( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C تعالى - إملاء .
الأصل في جواز الشركة ما روي أن السائب بن شريك جاء إلى رسول الله - A - فقال : أتعرفني فقال صلوات الله وسلامه عليه وكيف لا أعرفك وكنت شريكي وكنت خير شريك لا تداري ولا تماري أي لا تداجي ولا تخاصم وبعث رسول الله - A - والناس يفعلون ذلك فأقرهم عليه وقد تعامله الناس من بعد رسول الله - A - إلى يومنا هذا من غير نكير منكر . ( ثم ) الشركة نوعان : شركة الملك وشركة العقد .
( فشركة الملك ) أن يشترك رجلان في ملك مال وذلك نوعان : .
ثابت بغير فعلهما كالميراث .
وثابت بفعلهما وذلك بقبول الشراء أو الصدقة أو الوصية والحكم واحد وهو أن ما يتولد من الزيادة يكون مشتركا بينهما بقدر الملك وكل واحد منهما بمنزلة الأجنبي في التصرف في نصيب صاحبه .
( وأما شركة العقد ) فالجائز منها أربعة أقسام : .
المفاوضة والعنان وشركة الوجوه وشركة التقبل ويسمى هذا شركة الأبدان وشركة الصنائع .
( فأما العنان ) فهو مشتق من قول القائل عن لي كذا أي عرض قال امرؤ القيس : .
فعن لنا سرب كان نعاجه .
عذارى دوار في ملاء مذبل .
أي عرض .
وزعم بعض أهل الكوفة أن هذا شيء أحدثه أهل الكوفة ولم يتكلم به العرب وليس كذلك فقد قال النابغة الجعدي : .
وشاركنا قريشا في نقاها .
وفي احسابها شرك العنان .
( وقيل ) : هو مأخوذ من عنان الدابة على معنى أن راكب الدابة يمسك العنان بإحدى يديه ويعمل بالأخرى وكل واحد من الشريكين يجعل عنان التصرف في بعض المال إلى صاحبه دون البعض أو على معنى أن للدابة عنانين أحدهما أطول والآخر أقصر فيجوز في هذه الشركة أن يتساويا في رأس المال والربح أو يتفاوتا فسميت عنانا .
( وأما المفاوضة ) فقد قيل اشتقاقها من التفويض فإن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه في جميع مال التجارة .
( وقيل ) اشتقاقها من معنى الانتشار يقال فاض الماء إذا انتشر واستفاض الخير يستفيض إذا شاع فلما كان هذه العقد مبنيا على الانتشار والظهور في جميع التصرفات سمي مفاوضة .
( وقيل ) : اشتقاقها من المساواة قال القائل : .
لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم .
ولا سراة إذا جهالهم سادوا .
يعني متساوين فلما كان هذا العقد مبنيا على المساواة المال والربح سمي مفاوضة .
( وأما شركة الوجوه ) تسمى شركة المفاليس وهو أن يشترك الرجلان بغير رأس مال على أن يشتريا بالنسيئة ويبيعا سميت بهذا الاسم على معنى أن رأس مالهما وجههما فإنه إنما يباع في النسيئة ممن له في الناس وجه .
وشركة التقبل أن يشترك صانعان في تقبل الأعمال كالخياطة والقصارة ونحو ذلك وتسمى شركة الأبدان لأنهما يعملان بأبدانهما وشركة الصنائع لأن رأس مالهما صنعتهما .
( وأما شركة العنان ) فهو أن يشترك الرجلان برأس مال يحضره كل واحد منهما ولا بد من ذلك إما عند الشراء حتى أن الشركة لا تجوز برأس مال غائب أو دين .
ولا يشترط لجواز هذه الشرك خلط المالين عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - يشترط وهي رواية عن زفر .
والأصل عنده أن شركة الملك أصل ثم شركة العقد تنبني عليه قال لأن الشركة عبارة عن الاختلاط وذلك إنما يتحقق في الملك والمعتبر في كل عقد ما هو قضية اسم ذلك العقد كالحوالة والكفالة والصرف . فإذا خلطا المالين على وجه لا يمكن تمييز أحدهما عن الآخر فقد ثبتت الشركة في الملك فينبني عليه شركة العقد فأما قبل الخلط فالشركة في الملك لم تثبت حتى إذا هلك رأس مال أحدهما كان هالكا عليه خاصة فلا تثبت شركة العقد لأن معنى الاختلاط فيه لا يتحقق مقصودا . وعندنا موجب شركة العقد الوكالة على معنى أن كل واحد منهما يكون وكيل صاحبه في الشراء بالمال الذي عينه ولهذا شرطنا تعيين المال عند العقد أو عند الشراء لأن الوكالة بالشراء بماله لا تصح إلا به فإنه بدون تعيين المال يكون الوكيل مشتريا بما في ذمته وهذا التوكيل صحيح بدون خلط المالين ومعنى الاختلاط الذي تقتضيه الشركة في المشتري بالمال والربح لا في رأس المال وذلك ثابت بدون خلط وعلى هذا الأصل لو كان رأس مال أحدهما دراهم والآخر دنانير تنعقد الشركة بينهما صحيحة عندنا خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله .
وكذلك إن كان رأس مال أحدهما بيضا والآخر سودا لأن الشركة في الملك لا تثبت هنا حين كانا لا يختلطان . وعلى الرواية التي شرط زفر الخلط جواب هذه الفصل ظاهر على مذهبه وأما على الرواية التي لا يشترط ذلك نقول في هذين الفصلين ربما يظهر الربح لأحدهما دون الآخر بتغيير سعر أحد النقدين وذلك تقتضيه الشركة وعندنا موجب هذا العقد الوكالة وذلك صحيح مع اختلاف النقدين فإنهما لو صرحا بالوكالة بأن يشتري أحدهما بهذه الدراهم على أن يكون المشتري بينهما ويشتري الآخر بهذه الدنانير على أن يكون المشتري بينهما كان صحيحا . فكذلك تصح الشركة بهذه الصفة .
( فأما شركة المفاوضة ) فهي جائزة عندنا .
وقال مالك - C تعالى - لا أعرف ما المفاوضة .
وقال الشافعي - Bه - إن كان في الدنيا عقد فاسد فهو المفاوضة وربما قال إنه نوع من القمار فأما مالك - C تعالى - فإن كان لا يعرفها لغة فقد بينا اشتقاقها وإن كان لا يعرفها شرعا فقد قال رسول الله - A - ( تفاضوا فإنه أعظم للبركة ) وقال E ( إذا فاوضتم فأحسنوا المفاوضة ) .
وأما الشافعي - C تعالى - فإنه ينبني على مذهبه أن الأصل شركة الملك وما هو موجب المفاوضة قط لا يثبت باعتبار شركة الملك فلهذا أفسدها وقال لأنها تتضمن الكفالة بالمجهول للمجهول فإن كل واحد منهما يكون كفيلا عن صاحبه فيما يلزمه بجهة التجارة والكفالة للمجهول بالمعلوم باطل فبالمجهول أولى .
والذي يقول أنه ضرب من القمار فإنما يدخل ذلك على مذهب الثوري لأنه يقول إذا ورث أحدهما مالا يكون ذلك مشتركا بينهما ولسنا نقول بذلك فلا يدخل ذلك على مذهبنا .
وحجتنا في ذلك أن هذه الشركة تتضمن الكفالة والوكالة وكل واحد منهما صحيح مقصودا فكذلك في ضمن الشركة . فأما الجهالة بعينها لا تبطل الكفالة ولكن تمكن المنازعة سببا وذلك منعدم هنا لأن كل واحد منهما إنما يصير ضامنا عن صاحبه ما لزمه بتجارته وعند اللزوم المضمون له والمضمون به معلوم ومثل هذا لا يوجد في شركة العنان فإن التوكيل بشراء مجهول الجنس لا يصح مقصودا .
ثم صحت شركة العنان وإن تضمنت ذلك لأن ما يشتريه كل واحد منهما غير مسمى في العقد فكذلك المفاوضة . ومن شروط هذه العقد أن يتساويا في رأس المال ولا يختص أحدهما بملك مال يصلح أن يكون رأس ماله في الشركة من النقود وأن يتساويا في الربح فلا يشترط لأحدهما زيادة على صاحبه لما بينا أن قضية اللفظ المساواة . ثم في ظاهر هذه الرواية تصح هذه الشركة من غير خلط المالين والمالان لا يختلطان كالدراهم والدنانير والسود والبيض .
وزفر - C تعالى - لا يجوز هذه الشركة بدون خلط المالين برواية واحدة .
( قال ) : لأنه لو جاز لكان كل واحد منهما مختصا بملك مال بعد عقد الشركة وذلك لا يجوز في هذا العقد .
( وقد ) روى الحسن عن أبي حنيفة - C تعالى - أن هذه الشركة لا تجوز بمالين لا يختلطان لأن المساواة شرط في هذا العقد والمساواة بين الدراهم والدنانير في المالية إنما تكون بالتقويم وطريق ذلك الحزر والمساواة شرعا لا تثبت بهذا الطريق كالمساواة التي تشترط في مبادلة الأموال الربوية بجنسها وإن كان رأس مال أحدهما بيضا ورأس مال الآخر سودا وبينهما تفاوت في الصرف لا يجوز هذا العقد في ظاهر الرواية لعدم المساواة .
( وذكر ) إسماعيل بن حماد عن أبي يوسف - رحمهم الله تعالى - أنه يجوز لأنه لا قيمة للجودة في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها وإنما تعتبر المساواة في الوزن قال - A - ( جيدها ورديئها سواء ) . وروى الحسن عن أبي حنيفة أن المفاوضة لا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة حتى إذا لم يذكر لفظة المفاوضة كان عنانا عاما .
والعنان قد يكون عاما وقد يكون خاصا . وتأويل هذا أن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة فلا يتحقق منهما الرضا بحكم المفاوضة قبل علمهما به ويجعل تصريحهما بالمفاوضة قائما مقام ذلك كله فإن كان المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم يصرحا بلفظها لأن المعتبر المعنى دون اللفظ .
( فأما شركة الوجوه ) فهي صحيحة عندنا وباطلة عند الشافعي بناء على أصله أن الأصل شركة الملك وذلك لا يوجد في شركة الوجوه . وعندنا شركة العقد تصح باعتبار الوكالة وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بالشراء على أن يكون المشترى بينهما نصفين أو ثلاثا صحيح فكذلك الشركة التي تتضمن ذلك إلا أن في هذا العقد لا يصح التفاضل في اشتراط الربح بعد التساوي في ملك المشتري لأن الذي يشترط له الزيادة ليس له في نصيب صاحبه رأس مال ولا عمل ولا ضمان فاشتراط جزء من ذلك الربح له يكون ربح ما لم يضمن ونهى رسول الله - A - عن ذلك فإن أراد التفاوت في الربح فينبغي أن يشترط التفاوت في ملك المشتري بأن يكون لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان حتى يكون لكل واحد منهما الربح بقدر ملكه .
وهذه الشركة عندنا تجوز عنانا ومفاوضة إلا أن المفاوضة لا تكون إلا باعتبار المساواة في المشتري والربح جميعا .
( فأما شركة التقبل ) فهي صحيحة عندنا ولا تصح عند الشافعي - C تعالى - بناء على أصله أن شركة الملك أصل ولا يوجد ذلك في هذه الشركة فإن الخلط في العمل لا يتحقق . ولكنا نقول جواز الشركة باعتبار الوكالة وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بتقبل العمل صحيح فكذلك الشركة والناس تعاملوا بهذه الشركة وشركة الوجوه من لدن رسول الله - A - إلى يومنا هذا من غير نكير وهو الأصل في جواز الشركة . ثم استحقاق الربح في طريق الشركة يكون بالمال تارة وبالعمل أخرى بدليل المضاربة فإن رب المال يستحق نصيبه من الربح بماله والمضارب بعمله وذلك العقد شركة الإجارة بدليل أنها لا تلزم وأنه لا يحتاج فيها إلى بيان المدة فإذا صح عقد الشركة بين اثنين بالمال فكذلك يصح باعتبار العمل لأن كل واحد منهما يستحق به الربح وسواء اتفقت الأعمال أو اختلفت عندنا .
وقال زفر - C تعالى - إن اتفقت الأعمال كالقصارين والصباغين إذا اشتركا يجوز وإذا اختلفت بأن يشترك قصار وصباغ لا تجوز الشركة لأن كل واحد منهما عاجز عن العمل الذي يتقبله صاحبه فإن ذلك ليس من صنعته فلا يتحقق ما هو مقصود الشركة عند اختلاف الأعمال .
ولكنا نقول : جواز هذه الشركة باعتبار الوكالة والتوكيل بتقبل العمل صحيح ممن يحسن مباشرة ذلك العمل وممن لا يحسن لأنه لا يتعين على المتقبل إقامة العمل بيده بل له أن يقيم بأعوانه وأجرائه وكل واحد منهما غير عاجز عن ذلك فكان العقد صحيحا .
( وهذا ) النوع من الشركة قد يكون عنانا وقد يكون مفاوضة عند استجماع شرائط المفاوضة ومعنى هذا أنه متى كان مفاوضة فإن كل واحد منهما مطالب بما يلتزمه صاحبه بحكم الكفالة ومتى كان عنانا فإنما يطالب به من باشر السبب دون صاحبه كما هو حكم الوكالة .
( إذا ) عرفنا هذا فنقول : .
بدأ الكتاب ببيان شركة العنان وأنهما كيف يكتبان كتاب هذه الشركة بينهما والشركة عقد يمتد فيستحب الكتاب في مثله ليكون حكما بينهما فيما يجري من المنازعة قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } ( البقرة : 282 ) ثم المقصود بالكتاب التوثق والاحتياط فينبغي أن يكتب على أوثق الوجوه ويتحرز فيه من طعن كل طاعن .
ثم بدأ فقال ( هذا ما اشترك عليه فلان وفلان ) وبعض أصحاب الشروط عابوا عليه في هذا اللفظ فقال هذا إشارة إلى الصك فالأحوط أن يكتب هذا كتاب فيه ذكر ما اشترك فلان وفلان . ولكن محمدا - C تعالى - اتبع الكتاب والسنة فيما اختار قال الله تعالى { هذا ما توعدون } ( ق : 32 ) وهو إشارة إلى ما هو المقصود من الوعد للأبرار والوعيد للفجار .
ولما اشترى رسول الله - A - عبدا أمر أن يكتب هذا ما اشترى محمد رسول الله - A - من الغد بن خالد بن هوذة اليهودي ( ولما ) أمر - A - بكتاب الصلح يوم الحديبية كتب علي - رضي الله تعالى عنه - بأمر رسول الله - A - هذا ما اصطلح محمد بن عبدالله وسهل بن عمرو على أهل مكة .
ثم قال ( اشتركا على تقوى الله وأداء الأمانة ) فإن هذا العقد عقد أمانة والمقصود تحصيل الربح وذلك بالتقوى وأداء الأمانة يحصل .
( ثم يبين مقدار رأس مال كل واحد منهما ) لأن عند القسمة لا بد من تحصيل رأس مال كل واحد منهما ليظهر الربح فلا بد من إعلام ذلك في كتاب الشركة ليرجعا إليه عند المنازعة .
ثم قال ( وذلك كله في أيديهما ) وهذه إشارة إلى أن رأس المال ليس بغائب ولا دين بل هو عين في أيديهما . ومن الناس من شرط الخلط ومنهم من شرط أن يكون المال في أيديهما جميعا فللتوثق يذكر ذلك ويذكر أنهما يشتريان به ويبيعان جميعا في شيء ويعمل كل واحد منهما فيه برأيه ويبيع بالنقد والنسيئة .
وعندنا هذا يملكه كل واحد منهما بمطلق عقد الشركة إلا أن من العلماء من يقول لا يملك كل واحد منهما ذلك ما لم يصرحا به في عقد الشركة فللتحرز عن قول هذه القائل يكتب هذا .
( ثم يذكر فما كان فيه من ربح فهو بينهما على قدر رؤوس أموالهما وما كان من وضيعة أو تبعة فكذلك ) ولا خلاف أن اشتراط الوضيعة بخلاف مقدار رأس المال باطل واشتراط الربح صحيح عندنا خلافا للشافعي - رضي الله تعالى عنه - على ما نبينه وأما مكاتبة علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - قال : الربح على ما اشترطا والوضيعة على المال وإنما يذكر هذا ليكون أبعد عن الاختلاف . ولكن إنما يكتب هذا إذا كان الشرط بينهما هكذا .
ثم قال ( اشتركا على ذلك في شهر كذا من سنة كذا ) وإنما بتبيين التاريخ تنقطع المنازعة حتى لا يدعي أحدهما لنفسه حقا فيما اشتراه قبل هذا التاريخ ( وكتب ) التاريخ في زمن عمر - رضي الله تعالى عنه - فإنه شاور الصحابة - رضوان الله عليهم - في التاريخ من أي وقت يعتبرونه فمنهم من قال : من مولد رسول الله - A - ومنهم من قال من وقت مبعثه ومنهم من قال من وقت موته ثم اتفقوا على التاريخ من وقت الهجرة وهو المعروف الذي يتعامل عليه الناس إلى يومنا هذا .
قال ( ولا يجوز أن يفضل أحدهما صاحبه في الربح لا في المال العين أو العمل بأيديهما أو في الذي ليس فيه شراء شيء بتأخير فأما في المال العين إذا تساويا في رأس المال واشترطا أن يكون الربح بينهما أثلاثا أو تفاوتا في رأس المال فكان لأحدهما ألف وللآخر ألفان واشترطا أن يكون الربح بينهما نصفين يجوز عندنا ) - وعلى قول زفر والشافعي - رحمهما الله تعالى - لا يجوز . أما عند الشافعي - C تعالى - فلأن شركة الملك على مذهبه أصل وفي شركة الملك لا يجوز أن يستحق أحدهما شيئا من ربح ملك صاحبه فكذلك في شركة العقد . واعتبر الربح بالوضيعة فهي بينهما على قدر رؤوس أموالهما واشتراطهما خلاف ذلك باطل فكذلك الربح ولكنا نقول استحقاق الربح بالشرط فإنما يستحق كل واحد منهما بقدر ما شرط له لقوله - A - ( المسلمون عند شروطهم ) .
ثم جواز هذا العقد لحاجة الناس إليه والحاجة ماسة إلى هذا الشرط فقد يكون أحدهما أحذق من الآخر في وجوه التجارة فلا يرضى بأن يساويه صاحبه في استحقاق الربح مع حذاقته وخرق صاحبه . ثم الربح يستحق بالعمل بدون المال وهو في المضاربة فبالعمل مع المال أولى .
( ثم ) الوضيعة هلاك جزء من المال . وكل واحد منهما أمين فيما في يده من مال صاحبه واشتراط الضمان على الأمين باطل .
ألا ترى أن في المضاربة لا يجوز اشتراط شيء من الوضيعة على المضارب ولهذا يقول زفر - C تعالى - إن التساوي في الربح مع التفاضل في رأس المال لا يجوز هنا لأنه لو جاز إنما يجوز بالقياس على المضاربة على معنى أن صاحب الألفين يشترط جزأ من الربح للآخر بعمله فيه ومثل هذا في المضاربة لا يجوز لأن المال في أيديهما هنا والعمل مشروط عليهما وفي المضاربة لو شرط العمل على رب المال أو كون المال في يده لا يجوز . ولكنا نقول موجب المضاربة التخلية بين المضارب وبين رأس المال فيكون أمينا عاملا فيه وذلك ينعدم بهذا الشرط فأما موجب الشركة ليس هو التخلية بين أحدهما والمال فهذا الشرط لا يؤدي إلى إبطال موجب الشركة .
( ثم ) حكم المضاربة هنا ثبت تبعا للشركة وقد يثبت الشيء حكما على وجه لا يجوز إثباته قصدا كالكفالة الثابتة في ضمن المفاوضة .
وكذلك في العمل بأيديهما يجوز شرط التفاضل في الربح عندنا للحاجة إلى ذلك فقد يكون أحدهما أحذق في العمل من الآخر .
فأما قوله أو في الذي ليس فيه شراء شيء بتأخير فهو إشارة إلى شركة الوجوه فإن التفاضل في الربح هناك لا يجوز عند اشتراط التساوي في ملك المشتري لأن ذلك ربح ما لم يضمن وقد بينا ذلك .
قال ( والشريكان في العمل إذا غاب أحدهما أو مرض أو لم يعمل وعمل الآخر فالربح بينهما على ما اشترطا ) لما روي أن رجلا جاء إلى رسول الله - A - فقال أنا أعمل في السوق ولي شريك يصلي في المسجد فقال رسول الله - A - ( لعلك بركتك منه ) . والمعنى أن استحقاق الأجر بتقبل العمل دون مباشرته والتقبل كان منهما وإن باشر العمل أحدهما . ألا ترى أن المضارب إذا استعان برب المال في بعض العمل كان الربح بينهما على الشرط . أو لا ترى أن الشريكين في العمل يستويان في الربح وهما لا يستطيعان أن يعملا على وجه يكونان فيه سواء وربما يشترط لأحدهما زيادة ربح لحذاقته وإن كان الآخر أكثر عملا منه فكذلك يكون الربح بينهما على الشرط ما بقى العقد بينهما وإن كان المباشر للعمل أحدهما ويستوي إن امتنع الآخر من العمل بعذر أو بغير عذر لأن العقد لا يرتفع بمجرد امتناعه من العمل واستحقاق الربح بالشرط في العقد .
قال ( وإن جاء أحدهما بألف درهم والآخر بألفي درهم فاشتركا على أن الربح والضيعة نصفان فهذه شركة فاسدة ) ومراده أن شرط الوضيعة نصفين فاسد لأن الوضيعة هلاك جزء من المال فكأن صاحب الألفين شرط ضمان شيء مما يهلك من ماله على صاحبه وشرط الضمان على الألفين فاسد ولكن لا يبطل بهذا أصل العقد لأن جواز الشركة باعتبار الوكالة والوكالة لا تبطل بالشروط الفاسدة وإنما تفسد الشروط وتبقى الوكالة فكذا هذا فإن عملا على هذا فوضعا فالوضيعة على قدر رؤوس أموالهما لأن الشرط بخلافه كان باطلا وإن ربحا فالربح على ما اشترطا لأن أصل العقد كان صحيحا واستحقاق الربح بالشرط في العقد فكان بينهما على ما اشترطا .
وإن اشترطا الربح والوضيعة على قدر رأس المال والعمل من أحدهما بعينه كان ذلك جائزا لأن العامل منهما معين لصاحبه في العمل له في ماله حين لم يشترط لنفسه شيئا من ربح مال صاحبه فهو كالمستبضع في مال صاحبه .
( وإن اشترطا الربح نصفين والوضيعة على رأس المال والعمل عليهما جاز ذلك ) لأن صاحب الألف شرط لنفسه جزأ من ربح مال صاحبه وهو السدس بعمله فيه فيكون في معنى المضارب له إلا أن معنى المضاربة تبع لمعنى الشركة والمعتبر موجب الأصل دون التبع فلهذا لا يضرهما اشتراط العمل عليهما . فإن عملاه أو عمل أحدهما فالربح على ما اشترطا لأن الاستحقاق بعد صحة العقد بالشرط لا بنفس العمل وقد كان العمل مشروطا عليهما فلا يضرهما تفرد أحدهما بإقامة العمل .
وكذلك إن اشترطا العمل على صاحب الألف . ووجه الجواز هنا أبين لأن صاحب الألفين دفع إليه ماله ليعمل فيه بسدس الربح فإن المشروط له نصف الربح ثلث الربح حصة رأس ماله وسدسه إلى تمام النصف يستحق من مال صاحبه بعمله فيه واشتراط العمل على المضارب يصحح المضاربة ولا يبطلها .
( فإن قيل ) : إذا كان يعمل هو في شيء شريك فكيف يستوجب عوض عمله على شريكه .
( قلنا ) : استحقاق الربح بطريق الشركة لا بطريق الإجارة ولهذا لا يشترط فيه تسمية مقدار العمل ولا بيان المدة والعامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الأجر لأن استحقاق الأجر بنفس العمل فإذا العامل فيما هو شريك فيه يستحق الربح بالشرط في عقد صحيح .
وإن اشترطا العمل على صاحب الألفين لم تجز الشركة لأن العامل شرط لصاحبه جزأ من ربح ماله من غير أن يكون له فيه رأس مال أو عمل وذلك باطل فإن استحقاق الربح باعتبار العمل والمال أو العمل أو الضمان ولم يوجد شيء من ذلك لصاحب الألف في مال صاحب الألفين فكان اشتراطه جزأ من الربح له باطلا والربح بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن العامل لم يطمع في شيء من ربح مال صاحب الألفين حين لم يشترط شيئا من ذلك لنفسه .
( قال ) ( وإذا أقعد الصانع معه رجلا في دكانه يطرح عليه العمل بالنصف فهو فاسد في القياس ) لأن رأس مال صاحب الدكان منفعة والمنافع لا تصلح أن تجعل رأس مال في الشركة ولأن المتقبل للعمل إن كان صاحب الدكان فالعامل أجيره بالنصف وهو مجهول والجهالة تفسد عقد الإجارة وإن كان المتقبل هو العامل فهو مستأجر لموضع جلوسه من دكانه بنصف ما يعمل وذلك مجهول إلا أنه استحسن فأجاز هذا لكونه متعاملا بين الناس من غير نكير منكر وفي نزع الناس عما تعاملوا به نوع حرج فلدفع هذا الحرج يجوز هذا العقد إذ ليس فيه نص يبطله ولأن بالناس حاجة إلى هذا العقد فالعامل قد يدخل بلدة لا يعرفه أهلها ولا يأمنونه على متاعهم وإنما يأمنون على متاعهم صاحب الدكان الذي يعرفونه وصاحب الدكان لا يتبرع بمثل هذا على العامل في العادة ففي تصحيح هذا العقد تحصيل مقصود كل واحد منهما لأن العامل يصل إلى عوض عمله والناس يصلون إلى منفعة عمله وصاحب الدكان يصل إلى عوض منفعة دكانه فيجوز العقد ويطيب الفضل لرب الدكان لأنه أقعده في دكانه وأعانه بمتاعه وربما يقيم بعض العمل أيضا كالخياط يتقبل المتاع ويلي قطعه ثم يدفعه إلى آخر بالنصف فلهذا يطيب له الفضل وجواز هذه العقد كجواز عقد السلم فإن الشرع رخص فيه لحاجة الناس إليه .
( قال ) ( ولا تصح الشركة بالعروض ) واعلم بأن الشركة بالنقود من الدراهم والدنانير جائزة ولا تجوز الشركة بالتبر في ظاهر المذهب . وقد ذكر في كتاب الصرف أن من اشترى بتبر بعينه شيئا فهلك قبل القبض لا يبطل العقد فقد جعل التبر كالنقود حتى قال لا يتعين بالتعيين فالحاصل أن هذا يختلف باختلاف العرف في كل موضع فإن كانت المبايعات بين الناس في بلدة بالتبر فهو كالنقود لا يتعين بالتعيين ويجوز الشركة به وإن لم يكن في ذلك عرف ظاهر فهو كالعروض لا تجوز الشركة به فإن كان التعيين مفيدا فيه فهو معتبر وإن لم يكن مفيدا لا يعتبر كتعين الصنجان والقيمات .
( فأما الشركة بالفلوس ) إن كانت نافعة لا تجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى .
وتجوز في قول محمد - C تعالى - ( وذكر ) الكرخي في كتابه أن قول أبي يوسف كقول محمد - رحمهما الله تعالى - والأصح ما قلنا وهو بناء على مسألة كتاب البيوع إذا باع قلنا تعيينه بفلسين بأعيانها يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - وتعين الفلوس بالتعيين بمنزلة الجوز والبيض وعند محمد - C تعالى - لا يجوز ولا تتعين الفلوس الرائجة بالتعيين كالنقود .
فكذلك في حكم الشركة محمد - C تعالى - يقول هي بمنزلة النقود ما دامت رائجة وهما يقولان الزواج في الفلوس عارض في اصطلاح الناس وذلك يتبدل ساعة فساعة فلو جوزنا الشركة بها أدى إلى جهالة رأس المال عند قسمة الربح إذا كسدت الفلوس وأخذ الناس غيرها لأن رأس المال عند قسمة الربح يحصل باعتبار المالية لا باعتبار العدد ومالية الفلوس تختلف بالرواج والكساد .
( وروى ) الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أن المضاربة بالفلوس الرائجة تصح وقال أبو يوسف - C تعالى - لا تصح الشركة بها ولا تصح المضاربة وفرق بينهما فقال في المضاربة يحصل رأس المال أولا ليظهر الربح والفلوس ربما تكسد فلا تعرف ماليتها بعد الكساد إلا بالحزر والظن ولا وجه لاعتبار العدد لما فيه من الإضرار بصاحب المال فأما في الشركة إذا كسدت الفلوس يمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما باعتبار العدد لأن حالهما فيه سواء فلا يختص أحدهما بالضرر دون الآخر .
( فأما ) الشركة بالعروض من الدواب والثياب والعبيد لا تصح عندنا وعلى قول ابن أبي ليلى ومالك - رحمهما الله تعالى - هي صحيحة للتعامل وحاجة الناس إلى ذلك ولاعتبار شركة العقد بشركة الملك . وفي الكتاب علل للفساد فقال لأن رأس المال مجهول يريد به أن العروض ليست من ذوات الأمثال وعند القسمة لا بد من تحصيل رأس مال كل واحد منهما ليظهر الربح فإذا كان رأس مالهما من العروض فتحصيله عند القسمة يكون باعتبار القيمة وطريق معرفة القيمة الحزر والظن ولا يثبت التيقن به .
ثم الشركة مختصة برأس مال يكون أول التصرف به بعد العقد شراء لا بيعا وفي العروض أول التصرف يكون بيعا وكل واحد منهما يصير موكلا لصاحبه ببيع متاعه على أن يكون له بعض ربحه وذلك لا يجوز وقد بينا أن صحة الشركة باعتبار الوكالة ففي كل موضع لا تجوز الوكالة بتلك الصفة فكذلك الشركة ومعنى هذا أن الوكيل بالبيع يكون أمينا فإذا شرط له جزء من الربح كان هذا ربح ما لم يضمن والوكيل بالشراء يكون ضامنا للثمن في ذمته فإذا شرط له نصف الربح كان ذلك ربح ما قد ضمن ولأن في الشركة بالعروض ربما يظهر الربح في ملك أحدهما من غير تصرف بتغير السعر فلو جاز استحق الآخر حصته من ذلك الربح من غير ضمان له فيه وربما يخسر أحدهما بتراجع سعر عروضه ويربح الآخر فلهذه المعاني بطلت الشركة بالعروض .
فإن باعا العروض بثمن واحد قسما الثمن على قيمة متاع كل واحد منهما يوم باعه لأن كل واحد منهما تابع لملكه والمسمى من الثمن بمقابلة جميع ما دخل في العقد من العروض فيقسم عليهما باعتبار القيمة ولكل واحد منهما حصة عرضه لأن الشركة لما فسدت كأنها لم تكن ( وكذلك ) لا يصح أن يكون رأس مال أحدهما دراهم ورأس مال الآخر عروضا في مفاوضة ولا عنان لجهالة رأس المال في نصيب صاحب العروض على ما بينا .
( قال ) ( وإن اشتركا في مكيل أو موزون أو معدود متفق في المقدار والصفة فإن لم يخلطاه فليسا بشريكين ولكل واحد منهما متاعه له ربحه وعليه وضيعته ) لأن هذه الأشياء بمنزلة العروض وتستحق أعيانها بالعقد وأول التصرف فيها بعد الشركة يكون بيعا لا شراء فكانت كالعروض لا تجوز الشركة بها وإن خلطاه فهو بينهما وما ربحا فيه فلهما وما وضعا فيه فعليهما وهذا ظاهر لأن الخلط حصل بفعلهما فالمخلوط يكون مشتركا بينهما على قدر ملكهما وقد كان ملكهما سواء فالربح والوضعية بعد البيع يكون بينهما على ذلك ولم يذكر في الكتاب أن الشركة بينهما بعد الخلط تكون شركة ملك أو شركة عقد .
وذكر في النوادر أن على قول أبي يوسف - C - الشركة بينهما شركة ملك .
وعند محمد - C - تكون شركة عقد وفائدة هذا الخلاف فيهما أنهما إذا اشترطا من الربح لأحدهما زيادة على نصيبه عند أبي يوسف - C - لا يستحق ذلك بل لكل واحد منهما من الربح بقدر ملكه وعند محمد الربح بينهما على ما اشترطا . محمد يقول المكيل والموزون عرض من وجه ثمن من وجه .
ألا ترى أن الشراء بهما دينا في الذمة صحيح فكان ثمنا وأن بيع عينهما صحيح فكانت مبيعة وما تردد بين الأصلين يوفر حظه عليهما فلشبههما بالعروض قلنا لا تجوز الشركة بهما قبل الخلط ولشبههما بالأثمان قلنا تجوز الشركة بهما بعد الخلط وهذا لأن باعتبار الشبهين تضعف إضافة عقد الشركة إليهما فيتوقف ثبوتها على ما يقويها وهو الخلط لأن بالخلط تثبت شركة الملك لا محالة فيتأكد به شركة العقد لا محالة وأبو يوسف - C تعالى - يقول ما يصلح أن يكون رأس مال في الشركة لا يختلف الحكم فيه بالخلط وعدم الخلط كالنقود فكذلك ما لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة لا يختلف الحكم فيه بالخلط وعدم الخلط وهذا لأن قبل الخلط إنما يجوز شركة العقد بها لأنها متعينة فتعين رأس المال لا بد منه في عقد الشركة وأعيانها مبيعة وأول التصرف بها يكون بيعا وهذا المعنى موجود بعد الخلط بل يزداد تقررا بالخلط لأن الخلط لا يتقرر إلا في معين والمخلوط المشترك لا يكون إلا معينا فتقرر المعنى المفسد لا يكون مصححا للعقد .
والذي يقال لمحمد أن تحصيل رأس المال عند القسمة هنا ممكن لأنها من ذوات الأمثال يشكل بما قبل الخلط فإن هذا المعنى موجود فيه ومع ذلك لا يثبت بينهما شركة العقد وكذلك يشكل بما إذا كان رأس مال أحدهما حنطة ورأس مال الآخر شعيرا فالشركة لا تصح هنا بينهما خلطاه أو لم يخلطاه . ورأس مال كل واحد منهما من ذوات الأمثال يمكن تحصيله عند قسمة الربح ولكن محمد - C - يفرق ويقول عقد الشركة إنما يثبت بعد الخلط باعتبار المخلوط فعند اختلاف الجنس المخلوط ليس من ذوات الأمثال . ألا ترى أن من أتلف هذا المخلوط كان عليه قيمته وإن لم يكن من ذوات الأمثال كان بمنزلة العروض وأما إذا كان الجنس واحدا فالمخلوط من ذوات الأمثال حتى أن من أتلفه يضمن مثله فيمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما وقت القسمة باعتبار المثل .
( ثم ) عند اختلاف الجنس إذا باعا المخلوط فالثمن بينهما على قدر قيمة متاع كل واحد منهما يوم خلطاه مخلوطا لأن الثمن بدل المبيع فيقسم على قيمة ملك كل واحد منهما وملك كل واحد منهما كان معلوم القيمة وقت الخلط فتعتبر تلك القيمة ولكن مخلوطا لأنه دخل في البيع بهذه الصفة واستحقاق الثمن بالبيع فتعتبر صفة ملك كل واحد منهما حين دخل في البيع فإن كان أحدهما يزيده الخلط خيرا فإنه يضرب بقيمته يوم يقتسمون غير مخلوط ومعنى هذا أن قيمة الشعير تزداد إذا خلطاه بالحنطة وقيمة الحنطة تنتقص فصاحب الشعير يضرب بقيمة شعيره غير مخلوط لأن تلك الزيادة ظهرت في ملكه من مال صاحبه فلا يستحق الضرب به معه وصاحب الحنطة يضرب بقيمة حنطته مخلوطة بالشعير لأن النقصان حصل بعمل هو راض به وهو الخلط وقيمة ملكه عند البيع ناقص فلا يضرب إلا بذلك القدر . وقد طعن عيسى في الفصلين جميعا فقال قوله في الفصل الأول أنه يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم خلطاه وفي الفصل الثاني يوم يقتسمون غلط بل الصحيح أنه يقسم الثمن على قيمة متاع كل واحد منهما يوم وقع البيع لأن استحقاق الثمن بالبيع وإنما يقسم الثمن على القيمة وقت البيع . ألا ترى أنهما لو لم يخلطا ولكن باعا الكل جملة فقسمة الثمن تكون على القيمة وقت البيع فكذلك بعد الخلط إلا أن يكون تأويل المسألة أن تكون قيمته وقت الخلط والقسمة والبيع سواء .
( قال ) الشيخ الإمام الأجل - C تعالى - وعندي أن ما ذكره صحيح لأن معرفة قيمة الشيء بالرجوع إلى قيمة مثله مما يباع في الأسواق وليس للمخلوط مثل يباع في الأسواق حتى يمكن اعتبار قيمة ملك كل واحد منهما وقت البيع فإذا تعذر هذا وجب المصير إلى التقويم في وقت يمكن معرفة قيمة كل واحد منهما كما في جارية مشتركة بين اثنين أعتق أحدهما ما في بطنها فهو ضامن لنصيب شريكه معتبرا بوقت الولادة لتعذر إمكان معرفة القيمة وقت العتق لكونه مختبئا في البطن فيصار إلى تقويمه في أول الحال الذي يمكن معرفة القيمة فيه وهو بعد الولادة فكذلك هنا يصار إلى معرفة قيمة ملك كل واحد منهما في أول أوقات الإمكان وهو عند الخلط إلا أنه إذا علم أن الخلط يزيد في مال أحدهما وينقص من مال الآخر فقد تعذر قسمة الثمن على قيمة ملكهما وقت الخلط لتيقننا بزيادة ملك أحدهما ونقصان ملك الآخر فتعتبر القيمة وقت القسمة باعتبار أن عند الخلط ملك كل واحد منهما من ذوات الأمثال فيجعل حق كل واحد منهما بعد الخلط كالباقي في المثل إلى وقت القسمة فيقسم الثمن على ما هو حق كل واحد منهما بخلاف ما إذا لم يخلطه لأن تقويم ملك كل واحد منهما وقت البيع .
( قال ) ( فإن كان لأحدهما ألف درهم وللآخر مائة دينار فخلطا أو لم يخلطا فهما سواء ) لأنهما لا يختلطان وقد بينا أن خلط المالين في النقود ليس بشرط لصحة عقد الشركة فأيهما هلك هلك من مال صاحبه لأنه بقي على ملكه بعد عقد الشركة وكل واحد منهما أمين في رأس مال صاحبه سواء هلك في يده أو في يد صاحبه يكون هلاكه عليه ثم الشركة تبطل بهلاك أحد المالين لأن المقصود بالشركة التصرف بها لا عينها فإذا اعترض بعد العقد قبل حصول المقصود ما لو اقترن بالعقد كان مانعا من العقد فكذلك إذا اعترض يكون مبطلا كالتخمر في العصير المشترى قبل القبض والكساد في الفلوس وانعدام رأس المال لأحدهما لو اقترن بالعقد كان مانعا فكذا إذا اعترض والمشتري بالمال الباقي بعد ذلك يكون لصاحبه خاصة هكذا يقول في بعض المواضع وفي بعض المواضع يقول إذا اشترى الآخر بماله بعد ذلك يكون المشتري بينهما نصفين ويرجع المشتري على صاحبه بنصف ما نقد من الثمن . وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فحيث قال يكون الباقي مشتريا لنفسه خاصة وضع المسألة فيما إذا أطلقا الشركة فيكون المشتري بمال أحدهما مشتركا بينهما عند الإطلاق من قضية عقد الشركة وقد بطلت بهلاك مال أحدهما فيكون الآخر مشتريا لنفسه وحيث قال المشتري بمال آخر لا بينهما وضع المسألة فيما إذا صرحا عند عقد الشركة على أن ما اشتراه كل واحد منهما بماله هذا يكون مشتركا بينهما وعند هذا التصريح الشركة في المشتري من قضية الوكالة لأن كل واحد منهما قد وكل صاحبه بالشراء بماله نصا على أن يكون نصف المشتري له والشركة وإن بطلت بهلاك أحد المالين فالوكالة باقية فلهذا كان المشتري بينهما نصفين ويرجع المشتري على صاحبه بنصف الثمن لأنه اشترى له النصف بحكم الوكالة ونقد الثمن من مال نفسه فيرجع به عليه . وإذا تأملت موضوع المسألة في كل موضع يتبين لك صحة الجواب من غير حاجة إلى الفرق ومن غير تناقض في الجواب .
( قال ) ( فإن اشتريا متاعا على المال فنقدا الثمن من الدراهم ثم هلكت الدنانير فإنها تهلك من مال صاحبها خاصة ) لبقائها على ملكه بعد الشراء بالدراهم والمشتري بالدراهم بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن الشركة كانت قائمة بينهما حين اشتريا بالدراهم وصار المشتري مشتركا بينهما فلا يتغير ذلك بهلاك الدنانير بعد ذلك ولكن يرجع صاحب الدراهم على صاحب الدنانير من ثمن المتاع بقدر حصته من المتاع لأنه اشترى ذلك القدر له بوكالته ونقد الثمن من مال نفسه وإنما رضي بذلك على أن يشتري الآخر بالدنانير لهما وينقد الثمن من مال نفسه فإذا فات ذلك رجع بما نقد من ثمن حصته من دراهمه .
( ثم ) لم يذكر أن شركتهما في المتاع المشتري شركة عقد أو شركة ملك وفيه اختلاف بين محمد والحسن - رحمهما الله تعالى - فعند محمد هي شركة عقد حتى إذا باعه أحدهما نفذ بيعه في الكل وعند الحسن - C - هي شركة ملك حتى لا ينفذ بيع أحدهما إلا في حصته لأن شركة العقد قد بطلت بهلاك الدنانير كما لو هلكت قبل الشراء بالدراهم وإنما بقي ما هو حكم الشراء وهو الملك فكانت شركتهما في المتاع شركة ملك . وجه قول محمد - C - أن هلاك الدنانير كان بعد حصول ما هو المقصود بالدراهم وهو الشراء بها فلا يكون مبطلا شركة العقد بينهما في ذلك كما لو كان الهلاك بعد الشراء بالمالين جميعا .
( قال ) ( فإن اشتريا بالدراهم والدنانير جميعا متاعا فالمتاع بينهما على قدر رؤوس أموالهما ) والحاصل أن في شرط الربح يعتبر قيمة رأس مال كل واحد منهما وقت عقد الشركة وفي وقوع الملك للمشتري يعتبر قيمة رأس مال كل واحد منهما وقت الشراء وفي ظهور الربح في نصيبهما أو في نصيب أحدهما يعتبر قيمة رأس المال وقت القسمة لأنه ما لم يحصل رأس المال لا يظهر الربح وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الجامع .
( قال ) ( وإن اشتريا بالإلف متاعا ثم اشتريا بعد ذلك بالدنانير متاعا فوضعا في أحد المتاعين وربحا في الآخر فذلك بينهما على قدر رؤوس أموالهما ) لأن الوضيعة هلاك جزء من المال والربح كالمال فيكون على قدر رأس المال ما لم يغير ذلك بشرط صحيح .
( وكذلك ) رجلان اشتريا متاعا بألف درهم وكر حنطة على أن لأحدهما من المتاع بحصة الألف وللآخر بحصة الكر ودفعا الثمن فهذا الشرط معتبر لمقتضى مطلق السبب لأن كل واحد منهما في الشراء يكون عاملا لنفسه وإنما يملك من المبدل بقدر ما نقده من البدل .
( وكذلك ) لو اشتريا متاعا بكر حنطة وكر شعير فكال أحدهما كر حنطة على أن له من المتاع بحصته وكال الآخر الشعير على أن له من المتاع بحصته ثم باعا ذلك بدراهم فإنهما يقتسمان الثمن على قيمة الحنطة والشعير يوم يقتسمان .
وكذلك كل ما يكال أو يوزن . قال عيسى - C - هذا غلط والصواب أن يقتسما ذلك على القيمة يوم الشراء لما بينا أن في وقوع الملك في المشتري يعتبر قيمة مال كل واحد منهما يوم الشراء فإنما يملك كل واحد منهما من المتاع المشتري بقدر رأس ماله عند الشراء ثم إذا باع ذلك فثمن حصة كل واحد منهما يكون له كما في العروض لو اشتريا متاعا بعرضين أحضراهما لكل واحد منهما عرض ثم باعا ذلك المتاع بدراهم اقتسما الثمن على قيمة عرض كل واحد منهما وقت الشراء بها إلا أن يكون