث إنما قسمها عند حضور جماعة منهم لتعذر اشتراط حضورهم عند القسمة بطريق العادة وهذا لا يوجد في الشراء فقد كانوا حاضرين عند الشراء فتيسر اشتراط حضورهم عند القسمة أيضا ولأن الحاضر من المسيرين لا ينتصب خصما عن الغائب لأن النائب بالشراء لكل واحد منهم ملك جديد بسبب باشره في نصيبه ولا يجوز القضاء على الغائب بالبينة إذا لم يكن عنه خصم حاضر .
فأما في الميراث لا يثبت للورثة ملك متجدد بسبب حادث وإنما ينسب إليهم ما كان من الملك للمورث بطريق الخلافة ولهذا يثبت لهم حق الرد بالعيب على بائع المورث ويصح إقالتهم معه فيستقيم أن يجعل بعضهم خصما عن البعض في ذلك لاتحاد السبب في حقهم وهو الخلافة عن الميت .
وإذا كانت الدار ميراثا وفيها وصية بالثلث وبعض الورثة غائب وبعضهم شاهد فأراد الموصى له بالثلث القسمة وأقام البينة على المواريث والوصية فإن الدار تقسم على ذلك لأن من حضر من الورثة ينتصب خصما عن الميت وعن سائر الورثة فتقبل بينة الموصى له بذلك عليهم وإذا قبلت بينته قسمت الدار بينهم على ذلك .
ولو أن بيتا في دار بين رجلين أراد أحدهما قسمته وامتنع الآخر وهو صغير لا ينتفع واحد منهما بنصيبه إذا قسم لم يقسمه القاضي بينهما لأن الطالب للقسمة بينهما متعنت فإن قبل القسمة يتمكن كل واحد منهما من الانتفاع بنصيبه وبالقسمة يفوت ذلك فالطالب منهما إنما يقصد التعنت والإضرار بشريكه فلا يجيبه القاضي إلى ذلك وكذلك لا يقسم الحائط والحمام بين رجلين لأن في قسمته ضررا والمقصود بالقسمة اتصال منفعة الملك إلى كل واحد من الشركاء وفي الحائط والحمام تفوت المنفعة بالقسمة لأن كل واحد منهما لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة كما كان ينتفع قبل القسمة فلا يقسمه القاضي بينهم لأنه لا يشتغل لما لا يفيد ولا بما فيه إضرار .
ولو اقتسموا بينهم بالتراضي لم يمنعهم من ذلك لأنهم لو أقدموا على إتلاف الملك لم يمنعهم من ذلك في الحكم فكذلك إذا تراضوا القسمة فيما بينهم .
فإن كانت دار بين رجلين ولأحدهما فيها بعض قليل لا ينتفع به إذا قسم فأراد صاحب الكثير القسمة قسمها بينهم وإن أبى ذلك صاحب القليل عندنا .
( وقال ) ابن أبي ليلى - C - لا يقسمها وكذلك إن كان سائر الشركاء لا ينتفعون بانصبائهم إلا هذا الواحد الطالب للقسمة فإنه يقسمها بينهم وإن كان الطالب صاحب القليل لم يقسمها إذا كان هو لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة وعلى قول ابن أبي ليلى - C - لا يقسمها عند إباء بعضهم إلا إذا كان كل واحد منهم ينتفع بنصيبه بعد القسمة لأن المقصود بالقسمة تحصيل المنفعة لا تفويتها والمعتبر في القسمة المعادلة بين الشركاء في المنفعة فإذا كان بعضهم لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة فهذه قسمة تقع على ضرر والقاضي لا يجبر الشركاء على مثله كما لو كان الطالب من لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة .
ولنا أن الطالب للقسمة يطلب الإنصاف من القاضي ولا يتعنت لأنه يطلب منه أن يخصه بالانتفاع بملكه ويمنع غيره من الانتفاع بملكه وهذا منه طلب للأصناف فعلى القاضي أن يجيبه إلى ذلك بخلاف ما إذا كان الطالب للقسمة من لا ينتفع بنصيبه لأنه متعنت في طلب القسمة والقاضي يجيب المتعنت بالرد يوضحه أن بعد القسمة وإن تعذر على صاحب القليل الانتفاع بنصيبه فذلك لقلة نصيبه لا لمعنى من جهة صاحب الأكبر وذلك لا يعتبر في حق صاحب الكبير فيصير هذا في حقه وما إذا كان كل واحد منهما ينتفع بنصيبه بعد القسمة سواء .
والحاكم في المختصر ( قال ) : ( إذا كان الضرر على أحدهما دون الآخر قسمتها أيهما طلب القسمة ) وهذا غير صحيح والصحيح أنه إنما يقسم إذا طلب ذلك صاحب الكبير خاصة .
ومنهم من صحح ما ذكره الحاكم - C - وقال صاحب القليل رضي بالضرر حين طلب القسمة وصاحب الكبير منتفع بالقسمة فيقسمه القاضي بينهم لهذا .
ولكن الأول أصح لأن رضاه بالتزام الضرر لا يلزم القاضي شيئا وإنما الملزم طلبه الإنصاف من القاضي واتصاله إلى منفعة ملكه وذلك لا يوجد عند طلب صاحب القليل .
ألا ترى أن كل واحد منهما إذا كان بحيث لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة وطلبا جميعا القسمة من القاضي لم يقسمها القاضي بينهما فكذلك إذا كان الطالب من لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة والرجال والنساء والحر والمملوك .
وأهل الإسلام وأهل الذمة في القسمة سواء لأنها من حقوق الملك والمقصود التوصل بها إلى منفعة الملك وهم في ذلك سواء .
وإذا اقتسم الرجلان دارا ورفعا بينهما طريقا فهو جائز لأنهما قسما بعض المشترك وبقيا شركتهما في البعض وهو موضع الطريق فيجوز ذلك اعتبارا للبعض بالكل ولأن المقصود بالقسمة أن ينتفع كل واحد منهما بنصيبه وإنما يتم ذلك إذا رفعا طريقا بينهما وما يرجع إلى تتميم المقصود بالقسمة لا يكون مانعا صحتها .
وإن كان نصيب أحدهما أكثر من نصيب الآخر ينبغي أن يبين ذلك في كتاب القسمة ويذكر كيف الطريق بينهما لأنه بقي في موضع الطريق ما كان لهما من الشركة في جميع الدار وقد كانت شركتهما فيها على التفاوت فإنما يحصل التوثق أن يبين ذلك في كتاب القسمة لأنهما إذا لم يبينا ذلك فربما يدعي صاحب الأقل المساواة بينهما في رقبة الطريق .
ويحتج على ذلك بأنه مساو في استعماله بالتطرق فيه وإنما يكتب الكتاب بينهما للتوثق فينبغي أن يكتب على وجه يحصل به معنى التوثق لهما .
وإذا كانت الدار بين رجلين وفيها صفة فيها بيت وباب البيت في الصفة ومسيل ماء ظهر البيت على ظهر الصفة فاقتسما فأصاب الصفة أحدهما وقطعه من الساحة ولم يذكر طريقا ولا مسيل ماء وصاحب البيت يقدر أن يفتح بابه فيما أصابه من الساحة ويسيل ماءه في ذلك فأراد أن يمر في الصفة على حاله ويسيل ماءه على ما كان فليس له ذلك سواء اشترط كل واحد منهما أن له ما أصابه بكل حق له أو لم يشترط ذلك والقسمة في هذا بخلاف البيع فإنه لو باع البيت وذكر في البيع الحقوق والمرافق دخل الطريق ومسيل الماء .
وإن لم يذكر الحقوق والفرق أن المقصود بالبيع إيجاب الملك وقصد المشتري أن يتمكن من الانتفاع وذلك إنما يتم بالطريق والمسيل لا أن ذلك خارج من المحدود فلا يدخل في البيع بمطلق التسمية للبيت إلا بذكر الحقوق والمرافق فالمقصود بالقسمة تمييز أحد الملكين من الآخر وأن يختص كل واحد منهما بالانتفاع بنصيبه على وجه لا يشاركه الآخر فيه وإنما يتم هذا المقصود إذا لم يدخل الطريق والمسيل لتمييز نصيب أحدهما عن الآخر من كل وجه فلهذا لا يدخل مع ذكر الحقوق والمرافق .
توضيح الفرق : أن المقصود بالبيع الاسترباح وذلك باعتبار المالية والمالية تختلف بدخول الطريق والمسيل في البيع فعند ذكر الحقوق والمرافق عرفنا أنهما قصدا ذلك فأما في القسمة المقصود التمييز دون الاسترباح فبذكر الحقوق والمرافق لا يتبين أنهما لم يقصدا التمييز في أن لا يبقى لأحدهما في نصيب الآخر طريق ميسل ماء .
ولو لم يكن له مفتتح للطريق ولا مسيل ماء فإنه ذكر في كتاب القسمة أن لكل واحد منهما ما أصابه بكل حق له جازت القسمة وكان طريقه في الصفة ومسيل مائة على طريق سطحه كما كان قبل القسمة .
وإن لم يذكر الحقوق والمرافق فالقسمة فاسدة بخلاف البيع فإنه يكون صحيحا وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لأن المقصود بالبيع ملك العين وهذا المقصود يتم للمشتري .
وإن كان يتعذر عليه الانتفاع لعدم الطريق والمسيل له كمن اشترى مهرا صغيرا أو أرضا سبخة فإنه يجوز وإن كان لا ينتفع بالمشتري وهذا لأنه ترك النظر لنفسه حين لم يذكر الحقوق والمرافق ليدخل الطريق والمسيل فلا يشتغل بالنظر له فأما في القسمة المقصودة اتصال كل واحد منهما إلى الانتفاع بنصيبه فإذا لم يكن له مفتتحا إلى الطريق ولا مسيل ماء فهذه قسمة وقعت على ضرر يجوز إلا أن يذكر الحقوق والمرافق فيستدل بذلك على أنهما قصد إدخال الطريق والمسيل لتصحيح القسمة لعلمها أن القسمة لا تصح بدونهما في هذا الموضع بخلاف ما سبق .
توضيحه : أن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة وإذا لم يكن له طريقا ولا مسيل ماء لا يحصل معنى المعادلة في المنفعة فلا تصح القسمة كما لو استأجر مهرا صغيرا أو أرضا سبخة للزراعة لم يجز لفوات ما هو المقصود وهو المنفعة فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن يدخل الطريق والمسيل .
وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لتصحيح القسمة كما إذا استأجر أرضا دخل الشرب والطريق .
وإن لم يذكر الحقوق والمرافق لتحصيل المنفعة قلنا هناك موضع الشرب والطريق ليس مما تتناوله الإجارة ولكن يتوصل به إلى الانتفاع بالمستأجر والأجير إنما يستوجب الأجرة إذا تمكن المستأجر من الانتفاع ففي إدخال الشرب توفير المنفعة عليهما وأما هنا موضع الطريق والمسيل داخل في القسمة وموجب القسمة اختصاص كل واحد منهما بما هو نصيبه فلو أثبتنا لأحدهما حقا في نصيب الآخر تضرر به الآخر ولا يجوز إلحاق الضرر به بدون رضاه وإنما دليل الرضا اشتراطه الحقوق والمرافق فلهذا لا يدخل الطريق والمسيل بدون ذكره الحقوق والمرافق .
ولو رفعا طريقا بينهما وكان على الطريق ظلة وكان طريق أحدهما على تلك الظلة وهو يستطيع أن يتخذ طريقا آخر فأراد صاحبه أن يمنعه من المرور على ظهر الظلة لم يكن له ذلك لأن أصل الطريق مشترك بينهما وكما أن أسفله ممر لهما فكذلك أعلاه فهو لا يريد بهذا أن يحدث لنفسه حقا في نصيب شريكه وإنما يريد أن يستوفي حقه فلا يمنع من ذلك بخلاف ما تقدم فهناك إنما يريد اتخاذ طريق ومسيل لنفسه في ملك خص به صاحبه وليس له ذلك .
وكان أبو حنيفة - C - يقول في العلو الذي لا سفل له وفي السفل الذي لا علو له يحسب في القسمة ذراع من السفل بذراعين من العلو .
وقال أبو يوسف - C - يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف ثم ينظر كم جملة ذرع كل واحد منهما فيطرح من ذلك النصف .
وقال محمد - C - يقسم ذلك على القيمة قيمة العلو أو قيمة السفل .
وقيل : إن أبا حنيفة - C - أجاب بناء على شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار السفل على العلو وأبو يوسف - C - أجاب بناء على ما شاهده من عادة أهل بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى ومحمد شاهد اختلاف العاد