( روي ) عن أبي سيرين - C تعالى - قال : لا تجوز شركة بعروض ولا بمال غائب . وفي هذا دليل على أنه لا بد من إحضار رأس المال ولكن إن وجد الإحضار عند الشراء بها فهو والإحضار عند العقد سواء حتى إذا دفع إلى رجل ألف درهم على أن يشتري بها وبألف من ماله وعقدا عقد الشركة بينهما بهذه الصفة فأحضر الرجل المال عند الشراء جازت الشركة لأن المقصود هو التصرف لا نفس الشركة فإذا وجد إحضار المال عند المقصود كان ذلك بمنزلة الإحضار عند العقد .
( وعن ) الشعبي - C - قال الربح على ما اصطلحا عليه والوضيعة على المال فكذلك في الشركة وهو مروي وعن علي - رضي الله تعالى عنه - وبه نأخذ . وتعتبر الشركة بالمضاربة فكما أن الربح في المضاربة على الشرط والوضيعة على المال فكذلك في الشركة ( وعن ) علي - رضي الله تعالى عنه - قال ليس على من قاسم الربح ضمان وتفسير هذا أن الوضيعة على المال في المضاربة والشركة لأن الوضيعة هلاك جزء من المال والمضارب والشريك أمين فيما في يده من المال وهلاك المال في يد الأمين كهلاكه في يد صاحبه .
( قال ) ( وإذا اشترك الرجلان شركة مفاوضة فكتبنا بينهما كتابا بينا فيه أنهما اشتركا فيه في كل قليل أو كثير شركة مفاوضة وأن رأس مالهما كذا وكذا بينهما نصفين يعمل كل واحد منهما برأيه فإذا اشتركا على هذا فهما متفاوضان ) وهذا لما بينا أن اعتبار المساواة ركن المفاوضة فلا بد من أن تذكر التسوية بينهما في رأس المال والربح وأن الشركة بينهما في كل قليل أو كثير لأنه إذا اختص أحدهما بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة لا يكون العقد بينهما مفاوضة لانعدام المساواة ولكن إن اختص أحدهما بملك عرض أو دين على إنسان فالشركة بينهما مفاوضة لأن العرض لا يصلح أن يكون رأس مال الشركة والدين كذلك وهو نظير الاختصاص بالزوجة أو الولد وذلك لانعدام المساواة المعتبرة في المفاوضة ونص في الكتاب على لفظة المفاوضة .
وقد بينا أن هذا لا بد منه وإن كانا لا يعرفان جميع أحكام المفاوضة وبعدما صارا متفاوضين فما اشترى أحدهما فهو جائز عليه وعلى صاحبه يؤخذ به كلمة لأن المفاوضة تتضمن الوكالة والكفالة فبحكم الوكالة يجعل شراء أحدهما كشرائهما وبحكم الكفالة يجعل كل واحد منهما مطالبا بما يجب على صاحبه بسبب التجارة .
( قال ) ( وإن كان رأس مال كل واحد منهما ألف درهم فاشتركا ولم يخلطا المال فالشركة جائزة ) وفي النوادر قال في القياس لا تكون الشركة مفاوضة بينهما قبل خلط المالين لأن كل واحد منهما مختص بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة وذلك ينفي المفاوضة وفي الاستحسان يجوز لأن المساواة موجودة بينهما وإن لم يخلطا المال واختصاص أحدهما بملك مال غير صاف للمفاوضة بعينه بل بانعدام المساواة فإذا كانت المساواة موجودة كان الخلط وعدم الخلط سواء فإن هلك أحد المالين يهلك من مال صاحبه على ما بينا في شركة العنان وتبطل الشركة بينهما .
وإن اشتريا بأحد المالين في القياس تبطل المفاوضة أيضا لأن المشتري صار بينهما نصفين والآخر مختص بملك رأس ماله فتنعدم المساواة وفي الاستحسان لا يبطل العقد . وللاستحسان وجهان : .
( أحدهما ) : أن المساواة قائمة معنى لأن الآخر وإن ملك نصف المشتري فقد صار نصف الثمن مستحقا عليه لصاحبه ونصف ماله مستحق به لصاحبه .
( والثاني ) : أن ما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا ولا يمكن التحرز عن هذا التفاوت عادة فقلما يجدان شيئا واحدا يشتريانه بمالهما . ولا بد من أن يكون الشراء بأحد المالين قبل الآخر فيجعل هذا عفوا لعدم إمكان التحرز عنه .
( قال ) ( فإن كانت دراهم أحدهما بيضا ودراهم الآخر سودا فهو كذلك ) لأن السود والبيض كل واحد منهما يصلح أن يكون رأس مال في الشركة وبتفاوت الوصف ينعدم الاختلاط وقد بينا أن الخلط ليس بشرط إلا أن يكون لأحدهما على الآخر فضل في الصرف فلا تجوز شركة المفاوضة لانعدام التساوي بينهما إلا في رواية عن أبي يوسف - C - وقد بينا هذا ثم تكون الشركة بينهما عنانا لأن تحصيل مقصود المتعاقدين بقدر الإمكان واجب والعنان قد يكون عاما وقد يكون خاصا وهذا عنان عاما وإن لقباه بالمفاوضة فهو لقب فاسد لانعدام شرط المفاوضة ولكن لا يبطل به أصل الشركة فإن كان شراء يوم وقعت الشركة ثم صار في أحدهما فضل قبل أن يشتريا شيئا فسدت المفاوضة أيضا لأنه اعترض بعد العقد قبل حصول المقصود به ما يمنع ابتداء العقد وهو التفاوت في ملك المال فيكون مبطلا للعقد كما لو ورث أحدهما مالا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة تفسد به المفاوضة وإن كان ذلك بعد الشراء بالمالين جميعا فالشركة جائزة لأن المقصود قد حصل حين اشتريا بالمالين فلا معتبر بما يظهر من التفاوت في العرف بعد ذلك .
( فإن قيل ) : أليس أنه لو ورث أحدهما مالا بعد الشراء بالمالين أو وهب له مالا فسدت المفاوضة .
( قلنا ) : لأن المساواة في ملك المال منعدم هناك بما اختص به أحدهما وهنا لا ينعدم لأن ملكهما تحول من الدراهم إلى المشتري والمشتري بينهما نصفان .
( فإن قيل ) : لا كذلك بل لكل واحد منهما على صاحبه نصف رأس ماله دينا عليه حتى لو هلك المشتري يرجع كل واحد منهما على صاحبه بنصف رأس ماله فينعدم المساواة أيضا بظهور الفصل في النصف .
( قلنا ) : نعم ولكن ما استوجبه كل واحد بينهما على صاحبه دين عليه والدين لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة فالتفاوت بينهما في ذلك لا يمنع بقاء المفاوضة كما لو ورث أحدهما دينا أو عرضا وكذلك لو كان رأس مال أحدهما ألف درهم ورأس مال الآخر مائة دينار فإن كانت قيمتها مثل الألف فالشركة بينهما مفاوضة وهذا في التفريع كالسود والبيض وإن كانت قيمة الدنانير أكثر من ألف درهم لم تجز المفاوضة لانعدام المساواة وكانت الشركة بينهما عنانا حتى لا يطالب كل واحد منهما بما يجب على صاحبه لأن ذلك من حكم من الكفالة الثابتة بالمفاوضة .
( قال ) ( وإذا اقتسما ضرب كل واحد منهما برأس ماله أو بقيمته يوم يقتسمون ) لما بينا أن المعتبر قيمة رأس المال وقت القسمة لإظهار الربح فإنه لما لم يصل إلى كل واحد منهما جميع رأس ماله لا يظهر الربح ليقتسماه بينهما .
( قال ) ( ولو قال أحدهما لصاحبه بعتك نصف مالي هذا بنصف مالك هذا فرضي بذلك وتقابضا كانا شريكين فيهما بمنزلة المال المختلط ) لأن العقد الذي جرى بينهما عقد صرف وقد تم بالتقابض فصار كل واحد من المالين مشتركا بينهما نصفين فإن كان رأس مال أحدهما دراهم ورأس مال الآخر عروضا فباعه نصف العروض بنصف الدراهم وتقابضا ثم اشتركا شركة مفاوضة أو شركة عنان جاز ذلك لأن الدراهم بهذا العقد صارت نصفين بينهما فيكون ذلك رأس مالهما ثم يثبت في الشركة حكم العروض وهو بينهما نصفان بيعا .
وقد يدخل في العقد بيعا ما لا يجوز ايراد العقد عليه قصدا كالشرب والطريق في البيع والمنقولات في الوقف يثبت فيها حكم الوقف تبعا إذا وقف قرية بما فيها من الدواب والمماليك وآلات الحراثة وإن كان لا يثبت حكم الوقف في المنقولات قصدا فهذا مثله . وقد بينا أن الشراء والحل بمنزلة العروض في أنه لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة .
( قال ) ( وإن اشتركا شركة مفاوضة بغير مال على أن يشتريا بوجوههما فهو جائز ) كما بيناه في شركة العنان إلا أن تكون المفاوضة عامة ومثله في الوكالة لا يجوز فإن من قال لغيره اشتر بيني وبينك لا يكون ذلك صحيحا ما لم يعين المشتري أو يخص بذكر الوقت أو بتسمية الجنس في العروض والقدر في المكيل والموزون أو بتسميته الثمن وتفويض الأمر إلى رأيه على العموم وفي شركة الوجوه يجوز ذلك بدون التخصيص لأنها تشتمل على البيع والشراء ومقصودهما الربح لا عين المشتري ومثله في الوكالة يجوز أيضا لو قال كل واحد منهما لصاحبه ما اشترينا من شيء فهو بيننا نصفان على أن يبيعه ويقسم ربحه نصفين وكان ذلك تفسيرا للشركة فأما في الوكالة الخاصة المقصود عين المشتري فلا بد من اعتبار معنى الخصوص فيه لتصحيح الوكالة .
( قال ) ( وكذلك إن اشترك خياطان في الخياطة مفاوضة أو خياط وقصار أو شبه ذلك من الأعمال المختلفة أو المتفقة حتى إذا تقبل أحدهما عملا أخذ الآخر به وإن كان عمله غير ذلك العمل ) لأن بشركة المفاوضة صار كل واحد منهما وكيل صاحبه في تقبل العمل له وكفيلا عن صاحبه فيما يجب عليه فكان كل واحد منهما مأخوذا بما يقبله الآخر ولا يمتنع صحة التقبل باعتبار أن ذلك ليس من عمله لأنه لا يتعين عليه إقامة ما يقبل ببدنه ولكن له أن يقيمه بأعوانه وأحزابه وهو يقدر له على إبقاء ما التزمه بهذا الطريق فلهذا كان مطالبا بحكم الكفالة والله سبحانه وتعالى أعلم