( قال ) ( وإذا وكل الرجل الرجل أن يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة فأسلمها الوكيل بشروط السلم ودفع الدراهم من عنده فهو جائز ) لأن السلم عقد تمليك الآمر بمباشرته بنفسه فيجوز منه توكيل غيره به كبيع العين لأن الوكيل يقوم مقام الموكل في تحصيل مقصوده وهذا عقد يملك المأمور مباشرته لنفسه فيصح منه مباشرته لغيره بأمره كالبيع لأن العاقد باشر العقد بأهليته وولايته الأصلية سواء باشر لنفسه أو لغيره والأصل فيه قوله تعالى { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } ( الكهف : 19 ) الآية ومن دفع إلى آخر دراهم ليشتري بها شيئا فإن المدفوع إليه يكون وكيلا من جهة الدافع وري عن النبي - A - أنه دفع إلى حكيم ابن حزام أو إلى عروة البارقي - Bهما - دينارا ليشتري له به أضحية فدل أن التوكيل جائز في البيع فكذلك في السلم لأن السلم نوع بيع على ما عرف وكذلك الناس تعاملوا من لدن رسول الله - A - إلى يومنا هذا التوكيل في البيع والسلم جميعا .
فإذا عرفنا هذا فنقول الوكيل في السلم كالعاقد لنفسه في حقوق العقد حتى تتوجه عليه المطالبة بتسليم رأس المال دون الموكل وكذلك حق قبض المسلم فيه عند حلول الأجل يكون للوكيل دون الموكل وهذا عندنا .
وعند الشافعي - C - ذلك للموكل كله وعليه .
وأصل المسألة في البيع فإن حقوق العقد في البيع والشراء تتعلق بالوكيل عندنا .
وعند الشافعي - C بالموكل .
( قال ) ( لأن الوكيل سفير ومعبر عنه بمنزلة الرسول فإذا عقد العقد خرج من الوسط وصار في الحكم كأن الموكل عقده بنفسه ) ألا ترى أن ما هو حكم العقد وهو الملك يثبت للموكل دون الوكيل فكذلك في سائر أحكامه وشبه هذا الوكيل بالنكاح فإنه لا يتوجب عليه المطالبة بالصداق ولا يكون له حق قبض المعقود عليه بل ذلك كله للموكل والجامع بينهما أن كل واحد منهما عقد معاوضة فتتعلق أحكامه بمن قصد تحصيله لنفسه دون من عبر عنه ولنا أن العاقد هو الوكيل وسبب تعلق حقوق العقد بالمرء مباشرته العقد وثبوت الحكم باعتبار السبب فإذا كان هو العاقد حقيقة وحكما تتعلق حقوق العقد به كما لو باشر العقد لنفسه وهذا لأن ولايته مباشرة العقد باعتبار أهليته وباعتبار كون ما هو ركن العقد وهو الكلام من خالص حقه وذلك لا يختلف بمباشرته لنفسه أو لغيره ونفوذه شرعا باعتبار ولايته الأصلية لا أن يثبت له بأمر الموكل إياه ولاية لم تكن ثابتة من قبل هذا لبيان أنه عاقد حقيقة وشرعا ومن حيث الحكم فلأنه مستغن عن إضافة العقد إلى الموكل ولو كان معبرا عنه لم يستغن عن ذكره عند العقد فثبت أنه عاقد حكما مباشر للعقد بخلاف الرسول فإنه عبارة عن مبلغ الأمر إلى من أرسل إليه ولا يستغنى عن الإضافة إليه وكذلك الوكيل بالنكاح فإنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل حتى لو قال تزوجتك كان النكاح له دون الموكل .
فأما حكم العقد وهو الملك ففيه طريقان : .
( أحدهما ) : أنه يثبت للوكيل ثم ينتقل منه إلى الموكل من ساعته كما اتفقا عليه بالتوكيل السابق ومباشرته السبب تستدعي ثبوت الحكم إلا أنه يستقر له فيثبت أولا له ثم ينتقل منه إلى غيره ولهذا لو كان قريبه لا يعتق عليه ولو كانت زوجته لا يفسد النكاح لأن ذلك يستدعى ملكا مستقرا ولا يثبت ذلك للوكيل .
وعلى الطريق الآخر وهو الأصح لسبب انعقد حكمه موجبا للوكيل إلا أن الموكل قام مقامه في ثبوت الملك له بالتوكيل السابق فيثبت للموكل على وجه الخلافة عن الوكيل كالعبد يقبل الهبة والصدقة ويصطاد فيقع الملك فيه لمولاه على وجه الخلافة وإذا ثبت أن الوكيل كالعاقد لنفسه كان هو المطالب بتسليم رأس المال فإذا نقده من عنده رجع بمثله على الأمر لأنه نقد مال نفسه في عقد حصل مقصود ذلك العقد للآمر فأمره إياه بالعقد يكون أمرا بأداء رأس المال من عنده على أن يرجع عليه بمثله وكذلك الوكيل هو الذي يقبض الطعام إذا حل الأجل بمنزلة العاقد لنفسه والغنم بمقابلة الغرم فإذا كان هو المطالب بتسليم رأس المال كان حق قبض الطعام إليه أيضا .
فإذا قبضه كان له حبسه حتى يستوفي الدراهم من الموكل عندنا خلافا لزفر كذلك الوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من مال نفسه وقبض السلعة كان له أن يجبسه أما إذا هلك في يده قبل أن يحبسه فإنما يهلك من مال الموكل وللوكيل أن يرجع عليه بما أدى من الدراهم لأنه في أصل القبض عامل له حتى يتعين به ملك الموكل في السلم ويتم ملكه به في المشترى فيكون هلاكه في يد الوكيل - كهلاكه في يد الموكل فإن لم يهلك وأراد الوكيل حبسه بالثمن فله ذلك عندنا وقال زفر ليس له ذلك لأن الموكل صار قابضا بقبض الوكيل بدليل أن هلاكه في يد الوكيل كهلاكه في يد الموكل فكأنه قبض حقيقة ثم دفعه إلى الوكيل وهذا لمعنيين : .
( أحدهما ) : أن المقبوض أمانة في يد الوكيل والثمن دين له على صاحبه وليس للأمين أن يحبس الأمانة بدينه على صاحبها .
( والثاني ) : أن الوكيل لما قبضه مع علمه أن الموكل يصير به قابضا فقد رضي بقبض الموكل فكان بمنزلة ما لو سلمه إليه ثم أراد أن يسترده منه أو بمنزلة بائع سلم السلعة إلى المشترى ثم أراد أن يستردها للحبس بالثمن ولنا أن الموكل ملك المشترى بعقد باشره الوكيل ببدل استوجبه الوكيل عليه حالا وإلا فكان له أن يحبس العين به كالبائع مع المشترى وهذا لأن الوكيل مع الموكل بمنزلة البائع مع المشترى إما لأن الموكل يتلقي الملك فيه من الوكيل بعوض ولهذا لو اختلف الوكيل والموكل في الثمن تحالفا .
ولو وجد به الموكل عيبا رده على الوكيل قوله بأن الموكل صار قابضا بقبض الوكيل ففيه طريقان : .
( أحدهما ) : أن قبض الوكيل متردد لجواز أن يكون لضم مقصوده الوكيل ويجوز أن يكون لأحياء حق نفسه وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بحبسه فكان الأمر فيه موهوما في الابتداء إن لم يحبسه عنه عرفنا أنه كان عاملا للموكل وإن حبسه عنه عرفنا أنه كان عاملا لنفسه وإن الموكل لم يصر قابضا بقبضه .
( والثاني ) أن هذا قبض لا يمكن التحرز عنه لأن الوكيل لا يتوصل إلى الحبس ما لم يقبض ولا يمكنه أن يقبض على وجه لا يصير الموكل به قابضا وما لا يمكن التحرز عنه فهو عفو فلا يسقط به حقه في الحبس لأنه سقوط حقه باعتبار رضاه بتسليمه ولا يتحقق منه الرضا فيما لا طريق له إلا التحرز عنه .
فإذا حبسه الوكيل وهلك في يده فعلى قول زفر هو غاصب فعليه ضمان مثله .
وفي قول أبي يوسف يهلك في يده هلاك الرهن مضمونا بالأقل من قيمته ومن الثمن وعند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - يهلك هلاك المبيع مضمونا بالثمن قل أو كثر وهذا الخلاف ذكره في كتاب الوكالة فأبو يوسف يقول إنما كان مضمونا عليه بالحبس بحقه بعد أن لا يكون مضمونا فيكون في معنى المرهون بخلاف المبيع فإنه مضمون بنفس العقد حبسه أو لم يحبسه .
يوضحه : أنه يحبسه ليستوفي ما أدى عنه من الدين والحبس للاستيفاء حكم الرهن ولأن بهلاكه لا ينفسخ أصل البيع بخلاف المبيع إذا هلك في يد البائع وسقوط الثمن هناك لانفساخ البيع وهما يقولان : الوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري بدليل ما بينا فكما أن المبيع إذا هلك في يد البائع سقط الثمن قل أو كثر فكذلك هنا ولا نقول العقد لا ينفسخ هنا بل انفسخ فيما بين الموكل والوكيل وإن لم ينفسخ في حق البائع وهو كما لو وجد الموكل بالمشترى عيبا فرده ورضي به الوكيل فإنه يلزم الوكيل وينفسخ العقد فيما بينه وبين الموكل والدليل على أن هذا ليس نظير الرهن أن هذا الحبس ثبت في النصف الشائع . فيما يحتمل القسمة والحبس بحكم الرهن لا يثبت في الجزء الشائع فيما يحتمل القسمة وإنما يثبت ذلك بحكم البيع فعرفنا أنه كالمبيع .
( قال ) ( وإن كان الوكيل دفع رأس المال من مال الموكل وأخذ بالسلم كفيلا أو رهنا فهو جائز ) لأن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء والوكيل يملك الاستيفاء حقيقة فيملك أخذ الرهن به والكفالة للتوثيق والوكيل هو المطالب بالمسلم فيه فكان له أن يتوثق بأخذ الكفيل به لأن ملك المطالبة فملك التوثق بالمطالبة .
( قال ) ( فإن حل السلم فأخره الوكيل مدة معلومة فهو جائز في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - ويضمن طعام السلم للموكل ) وعلى قول أبي يوسف لا يصح تأخيره وكذلك إن أبرأ المسلم إليه عن طعام السلم وأصل هذا أن طعام السلم أصل يقبل الإبراء قبل القبض وأصل هذا فيما إذا عقد لنفسه ثم أبرأ عن طعام السلم صح ابراؤه في ظاهر الرواية .
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يصح ما لم يقبل المسلم إليه فإذا قبل كان فسخا لعقد السلم لأن المسلم فيه مبيع وتمليك المبيع من البائع قبل القبض لا يجوز ما لم يقبل فإذا قبل انفسخ العقد كالمشتري إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض ووجه ظاهر الرواية أن المسلم فيه دين لا يستحق قبضه في المجلس فيصح الإبراء عنه كالثمن في البيع بخلاف بدل الصرف أو رأس مال السلم فإن قبضه في المجلس مستحق وهذا لأن استحقاق القبض في المجلس للتعيين الذي هو شرط العقد والإبراء مفوت لذلك وأما الدين الذي لا يستحق قبضه في المجلس فتعيينه ليس شرطا لجواز إسقاط القبض فيه بالإبراء يوضحه : أن المسلم فيه من حيث أنه دين يجب بالعقد كان بمنزلة الثمن ومن حيث إن العقد يضاف إليه ويورد عليه كان بمنزلة المبيع فتوفر حظه عليهما فنقول : لشبهة بالبيع لا يجوز الاستبدال به قبل القبض ولشبهه بالثمن يجوز إسقاط القبض فيه بالإبراء إذا ثبت هذا فيما إذا كان عقد السلم فنقول لنفسه فكذلك الجواب إذا كان وكيلا يصح ابراؤه ويضمن مثله للموكل في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله .
ولا يصح ابراؤه في قول أبي يوسف - وكذلك الخلاف في المتاركة إذا تارك الوكيل السلم مع المسلم إليه وكذلك الخلاف في الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري عن الثمن أو وهب له أو أجله فيه صح ذلك وضمنه للموكل في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله .
وقال أبو يوسف لا يصح شيء من ذلك أستحسن ذلك وأدع القياس فيه .
قال محمد بن مقاتل : وهذا عجب من أبي يوسف يقول : أستحسن والقياس ما قاله لأن الثمن والمسلم فيه ملك الموكل فإنه بدل ملكه وإنما يملك البدل بملك الأصل ألا ترى أن بقبضه يتعين ملك الموكل وإنما يتعين بالقبض ملك من كان مالكا قبله فالوكيل تصرف في ملك الغير بخلاف ما أمره به فلا ينفذ تصرفه كما لو قبضه فوهبه منه ودليل أن تصرفه بخلاف ما أمره به فلا ينفذ تصرفه كما لو قبضه فوهبه منه ودليل أن تصرفه ما أمره به أن الوكيل ضامن عندكم ولا يضمن إلا بالخلاف والدليل على أنه ملك الموكل أن الموكل لو كان هو الذي أبرأه عنه صح ولو قبضه جاز قبضه وكذلك لو اشترى به شيئا أو صالح منه على عين بالثمن صح .
ولو كان للمشترى على الموكل دين فاشترى من الوكيل شيئا حتى وجب للموكل على المشتري دين أيضا يصير قصاصا بدينه فبه يتبين أن الثمن الذي يجب بعقد الوكيل ملك الموكل وأن الزكاة في هذا المال تجب على الموكل فعرفنا أن الملك له .
وجه قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أن الوكيل تصرف في خالص حقه فينفذ تصرفه كما لو كان عاقدا لنفسه وبيان الوصف في التأجيل ظاهر لأنه يؤخر المطالبة ولا يسقط أصل الثمن والمطالبة حق الوكيل حتى ينفرد به على وجه لا يملك أحد عزله عنه وليس لأحد أن يطالب إلا بأمره وكذلك الإبراء فإنه إسقاط حق القبض والقبض خالص حقه لأنه حكم العقد وهو في حكم العقد بمنزلة العاقد لنفسه بدليل أنه لا يعزله أحد عنه وأن المشترى لا يجبر على التسليم إلا إليه وإنما يخلفه الموكل في ملك المال بمقابلة ملكه والمال هو المقبوض دون الدين والدين ليس بمال حتى أن من حلف أن لا مال له ولا ديون على الناس لا يحنث فعرفنا أن القبض خالص حقه فيصح إسقاطه بالإبراء ثم يتعدى هذا التصرف إلى إبطال حق الموكل في المال باعتبار المال لأنه لو قبض كان المقبوض ملكه وقد فات ذلك بإسقاطه فيكون ضامنا كالراهن إذا أعتق المرهون ينفذ تصرفه لمصادفة حقه ويضمن قيمة المالية للمرتهن لأنه تلفه بتصرفه ملك المالية وكذلك أحد الشريكين إذا أعتق وهو موسر أو هو مسقط للقبض على وجه يتضمن تمليك الدين ممن عليه فمن حيث إنه إسقاط صح منه وبرئ المشترى ومن حيث إنه تمليك الثمن الذي هو حق الموكل من المشترى صار ضامنا له كالوكيل بالشراء إذا رضي بالعيب وإلى الموكل أن يرضي به فإن رضي الوكيل يعتبر بانقطاع منازعته مع البائع غير معتبر في إلزام الموكل فيختص هو بضررة وهذا لأن الإسقاط أصل في الإبراء ومعنى التمليك بيع ولهذا صح بدون القبول وإن كان يرتد بالرد وأما قبض الثمن فالمقبوض عين ملك الموكل فهبته بعد ذلك تصرف في حق الغير .
وأما فصل المقاصة فهو على ثلاثة أوجه : .
إن كان دين المشترى على الوكيل وهو مثل الثمن يصير قصاصا بدينه عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - ويضمن للموكل مثله .
وإن كان دين المشترى على الموكل يصير قصاصا بالاتفاق لأن باعتبار المال الحق للموكل ولهذا لو أسلم إليه المشترى جاز قبضه فيصير قصاصا بدينه عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - ويضمن الموكل مثله .
وإن كان دين المشتري على الموكل يصير قصاصا بالاتفاق لأن باعتبار المال الحق للموكل فيصير قصاصا بدينه .
وإن كان الدين له على كل واحد منهما صار قصاصا بدين الوكيل لأنه لو جعل قصاصا بدين الوكيل كان ضامنا للموكل مثله ثم يحتاج إلى قضاء دينه به وإذا جعل قصاصا بدين الموكل لم يضمن أحد شيئا فرجحنا هذا الجانب لهذا .
والأب والوصي يصح إبراؤهما وتأجيلهما فيما وجب للصبي بعقدهما عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - وكانا ضامنين له فأما فيما وجب لا بعقدهما لا يصح لأنهما ثابتان أمرا بالتصرف في ماله على وجه الأحسن وذلك لا يحصل بالإبراء .
( قال ) ( والتأجيل والمتاركة من الوكيل بالثمن صحيح في حق المسلم إليه بخلاف الوكيل بالشراء فإن إقالته لا تصح ) لأن هناك عين المشترى مملوك للموكل فالإقالة تصرف منه في محل هو حق الغير وهنا المسلم فيه دين والثابت به حق القبض ما دام في الذمة وهو حق الوكيل وإن احتال بالمسلم فيه على ملي أو غير ملي جاز عليه خاصة ويضمن للأم طعامه لأنه تصرف في خالص حقه بالتحويل من محل إلى محل فهو على الخلاف الذي بينا في الإبراء ويستوفى في حكم الضمان أن يكون المحتال عليه أعلا أو أسفل بخلاف الأب والوصى فإنهما لو قبلا الحوالة على من أعلا لم يضمنا شيئا لأنه تصرف منهما في حق الصبي على وجه الأحسن وهما يملكان المبادلة في حقه بصفة النظر فإذا بادلا ذمة بذمة على وجه النظر لم يضمنا والوكيل لا يمكل مثله في حق الموكل فلهذا ضمنه .
( قال ) ( وإن اقتضى الطعام أدون من شرطه فهو جائز ) لأنه أبرأه عن صفة الجودة ولو أبرأه عن أصله جاز وضمن للموكل مثل طعامه عندهما فكذلك إذا رضي بدون حقه .
وإذا عقد الوكيل السلم ثم أمر الموكل بأداء رأس المال وذهب الوكيل بطل السلم لأن وجوب قبض رأس المال قبل الافتراق من حقوق العقد فيتعلق بالعاقد وهو الوكيل والموكل فيه كأجنبي آخر فلا معتبر ببقائه في المجلس بعد ذهاب العاقد ولا بذهابه إذا بقي المتعاقدان في المجلس .
فإذا وكله أن يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة فأسلمها في قفيز حنطة فهو جائز على الوكيل دون الموكل لأنه وكيل بالشراء فالمسلم فيه مبيع ورب السلم مشترى والوكيل بالشراء لا يملك الشراء في حق الموكل بالغبن الفاحش لما فيه من التهمة أنه باشر التصرف لنفسه ثم لما علم بالغبن أراد أن يلزمه الموكل فإذا نفذ العقد عليه ضمن للموكل كل دراهمه لأنه قضى بدراهمه دين نفسه فإن أسلمها في حنطة يكون نقصانها عن رأس المال مما يتغابن الناس في مثله جاز على الموكل لأن هنا العذر لا يستطاع الامتناع عنه إلا بحرج فكان عفوا في تصرفه لغيره شراء كان أو بيعا .
( قال ) ( وإذا وكله أن يسلم له عشرة دراهم في طعام فالطعام الدقيق والحنطة عندنا استحسانا وفي القياس هذا التوكيل باطل ) لأن اسم الطعام حقيقة لكل مطعوم بدليل ما لو حل أن لا يأكل طعاما وما لو أوصى للإنسان بطعامه والمطعومات أجناس مختلفة وجهالة الجنس تمنع صحة الوكالة ولكنه استحسن فقال : السلم بيع والطعام إذا أطلق عند ذكر البيع والشراء يراد به الحنطة ودقيقها فإن سوق الطعام الموضع الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من يبع الحنطة ودقيقها دون من يبيع الفواكه وهذا لأن الشراء لا يتم إلا بالبائع فكل ما يسمى بائعه بائع الطعام يصير هو به مشتريا للطعام بخلاف الأكل فإنه يتم بالآكل والوصية تتم بالموصى فاعتبرنا فيهما حقيقة الاسم .
قالوا : وهذا إذا كانت الدراهم كثيرة فأما إذا كانت قليلة فإنما ينصرف إلى الخبز .
فأما الدقيق ففيه روايتان : .
في رواية هو بمنزلة الحنطة لأنه يذكر كما تذكر الحنطة .
وفي رواية هو بمنزلة الخبز وهذا القياس والاستحسان ثابت في الوكيل بالشراء .
وإذا ثبت أن اسم الطعام يتناول الحنطة ودقيقها فالتوكيل صحيح لأنه إن كثرت الدراهم عرفنا أن مراده الحنطة .
فإذا قلت : عرفنا أن مراده الدقيق والمعلوم دلالة كالمعلوم نصا .
فنقول : إذا وكله بأن يسلم به دراهم في طعام فأسلم في شعير أو غيره فهو مخالف وللموكل أن يضمن الوكيل دراهمه لأن عقده نفذ على نفسه ثم قضي بدراهم الآمر دين نفسه وإن شاء الآمر أخذها من المسلم إليه لأن المقبوض من الدراهم عين ملكه فهو أحق به فإن أخذها من المسلم إليه يبطل السلم فيما بينه وبين الوكيل وإن كان قد فارقه لأن رأس المال استحق انتقض القبض فيه من الأصل .
وإن لم يكن فارقه حتى أعطاه مثلها كان السلم صحيحا بينهما لأن المقبوض لما استحق فكأنه لم يقبض إلى آخر المجلس وعقد السلم ما تعلق بعين تلك الدراهم بل تعلق بمثلها في ذمته وإن أخذها من الوكيل يبقى عقد السلم بينهما صحيحا لأنه يملك رأس المال بالضمان .
وإذا وكله بأن يأخذه دراهم في طعام مسمى فأخذها الوكيل ثم دفعها إلى الموكل فالطعام على الوكيل وللوكيل على الموكل دراهم قرض لأن أصل التوكيل باطل فإن المسلم إليه أمره ببيع الطعام في ذمته .
ولو أمره أن يبيع عين ماله على أن يكون الثمن للآمر كان باطلا فكذلك إذا أمره أن يبيع طعاما في ذمته وهذا لأنه إنما يعتبر أمره فيما لا يملك المأمور بدون أمره وهو في قبول السلم في الطعام مستغنى عن أمر الغير وقبول السلم من صنيع المفاليس فالتوكيل به باطل كالتكدى .
فالحاصل أن التوكيل من المسلم إليه بقبول عقد السلم باطل والتوكيل من رب السلم بإعطاء الدراهم في طعام السلم جائز وإذا بطل التوكيل كان الوكيل عاقدا لنفسه فيجب الطعام في ذمته ورأس المال مملوك له فإذا سلمه إلى الآمر على وجه التمليك منه كان قرضا له عليه .
( قال ) ( وإذا دفع إليه عشرة دراهم وأمره أن يسلمها في ثوب لم تصح الوكالة حتى يتبين الجنس ) لأن الثياب أجناس مختلفة ومع جهالة الجنس لا يقدر الوكيل على تحصيل مقصود الموكل فيبطل التوكيل فإن الوكيل كان عاقدا لنفسه وروي عن أبي يوسف أنه قال : ينظر الوكيل إلى لباس الموكل فإذا اشترى الوكيل من جنس لباس الموكل يجوز ويلزم الموكل لأن الظاهر أن الإنسان إنما يأمر غيره بشراء الثوب ليلبسه فيعتبر بثيابه فإن سمى الموكل ثوبا يهوديا أو غيره جاز لأن الجنس صار معلوما وإنما بقيت الجهالة في الصفة ولا تأثير لجهالة الصفة في القعود المبينة على التوسع والوكالة بهذه الصفة فإن خالفه الوكيل فأسلم في غيره أو إلى غير الأجل الذي سماه كان عاقدا لنفسه وللموكل أن يضمنه دراهمه فإن ضمنه إياها جاز السلم وإن ضمنها المسلم إليه بطل السلم لانتقاض قبضه في رأس المال بعد الانتقاص من الأصل .
( قال ) ( وإذا دفع الوكيل الدراهم سلمها على ما أمره به الآمر ولم يشهد على المسلم إليه بالاستيفاء ثم جاء المسلم إليه بدراهم زيوف يردها عليه فقال وجدتها فيها فهو مصدق ) لأنه ينكر استيفاء حقه فالقول قوله مع يمينه ويقضي له على الوكيل ببدله ويرجع به الوكيل على الموكل لأنه في تصرفه عامل له فيرجع عليه بما يلحقه بالعهدة .
وإن كان أشهد عليه بالاستيفاء لم يصدق بعد ذلك على ادعائه أنه زيف معناه إذا أقر المسلم إليه باستيفاء الجياد أو باستيفاء حقه أو باستيفاء رأس المال فهو مناقض بعد ذلك في دعواه أنه زيوف فلا يسمع بعد ذلك منه ولا تقبل بينته عليه ولا يتوجب اليمين على خصمه .
فأما إذا أقر باستيفاء الدراهم فاسم الدراهم يتناول الزيوف والجياد فلا يكون مناقضا في قوله وجدتها زيوفا .
( قال ) ( وإذا وكله بأن يسلم له عشرة دراهم من الدين الذي له عليه في حنطة فأسلمها له فهو عاقد لنفسه حتى يقبض الطعام فيرده إلى الآمر مكان دينه ) فحينئذ يسلم للآمر إذا تراضيا عليه في قول أبي حنيفة .
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - هو جائز على الآمر وكذلك لو أمره أن يصرفها له بدنانير أو يشتري له بها شيئا سماه وجه قولهما أن الدين في ذمة المديون ملك صاحب الدين بدليل أن يطالبه بالتسليم وينفرد باستيفاء جنسه من ماله ويشتري منها شيئا فيجوز فإنما أضاف التوكيل إلى ملكه وذلك صحيح كما لو كانت الدراهم وديعة له في يده أو غصبا فوكله أن يشتري له بها .
والدليل عليه أنه لو عين المسلم إليه بقوله أسلمها في طعام إلى فلان أو عين البائع أو المبيع بقوله اشترى لي بها عبد فلان فإنه يصح فكذلك إذا أطلق لأن تسمية من يعامله الوكيل ليس بشرط لصحة الوكالة يوضحه : أنه لو قال تصدق بمالي عليك على المساكين يجوز بمنزلة ما لو قال تصدق به على فلان فكذلك إذا أمره بالشراء به .
ولأبي حنيفة حرفان : .
( أحدهما ) : أنه أمره بصرف في الدين إلى من يختاره المديون بنفسه وذلك باطل كما لو قال ادفع مالي عليك من الدين إلى من يثبت أو ألقه في البحر كان صحيحا .
والمعنى في الفرق أن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه وهو في تصرفه في ملك نفسه بالدفع إلى الغير لا يحتاج إلى إذن الآمر فكان وجود أمره كعدمه فأما في العين تصرفه في ملك الغير ولا يملك ذلك إلا بإذن من له الحق وهذا بخلاف ما إذا عين المسلم إليه أو البائع لأن من أمره بالصرف إليه هناك معلوم فكان أمره معتبرا في توكيله ذلك الرجل بالقبض له . أولا ثم لنفسه وكذلك إذا عين المتاع لأن بتعينه يتعين المالك فالإنسان في العادة يشترى الشيء من مالكه وهنا لا يمكن اعتبار أمره في توكيل القابض بقبضه لأنه توكيل المجهول وذلك باطل وهذا بخلاف قوله تصدق بمالي عليك لأن المتصدق يجعل المال لله تعالى ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى فلا جهالة فيمن أمره أن يجعل ذلك له فهو بمنزلة ما لو أمره بالدفع إلى آدمي عينه .
( والثاني ) : أن بعقد السلم يجب رأس المال على الوكيل ثم يجب له مثله على الموكل .
فإما أن يكون هو مقرضا له في ذمته ليقضي به دينا عليه وذلك لا يجوز أو أمره له بأن يقبض من نفسه ثم يقضي به دينا عليه وذلك لا يجوز يوضحه : أن يقيم الوكيل مقام نفسه فيما يأمره به من التصرف وهو بنفسه له أسلم الدين الذي له على زيد إلى عمر وفي طعام لا يجوز فكذلك إذا وكل المديون بأن يفعل له ذلك وبه يظهر الفرق بين الدين والعين ولكن الاعتماد على الحرف الأول .
( قال ) ( وإذا وكل الرجل الرجلين أن يسلما له عشرة دراهم في طعام فأسلمها أحدهما لم يجز ) لأن عقد السلم يحتاج فيه إلى الرأى والتدبير كبيع العين وهو إنما رضي برأي المثنى ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى فإن أسلماها ثم تارك أحدهما مع المسلم إليه السلم لم يجز عندهم جميعا .
أما عند أبي يوسف : لأن الوكيل بالسلم لا يملك المشاركة ولو تاركا لم يجز فكذلك إذا تارك أحدهما .
وعند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لأن الوكيلين لو عقدا لأنفسهما ثم تارك أحدهما لم يجز بغير رضي الآخر فإذا كان وكيلين أولى .
( قال ) ( وإذا عقد الوكيل السلم ثم اقتضى الآمر الطعام فهو جائز استحسانا وفي القياس لا يجوز ) لأن القبض من حكم العقد والموكل منه كسائر الأجانب ألا ترى أن الإيفاء لم يجب على المسلم إليه بطلبه فكذلك لا يبرأ بالتسليم إليه وجه الاستحسان : أن يقبض الوكيل بتعين ملك الموكل فكان الموكل في هذا القبض عاملا لنفسه في تعيين ملكه فهو يكفي الوكيل مؤونة القبض والتسليم إليه ولا يلحق به ضرر في تصرفه يوضحه : أنا لو نقضنا قبضه احتجنا إلى إعادته بعينه في الحال لأنه يرده على المسلم إليه فيقبضه الوكيل منه ثم يسلمه إلى الموكل وهذا اشتغال بما لا يفيد والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد ولا ينقص شيئا ليعيد وإن تارك السلم إليه مع الموكل جاز لأنه قائم مقام العاقد في ملك المعقود عليه فتصح منه المتاركة كما تصح من وارث رب السلم بعد الموت وإن لم يتاركه فأراد قبض الطعام منه فللمسلم إليه أن يمتنع من دفعه إليه لأن المطالبة بالتسليم تتوجه بالعقد والموكل من العقد أجنبي فمطالبته لا تلزم المسلم إليه الدفع إليه .
( قال ) ( وإذا دفع إلى رجل عشرة دراهم ليسلمها في طعام فناول الوكيل رجلا فبايعه فإن أضاف العقد إلى دراهم الأمر كان العقد للآمر وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان عاقدا لنفسه ) لأن الظاهر يدل على ذلك ولأن فعله محمول على ما يحمل وفيما يعقد لنفسه لا يحل له إضافة العقد إلى دراهم غيره وإن عقد السلم بعشرة مطلقة ثم نواها للآمر بالعقد له وإن لم تحضره نية فإن دفع دراهم نفسه فالعقد له وإن دفع دراهم الآمر فهو للآمر في قول أبي يوسف .
وقال محمد : هو عاقد لنفسه ما لم ينو عند العقد أنه للآمر .
وإن تكاذبا في النية فقال الآمر : نويته لي وقال المأمور : نويته لنفسي فالطعام للذي نقد دراهمه بالاتفاق فمحمد يقول : الأصل أن كل أحد يعمل لنفسه إلا أن يقترن بعمله دليل على أنه يعمل لغيره وذلك بإضافة العقد إلى دراهم الغير أو النية للغير فإذا انعدم ذلك كان عاملا لنفسه ولا يمكن أن يجعل نقد الدراهم دليلا على ذلك لأن نقد الدراهم لا يقترن بالعقد بل يكون بعده وبعد ما أوقع العقد له لا يتحول إلى غيره وإن نقد دراهم الغير وبه فارق التكاذب لأن النقد موجود عند التكاذب فيمكن أن يجعل دليلا من حيث شهادة الظاهر لأحدهما لأن الظاهر أنه فيما عقد لنفسه لا ينقد دراهم الغير فإذا كان المنقود دراهم الآمر فالظاهر يشهد له فكان القول قوله .
يوضحه : أن بقبول الوكالة من الغير لا يحيل ولايته على نفسه وقبل قبول الوكالة كان مطلق عقده لنفسه فكذلك بعد قبول الوكالة لأن تلك الولاية باقية بعد قبول الوكالة كما كانت قبله ولأن موجب العقد وقوع الملك له في الطعام للعاقد إلا أنه إذا نوى للموكل فالموكل يخلفه في ذلك الملك والمصير إلى الخلف عند فوات ما هو الأصل وعند إطلاق العقد ما هو الأصل ممكن الاعتبار فلا يضاف إلى الخلف .
وأبو يوسف يقول : العقد والنقد كشيء واحد حكما لأن النقد وإن كان بعد العقد صورة فهو كالمقترن بالعقد إذا لو لم يجعل كذلك كان دينا بدين وذلك لا يجوز .
والدليل عليه أن بعد ما نقد الدراهم لو أراد أن يستردها ليعطى غيرها لم يملك كما لو اقترن التعيين بالعقد بأن أضاف العقد إلى دراهم الآمر ثم أراد أن يدفع غيرها ويجعل العقد لنفسه لم يملك ذلك فإذا صار كشيء واحد فهو دليل ظاهر على من وقع العقد له فيجب تحكمه كما في حالة التكاذب .
يوضحه : أنه بعد قبول الوكالة يعقد للموكل بولايته الأصلية كما يعقد لنفسه ولهذا تعلق به حقوق العقد في الوجهين فإذا استوى الجانبان يصار إلى ترجيح أحدهما بالنقد كما يصار إليه عند التكاذب وفرق أبو يوسف بين هذا وبين المأمور بالحج عن الغير إذا أطلق النية عند الإحرام فإنه يكون عاقدا لنفسه فإن الحج عبادة والعبادات لا تتأدى إلا بالنية فكان مأمورا بأن ينوي عن المحجوج عنه ولم يفعل فصار مخالفا بترك ما هو الركن وأما في المعاملات فالنية ليست بركن فلا يصير بترك النية عن الآمر مخالفا فيبقي حكم عقده موقوفا على النقد .
( قال ) ( وإن وكله بثوب يبيعه بدراهم فأسلمه في طعام إلى أجل فهو عاقد لنفسه ) لأنه خالف ما أمره به نصا وإن أمره ببيعه ولم يسم له الثمن فأسلمه في طعام جاز على الآمر في قول أبي حنيفة .
ولم يجز في قولهما وهذه فصول : .
( أحدها ) : أن الوكيل في البيع مطلقا يبيع بالنقد والنسيئة عندنا .
وقال الشافعي : لا يبيع إلا بالنقد لأن مطلق التوكيل بالبيع معتبر بمطلق إيجاب البيع ومطلق إيجاب البيع ينصرف إلى الثمن الحال دون النسيئة فكذلك مطلق التوكيل وهذا لأن الأجل شرط زائد على ما يتم به العقد فلا يثبت الإذن فيه إلا بالتنصيص .
ولكنا نقول : أمره ببيع مطلق فلا يحوز إثبات التقييد فيه من غير دليل والتقييد بالثمن الحال بعدم صفة الإطلاق ولا دلالة عليه في كلامه نصا ولا عرفا فالبيع بالنسيئة معتاد بين التجار كالبيع بالنقد وريما يكون البيع بالنسيئة أقرب إلى تحصيل مقصودهما وهو الربح والدليل عليه أن المضارب والأب والوصى يملكون البيع بالنسيئة وأما مطلق إيجاب البيع فإنما يحمله على النقد لتعذر اعتبار الإطلاق فإن البيع يستدعى صفة معينة في الثمن ألا ترى أنه لو قال بعته منك بالنقد والنسيئة لا يجوز وفي التوكيل لا يوجد مثل هذا فالتوكيل صحيح بدون تعيين أحد الوصفين حتى لو قال بعته بالنقد أو بالنسيئة يجوز ثم قيل على قول أبي حنيفة يجوز بيعه بثمن مؤجل طالت المدة أو قصرت وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز بأجل متعارف ولو أجله مدة غير متعارفة في مثل تلك السلعة لا يجوز بمنزلة البيع بالغبن الفاحش عندهما وعند أبي يوسف .
( قال ) ( إن أمره بالبيع على وجه التجارة فله أن يبيعه بالنسيئة أما إذا أمره بالبيع لحاجته إلى النفقة أو إلى قضاء دينه فليس له أن يبيعه بالنسيئة ولو باعه بغبن جاز عند أبي حنيفة سواء كان الغبن يسيرا أو فاحشا وعندهما لا يجوز بيعه بغبن فاحش ) لأن دليل العرف يفيد مطلق التوكيل حتى يتقيد التوكيل بشراء الأضحية بأيام النحر والتوكيل بشراء الفحم زمان الشتاء والجمد بزمان الصيف فإنه إذا وكله أن يشتري له جمدا في الشتاء يكون مشتريا لنفسه وإن كان التوكيل مطلقا فصح ما ذكرنا والبيع بغبن فاحش ليس بمتعارف فالظاهر إنما يستعين بغيره فيما يعجز عن مباشرته بنفسه وهو لا يعجز عن بيع ما يساوي مائة درهم بعشرة دراهم وقاسا بالوكيل بالشراء فإن شراءه بالغبن الفاحش لا ينفذ على الآمر كذلك الوكيل بالبيع لأن كل واحد منهما أمر بما هو من صنيع التجار وكذلك الأب والوصي لا يملكان بيع مال اليتيم بغبن فاحش . لهذا المعنى ولأن المحاباة الفاحشة كالهبة حتى إذا حصلت من المريض تعتبر من الثلث والوكيل بالبيع لا يملك الهبة .
وأبو حنيفة يقول : أمره بمطلق البيع وقد أتى به لأن البيع مبادلة مال بمال شرطا وقد وجد ذلك فما من جزء من المبيع إلا ويقابله جزء من الثمن .
ألا ترى أن المبيع لو كان دارا يجب للشفيع الشفعة في جميعه وبه يتبين أنه بيع وليس بهبة وبأن اعتبر من الثلث في حق المريض هذا لا يدل على أنه ليس ببيع مطلق وإن الوكيل لا يملكه كالبيع بغبن يسير والدليل عليه أن من حلف لا يبيع فباع بغبن فاحش يحنث ولا يحنث إلا بكمال الشرط فعرفنا أنه بيع مطلق فيصير الوكيل به ممتثلا للآمر فإنا لو قيدنا بالبيع بمثل القيمة أبطلنا حكم الإطلاق من كلامه وذلك لا يجوز من غير دليل .
فأما العرف الذي قال قلنا : .
هذا مشترك فالإنسان قد يبيع الشيء تبريا منه ولا يبالى عند ذلك بقلة الثمن وكثرته وقد يبيعه لطلب الربح فعند ذلك لا يبيعه بالغين عادة وبالمشترك لا يبطل حكم الإطلاق ثم البيع بالغبن متعارف فالمقصود من البيع الربح وذلك لا يحصل إلا وأن يصير أحدهما مغبونا والإنسان يرغب في شراء ما يساوي عشرة بدرهم ولكن لا يجد ذلك فأما أن لا يكون متعارفا فلأن العرف لا يعارض النص والإطلاق ثابت بالنص فلا يبطل بالعرف كما في اليمين فإن العرف كما يعتبر في الوكالة يعتبر في اليمين .
وما ذكر من مسألة الأضحية وغيرها فهي مروية عن أبي يوسف فأما عند أبي حنيفة يعتبر الإطلاق في جميع ذلك .
ودليل التقييد التهمة في الموضع الذي يثبت التقييد فيه ولهذا قال أبو حنيفة : .
الوكيل بالبيع لا يبيع من أبيه . وابنه للتهمة ولا تهمة في بيعه من الأجنبي بقليل القيمة لأن ما يستوفى من الثمن يسلمه إلى الآمر قل أو كثر وبه فارق الوكيل بالشراء فهناك التهمة متمكنة فربما اشتراه لنفسه فلما علم بالغبن أراد أن يلزمه الآمر ولأن الوكيل بالشراء كما يستوجب الثمن في ذمة نفسه يوجب لنفسه مثله في ذمة الآمر والإنسان متهم في حق نفسه فلا يملك أن يلزم ذمة الآمر الثمن ما لم يدخل في ملكه بازائه ما يعدله .
ولهذا لو قال اشتريت وقبضت الثمن وهلك في يدي فهات الثمن فإنه لا يقبل قوله بخلاف الوكيل بالبيع فإنه لو قال بعت وقبضت الثمن وهلك عندي كان القول قوله ولأن أمره بالشراء يلاقي ملك الغير وليس للإنسان ولاية مطلقة في ملك الغير فلا يعتبر إطلاق أمره فيه بخلاف البيع فإن أمره يلاقي ملك نفسه وله في ملك نفسه ولاية مطلقة ولأن اعتبار العموم والإطلاق في الوكيل بالشراء غير ممكن لأنه لو اعتبر ذلك اشترى ذلك المتاع بجميع ما يملكه الموكل وبما لا يملكه من المال ونحن نعلم أنه لم يقصد ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو الشراء بالنقد بالغبن اليسير وفي جانب البيع اعتبار العموم والإطلاق ممكن لأنه لا يتسلط به على شيء من ماله سوى المبيع الذي رضي بزوال ملكه وهذا بخلاف الأب والوصي لأن ولايتهما مقيدة بالأنظر والأصلح ولا يوجد في البيع بالغبن الفاحش .
وعلى هذا الخلاف لو باعه الوكيل بعرض يجوز عند أبي حنيفة لإطلاق الآمر .
ولا يجوز عندهما : لأن البيع بعرض شراء من وجه فكل واحد منهما في بدل صاحبه مشترى وإنما أمره بالبيع فلا يملك به ما هو متردد بين البيع والشراء .
وأبو حنيفة يقول فعله فيما يتناوله الآمر بيع من كل وجه لأنه يزيله عن ملكه بعرض هو مال : والبيع ليس إلا هذا ثم جانب البيع يترجح على جانب الشراء في البيع ألا ترى أن أحد المضاربين إذا اشترى بغير إذن صاحبه كان مشتريا لنفسه ولو باع بغير إذن صاحبه شيئا من مال المضاربة يتوقف على إجازة صاحبه فإن باعه بعرض يتوقف أيضا فإن أجاز صاحبه كان تصرفه على المضاربة فعرفنا أن جانب البيع يترجح فيه وعلى هذا لو باعه الوكيل بمكيل أو موزون فعند أبي حنيفة يجوز على الآمر وعندهما لا يجوز إلا أن يبعه بالنقد .
إذا عرفنا هذا فنقول : إذا أسلم الثوب في طعام إلى أجل فقد أزال الثوب عن ملكه بالطعام وذلك جائز على الآمر عند أبي حنيفة وعندهما لا يجوز لأنه لم يبعه بالنقد والتوكيل انصرف إليه خاصة .
( قال ) ( وإذا وكله بالسلم فأدخل الوكيل في العقد شرطا أفسده لم يضمنه الوكيل لأنه لم يخالف وإنما يضمن الوكيل بالخلاف لا بالإفساد ) وهذا لأنا لو ضمناه فإفساد العقد تحرز الناس عن قبول الوكالات فكل أحد لا يكون كأبي حنيفة في العلم بأحكام والأسباب المقيدة للعقد .
( قال ) ( وأكره توكيل الذمي يعقد له السلم وإن فعله يجوز لأن الذمي لا يتحرز عن الربا وعن مباشرة العقد الفاسد إما لجهله بذلك أو لاعتقاده أو قصده أن يوكل المسلم الحرام فلهذا يكره له أن يأتمنه على ذلك ويجوز له إن فعله ) لأن عقد السلم من المعاملات وهم في ذلك يستوون بالمسلمين .
( قال ) ( وليس للوكيل بالسلم أن يوكل غيره به ) لأن هذا عقد يحتاج فيه إلى الرأى والتدبير والموكل رضي برأيه دون رأى غيره بخلاف المضارب يوكل بالسلم فيجوز لأن رب المال قد رضي برأيه ويتوكيله حين فوض إليه الاسترباح عاما وذلك بتجارة حاضرة وغائبة وإذا اشتغل بأحدهما بنفسه فلا يجد بدا من أن يستعين فيه بالآخر بخلاف الوكيل إلا أن يكون الآمر قال له ما صنعت فيه من شيء فهو جائز فيجوز حينئذ لأنه أجاز صنيعه عاما والتوكيل من صنعه فيدخل في عموم إجازته ولا يجوز للمسلم عقد بيع ولا يسلم لنفسه على الخمر ولا للكافر لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم وهو العاقد عليها سواء عقده على ذلك لنفسه أو لكافر بخلاف المسلم يتوكل عن المجوسي في أن يزوجه مجوسية فيجوز ذلك لأن الوكيل في النكاح معبر لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل فيعتبر جانب الموكل وفي البيع والسلم هو عاقد لنفسه ليستغني عن الإضافة في العقد إلى غيره فيعتبر جانبه .
( قال ) ( وإن وكل المسلم الذمي بأن يشترى له خمرا أو يسلم له فيها ففعل ذلك مع ذمي جاز على الآمر في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى - هو مشترى لنفسه ) لأن المسلم لا يملك هذا العقد لنفسه بنفسه فلا يصح توكيل غيره به كما لو وكل المس