قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C تعالى - إملاء اعلم بأن الله سبحانه وتعالى جعل المال سببا لإقامة مصالح العباد في الدنيا وشرع طريق التجارة لإكسابها لأن ما يحتاج إليه كل أحد لا يوجد مباحا في كل موضع وفي الأخذ على سبيل التغالب فساد والله لا يحب الفساد وإلى ذلك أشار الله سبحانه وتعالى في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ( النساء : 4 ) والتجارة نوعان حلال يسمى في الشرع بيعا وحرام يسمى ربا كل واحد منهما تجارة فإن الله أخبر عن الكفرة إنكارهم الفرق بين البيع والربا عقلا فقال D { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } ( البقرة : 275 ) ثم فرق بينهما في الحل والحرمة بقوله تعالى { وأحل الله البيع وحرم الربا } ( البقرة : 275 ) فعرفنا أن كل واحد منهما تجارة وأن الحلال الجائز منها بيع شرعا بعث رسول الله - A - والناس يتعاملونه فأقرهم عليه وانعقاد هذا البيع بلفظين هما عبارة عن الماضي وهو بقوله بعت واشتريت في محلين كل واحد منهما مال متقوم على طريق الاكتساب حتى إن ما يدخله معنى التبرع كالهبة بشرط العوض لا يكون بيعا ابتداء ولو كان أحد اللفظين عبارة عن المستقبل بأن يقول أحدهما بعني فيقول الآخر بعت أو يقول اشتري فيقول الآخر اشتريت لا ينعقد البيع عندنا بخلاف النكاح والشافعي يسوي بينهما باعتبار أن كل واحد منهما عقد تمليك بعوض من الجانبين والفرق لنا من وجهين : .
( أحدهما ) : أن النكاح يتقدمه خطبة عادة فقوله زوجيني نفسك في مجلس العقد لا يجعل خطبة لأن الخطبة قد تقدمته فيجعل أحد شطري العقد فأما البيع يقع بغتة من غير تقدم استيام فيجعل قوله بعني استياما فلا بد من لفظ العقد بعده .
( والثاني ) : أن قوله زوجيني نفسك تفويض للعقد إليها فيجعل قولها زوجت عقدا تاما لأن كلام الواحد يصلح للعقد من الجانبين في النكاح إذا كان مأمورا به وفي البيع لا يتأتى مثل هذا لأن كلام الواحد لا ينعقد به البيع من الجانبين إذا لم يكن أحدهما موليا عليه من الآخر .
فأما الربا في اللغة هو الزيادة يقال أربى فلان على فلان أي زاد عليه ويسمى المكان المرتفع ربوة لزيادة فيه على سائر الأمكنة .
وفي الشريعة الربا هو الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع لما بينا أن البيع الحلال مقابلة مال متقوم بمال متقوم فالفضل الخالي عن العوض إذا دخل في البيع كان ضد ما يقتضيه البيع فكان حراما شرعا واشتراطه في البيع مفسد للبيع كاشتراط الخمر وغيرها والدليل على حرمة الربا الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى { وحرم الربا } ( البقرة : 275 ) وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا خمسا من العقوبات : .
( أحدها ) : التخبط قال الله تعالى { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس } ( البقرة : 275 ) قيل معناه ينتفخ بطنه يوم القيامة بحيث لا تحمله قدماه وكلما رام القيام يسقط فيكون بمنزلة الذي أصابه مس من الشيطان فيصير كالمصروع الذي لا يقدر على أن يقوم وقد ورد بنحوه أثر عن رسول الله - A - أنه قال ( يملأ بطنه نارا بقدر ما أكل من الربا ) والمراد أن يفتضح على رؤس الأشهاد كما أشار إليه رسول الله - A - في حديث آخر ( أن لواء ينتصب يوم القيامة لأكلة الربا فيجتمعون تحته ثم يساقون إلى النار ) .
( والثاني ) : المحق قال الله تعالى { يمحق الله الربا } ( البقرة : 276 ) والمراد الهلاك والاستيصال وقيل ذهاب البركة والاستمتاع حتى لا ينتفع هو به ولا ولده بعده .
( والثالث ) : الحرب قال الله تعالى { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ( البقرة : 279 ) والمعنى من القراءة بالمد أعلموا الناس أكلة الربا إنكم حرب الله ورسوله بمنزلة قطاع الطريق والقراءة بالقصر اعلموا أن أكلة الربا حرب الله ورسوله .
( والرابع ) : الكفر قال الله تعالى { وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } ( البقرة : 278 ) وقال تعالى { والله لا يحب كل كفار أثيم } ( البقرة : 276 ) أي كفار باستحلال الربا أثيم فاجر بأكل الربا .
( والخامس ) : الخلود في النار قال الله تعالى { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ( البقرة : 275 ) والسنة جاءت بتأييد ما قلنا أن النبي - A - قال : ( أكل درهم واحد من الربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها الرجل من نبت لحمه من حرام فالنار أولى به ) .
والمقصود من هذا الكتاب بيان الحلال الذي هو بيع شرعا والحرام الذي هو ربا ولهذا قيل لمحمد ألا تصنف في الزهد شيئا ؟ قال قد صنفت كتاب البيوع ومراده بينت فيه ما يحل ويحرم وليس الزهد إلا الاجتناب عن الحرام والرغبة في الحلال ولهذا بدأ الكتاب بحديث رواه عن أبي حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري - Bه - عن رسول الله - A - قال ( الذهب بالذهب مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والفضة بالفضة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والحنطة بالحنطة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والملح بالملح مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والشعير بالشعير مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والتمر بالتمر مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا ) . وهذا حديث مشهور تلقته العلماء - رحمهم الله تعالى - بالقبول والعمل به ولشهرته بدأ محمد ببعضه كتاب البيوع وببعضه كتاب الإجارات وببعضه كتاب الصرف ومثله حجة في الأحكام تجوز به الزيادة على الكتاب عندنا .
ودار هذا الحديث على أربعة من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - عمر بن الخطاب وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري ومعاوية بن أبي سفيان - Bهم - مع اختلاف ألفاظهم ثم الحديث يشتمل على تفسير وحكم ومعنى يتعلق به الحكم في الفرع .
أما تفسير قوله - A - ( الذهب بالذهب ) أي بيع الذهب بالذهب أو بيعوا الذهب بالذهب لأن الباء تصحب الأعواض والإبدال فإنه للإلصاق فهو دليل فعل مضمر كقولنا بسم الله .
وقوله ( مثل بمثل ) روى بالرفع والنصب فمعنى الرواية بالرفع بيع الذهب بالذهب مثل بمثل .
ومعنى الرواية بالنصب بيعوا الذهب بالذهب مثل بمثل والمراد به المماثلة في القدر دون الصفة وإن كان مطلق اسم المماثلة يتناولهما ولكنه ذكر هذا الحديث في أول كتاب الصرف وذكر مكان قوله مثل بمثل وزن بوزن فبذلك اللفظ يتبين أن المراد من هذا اللفظ المماثلة في الوزن وبهذا اللفظ يتبين أن المراد قوله وزن بوزن المماثلة قدرا لا وصفا وكلام رسول الله - A - يفسر بعضها بعضا وفي حديث عبادة بن الصامت - Bه - قال تبره وعينه سواء فهذا تنصيص على أن المراد المماثلة في الوزن دون الصفة لأن التبر لا يساوي العين في الصفة وإنما يساويه من حيث المقدار .
وقوله ( يدا بيد ) يجوز أن يكون المراد به عين بعين لأن التعيين يكون بالإشارة باليد ويجوز أن يكون المراد قبض بقبض لأن القبض يكون باليد وزعم بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - أن المراد به القبض هنا لبيانه في حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال في الصرف من يدك إلى يده وإن استنظرك إلى خلف السارية فلا تنتظره .
وإن وثب من السطح فثب معه ولكن الأصح أن المراد التعيين لأنه لو كان المراد به القبض لقال من يد إلى يد لأنه يقبض من يد غيره فعرفنا أن المراد التعيين إلا أن التعيين في النقود لا يتم إلا بالقبض لأنها لا تتعين في العقود بالإشارة فكان اشتراط القبض لتحقيق التعيين المنصوص عليه وإليه أشار في حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - بقوله ها وها أي هذا بهذا .
وقوله ( والفضل ربا ) يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال بأن يكون أحدهما نقدا والآخر نسيئة وكل واحد منهما مراد باللفظ وقوله ربا أي حرام أي فضل خال عن العوض والمقابلة إما متيقنا به عند فضل القدر أو موهوم الوجود عادة لتفاوت بين النقدين والنسبة في المالية وكذلك تفسير قوله الفضة بالفضة .
فأما قوله ( الحنطة بالحنطة مثل بمثل ) يحتمل المماثلة في الكيل ويحتمل المماثلة في الصفة ولكنه في كتاب الصرف ذكر مكان قوله مثلا بمثل كيلا بكيل فتبين به أن المراد المماثلة من حيث القدر .
وفي حديث عبادة بن الصامت - رضي الله تعالى عنه - قال جيدها ورديها سواء فهو بيان أن المراد المماثلة في القدر وقوله يدا بيد معناه عندنا عين بعين ولهذا لا يشترط التقابض في بيع الحنطة بالحنطة لأن التعيين فيها يتم بالإشارة وقوله والفضل ربا يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال وكل واحد منهما مراد وقد فسر ذلك في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله تعالى عنه - فقال من زاد أو ازداد فقد أربى وكذلك الشعير والتمر والملح .
فأما الحكم ففي الحديث حكمان : .
حرمة النساء في هذه الأموال . عند المبايعة بجنسها وهو متفق عليه .
وحرمة التفاضل وهو الجمهور من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - إلا البتى روى عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه كان يجوز التفاضل في هذه الأموال .
ولا معتبر بهذا القول فإن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - لم يسوغوا له هذا الاجتهاد على ما روى أن أبا سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - مشى إليه فقال يا ابن عباس إلى متى تأكل الناس الربا أصبحت رسول الله - A - ما لم يصحب أسمعت منه ما لم يسمع فقال لا ولكن حدثني أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - A - قال ( لا ربا إلا في النسيئة ) .
فقال والله لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول وقال جابر بن زيد - رضي الله تعالى عنه - ما خرج بن عباس - رضي الله تعالى عنه - من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة فإن لم يثبت رجوعه فإجماع التابعين - رحمهم الله تعالى - بعده يرفع قوله فهذا معنى قولنا لا يعتد بهذا القول وتأويل حديث أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - A - سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير والذهب بالفضة فقال النبي - A - ( لا ربا إلا في النسيئة ) فهذا بناء على ما تقدم من السؤال فكأن الراوي سمع قول رسول الله - A - ولم يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله .
وأما المعنى اتفق فقهاء الأمصار - رحمهم الله تعالى - على أن حكم الربا غير مقصود على الأشياء الستة وإن فيها معنى يتعدى الحكم بذلك المعنى إلى غيرها من الأموال إلا داود من المتأخرين وعثمان البتى من المتقدمين .
فإن داود يقول حكم الربا مقصور على هذه الأشياء الستة لأنه لا يجوز قياس غير المنصوص على المنصوص لإثبات الحكم وعند فقهاء الأمصار - رحمهم الله تعالى - القياس حجة لتعدية الحكم الثابت بالنص والبتى يقول : بأن القياس حجة ولكن من أصله أن لا يجوز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل في كل أصل على جواز القياس عليه ولم يقم ذلك الدليل هنا .
وعند فقهاء الأمصار - رحمهم الله تعالى - يجوز القياس على الأصول إلا أن يقوم دليل يمنع القياس على كل أصل ثم قد قام الدليل هنا على جواز القياس فإن مالك بن أنس واسحاق بن إبراهيم الحنظلي - رحمهما الله تعالى - رويا هذا الحديث وذكر في آخره وكذلك كل ما يكال ويوزن فهو تنصيص على تعدية الحكم إلى سائر الأموال .
وفي حديث ابن عمر - Bهما - أن النبي - A - قال ( لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخشى عليكم الربا ) أي الربا ولم يرد به عين الصاع وإنما أراد به ما يدخل تحت الصاع كما يقال خذ هذا الصاع أي ما فيه ووهبت لفلان صاعا أي من الطعام وفي حديث عامل خيبر - رضي الله تعالى عنه - أنه أهدى إلى رسول الله - A - تمرا جنيا فقال - A - ( أو كل تمر خيبر هكذا ؟ فقال : لا ولكني دفعت صاعين من عجوة بصاع من هذا فقال - A - أربيت هلا بعت تمرك بسلعة ثم اشتريت بسلعتك تمرا ) ثم قال - A - ( وكذلك الميزان ) يعني ما يوزن بالميزان فتبين بهذه الأثار قيام الدليل على تعدية الحكم من الأشياء الستة لا غيرها وهذا بخلاف قوله - A - ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ) ثم لم يجوز قياس ما سوى هذا الخمس على الخمس لأن التعليل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص لإبطال المنصوص وقد نص في ذلك الحديث على أن الفواسق خمس فلو اشتغلنا بالتعليل كان أكثر من خمس فيكون إبطالا للمنصوص وهنا ليس في الحديث أن مال الربا ستة أشياء ولكن ذكر حكم الربا في الأشياء الستة فالاشتغال بالتعليل لا يؤدي إلى إبطال المنصوص عليه فلهذا جوزنا ذلك .
وفائدة تخصيص هذه الأشياء بالذكر أن عامة المعاملات يومئذ كان بها على ما جاء في الحديث ( كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق ) والمراد به ما يدخل تحت الوسق مما يكثر الحاجة إليه وهي الأشياء المذكورة ثم اختلفوا بعد ذلك في المعنى الذي يتعدى الحكم به إلى سائر الأموال .
قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى - الجنسية والقدر عرفت الجنسية بقوله - A - ( الذهب بالذهب والحنطة بالحنطة ) .
والقدر بقوله - A - مثل بمثل ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن .
وظن بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - أن العلة مع الجنس الفضل على القدر وذلك محكي عن الكرخي ولكنه ليس بقوي فإنه لا يجوز إسلام قفيز حنطة في قفيز شعير ولا تثبت حرمة النساء إلا بوجود أحد الوصفين ولو كانت العلة هي الفضل لما حرم النساء هنا لانعدام الفضل فعرفنا أن العلة نفس القدر مع الجنس .
وقال مالك - Bه - العلة الاقتيات والادخار مع الجنس .
وقال ابن سيرين تقارن المنفعة مع الجنس .
وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - في القديم العلة في الأشياء الأربعة الكيل والطعم .
وقال في الجديد العلة هي الطعم وفي الذهب والفضة العلة الثمينة وهو أنهما جوهر الأثمان والجنسية عنده شرط لا تعمل العلة إلا عند وجودها ولهذا لا يجعل للجنسية أثرا في تحريم النساء .
فحاصل المسألة أن بيع كل مكيل أو موزون بجنسه لا يجوز عندنا إلا بعد وجود المخلص وهو المماثلة في القدر وأن يكون عينا بعين .
وعنده بيع كل مطعوم بجنسه وكل ثمن بجنسه حرام إلا عند وجود المخلص وهو المساواة في المعيار الشرعي وأن يكون قبضا بقبض في المجلس .
والحاصل أن حرمة البيع في هذه الأموال أصل عنده والجواز يعارض المساواة في المعيار مع القبض في المجلس وعندنا إباحة البيع في هذه الأموال أصل كما في سائر الأموال والفساد يعارض انعدام المماثلة بوجود الفضل الخالي عن العوض متيقنا به أو موهوما احتياطا والمقصود من التعليل عنده منع قياس غير المطعومات على المطعومات وغير الثمن على الثمن بناء على أصله أن التعليل صحيح لإثبات حكم الأصل والمنع من إلحاق غيره به .
وعندنا التعليل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص فالحكم في المنصوص ثابت بالنص لا بالعلة لأن الثابت بالنص مقطوع به والمنع بظاهر النص ثابت فالاشتغال بالتعليل يكون لغوا عندنا .
وبيان هذا الأصل إذا باع تفاحة بتفاحتين عنده لا يجوز لأن الحرمة هي الأصل في بيعها والحل يثبت بعارض بوجود المساواة في المعيار الشرعي ولم يوجد فلا يجوز وعندنا يجوز لانعدام الفضل على القدر وهو المعيار الشرعي والحرام هو الفضل على القدر ولم يوجد فيجوز لأن الجواز أصل في البيع والحرمة تثبت بعارض انعدام المماثلة في القدر وهو المعيار الشرعي وهذا لا معيار له فيجوز العقد .
ولو باع قفيز جبس بقفيزي جص عندنا لا يجوز لوجود الجنسية والقدر .
وعنده يجوز لعدم الطعم .
ولو باع حفنة بحفنتين عنده لا يجوز لكونه مطعوما وقد عدمت المساواة في المعيار الشرعي وعندنا يجوز لعدم الكيل مع الجنس .
ولو باع منا سكرا بمنوي سكر عندنا لا يجوز لوجود الجنس مع القدر .
وعنده لا يجوز أيضا لوجود الطعم مع الجنس .
ولو باع منا قطنا بمنوى قطن عندنا لا يجوز لوجود الجنسية والقدر وعنده يجوز لعدم الطعم .
وحجة الشافعي لإثبات أصله ما روى أن النبي - A - نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا سواء بسواء وفي رواية قال ( لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء ) ففي هذا بداية ببيان النهى والمنع لو اقتصر على قوله ( لا تبيعوا ) لم يجز بيع أحدهما بالآخر بحال . فبه تبين أن حرمة البيع أصل وأن الجواز يعارض المساواة بين ذلك بقوله ( إلا سواء بسواء ) والمراد المساواة في القدر ثم اسم الطعام يتناول القليل والكثير وما يكال من الأطعمة وما لا يكال فثبت حرمة البيع في جميع ذلك وتبين بهذا أن التعليل بالقدر يوجب تخصيص الأصل المعلل وذلك باطل .
وكذلك في الحديث المشهور قال الحنطة بالحنطة فهذا اللفظ يتناول القليل والكثير وقوله - A - ( مثلا بمثل ) نصب على الحال أي إنما يكون بيعا في حالة ما يكون مثلا بمثل والمراد المماثلة في القدر فتبين به أيضا أن الحرمة أصل فيها وأن الحل يعارض المماثلة في القدر وليس المراد بالربا الزيادة فقد قال عمر - Bه - أن آية الربا آخر ما نزل وقبض رسول الله - A - قبل أن يبين لنا شأنها وإن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها السلم في السن فتبين بهذا أنه علم أن الاسم غير عما عليه مقتضى اللغة وأنه ليس المراد من الربا الزيادة فإنه ليس في السلم في السن زيادة خالية عن العوض وقد جعله من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد ولئن كان المراد الزيادة فإنما أراد فضلا قائما في الذات لأن المطعوم إذا قوبل بجنسه لا يتساويان في الطعم إلا نادرا ولا ينبني الحكم عن النادر فذلك الفضل القائم في الذات حرام وربا إلا أنه سقط اعتباره شرعا بالمساواة في القدر تيسيرا على الناس فتبين بهذا أن الحرمة أصل أيضا وفي ذكر الطعام ما يدل على أن العلة هي الطعم لأن الطعام اسم مشتق منه معنى والحكم إذا علق باسم مشتق من معنى فالمعنى الذي اشتق منه الاسم هو العلة للحكم كما في قوله تعالى { الزانية والزاني } ( النور : 2 ) وفي قوله تعالى { السارق والسارقة } ( المائدة : 38 ) .
ومن حيث الاستدلال وهو أن الشرع شرط لجواز البيع في هذه الأموال شرطين المساواة واليد باليد فعرفنا أن الموجب لهذين الشرطين معنى في المحل ينبئ عن زيادة شرطين الولي والشهود كان ذلك دليلا على أن الموجب للشرطين معنى في المحل ينبئ عن زيادة خطر وهو أن المستحق به ما في حكم النفوس ثم هنا المعنى ينبئ عن الخطر في الذهب والفضة الثمينة لأنهما خلقا لذلك وبالثمينة حياة الأموال .
والمعنى أن الذي ينبئ عن زيادة الخطر في الأشياء الأربعة الطعم لأن بالطعم حياة النفوس فعرفنا أن العلة الموجبة لهذين الشرطين الطعم والثمنية ولهذا جعلنا الجنسية شرطا لا علة لأن الحكم يدور مع الشرط وجودا وعدما كما يدور مع العلة والفرق بينهما بالتأثير فإذا لم يكن في الجنسية ما ينبئ عن زيادة الخطر ولا يثبت الحكم إلا عند وجوده جعلناه شرطا لا علة وبهذا تبين فساد التعليل بالقدر فإنه لا ينبئ عن زيادة خطر في المحل لأن الجص شيء هين يكال فلا يتعلق به حياة نفس ولا مال إنما هو معد لتزيين البناء ولأن الشرع ذكر عند بيان حكم الربا جميع الأثمان وهي الذهب والفضة .
وذكر من المطعومات أنفس كل نوع فالحنطة أنفس مطعوم بني آدم والشعير أنفس علف الدواب والتمر أنفس الفواكه والملح أنفس التوابل فلما أراد المبالغة في بيان حكم الربا ولم يمكنه ذكر جميع المطعومات نص من كل نوع على أعلاه ليبين بذلك أن العلة هي الطعم .
فأما إذا جعل العلة القدر يتمحض ذكر هذه الأشياء تكرارا لأن صفة القدر لا تختلف في الأشياء الأربعة وحمل كلام صاحب الشرع على ما يفيد أولى ولهذا قال مالك العلة الاقتيات لأنه خص بالذكر كل مقتات مدخر .
وقال ابن سيرين : العلة تقارب المنفعة لوجود ذلك في الأشياء المذكورة فإن الحنطة مع الشعير تتقارب في المنفعة فإذا ثبت أن العلة هي الطعم والثمنية امتنع قياس غير المطعوم على المطعومات وغير الأثمان على الأثمان لانعدام العلة فيها ولما جعل الشرع القدر معتبرا في الخلاص عن الربا لا يجوز اعتبار ذلك بعينه في الوقوع في الربا لاستحالة أن يتضمن الشيء حكمين متضادين بل القدر في المقدرات بمنزلة العدد في المعدودات والزروع في المزروعات فكما لا يصلح جعل علة ذلك للربا فكذلك القدر .
وحجتنا في المسألة ما روينا أن النبي - A - قال بعد ذكر الأشياء الستة بصفة الكيل والوزن فذلك دليل على أن العلة فيها الكيل والوزن وإن لم تثبت هذه الزيادة فقوله ( الحنطة بالحنطة ) معناه بيع الحنطة بالحنطة والبيع لا يجري باسم الحنطة فالاسم يتناول الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد وإنما يعرف ماليتها ولو باعها لم يجز لأنها ليست بمال متقوم فعلم ضرورة أن المراد الحنطة التي هي مال متقوم ولا يعلم ماليتها إلا بالكيل فصارت صفة الكيل ثابتة بمقتضى النص وكذلك قوله الذهب بالذهب فالاسم قائم بالذرة ولا يبيعها أحد وإنما تعرف ماليتها بالوزن كالشعيرة ونحو ذلك فصارت صفة الوزن ثابتة بمقتضى النص فكأنه قال الذهب الموزون بالذهب والحنطة المكيلة بالحنطة والصفة من اسم العلم يجري مجرى العلة للحكم كقوله - A - ( في خمس من الإبل السائمة شاة ) وما ثبت بمقتضى النص فهو كالمنصوص .
ألا ترى أنه لو قال غصبت من فلان شيئا يلزمه أن يبين مالا متقوما لثبوت صفة المالية بمقتضى الغصب .
وكذلك قوله - A - ( لا تبيعوا الطعام بالطعام ) ذكر الطعام عند ذكر البيع فلا يتناول إلا الحنطة ودقيقها كمن وكل وكيلا بأن يشتري له طعاما فاشترى فاكهة يصير مشتريا لنفسه وهذا لأن سوق الطعام الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من يبيع الحنطة ودقيقها وهذا من أبواب الكتاب ليس من فقه الشريعة في شيء .
وأما الكلام في المسألة من حيث الاستدلال فينبني على معرفة النص فنقول حكم نص الربا وجوب المماثلة في المعيار شرط لجواز العقد ثم ضرورة الفضل لعدم تلك المماثلة ربا لوجوب المماثلة لا كما قاله الخصم أن الحكم حرمة فضل في الذات ثم المماثلة شرط لإزالة فضل حرام .
والدليل على ما قلنا أن النبي - A - قال ( الحنطة بالحنطة مثل بمثل ) فقد أوجب المماثلة لجواز العقد ثم جعل الفضل بعد تلك المماثلة . بقوله E ( والفضل ربا ) وفي الحديث الآخر قال ( لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء ) وبالإجماع المساواة في الكيل .
فعرفنا أن المراد اشتراط المماثلة لجواز العقد لأن الكلام المقيد بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى فيكون المعنى فساد البيع عند عدم المماثلة التي هي واجبة وإذا ثبت أن الحكم وجوب المماثلة ولا يتصور ثبوت الحكم بدون محله عرفنا أن المحل الذي لا يقبل المماثلة لا يكون مال الربا أصلا والحفنة والتفاحة لا تقبل المماثلة بالاتفاق فلم يكن مال الربا والدليل عليه أن صاحب الشرع - A - ما نص على حكم الربا إلا مقرونا بالمخلص فكل علة توجب الحكم في محل لا يقبل المخلص أصلا فهي علة باطلة والطعم بهذه الصفة فإنها توجب الحكم في الرمان والسفرجل ولا يتصور فيه المخلص وكذلك قوله ( لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء ) كلام مقيد بالاستثناء والمستثنى من جنس المستثنى منه لأن الاستثناء لا خراج ما لولاه لكان الكلام متنا ولا له وإن كان المستثنى الكثير القابل للماثلة لا يتناوله الحديث أصلا .
فإن قال : هو استثناء مقطوع بمعنى لكن أي جعلتموه سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر .
قلنا : هذا مجاز ولا يترك العمل بالحقيقة إلا عند قيام الدليل وباعتبار الحقيقة يتبين أن حكم النص وجوب المماثلة فيما يختص بمحل قابل للمماثلة والدليل عليه أنه لو باع قفيز حنطة يملكه بقفيز حنطة أرخوة أو قد أكلها السوس يجوز وقد تيقنا بفضل في الذات ومع ذلك جاز العقد لوجود المماثلة في القدر .
فإن قال سقط اعتبار الفضل القائم في الذات لوجود المساواة في القدر .
قلنا : هذا جائز ولكن عند قيام الدليل فإذا أمكن أن يجعل في الذات وجوب المماثلة والفضل الذي هو ربا بعد تلك المماثلة فلا حاجة بنا إلى إسقاط ما هو موجود حقيقة خصوصا فيما إذا بنى أمره على الاحتياط وهو الربا والذي قال : إن الاسم غير عما عليه مقتضى اللغة ممنوع فإنه دعوى المجاز أيضا فلا يمكن إثباته أيضا إلا بدليل .
فأما حديث عمر - Bه - فله تأويلان : .
( أحدهما ) : أن المراد بقوله : ( وإن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها ) السلم في السن ما كانوا اعتادوا في الجاهلية أن الواحد منهم يسلم في ابنة مخاض فإذا حل الأجل زاده في السن وجعله ابنة لبون ليزيده في الأجل ثم يزيده إلى سن الحقة والجذعة وفي ذلك نزل قوله تعالى { ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } ( آل عمران : 130 ) فتلك الزيادة خالية عن عوض هو مال ولهذا قال إنه من الربا الذي لا يكاد يخفى عن أحد .
( والثاني ) : أن المراد السلم في الحيوان والحيوان مما يتفاوت والمسلم فيه دين فإنما يصير معلوما بذكر الوصف ورأس المال بمقابلة الأوصاف المذكورة عند العقد ثم عند القبض يتمكن التفاوت في المالية بين المقبوض والموصوف عند العقد لا محالة فتلك الزيادة كأنها خالية عن عوض هو مال ولهذا جعل من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد وإن سلموا أن حكم النص وجوب المماثلة لا يبقى لهم شيء لأن وجوب المماثلة لا تكون إلا في محل قابل للمماثلة وإن لم يسلموا فالدليل على إثبات هذه القاعدة أن الأموال أنواع ثلاثة متفاوتة في نفسها كالثياب والدواب فلا تجب المماثلة فيها للمبايعة وأمثال متقاربة كالسهام ولا تجب المماثلة فيها أيضا للمبايعة وأمثال متساوية كالفلوس الرائجة وتجب المماثلة فيها حتى إذا باع فلسا بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز للرسنة فإن بيع فلس بفلس جائز بل لوجوب المماثلة فإن أحدى الفلسين يبقى بغير شيء لما كانت أمثالا متساوية بصفة الرواج فيكون ذلك ربا وإذا كان كل واحد منهما بعينه فكأن المتعاقدين أعرضا عن الاصطلاح على كونها أمثالا متساوية ولهذا يتبين بالتعيين فتصير أمثالا متقاربة كالجوز والبيض .
إذا عرفنا هذا فنقول الشرع هنا نص على اشتراط المماثلة في هذه الأموال فعرفنا أنها أمثال متساوية وإنما تكون أمثالا متساوية بالجنس والقدر لأن كل حادث في الدنيا موجود بصورته ومعناه فإنما بطلت المماثلة من هذين الوجهين والمماثلة صورة باعتبار القدر لأن المعيار في هذا المقدار كالطول والعرض والمماثلة معنى باعتبار الجنسية ولكن هذه المماثلة لا تكون قطعا إلا بشرط وهو سقوط قيمة الجودة منها لجواز أن يكون أحدهما أجود من الآخر وإذا سقطت قيمة الجودة منها صارت أمثالا متساوية قطعا فإنما يقابل البعض بالبعض في البيع من حيث الذات .
فإذا كان في أحد الجانبين فضل كان ذلك الفضل خاليا عن المقابلة كالخيطين إذا تقابلا وأحدهما أطول فتلك الزيادة تكون خالية عن المقابلة والفضل الخالي عن المقابلة ربا فإذا جعل شرطا في العقد فسد به العقد وهكذا في سائر الأموال إلا أن الفضل الخالي عن المقابلة هناك إنما يظهر بالشرط حتى لو باع ثوبا بثوب بشرط أن يسلم له مع ذلك ثوبا آخر لا يجوز لأن هناك الفضل يظهر بالشرط وهنا يظهر شرعا لوجوب المماثلة فثبت بما قررنا أن العلة لهذا الحكم بالتأثر في إيجاب المماثلة وهو الجنس والقدر وإن شرط عمل العلة سقوط قيمة الجودة منها وهذا شرط عرفناه بالنص وهو قوله - A - ( جيدها ورديئها سواء ) وبدليل مجمع عليه وهو أنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة رديئة ودرهم لا يجوز وما كان مالا متقوما يجوز الاعتياض عنه كالبيع وإنما يجوز الاعتياض عما فسد بتقومه شرعا كالخمر ونحو ذلك فلما لم يجز الاعتياض عن الجودة هنا . عرفنا أنه لا قيمة للجودة عند المقابلة بالجنس ثم إثبات الحكم بهذا الطريق يكون على موافقة الأصول .
وعلى ما يدعيه الخصم أن الحكم حرمة فضل في الذات يكون إثبات الحكم على مخالفة الأصول فالبيع ما شرع إلا لطلب الربح والفضل فالفضل الذي يقابله العوض حلال ككسبه بالبيع فكيف يستقيم أن يجعل حراما بالرأي .
وإن أردت تحرير النكتة قلت التفاح والرمان مال لم يسقط قيمة الجودة منه عند المبايعة فيجوز بيع بعضه ببعض كيف ما كان كالثياب والدواب ثم تقريره من الوجه الذي ذكرنا وبهذا يعلل في القليل من الحنطة كالحفنة ونحوها فإن قيل كيف يستقيم هذا .
ولو غصب من آخر حفنة من حنطة فنقصت عنده ليس للمغصوب منه أن يضمنه النقصان مع أخذ حنطته ولو كان للجودة منها قيمة لكان له ذلك كما في التفاح والرمان والثياب ونحوها .
قلنا : الواجب على الغاصب ضمان القيمة لأن الحفنة ليست من ذوات الأمثال فإن المماثلة بالمعيار وليس للحفنة معيار فعرفنا أن الواجب هو القيمة وقد بينا أن المالية والقيمة في الحنطة لا تعلم إلا بالكيل فلا بد من إظهار قيمة هذا المغصوب من اعتبار الكثير وهو القفيز وعند اعتبار ذلك فلا يمكن معرفة النقصان ليوجب ذلك على الغاصب ويمكن معرفة القيمة بالحرز فيوجب القيمة ويكون شرط الاستيفاء تسليم العين إلى الغاصب .
فإذا أراد استرداد العين لم يكن له أن يرجع بشيء كما لو قطع يد عبد عند إنسان فأراد المولى إمساك العبد لم يرجع بشيء على قول أبي حنيفة وعلى هذا الأصل قلنا لو باع حفنة بقفيز لا يجوز أيضا لأن القفيز لا قيمة للجودة منه فتكون المقابلة باعتبار الذات فيظهر الفضل الخالي عن المقابلة بخلاف الحفنة بالحفنتين فكل واحد منهما يقابل الآخر في البيع والشراء من غير اعتبار القفيز وبدون اعتباره للجودة قيمة فلا يظهر الفضل الخالي عن المقابلة .
ويتبين بما ذكرنا فساد علة الخصم بالطعم والثمينة فإنها علة قاصرة لا تتعدى إلى الفروع ولأنها تثبت الحكم على مخالفة الأصول ولأن الطعم عبارة عن أعظم وجوه الانتفاع بالمال .
وكذلك الثمنية فإنها تنبئ عن شدة الحاجة إليه وتأثير الحاجة في الإباحة لا في الحرمة كتناول الميتة تحل باعتبار الضرورة .
ولا معنى لما قال إن الشرع ما حرم البيع في هذه الأموال إلا ما حرم في سائر الأموال وهو الفضل الخالي عن المقابلة وهذا لأن هذه الأموال بذلة كسائر الأموال حتى يجوز تناولها بدون الملك بالإباحة وبالملك بغير عوض وهو الهبة بخلاف البضع فإنه مصون عن الابتذال يلحق بالنفوس فيجوز أن يشترط في النكاح زيادة شرط لإظهار خطر المحل .
وبهذا تبين فساد ما قال إن الاسم المشتق من فعل إذا علق به الحكم يصير ذلك الفعل علة لأنه إنما يكون ذلك الفعل علة إذا كان صالحا له كالزنا والسرقة وإذا كانت الثمنية والطعم ينبئان عن شدة الحاجة فلا يصلحان أن يكونا علة للحرمة والذي قال إن صاحب الشرع نص على الأشياء الأربعة قلنا قد نص على الأشياء الستة وعطف بعضها على البعض فينبغي أن تكون العلة في الكل واحدة وذلك الجنس والقدر ثم الكيل والوزن اختلاف عبارة في القدر كالصاع والقفيز ونحوه فأما إذا كانت العلة في النقود الثمنية وفي سائر الأشياء الأربعة الطعم لم يستقم عطف بعضها على البعض إذ لا موافقة بين الثمنية والطعم .
والذي قال القدر علة للخلاص لا كذلك قد بينا أن جواز البيع في هذه الأموال أصل فحيث فسد إنما يفسد لوجود العلة المفسدة لذلك فأما جواز باعتبار الأصل لا باعتبار المخلص ولئن كان هذا مخلصا فهو مخلص في حالة التساوي وعلة الربا في حالة الفضل والشيء الواحد يتضمن حكمين في محلين كالنكاح يثبت المحل للمنكوحة والحرمة في أمها .
وإنما جعلنا القدر مخلصا لأن الخلاص عن الربا بالمساواة في القدر وذلك لا يعرف إلا بالكيل والوزن فكذلك الوقوع في الربا بالفضل على القدر وذلك لا يعرف إلا بالكيل والوزن وربما يقول بعضهم إن الحفنة مقدرة إلا أنه لا يمكن معرفة مقدارها إلا بضم أمثالها إليها ولا تخرج به من أن تكون مقدارا كالصبرة وهذا فاسد فإن المقدر لا يمكن معرفة مقداره فإذا ضم إلى الحفنة أمثالها وكيلت يصير مقدار القفيز معلوما لا مقدار الحفنة بخلاف الصبرة فإنها إذا فرقت جزاء وكيلت يصير مقدار الصبرة معلوما .
فأما علة ربا النساء أحد هذين الوصفين إما الجنس أو القدر ثبت ذلك بقوله - A - بعد الأشياء الستة ( وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد ) فقد ألغي ربا النساء بعد انعدام الجنسية لبقاء أحد الوصفين .
والشافعي لا يخالفنا فيما هو العلة عنده أيضا وإنما يخالفنا في الجنسية بناء على أصله أن الجنسية شرط لا علة وسنبين هذا الفضل في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى .
وعن إبراهيم قال : أسلم ما يكال فيما يوزن وأسلم ما يوزن فيما يكال ولا تسلم بالوزن فيما يوزن ولا ما يكال فيما يكال وإذا اختلف النوعان مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به واحدا باثنين يدا بيد ولا بأس به نسيئة وإن كان من نوع واحد مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد يدا بيد ولا خير في نسيئته .
ونقول : أما قوله ( أسلم ما يكال فيما يوزن ) غير مجرى على ظاهره بل المراد إذا كان الموزون مما يصلح أن يكون مسلما فيه بأن يكون مبيعا مضبوطا بالوصف حتى إذا أسلم الحنطة في الذهب والفضة لا يجوز عندنا .
وللشافعي قول في القديم أن ذلك يجوز بناء على مذهبه أن النقد يصلح أن يكون مبيعا حتى يتعين بالتعين .
فأما عندنا الذهب والفضة لا يصلح أن يكون مبيعا حتى يتعين بالتعيين والمسلم فيه مبيع فإذا لم يكن هذا أسلما .
قال عيسى ابن إبان يكون هذا عقدا باطلا وكان أبو بكر الأعمش يقول : أنه بيع الحنطة بدراهم مؤجلة فيكون صحيحا لأن تحصيل مقصود المتعاقدين بحسب الإمكان واجب وقد قصدا مبادلة الحنطة بالدراهم مؤجلة وما ذكره عيسى أصح لأن المعقود عليه في السلم المسلم فيه فإنما يشتغل بتصحيح العقد في المحل الذي أوجبنا العقد فيه وذلك غير ممكن ولا وجه لتصحيحه في محل آخر لأنهما لم يوجبا العقد فيه وقوله وأسلم ما يوزن فيما يكال مجرى على ظاهره فإن إسلام المكيل في الموزون جائز على كل حال لانعدام الوصفين جميعا إذ الاتفاق بين البدلين في الجنس ولا في القدر والموزون غير المكيل وقوله ولا تسلم ما يوزن فيما يوزن غير مجرى على ظاهره أيضا بل المراد إذا المراد إذا كانا متفقين في المعنى بأن كانا مثمنين كالزعفران مع القطن فأما إذا كان مختلفين في المعنى فذلك جائز كما لو أسلم النقود في الزعفران أو الحديد أو القطن فإنه يجوز .
والعراقيون من مشايخنا - رحمهم الله تعالى - يقولون : الجواز للحاجة لأن رأس المال يكون من النقود عادة والحاجة تمس إلى إسلامها في الموزونات والمكيلات جميعا .
ولكن هذا كلام من يجوز تخصيص العلل الشرعية ولسنا نقول به بل نقول اتفاقهما في الوزن صورة لا معنى وحكما فإن الوزن في النقود ليس نظير الوزن في الزعفران فإن الزعفران يوزن بالأمناء ويكون مثمنا يتعين في العقود والنقد يوزن بالصنجات ويكون ثمنا لا يتعين في العقد .
ومن حيث الحكم صفة الوزن يلزم في الزعفران حتى لو اشترى زعفرانا بشرط الوزن ليس له أن يتصرف فيه قبل أن يزنه ولا يلزم في النقود حتى لو باع شيئا بدرهم بشرط الوزن كان له أن يتصرف فيه قبل أن يزنه فما كان هذا إلا نظير الموزون مع المكيل فإنهما استويا من حيث إن كل واحد منهما مقدر صورة ولكن لما اختلفا في المعنى والحكم جوز إسلام أحدهما في الآخر فكذلك النقود مع سائر الموزونات .
وقوله ( ولا ما يكال فيما يكال ) مجرى على ظاهره فإن إسلام المكيل في المكيل لا يجوز بحال لاتفاقهما في قدر واحد .
وقوله ( وإذا اختلفا النوعان مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به واحدا باثنين يدا بيد ) هذا مجرى على ظاهره لانعدام العلة المحرمة للفضل وقوله : ولا بأس به نسيئة هذا غير مجرى على ظاهره .
ولكن المراد : إذا كان ما يجعل مسلما فيه يصير مضبوطا بالوصف على وجه يلتحق بذكر الوصف بذوات الأمثال حتى لو أسلم ثوبا في جوهره أودرة لا يجوز وكذلك في الحيوان عندنا وقوله وإن كان من نوع واحد مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد هذا مجرى على ظاهره وهو متفق عليه لقوله - A - ( لا بأس ببيع النجيبة بالإبل والفرس بالافراس يدا بيد ) وقوله ( لا خير فيه نسيئة ) هو قول علمائنا - رحمهم الله تعالى - فإن الجنس عندنا يحرم النساء بانفراده حتى لو أسلم ثوبا هرويا في ثوب هروي لا يجوز عندنا .
وعند الشافعي يجوز .
وكان مالك - C تعالى - يقول : إن اختلفا في الصفة يجوز فكأنه يجعل اختلاف الجنس باختلاف الصفة .
ولو أسلم هرويا في مروى جاز عندنا .
وعند ابن أبي ليلى لا يجوز فكأنه يجعل اختلاف الجنس باختلاف الأصل فأما إذا اتحد الأصل فالكل عنده جنس واحد أو باعتبار تقارب المنفعة يجعل الهروى والمروى جنسا واحدا وقد نقل ذلك عنه في الحنطة والشعير أيضا أنهما من جنس واحد لتقارب المنفعة لكن هذا بعيد فإن النبي - A - عطف الشعير على الحنطة .
( قال ) ( وإذا اخت