قال - C تعالى - اعلم بأن القرب المالية نوعان نوع بطريق التمليك كالصدقات ونوع بطريق الإتلاف كالعتق ويجتمع في الأضحية معنيان فإنه تقرب باراقة الدم وهو إتلاف ثم بالتصدق باللحم وهو تمليك .
( قال ) ( وهي واجبة على المياسير والمقيمين عندنا ) وذكر في الجامع عن أبي يوسف أنها سنة وهو قول الشافعي لقوله E ( كتبت علي الأضحية ولم تكتب عليكم ) وقال E ( خصصت بثلاث وهي لكم سنة الأضحية وصلاة الضحى والوتر ) . وقال - A - ( ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم عليه السلام ) .
وعن أبي بكر وعمر - Bهما - أنهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يراها الناس واجبة . وقال أبو مسعود الأنصاري - Bه - أنه ليغدو علي ألف شاة ويراح فلا أضحي مخافة أن يراها الناس واجبة ولأنها لا تجب على المسافر وكل دم لا يجب على المسافر لا يجب على المقيم كالعنبرة وهذا لأنه لا يفرق بين المسافر والمقيم في العبادات المالية كالزكاة وصدقة الفطر لأنهما لا يستويان في ملك المال وإنما الفرق بينهما في البدن لأن المسافر يلحقه المشقة بالأداء بالبدن . والدليل عليه أن يحل له التناول منه وإطعام الغنى ولو كان واجبا لم يحل له التناول كما في جزاء الصيد ونحوه ولأن التقرب بالإتلاف لا يجب ابتداء بل بسبب من العبد كالعتق في الكفارات ولهذا أوجبنا الأضحية بالنذر .
وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { فصل لربك وانحر } ( الكوثر : 2 ) أي وانحر الأضحية والأمر يقتضي الوجوب وقال E ( من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا ) والحاق الوعيد لا يكون إلا بترك الواجب وقال E ( من ضحى قبل الصلاة فليعد ومن لم يضح فليذبح على اسم الله تعالى ) والأمر يفيد الوجوب وفي قوله E ( ضحوا ) أمر وقوله ( فإنها سنة أبيكم إبراهيم ) أي طريقته فالسنة الطريقة في الدين وذلك لا ينفي الوجوب ولا حجه في قوله E ( ولم تكتب عليكم ) فإنا نقول : بأنها غير مكتوبة بل هي واجبة فالمكتوب ما يكون فرضا يكفر جاحده فقد كان رسول الله - A - مخصوصا بكون الأضحية مكتوبة عليه كما قال وتأويل حديث أبي بكر وعمر - Bهما - أنهما لا يضحيان في حال الإعسار مخافة أن يراها الناس واجبة على المعسرين أو في حال السفر وهو تأويل حديث أبي مسعود - Bه - ولا كلام في المسألة على سبيل المقايسة . والعبادات لا تثبت قياسا ولكن على سبيل الاستدلال نقول هذه قربة يضاف إليها وفيها فتكون واجبة كالجمعة .
وبيان الوصف أنه يقال يوم الأضحى وتأثيره أن إضافة الوقت إليه لا تتحقق الأوان يكون موجودا فيه ولا يكون موجودا فيه لا محالة الأوان تكون واجبة لجواز أن يجتمع الناس على ترك ما ليس بواجب ولا يجتمعون على ترك الواجب وإن اجتمعوا على ذلك لم يخرج من أن يكون موجودا فيه استحقاقا ولجواز الأداء فيه لا يصير الوقت مضافا إليه كسائر الأيام يجوز فيها الصوم ثم لا يسمى شهر الصوم إلا رمضان فعرفنا أن إضافة الوقت إلى القربة تدل على وجوبها فيه وإنما لا تجب على المسافر لمعنى المشقة فإن الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استصحاب ذلك في السفر ويفوت بمضي الوقت فلدفع المشقة لا تلزمه كالجمعة بخلاف سائر العبادات المالية وإباحة التناول بإذن من له الحق فإنه بالتضحية يجعلها الله تعالى وقد قال الله تعالى : { فكلوا منها } ( الحج : 28 ) ولما كان من جنس التقرب بالتمليك ما هو واجب ابتداء فكذلك من جنس التقرب بالإتلاف ما هو واجب ابتداء وليس ذلك إلا في الأضحية وفي الوجوب بالنذر دليل على أن من جنسه واجبا شرعا فإن ما ليس من جنسه واجبا شرعا لا يصح التزامه بالنذر كعبادة المريض .
ثم يختص جواز الأداء بأيام النحر وهي ثلاثة أيام عندنا قال E ( أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها ) فإذا غربت الشمس من اليوم الثالث لم تجز التضحية بعد ذلك .
وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - تجوز في اليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق .
وهذا ضعيف فإن هذه القربة تختص بأيام النحر دون أيام التشريق . ألا ترى أن الأفضل أداؤها في اليوم الأول وهو العاشر من ذي الحجة وهو يوم النحر لا أيام التشريق على ما قيل الأيام المعدودات ثلاثة وهي أيام النحر والمعلومات ثلاثة وهي أيام التشريق وتمضي هذه السنة في أربعة أيام فاليوم الأول من المعدودات خاصة واليوم الآخر من المعلومات خاصة وقيل المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق .
ثم يختص جواز الأضحية بالإبل والبقر والغنم ولا يجزئه إلا الثني من ذلك في الإبل والبقر والمعز ويجزي الجذع من الضأن إذا كان عظيما سمينا لما روى أن النبي E قال ( ضحوا بالثنيات ولا تضحوا بالجذعان ) ولأن الجذع ناقص وقد أمرنا في الضحايا بالاستعظام والاستشراف قال E ( عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم ) . فأما الجذع من الضأن يجزئ لحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن رجلا ساق جذعا إلى منى فبادت عليه فروى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - A - قال ( نعمت الأضحية الجذع من الضأن فانتهبوها ) ثم الثني من الغنم وهو الذي تم له سنتان عند أهل الأدب وعند أهل الفقه الذي تمت له سنة والثني من البقر الذي تم له حولان وطعن في الثالث عند جمهور الفقهاء - رحمهم الله تعالى - ومن الإبل الذي تم له خمس سنين والجذع من الإبل ما تم له خمس سنين ومن البقر ما تم له حولان وهكذا من الغنم عند أهل الأدب . وعند أهل الفقة إذا تم له سبعة أشهر فهو جذع بعد ذلك ولا خلاف أن الجذع من المعز لا يجوز وإنما ذلك من الضأن خاصة .
ثم أول وقت الأضحية عند طلوع الفجر الثاني من يوم النحر إلا أن في حق أهل الأمصار يشترط تقديم الصلاة على الأضحية فمن ضحى قبل الصلاة في المصر لا تجزئه لعدم الشرط لا لعدم الوقت ولهذا جازت التضحية في القرب بعد انشقاق الفجر .
ودخول الوقت لا يختلف في حق أهل الأمصار والقرى إنما يختلفون في وجوب الصلاة فليس على أهل القرى صلاة العيد وإنما عرفنا هذا في حق أهل الأمصار بحديث البراء بن عازب - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - A - قال في خطبته ( من ضحى قبل الصلاة فليعد فقام خالي أبو بردة بن بشار - Bه - قال : إني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني فقال E تلك شاة لحم فأعد نسيكتك فقال عندي عتود خير من شاتين فقال صلوات الله وسلامه عليه تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك ) وقال E ( إن أول نسكنا في هذا اليوم أن نصلي ثم نذبح ) .
ومن يذبح من أهل الأمصار أضحيته قبل أن يصلي الإمام لم تجزه عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - إذا مضى من الوقت مقدار ما يصلي فيه صلاة العيد عادة جازت الأضحية بعد ذلك لأنهم لو صلوا جازت التضحية فلا يتغير ذلك بتأخير الإمام الصلاة كما لو زالت الشمس .
ولكن نقول الواجب مراعاة الترتيب المنصوص وما بقي وقت الصلاة فمراعاة الترتيب ممكن بخلاف مابعد الزوال فقد خرج وقت صلاة العيد بزوال الشمس في هذا اليوم ولهذا تجوز التضحية بعد ذلك .
( قال ) ( وإذا ذبحها بعدما انصرف أهل المسجد قبل أن يصلي أهل الجبانة أجزأه استحسانا ) ومعنى هذا أن للإمام أن يخرج بالناس إلى الجبانة ويستحلف من يصلي بالضعفة في الجامع هكذا فعله علي - رضي الله تعالى عنه - حين قدم الكوفة .
( قال ) ( وإذا ذبح بعدما فرغ أهل المسجد قبل أن يصلي أهل الجبانة ففي القياس لا تجزئه ) لأن اعتبار جانب أهل الجبانة يمنع الجواز واعتبار جانب أهل المسجد يجوز ذلك وفي العبادات يؤخذ بالاحتياط ولكنا استحسنا وقلنا : قد أديت صلاة العيد في المصر حتى لو اكتفوا بذلك أجزأهم فتجوز التضحية بعد ذلك لأن الترتيب المشروط قد وجد حين ضحى بعد صلاة العيد في هذا المصر ولم يذكر ما لو سبق أهل الجبانة بالصلاة فضحى رجل قبل أن يصلي أهل المسجد . وقيل في هذا الموضع يجوز قياسا واستحسانا لأن المسنون في العيد الخروج إلى الجبانة فأهل الجبانة هم الأصل وقد صلوا وقيل للقياس والاستحسان فيهما لأن أداء الصلاة في المسجد أفضل منه بالجبانة وإذا كان في الموضع الذي صلى فيه أهل المسجد قياسا واستحسانا لما ذكرنا فهنا أولى .
( قال ) ( ولا بأس بأن يضحي بالجماء وبمكسور القرن ) أما الجماء فلان ما فات منها غير مقصود لأن الأضحية من الإبل أفضل ولا قرن له وإذا ثبت جواز الجماء فمكسور القرن أولى وقد روى في ذلك عن عمار بن ياسر - رضي الله تعالى عنه - وكذلك الخصي لما روى أن النبي - A - ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوأين أو موجوبين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ) . والمراد خصيان . وكان إبراهيم يقول ما يزاد في لحمه بالخصاء أنفع للمساكين مما يفوت بالأنثيين إذ لا منفعة للفقراء في ذلك .
( قال ) ( ولا بأس أن يضحي بالجرباء والتولاء إذا كانت سمينة ) والجرباء التي بها جرب وإذا كانت سمينة فالجرب في جلدها لا في لحمها ونهى رسول الله - A - أن يضحى بالعجفاء التي لا تنقي . والتولاء هي المجنونة والجنون عيب في القضاة لا في الشاة فإذا كانت سمينة فما هو المقصود منها باق واشتراط السمن في الحديث الذي روينا أن النبي - A - ضحى بكبشين أملحين يرعيان في سواد وينظران في سواد ويأكلان في سواد ومقصود الراوي من هذه المبالغة بيان السمن .
( قال ) ( ولا بأس أن يشترك سبعة نفر في بقرة أو بدنة ) وقال مالك - C تعالى - يجوز عن أهل بيت واحد بقرة واحدة وإن كانوا أكثر من سبعة ولا تجوز عن أهل بيتين وإن كانوا أقل من سبعة لقوله E ( على أهل كل بيت في كل عام أضحاة وعنبرة ) ومذهبنا مروي عن ابن مسعود وحذيفة - Bهما - والاستدلال بحديث جابر - Bه - قال : اشتركنا يوم الحديبية في البقرة والبدنة فأجاز النبي E البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة والمراد بذكر أهل البيت قيم البيت لأن اليسار له عادة . وقد ذكر في بعض الروايات على كل مسلم في كل عام أضحاة وعنبرة .
ويستوي إن كان قصدهم جميعا التضحية أو قصد بعضهم قربة أخرى عندنا وعند زفر لا يجوز إلا إذا قصدوا جميعا التضحية .
وقال الشافعي يجوز وإن كان قصد بعضهم للحم وقد بينا هذا في المناسك .
فإن كان الشركاء في البدنة ثمانية لم تجزهم لأن نصيب كل واحد منهم دون السبع وكذلك إن كان نصيب أحدهم دون السبع حتى لو سئل عن رجل مات وترك ابنا وامرأة وبقرة وضحى بها يوم العيد هل يجوز .
والجواب أنه لا يجوز لأن نصيب المرأة الثمن فإذا لم يجز ثمنها في نصيبها لا يجوز في نصيب الابن أيضا . فإن مات أحد الشركاء في البدنة ورضي ورثته بالتضحية بها عن الميت مع الشركاء في القياس لا يجوز وهو رواية عن أبي يوسف - C تعالى - لأن نصيب الميت صار ميراثا والتضحية تقرب بطريق الإتلاف فلا يصح التبرع به من الوارث عن الميت كالعتق وإذا لم يجز في نصيبه لم يجز في نصيب الشركاء وفي الاستحسان يجوز لأن معنى القربة حصل في إراقة الدم فإن التبرع من الوارث عن مورثه بالقرب المالية صحيح كالتصدق وإنما لا يجوز العتق لما فيه من إلزام الولاء وذلك غير موجود في الأضحية وعلى هذا إذا كان أحد الشركاء أم ولد ضحى عنها مولاه أو صغير ضحى عنه أبوه ولا خلاف أنه ليس على المولى أن يضحي عن أحد من مماليكه فإن تبرع بذلك جاز وإذا جعله شريكا في البدنة ففيه قياس واستحسان لما بينا . وأما الأب ليس عليه أن يضحي عن ولده الصغار في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أن ذلك عليه كصدقة الفطر لأنه جزء منه فكما يلزمه أن يضحي عن نفسه عند يساره فكذلك عن جزئه .
وجه ظاهر الرواية أن ما لا يلزمه عن مملوكه لا يلزمه عن ولده كسائر القرب بخلاف صدقة الفطر وهذا لأن كل واحد منهما كسبه ولو كانت التضحية عن أولاده واجبة لأمر بها رسول الله - A - ونقل ذلك كما أمر بصدقة الفطر .
وإن كان للصبي مال .
فقال بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - على الأب والوصي أن يضحي من ماله عند أبي حنيفة - Bه - على قياس صدقة الفطر .
الأصح أنه لا يجب ذلك وليس له أن يفعله من ماله لأنه إن كان المقصود الإتلاف فالأب لا يملكه في مال الولد كالعتق وإن كان المقصود التصدق باللحم بعد إراقة الدم فذاك تطوع غير واجب ومال الصبي لا يحتمل صدقة التطوع .
( قال ) ( وإذا اشترى أضحية ثم باعها فاشترى مثلها فلا بأس بذلك ) لأن بنفس الشراء لا تتعين الأضحية قبل أن يوجبها وبعد الإيجاب يجوز بيعها في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - ويكره وفي قول أبي يوسف - C تعالى - لا يجوز لتعلق حق الله تعالى بعينها ولكنهما يقولان تعلق حق الله تعالى بها لا يزيل ملكه عنها ولا يعجزه عن تسليمها وجواز البيع باعتبار الملك والقدرة على التسليم .
ألا ترى أنا نجوز بيع مال الزكاة لهذا والأصل فيه ما روى أن النبي E دفع دينارا إلى حكيم بن حزام - Bه - ليشتري له شاة للأضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى رسول الله - A - فأخبره بذلك فقال - A - ( بارك الله صفقتك أما الشاة فضح بها وأما الدينار فتصدق به ) فقد جوز رسول الله - A - بيعه بعدما اشتراها للأضحية وإن كانت الثانية شرا من الأولى وقد كان أوجب الأولى فتصدق بالفضل فيما بين القيمتين أما جواز الثانية عن الأضحية فلاستجماع شرائط الجواز وأما التصدق فإنه لما أوجب الأولى فقد جعل ذلك القدر من ماله لله تعالى فلا يكون له أن يستفضل شيئا منه لنفسه فيتصدق بفضل القيمة كما أمر رسول الله - A - حكيم بن حزام - Bه - بالتصدق بالدينار ومن أصحابنا - رحمهم الله تعالى - من قال : هذا إذا كان فقيرا أما إذا كان غنيا ممن يجب عليه الأضحية فليس عليه أن يتصدق بفضل القيمة لأن في حق الغني الوجوب عليه بإيجاب الشرع فلا يتعين بتعيينه في هذا المحل .
ألا ترى أنها لو هلكت بقيت الأضحية عليه فإذا كان ما يضحى به محلا صالحا لم يلزمه شيء آخر وأما الفقير فليس عليه أضحية شرعا وإنما لزمه بالتزامه في هذا المحل بعينه ولهذا لو هلكت لم يلزمه شيء آخر فإذا استفضل لنفسه شيئا مما التزمه كان عليه أن يتصدق به . قال الشيخ الإمام والأصح عندي أن الجواب فيهما سواء لأن الأضحية وإن كانت واجب على الغنى في ذمته فهو متمكن من تعيين الواجب في محل فيتعين بتعيينه في هذا المحل من حيث قدر المالية لأنه تعيين مقيد وإن كان لا يتعين من حيث فراغ الذمة .
( قال ) ( والأضحية أحب إلي من التصدق بمثل ثمنها ) والمراد في أيام النحر لأن الواجب التقرب بإراقة الدم ولا يحصل ذلك بالتصدق بالقيمة ففي حق الموسر الذي يلزمه ذلك لا إشكال أنه لا يلزمه التصدق بقيمته وهذا لأنه لا قيمة لإراقة الدم وإقامة المتقوم مقام ما ليس بمتقوم لا تجوز وإراقة الدم خالص حق الله تعالى ولا وجه للتعليل فيما هو خالص حق الله تعالى وأشرنا بهذا إلى الفرق بين هذا والزكاة وصدقة الفطر وأما في حق الفقير التضحية أفضل لما فيه من الجمع بين التقرب بإراقة الدم والتصدق ولأنه متمكن من التقرب بالتصدق في سائر الأوقات ولا يتمكن من التقرب بإراقة الدم إلا في هذه الأيام فكان أفضل وأما بعد مضي أيام النحر فقط سقط معنى التقرب بإراقة الدم لأنها لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم وفي زمان مخصوص وهو أيام النحر ولكن يلزمه التصدق بقيمة الأضحية إذا كان ممن تجب عليه الأضحية لأن تقربه في أيام النحر كان باعتبار المالية فيبقى بعد مضيها والتقرب بالمال في غير أيام النحر يكون بالتصدق ولأنه كان يتقرب بسببين إراقة الدم والتصدق باللحم وقد عجز عن أحدهما وهو قادر على الآخر فيأتي بما يقدر عليه .
( قال ) ( وليس على الرجل أن يضحي عن أولاده الكبار ولا عن امرأته كما ليس عليه صدقة الفطر عنهم في يوم الفطر ) وهذا لأن عليهم أن يضحوا عن أنفسهم فلا يجب عليه أن يضحي عنهم . ( قال ) ( وإذا ولدت الأضحية قبل أن يذبحها ذبح ولدها معها ) لأن حكم التقرب بإراقة الدم ثبت في عينها فيسرى إلى ولدها لأنه متولد من عينها والولد وإن لم يكن محلا للتقرب بإراقة الدم مقصودا يثبت الحكم فيه تبعا للأم ولأن الشرائط تعتبر فيما هو أصل ووجودها في الأصل يغني عن اعتبارها في البيع فإن باعه تصدق بثمنه لأن معنى القربة يثبت فيه فلا يكون له أن يصرف ماليته إلى نفسه كما في حق الأم وكذلك إن أمسك ولدها حتى مضت أيام النحر تصدق به قال الإمام ويكره أن يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها لأنه أعدها للقربة بجميع أجزائها فلا ينبغي له أن يصرف شيئا منها إلى حاجة نفسه لأن ذلك في معنى الرجوع في الصدقة وقال E لعمر - Bه - ( فيما دون هذا لا تعد في صدقتك ) .
( قال ) ( ويكره أن يبيع جلد الأضحية بعد الذبح ) لقوله E ( من باع جلد أضحيته فلا أضحية له ) وقال لعلي - Bه - ( تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا ) فكما يكره له أن يعطي جلدها الجزار فكذلك يكره له أن يبيع الجلد فإن فعل ذلك تصدق بثمنه كما لو باع شيئا من لحمها .
( قال ) ( ولا بأس بأن يشتري بجلد الأضحية متاعا للبيت ) لأنه لو دبغه وانتفع به في بيته جاز وكذلك إذا اشترى به ما ينتفع به في بيته لأن للبدل حكم المبدل وهذا استحسان . وقد ذكر في نوادر هشام قال يشتري به الغربال والجراب وما أشبه ذلك ولا يشتري به الخل والمري والملح وما أشبه ذلك والقياس في الكل واحد ولكنه استحسن فقال ما يكون طريق الانتفاع به تناول العين فهو من باب التصرف على قصد التمول فليس له أن يفعل ذلك في جلد الأضحية وما ينتفع به في البيت مع بقاء العين فهو نظير عين الجلد وكان له أن يفعل ذلك .
( قال ) ( ويكره له أن يحلب الأضحية إذا كان لها لبن فينتفع بلبنها كما يكره له الانتفاع بصوفها ) لأن اللبن يتولد من عينها وقد جعلها للقربة فلا يصرف شيئا منها إلى منفعة نفسه قبل أن يبلغ محله ولكنه ينضح ضرعها بالماء البارد حتى يتقلص منه اللبن ولا يتأدى به إلا أن هذا إنما ينفع إذا كان يقرب من أيام النحر فأما إذا كان بالبعد فلا يفيد هذا لأنه ينزل ثانيا وثالثا بعدما يتقلص ولكنه ينبغي له أن يحلبها ويتصدق باللبن كالهدي إذا عطبت قبل أن يبلغ محله فإن عليه أن يذبحها ويتصدق بلحمها وقد بيناه في المناسك .
( قال ) ( وإن اشترى بقرة يريد أن يضحي بها عن نفسه ثم اشترك معه ستة أجزأه استحسانا ) وفي القياس لا يجزئه وهو قول زفر - C تعالى - لأنه أعدها للقربة فلا يكون له أن يبيع شيئا منها بعد ذلك على قصد التمول والاشتراك بهذه الصفة يوضحه أن هذا رجوع منه عن بعض ما تقرب به وذلك حرام شرعا . وجه الاستحسان أنه لو أشركهم معه في الابتداء بأن اشتروا جملة جاز فكذلك إذا أشركهم بعد الشراء قبل إتمام المقصود وهذا لأن الإنسان قد يبتلي بهذا فإنه قد يجد بقرة سمينة فيشتريها ثم يطلب شركاءه فيها فلو لم يجز ذلك أدى إلى الحرج .
( قال ) ( ولو فعل ذلك قبل أن يشتري كان أحسن ) لأنه أبعد عن الاختلاف وليس فيه معنى الرجوع في القربة لا صورة ولا معنى فكان ذلك أفضل .
( قال ) ( ولا تجوز العوراء في الأضحية ) لقوله E ( استشرفوا العين والأذن ) وفي حديث البراء بن عازب - Bه - قال : ( نهى رسول الله - A - أن يضحي بأربعة العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي ) ثم الأصل أن العيب الفاحش مانع لقوله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ( البقرة : 267 ) واليسير من العيب غير مانع لأن الحيوان قلما ينجو من العيب اليسير فاليسير ما لا أثر له في لحمها وللعور أثر في ذلك لأنه لا يبصر بعين واحدة من العلف ما يبصر بالعينين وعند قلة العلف يتبين العجف ثم العين والأذن منصوص على اعتبارها فإذا كانت مقطوعة الأذن لم تجز لانعدام شرط منصوص وإذا كانت مقطوعة الطرف فكذلك بطريق الأولى . قال وإن كان المقطوع بعض ذلك ففي ظاهر الرواية عن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - إن كان المقطوع أكثر من الثلث لا يجزئه وإن كان الثلث أو أقل يجزئه وهكذا روى هشام عن محمد - رحمهما الله تعالى - اعتبارا بالوصية فإن الثلث في الوصية كما دونه ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث وفي رواية بشر عن أبي حنيفة - C تعالى - إذا كان الذاهب أقل من الثلث يجوز وإن كان أكثر من الثلث لا يجوز لقوله E ( الثلث والثلث كثير ) .
وفي رواية ابن شجاع : إذا كان الذاهب الربع لا يجزئ لأن للربع حكم الكمال كما في مسح الرأس وقال أبو يوسف - C تعالى - إذا بقى الأكثر من العين والأذن أجزأه قال وذكرت قولي لأبي حنيفة فقال قولي قولك . قيل هذا رجوع من أبي حنيفة إلى قوله وقيل معناه قولي قريب من ذلك . وجه قول أبي يوسف أن القلة والكثرة من الأسماء المقابلة فإذا كان الذاهب أقل من النصف قلنا إذا قابلت الذاهب بالباقي كان الباقي أكثر وإذا كان الذاهب أكثر من النصف فإذا قابلته بالباقي كان الذاهب أكثر فإذا كان الذاهب النصف قال لا يجوز لأنه لما استوى المانع والمجوز يترجح المانع احتياطا .
فأما الشق في الأذن فهو عيب يسير . ألا ترى أنه يفعل ذلك للعلامة بمنزلة السمة فلا يمنع الجواز .
ومن العلماء - رحمهم الله تعالى - من لا يجوز لما روى أن النبي - A - ( نهى أن يضحي بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة ) .
فالشرقاء : أن يكون الخرق في أذنها طولا والخرقاء أن يكون عرضا .
والمقابلة قطع في مقدم أذنها .
والمدابرة في مؤخر أذنها .
وتأويل ذلك عندنا إذا كانت بعض الأذن مقطوعة وكان الذاهب أكثر من الثلث لما بينا فأما العرجاء إذا كانت تمشي فلا بأس به لأنه E سئل عن العرجاء فقال : ( إذا كانت تبلغ فلا بأس به ) فإذا كانت لا تقوم ولا تمشي لا يجوز لأن ذلك يؤثر في لحمها فإنها لا تعلف إلا ما حولها وإذا كانت تمشي فهي تذهب إلى العلف فلا يؤثر في لحمها ) .
ولا تجزئ العجفاء التي لا تبقى للنهي الذي روينا ولأن هذا عيب فاحش أثر في لحمها ويستوي إن اشتراها كذلك أو صارت عنده كذلك وهو موسر لأن الواجب في ذمته بصفة الكمال فلا يتأدى بالناقص .
فأما إذا كان معسرا أجزأه لأنه لا واجب في ذمته بل يثبت الحق في العين فيتأدى بالعين على أي صفة كانت وذلك مروي عن علي - Bه - وكذلك لو ماتت عنده أو سرقت فعليه بدلها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا وعلى هذا قالوا الموسر إذا ضلت أضحيته فاشترى أخرى ثم وجد الأولى فله أن يضحي بأيهما شاء .
وإن كان معسرا فاشتراها وأوجبها فضلت ثم اشترى أخرى فأوجبها ثم وجد الأولى فعليه أن يضحي بهما لأن الوجوب في العين بايجابه وقد وجد ذلك في الثانية كالأولى وإن أصابها شيء من هذه العيوب في اضطرابها حين أضجعها للذبح وذبحها على مكانها ففي القياس لا تجزئه لأنه تأدى الواجب بالأضحية لا بالإضجاع وهي معيبة عند التضحية بها وفي الاستحسان تجزئة لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فقد ينقلب السكين من يده فتصيب عينها فيجعل ذلك عفوا لدفع الحرج ولأنه أضجعها ليتقرب بإتلافها فتلف جزء منها في هذه الحالة من عمل التقرب فلا يمنع الجواز بخلاف ما قبل الإضجاع وعن أبي يوسف قال : إذا أصابها ذلك في يوم النحر ثم ضحى بها بعد ذلك بيوم أو يومين جاز لأنه جاء وقت إتلافها تقربا فتلف جزء منها في هذه الحالة لا يمنع الجواز .
( قال ) ( ولا يجوز أن يضحي بشاة ليس لها أذنان خلقت كذلك وهي السكاء ) لأن قطع الأذن لما كان مانعا من الجواز فعدم الأذن أصلا أولى بعض فأما صغيرة الأذن تجزئ لأن الأذن منها صحيحة وإن كانت صغيرة وأما الهتماء فكان أبو يوسف - C تعالى - يقول أولا لا يجوز أن يضحي بها وإن كانت تعتلف ثم رجع وقال يجوز إذا كانت تعتلف لأنه وقع عنده في أن يضحي بها لأن الهتماء ليس لها أسنان ثم علم بعد ذلك أن الهتماء مكسورة بعض الأسنان فإذا كانت تعتلف فالباقي من الأسنان أكثر من الذاهب وذلك لا يمنع الجواز عنده ثم قال والتي لا أسنان لها بمنزلة التي لا أذن لها فكل واحد منهما مقصود في البدن بل السن في الأنعام أقرب إلى المقصود من الأذن لأنها تعتلف بالأسنان .
( قال ) ( ولا يجوز في الضحايا والواجبات بقر الوحش وحمر الوحش والظبي ) لأن الأضحية عرفت قربة بالشرع وإنما ورد الشرع بها من الأنعام ولأن إراقة الدم من الوحشي ليس بقربة أصلا والقربة لا تتأدى بما ليس بقربة وإذا كان الولد بين وحشي وأهلي فإن كانت الأم أهلية جازت التضحية بالولد وإن كانت وحشية لا تجوز لأن الولد جزء من الأم فإن ماء الفحل يصير مستهلكا بحضانتها وإنما ينفصل الولد منها ولهذا يتبعها في الرق والملك فكذلك في التضحية وهذا لأنه ينفصل من الفحل وهو ماء غير محل لهذا الحكم وينفصل من الأم وهو حيوان محل لهذا الحكم فلهذا جعلناه معتبرا بالأم .
( قال ) ( رجل ذبح أضحية غيره بغير أذنه ففي القياس هو ضامن لقيمتها ولا يجزيه من الأضحية ) وهو قول زفر لأنه متعد في ذبح شاة الغير فكان ضامنا كمن ذبح شاة القصاب ثم الأضحية لا تتأدى إلا بعمل المضحى وبيته ولم يوجد ذلك حين فعله الغير بغير أذنه ففي القياس هو ضامن لقيمتها ولا يجزيه من الأضحية . ولكنا نستحسن ونقول يجزئه ولا ضمان على الذابح لأنه لما عينها للأضحية فقد صار مستغنيا بكل واحد بالتضحية بها في أيام النحر لأن ذلك يفوته بمضي الوقت وربما يعرض له عارض في أيام النحر والأذن دلالة كالأذن إفصاحا كما في شرب ماء في السقاية ونظائرها . وقال الشافعي - C تعالى - يجزئه من الأضحية ولكن الذابح ضامن لقيمتها وهذا بعيد فالجواز لا يكون إلا بعد وجود الأذن دلالة ولو وجد الأذن إفصاحا لم يضمن فكذلك إذا وجد الأذن دلالة وعلى هذا لو أن رجلين غلطا فذبح كل واحد منهما أضحية صاحبه على نفسه أجزأ كل واحد منهما استحسانا ويأخذ كل واحد منهما مسلوخه من صاحبه فإن كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد منهما صاحبه ويجزئهما لأنه لو أطعم كل واحد منهما صاحبه لحم أضحيته جاز ذلك غنيا كان أو فقيرا . قال أبو يوسف - C تعالى - إن تشاحا فلكل واحد منهما تضمين صاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة كما لو باع لحم أضحيته فعليه أن يتصدق بالثمن .
( قال ) ( ولو أمر مجوسيا فذبح أضحيته لم تجزه ) لأن هذا إفساد لا تقرب فإن ذبيحة المجوسي لا تؤكل ولو أمر يهوديا أو نصرانيا بذلك أجزأه لأنهما من أهل الذبح ولكنه مكروه لأن هذا من عمل القربة وفعله ليس بقربة .
( قال ) ( فإن ذبح أضحيته بنفسه فهو أفضل ) لأن النبي E لما ساق مائة بدنة نحر منها ثلاثا وستين بنفسه ثم ولى الباقي عليا - Bه - وحين ضحى بالشاتين ذبحهما بنفسه ولكن هذا إذا كان يحسن ذلك فإن كان يخاف أن يعجز عن ذلك فالأفضل أن يستعين بغيره ولكنه ينبغي له أن يشهدها بنفسه لما روي أن النبي E قال لفاطمة - رضي الله تعالى عنها - ( قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب أما أنه يجيء بلحمها ودمها يوم القيامة فيوضع في ميزانك سبعين ضعفا ) قال أبو سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - أهذا لآل محمد E فهم أهل لما خصوا به من الخير - أم للمسلمين عامة - قال E ( لآل محمد خاصة وللمسلمين عامة ) .
( قال ) ( والأضحية تجب على أهل السواد كما تجب على أهل الأمصار ) لأنهم مقيمون مياسير وإنما لم تجب على المسافرين لما يلحقهم من المشقة في تحصيلها وذلك غير موجود في حق أهل القرى وفي الأصل ذكر عن إبراهيم قال هي واجبة على أهل الأمصار ما خلا الحاج وأراد بأهل الأمصار المقيمين وبالحاج المسافرين فأما أهل مكة فعليهم الأضحية وإن حجوا .
( قال ) ( ولا بأس لأهل القرى أن يذبحوا الأضاحي بعد انشقاق الفجر ) لما بينا أن دخول الوقت بانشقاق الفجر من يوم النحر إلا أن أهل الأمصار عليهم الصلاة فيلزمهم مراعاة الترتيب ولا صلاة على أهل القرى لقوله E ( لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ) .
ثم المعتبر المكان الذي فيه الأضحية حتى إذا كان الرجل بالمصر وأضحيته بالسواد يجوز أن يضحي بها بعد انشقاق الفجر فأما إذا كان هو بالسواد وأضحيته بالمصر لا يجوز أن يضحي بها إلا بعد فراغ الإمام من الصلاة وقد بينا أن أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها وذلك مروي عن عمر وعلي وابن عباس - Bهم .
( قال ) ( ويجزيه الذبح في لياليها إلا أنهم كرهوا الذبح في الليالي ) لأنه لا يأمن أن يغلط فتفسد الظلمة الليل ولكن هذا لا يمنع الجواز .
( قال ) ( وليس على أهل منى يوم النحر صلاة العيد ) لأنهم في وقت صلاة العيد مشغولون بأداء المناسك فلا يلزمهم صلاة العيد ويجوز لهم التضحية بعد انشقاق الفجر كما لا يجوز لأهل القرى والله سبحانه وتعالى أعلم