( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C تعالى - إملاء .
العارية تمليك المنفعة بغير عوض سميت عارية لتعريها عن العوض فإنها مع العرية اشتقت من شيء واحد والعرية العطية في الثمار بالتمليك من غير عوض والعارية في المنفعة كذلك ولهذا اختصت بما يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها أو ما يجوز تمليك منافعها بالعوض بعقد الإجارة .
وقيل هي مشتقة من التعاور وهو التناوب فكأنه يجعل للغير نوبة في الانتفاع بملكه على أن تعود النوبة إليه بالاسترداد متى شاء ولهذا كانت الإعارة في المكيل والموزون قرضا لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك العين فلا تعود النوبة إليه في تلك العين لتكون عارية حقيقة وإنما تعود النوبة إليه في مثلها وما يملك الإنسان الانتفاع به على أن يكون مثله مضمونا عليه يكون قرضا .
( وكان ) الكرخي - C - يقول موجب هذا العقد إباحة الانتفاع بملك العين لا بملك المنفعة .
بدليل أنه لا يشترط إعلام مقدار المنفعة فيه ببيان المدة والجهالة تمنع صحة التمليك أما لا تمنع صحة الإباحة وبدليل أن المستعير ليس له أن يؤاجر ومن تملك شيئا بغير عوض جاز له أن يملكه من غيره بعوض كالموهوب له .
والصحيح أن موجب هذا العقد ملك المنفعة للمستعير لأن المنفعة تحتمل التمليك بعوض فتحتمل التمليك بغير عوض أيضا كالعين والدليل عليه أن للمستعير أن يعير فيما لا يتفاوت الناس بالانتفاع به والمباح له لا يملك أن يبيح لغيره .
( والعارية ) تنعقد بلفظ التمليك بأن يقول ملكتك منفعة داري هذه شهرا أو جعلت لك سكنى داري هذه شهرا إلا أنه لا يؤاجره لما فيه من إلحاق الضرر بالمعير فإنه ملكه على وجه يتمكن من الاسترداد فهو نظير ما لو استأجر دابة أو ثوبا ليس له أن يؤاجر من غيره وإن ملك منفعة اللبس والركوب ولكن لما كان الناس يتفاوتون في ذلك ففي الإجارة من غيره إضرار بالآخر .
( فإن قيل ) : كان ينبغي أن يملك المستعير الإجارة ولا ينقطع حق المعير في الاسترداد بل يصير قيام حق المعير في الاسترداد عذرا في نقض الإجارة .
( قلنا ) : لو ملك المستعير الإجارة كان ذلك من مقتضيات عقد المعير وكان صحة العقد بتسليطه فلا يتمكن من نقضه بعد ذلك .
وإنما لا يشترط إعلام المدة أو المكان في الإعارة لأن اشتراط ذلك في المعاوضات لقطع المنازعة وذلك لا يوجد في العارية لأنه لا يتمكن بينهما منازعة إذا أراد المعير الاسترداد . ولأن المعاوضات يتعلق بها صفة اللزوم وذلك لا يتحقق في غير المعلوم . فأما العارية لا يتعلق بها صفة اللزوم فلهذا لا يشترط إعلام المكان ولا إعلام المدة ولا إعلام ما يحمل على الدابة وعند إطلاق العقد للمستعير أن ينتفع بالدابة من حيث الحمل والركوب كما ينتفع بدابة نفسه في قليل المدة وكثيرها ما لم يطالبه المالك بالرد لأنه لا يؤاجرها فإن آجرها صار غاصبا وكان الأجر له يتصدق به وقد بيناه في كتاب الغصب .
وإن هلكت بعدما آجرها كان ضامنا لها .
فإذا لم يؤاجرها ولكنها هلكت في يده لم يضمن في أقوال علمائنا - رحمهم الله - سواء هلكت من استعماله أو لا وهو قول عمر وعلي وابن مسعود - رضوان الله عليهم .
وقال الشافعي - C - إن هلكت من الاستعمال المعتاد لم يضمن وإن هلكت لا من الاستعمال ضمن قيمتها للمالك وهو قول ابن عباس وأبي هريرة - Bهما .
واحتج في ذلك بقول رسول الله - A - العارية مضمونة فقد جعل الضمان صفة للعارية فيقتضي أن يكون صفة لازمة لها كما أن الله تعالى لما جعل القبض صفة للرهن بقوله D فرهان مقبوضة اقتضى أن يكون ذلك صفة لازمة للرهن . واستعار رسول الله - A - من صفوان دروعا في حرب هوازن فقال له أغصبا يا محمد قال - A - لا بل عارية مضمونة مؤداة .
وكتب في عهد بني نجران وما تعار رسلي فهلكت على أيديهم فضمانها على رسلي . وقال - A - ( على اليد ما أخذت حتى ترد ) والأخذ إنما يطلق في موضع يأخذ المرء لمنفعة نفسه وذلك موجود في العارية وهو المعنى الفقهي أنه لما قبض مال الغير لنفسه لا عن استحقاق تقدم فكان مضمونا عليه كالمغصوب والمقبوض على سوم الشراء والمستقرض . وهذا لأنه لما لم يثبت بهذا العقد استحقاق تسليم العين عرفنا أنه مقصور على المنفعة لا يتعدى إلى العين فصار في حق العين كأنه قبضه بغير إذنه بخلاف الإجارة فقد تعدى العقد هناك إلى العين حتى تعلق به استحقاق تسليم العين . وبخلاف الوديعة فإن المودع لا يقبض الوديعة لمنفعة نفسه إنما يقبضها لمنفعة المالك ولهذا لم يكن عليه مؤنة الرد وهو المعتمد لهم فإن قبض العارية يوجب ضمان الرد حال قيام العين فيوجب ضمان القيمة حال هلاك العين كالقبض بطريق الغصب . يقرره أن ضمان الرد إنما يلزمه لأنه يسقط بالرد ضمان العين عن نفسه ولما لزمه ضمان الرد فعليه أداء ما لزمه ولا يتحقق أداء ذلك إلا برد العين عند قيامه ورد القيمة عند هلاك العين ليصير به مؤديا ما لزمه من ضمان الرد وهذا بخلاف ما لو تلف في الاستعمال لأن فعله في الاستعمال منقول إلى المالك فإنه يستعمل بتسليط المالك فيحصل به الرد معنى .
ويجوز أن يكون العين مضمونا عليه ثم يبرأ عن ضمانه بفعل يباشره بتسليط المالك كما لو غصب من غيره شاة فقال له المغصوب منه ضح بها فإن هلكت قبل أن يضحي بها ضمنها وإن ضحى بها لم يضمن شيئا . ولا يقال قبضه بتسليط المالك أيضا لأنه يقبض من يد المالك لنفسه فلا يمكن أن يجعل فعله في القبض كفعل المالك . والدليل عليه أنه لو ضمن للمستحق لم يرجع على المعير ولو كان يد المستعير في العين كيد المعير لرجع عليه بالمودع . وحجتنا في ذلك قول رسول الله - A - ( ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان ) والمغل هو الخائن فقد نفى الضمان عن المستعير عند عدم الخيانة والمعنى فيه أنه قبض العين للانتفاع به بإذن صحيح فلا يكون مضمونا عليه كالمستأجر .
وتأثيره أن وجوب الضمان يكون للجبران وذلك لا يتحقق إلا بعد تفويت شيء على المالك وبالإذن الصحيح ينعدم التفويت . ألا ترى أن القبض في كونه موجبا للضمان لا يكون فوق الإتلاف ثم الإتلاف بالإذن لا يكون موجبا للضمان فالقبض أولى ولا يجوز أن يجب الضمان هناك باعتبار العقد لأن العقد عقد تبرع فلا يكون عقد ضمان كالهبة . والدليل عليه أن ما تناوله العقد وهو المنفعة لا يصير مضمونا بهذا العقد فما لم يتناوله العقد أولى . ولأن العقد على المنفعة إذا كان بعوض وهو الإجارة لا يوجب ضمان العين وتأثير العوض في تقدير حكم ضمان العقد فإذا كان العقد على المنفعة مقرونا بالعوض لا يوجب الضمان فالمتعري عن العوض كيف يوجب الضمان . والدليل عليه أنه لو تلف في الاستعمال لم يضمن ولا يجوز أن يجعل فعله كفعل المالك لأنه استعمل لمنفعة نفسه ولكن إنما لا يضمن لوجود الإذن من المالك في الاستعمال فكذلك للقبض .
وإن قال بحكم الإذن من المالك في الاستعمال جعل استعماله كاستعمال المالك فبحكم الإذن في القبض والإعطاء ينبغي أن يجعل قبضه كقبض المالك أيضا ووجوب ضمان الرد على المستعير ليس لما قال بل لأن منفعة النقل حصلت له والرد فسخ لذلك لنقل فكانت المؤنة على من حصلت له منفعة النقل ولهذا توجب مؤنة الرد على الموصى له بالخدمة أيضا فأما ضمان العين إنما يجب على من فوت شيئا على المالك بقبضه كالغاصب ولم يوجد ذلك إذا كان القبض بإذنه . والمقبوض على سوم الشراء إنما كان مضمونا ضمان العقد والإذن يقرر ضمان العقد ولأن المالك هناك ما رضي بقبضه إلا بجهة العقد ففيما وراء العقد كان المقبوض بغير إذنه .
والمستقرض كذلك إنما كان مضمونا بالعقد والإذن يقرر ضمان العقد وإنما لا يرجع المستعير بضمان الاستحقاق لأن الرجوع عند الاستحقاق بسبب الغرور أو بسبب العيب وذلك يختص بعقد المعاوضة فإنه يقتضي السلامة عن العيب فأما عقد التبرع لا يقتضي ذلك ولهذا لا يرجع الموهوب له بضمان الغرور عندنا .
( وقوله ) بأنه قبض العين لا عن استحقاق تقدم .
( قلنا ) نعم ولكنه قبض العين بحق والموجب للضمان القبض بغير حق لما فيه من التفويت على المالك وكما أن القبض موجب للضمان فالإتلاف كذلك ثم الإتلاف إنما يوجب الضمان إذا حصل بغير حق لا إذا حصل بغير استحقاق تقدم فالقبض مثله . والمراد من قوله - A - ( العارية مضمونة ضمان الرد ) ولأنه جعل الضمان صفة للعين وحقيقة ذلك في ضمان الرد لأنه يبقى ببقاء الرد وحديث صفوان فقد قيل إنه أخذ تلك الدروع بغير رضاه وقد دل عليه قوله أغصبا يا محمد ألا أنه إذا كان محتاجا إلى السلاح كان الأخذ له حلالا ثمة شرعا ولكن بشرط الضمان كمن أصابته مخمصة له أن يتناول مال الغير بشرط الضمان .
( وقيل ) كانت الدروع أمانة لأهل مكة عند صفوان فاستعارها رسول الله - A - لحاجته إليها فكان مستعيرا من المودع وهو ضامن عندنا .
( وقيل ) المراد ضمان الرد .
( وقوله ) مؤادة تفسير لذلك كما يقال فلان عالم فقيه يعلم باللفظ الثاني أن المراد بالأول علم الفقه .
( وقيل ) كان هذا من رسول الله - A - اشتراط الضمان على نفسه والمستعير وإن كان لا يضمن ولكن يضمن بالشرط كالمودع على ما ذكره في المنتقى . ولكن صفوان كان يومئذ حربيا ويجوز بين المسلم والحربي من الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين .
( وقيل ) إنما قال ذلك تطبيبا لقلب صفوان على ما روي أنه هلك بعض تلك الدروع فقال - A - إن شئت غرمناها لك فقال لا فإني اليوم أرغب في الإسلام مما كنت يومئذ ولو كان الضمان واجبا لأمره بالاستيفاء أو الإبراء ( وقوله - A - ) ( وما يعار رسلي فهلك على أيديهم ) أي استهلكوه لأنه يقال هلك في يده إذا كان بغير صنعه وهلك على يده إذا استهلكه ( وقوله - A - ) ( على اليد ما أخذت حتى ترد ) يقتضي وجوب رد العين ولا كلام فيه إنما الكلام في وجوب ضمان القيمة بعد هلاك العين .
( قال ) ( وإن استعار الدابة يوما إلى الليل ولم يسم ما يحمل عليها لم يضمن إذا هلكت ) لأنه قبضها بإذن صحيح ولكن إن أمسكها بعد مضي اليوم فهو ضامن لها لأنه لما وقت فقد بين أنه غير راض بقبضه إياها فيما وراء المدة فإذا أمسكها بعد مضي المدة كان ممسكا لها بغير رضا صاحبها فيضمنها كما في المودع إذا طولب بالرد فلم يرد حتى هلكت . وهذا بخلاف المستأجر فإنه بعد مضي المدة إذا أمسكها لا يضمنها ما لم يطالبه صاحبها بالرد لأن مؤنة الرد هناك ليست على المستأجر ولكنها على المالك فإذا لم يحضر المالك ليأخذها لم يوجد من المستأجر منع يصير به ضامنا . وهنا مؤنة الرد على المستعير فإذا أمسكها بعد مضي المدة فقد وجد منه الامتناع من الرد المستحق عليه وذلك موجب ضمان المستعار عليه ( وإذا لم يؤقت المالك ولكنه أعارها ليحمل عليها الحنطة فجعل ينقل عليها الحنطة أياما فلا ضمان عليه ) لأن الإذن من المالك مطلق فلا ينعدم حكمه إلا بالنهي والمطالبة بالرد ولم يوجد . وإن حمل عليها الآجر أو اللبن أو الحجارة فعطبت فهو ضامن لأنه خالف ما أمره به نصا فصار غاصبا مستعملا بغير إذنه .
وهذه المسألة على أربعة أوجه : .
( أحدها ) : أن يحمل عليها غير ما عينه المالك ولكنه مثل ما عينه في الضرر على الدابة من جنسه بأن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم من هذه الحنطة فحمل عليها عشرة مخاتيم من حنطة أخرى أو ليحمل عليها حنطة نفسه فحمل عليها حنطة غيره فلا ضمان عليه لأن التقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدا وهذا التقييد والتعيين لا يفيد شيئا فإن حنطته وحنطة غيره في الضرر عليها سواء .
( والثاني ) : أن يخالف في الجنس بأن استعارها ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة فحمل عليها عشرة أقفزة شعير . في القياس يكون ضامنا لأنه مخالف فإنه عند اختلاف الجنس لا تعتبر المنفعة والضرر . ألا ترى أن الوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار لم ينفذ بيعه وفي الاستحسان لا يكون ضامنا لأنه لا فائدة للمالك في تعيين الحنطة فإن مقصوده دفع زيادة الضرر عن دابته ومثل كيل الحنطة من الشعير يكون أخف على الدابة . وقد بينا أنه إنما يعتبر من تقييده ما يكون مفيدا دون ما لا يفيده شيئا حتى قيل لو سمى مقدارا من الحنطة وزنا فحمل مثل ذلك الوزن من الشعير يضمن لأنه يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ من الحنطة فهو كما لو استعارها ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حطبا أو تبنا فأما مثل ذلك كيلا من الشعير لا يأخذ من ظهرها أكثر مما يأخذ من الحنطة .
( والثالث ) : أن يخالف إلى ما هو أضر على الدابة بأن استعارها ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حديدا أو آجرا مثل وزن الحنطة فهو ضامن لها لأن هذا يجتمع في موضع واحد فيدق ظهر الدابة فكان أضر عليها من حمل الحنطة وتقييد المالك معتبر إذا كان مفيدا له . وكذلك لو حمل عليها مثل وزن الحنطة قطنا لأنه يأخذ من ظهر الدابة فوق ما تأخذ الحنطة فكان أضر عليها من وجه كما لو حمل عليها حطبا أو تبنا .
( والرابع ) : أن يخالف في المقدار بأن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فنحمل عليها خمسة عشر مختوما فهلكت فهو ضامن ثلث قيمتها لأنه في مقدار عشرة مخاتيم موافق لأنه حامل بإذن المالك وفيما زاد على ذلك حامل بغير إذنه فيعتبر الجزء بالكل ويتوزع الضمان على ذلك وهذا إذا كان مثل تلك الدابة تطيق حمل خمسة عشر مختوما فإن كان يعلم أنها لا تطيق ذلك فهو ضامن لجميع قيمتها لأنه متلف لها بهذا الحمل والمالك ما أذن له في إتلافها . وللشافعي ثلاثة أقاويل في هذه المسألة . قول مثل قولنا . وقول آخر أنه يضمن جميع قيمتها لأنه خالف إلى ما هو أضر على الدابة فهو كما لو خالف في الجنس . وقول آخر أنه يضمن نصف قيمتها لأنها تلفت من حملين أحدهما بإذن صاحبه والآخر بغير إذنه فيضمن نصف قيمتها كما لو أمره أن يضرب عبده عشرة أسواط فضربه أحد عشر سوطا فمات من ذلك يضمن نصف قيمته .
ولكن الفرق بينهما ظاهر لأن ذاك ضمان قتل وفي باب القتل المعتبر عدد الجناة لا عدد الجنايات فقد تقوى الطبيعة على دفع ألم عشر جراحات في موضع ولا تقوى على دفع ألم جراحة واحدة في موضع فلهذا اعتبرنا عدد الجناة وجعلنا الضمان نصفين . وهنا تلف الدابة باعتبار ثقل المحمول وثقل عشرة مخاتيم فوق ثقل خمسة مخاتيم في الضرر على الدابة فلا بد من أن يتوزع الضمان على قدر ثقل المحمول وهذا بخلاف ما لو استعار ثورا ليطحن به عشرة مخاتيم حنطة فطحن أحد عشر مختوما فهلك فإنه يضمن جميع قيمته لأن الطحن يكون شيئا فشيئا فلما طحن عشرة مخاتيم انتهى إذن المالك فبعد ذلك هو في الطحن مخالف في جميع الدابة مستعمل لها بغير إذن مالكها فيضمن جميع قيمتها . فأما الحمل يكون جملة واحدة فهو في البعض مستعمل لها بإذن المالك وفي البعض مخالف فيتوزع الضمان على ذلك .
وإذا جاوز المكان الذي سمي له وأخذ إلى مكان غير ذلك فعطبت فهو ضامن لها لأنه استعملها بغير إذن صاحبها فالتقييد من صاحبها هنا مفيد لأن الضرر على الدابة يختلف بقرب الطريق وبعده والسهولة والوعورة .
وإن استعارها ليحمل كذا وكذا ثوبا هرويا فحمل عليها مثل ذلك مرويا أو فوهيا أو نرمقا لم يضمن لأن التقييد بالهروي غير مفيد فإن سائر أجناس الثياب كالهروي في الضرر على الدابة .
وكذلك في الوزنيات من الأدهان وغيرها كل تقييد يكون مفيدا فهو معتبر وإذا خالف ذلك كان ضامنا وما لا يكون مفيدا لا يعتبر ( وإن ) استعارها ليركبها هو فركبها هو وحمل معه عليها رجلا ضمن نصف قيمتها لأنه في نصفها موافق وفي النصف مخالف والجزء معتبر بالكل .
( فإن قيل ) : أليس أنه لو لم يركبها وحمل عليها غيره فهلكت ضمن جميع قيمتها فإذا ركبها معه أولى لأن الضرر على الدابة أكثر .
( قلنا ) : إذا حمل عليها غيره فهو مخالف في الكل وإذا ركبها فهو موافق فيما شغله بنفسه مخالف فيما شغله بغيره .
ألا ترى أنه لو كان استأجرها لركوبه لم يجب الأجر إذا حمل عليها غيره ووجب الأجر إذا ركبها وحمل مع نفسه غيره وهذا إذا كانت الدابة بحيث تطيق حمل رجلين فإن كان يعلم أنها لا تطيق ذلك فهو متلف لها ضامن لجميع قيمتها ثم لم يعتبر هنا الثقل والخفة بأن يكون الذي حمله مع نفسه أخف منه أو أثقل منه . بخلاف مسألة الحنطة وهذا لأنه استقبح وزن الرجال في مثل هذا . ( فقال ) : أرأيت لو كان يوزن كل واحد منهما أيوزن قبل الطعام أو بعده قبل الخلاء أو بعده لأن الضرر في حق الراكبين على الدابة لا يكون باعتبار الثقل والخفة فرب ثقيل يروض الدابة إذا ركبها لهدايته في ذلك ورب خفيف يعقرها لخرقه في ذلك فلهذا اعتبرنا المناصفة . فإن قضى حاجته من الدابة ثم ردها مع عبده أو بعض من هو في عياله فلا ضمان عليه إن عطبت لأن يد من في عياله في الرد كيده كما أن يد من في عياله في الحفظ كيده . والعرف الظاهر أن المستعير يرد المستعار بيد من في عياله ولهذا يعولهم فكان مأذونا فيه من جهة صاحبها دلالة .
وكذلك إن ردها إلى عبد صاحب الدابة وهو الذي يقوم عليها فهو برئ استحسانا . والقياس أن لا يبرأ ما لم تصل إلى صاحبها كالمودع إذا رد الوديعة لا يبرأ عن الضمان ما لم تصل إلى يد صاحبها . ووجه الاستحسان أن صاحبها إنما يحفظ بيد هذا السائس ولو دفعها إليه لكان يدفعها إلى السائس أيضا فكذلك إذا ردها على السائس . والعرف الظاهر أن صاحب الدابة يأمر السائس بدفعها إلى المستعير وباستردادها منه إذا فرغت فيصير مأذونا في دفعها إليه دلالة ولم يوجد مثل هذا العرف في الوديعة فإن صاحبها هو الذي يتولى استردادها عادة وإنما أودعها لأنه لم يرض بكونها في يد عياله حتى قالوا في المستعار لو كان عقد لؤلؤ فرده المستعير على عبد هو سائس دواب المعير لا يبرأ لأنه في مثل هذا لا يرضى باسترداد مثله عادة .
وإن استعار ثوبا ليلبسه هو فأعطاه غيره فلبس فهو ضامن لأن الناس يتفاتون في لبس الثوب ولبس القصاب والدباغ لا يكون كلبس البزاز والعطار فكان هذا تقييدا مفيدا في حق صاحب الثوب فإذا ألبسه المستعير غيره صار مخالفا . وكذلك الدابة إذا استعارها ليركبها هو لأن الناس يتفاوتون في الركوب فرب راكب يروض الدابة وآخر يقتلها . فأما إذا استعاره ولم يسم من يلبسه فأعاره غيره لم يضمن لأن صاحب الثوب رضي باستيفاء منفعة اللبس من ثوبه مطلقا فسواء لبسه المستعير أو غيره لم يكن مخالفا لما نص عليه المستعير . وكذلك إن كان المستعار مما لا تتفاوت الناس في الانتفاع به كسكنى الدار وخدمة العبد لأن تقييده هنا بنفسه غير مفيد فيكون وجوده كعدمه وهو بناء على أصلنا أن للمستعير أن يعير . وعند الشافعي - C تعالى - ليس للمستعير أن يعير لأنه منتفع بملك الغير بإذنه فلا يكون له أن يأذن لغيره في ذلك كالمباح له الطعام لا يبيح لغيره وهذا لأنه يسوي غيره بنفسه فيما هو من حق الغير وإنما له هذه الولاية في حق نفسه لا في حق الغير .
ألا ترى أن الوكيل بالتصرف لا يوكل غيره به .
وحجتنا في ذلك أن المستعير مالك للانتفاع بهذا العين فيملك أن يعيره من غيره كالمستأجر والموصى له بالخدمة وهذا لما بينا أن المستعير يملك المنفعة بالعارية وإليه أشار بعد هذا فقال ( من أعارك شيئا فقد جعل لك منفعة ذلك ) والدليل عليه أنه لو قال ملكتك منفعة هذه العين كانت عارية صحيحة فإذا ثبت أنه مالك للمنفعة فهو بالتمليك من الغير يتصرف في ملك نفسه ويستوي غيره بنفسه في حق نفسه وذلك صحيح بخلاف المباح له الطعام فإنه لا يملك الطعام وإنما يتناوله على ملك المبيح إلا أن العين بقي على ملك صاحبه ففيما يتفاوت الناس في الانتفاع به لا يعيره من غيره وإن كان تصرفه في ملك نفسه لدفع الضرر وذلك صحيح كما أن أحد الشريكين في العبد إذا كاتبه كان للآخر أن يفسخ لدفع الضرر عن نفسه . والمشتري إذا تصرف في الشقص المشفوع فهو متصرف في ملكه ثم ينقض تصرفه لدفع الضرر على الشفيع .
( قال ) ( رجل استعار من رجل أرضا على أن يبني فيها أو على أن يغرس فيها نخلا فأذن له صاحبها في ذلك ثم بدا له أن يخرجه فله ذلك عندنا ) وقال مالك - C تعالى - ليس له ذلك لأنه غير متعد في البناء والغرس فلا يهدم عليه وذلك وصاحب الأرض وإن كان يتضرر بذلك فقد رضي بالتزام هذا الضرر . فأما صاحب البناء لم يرض بهدم بنائه وغرسه فلا يكون لصاحب الأرض أن يأخذها ما لم يفرغ . ولكنا نقول الأرض بقيت على ملك صاحبها والعارية لا يتعلق بها اللزوم فلا يمتنع بسببه عليه إثبات اليد على ملكه والانتفاع به متى شاء وصاحب البناء والغرس لما بنى على بقعة هي مملوكة لغيره من غير حق لازم له فقد صار راضيا بأن يهدم عليه بناؤه وغرسه لأنه ملكه وقد شغل أرض الغير به فيؤمر بتفريغه ولا ضمان له على صاحب الأرض عندنا .
وقال ابن أبي ليلى البناء للمعير ويضمن قيمتها مبنية لصاحبها لأن دفع الضرر من الجانبين واجب وإنما يندفع الضرر بهذا . وشبه هذا بثوب إنسان إذا انصبغ بصبغ غيره فأراد صاحب الثوب أن يأخذه فإنه يضمن للصباغ قيمة صبغه . ولكنا نقول صاحب الأرض غير راض بالتزام قيمة البناء ففي الزام ذلك عليه من غير رضاه إضرار به ولا يجوز المصير إليه بدون تحقق الضرورة ولا ضرورة هنا لأن رفع البناء وتمييز ملك أحدهما من ملك الآخر ممكن بخلاف مسألة الصبغ فإن تمييز ملك أحدهما من ملك الآخر هناك غير ممكن بخلاف مسألة الصبغ فإن تمييز ملك أحدهما من ملك الآخر هناك غير ممكن ثم هناك لا يلزمه قيمة الصبغ بدون رضاه أيضا حتى يكون له أن يأبى التزام القيمة ليصار إلى بيع الثوب فكذلك هنا ينبغي أن لا يلزم قيمة البناء بغير رضاه .
فإن كان وقت له وقتا عشرين سنة أو نحو ذلك ثم أخرجه قبل الوقت فهو ضامن للمستعير قيمة بنائه وغرسه عندنا . وعلى قول زفر - C لا يضمن ذلك لأن التوقيت في العارية غير ملزم إياه شيئا كأصل العقد فكما لا يكون له أن يضمنه قيمة البناء والغرس باعتبار مطلق الإعارة فكذلك بالتوقيت منها وبيان التوقيت غير ملزم إياه أنه يتمكن من إخراجه قبل مضي ذلك الوقت . وحجتنا في ذلك أن المعير بالتوقيت يصير غارا للمستعير لأنه نص على ترك الأرض في يده وإقرار بنائه فيها في المدة التي سمى فإذا لم يف بذلك صار غارا له وللمغرور أن يدفع الضرر عن نفسه بالرجوع على الغار بخلاف ما إذا أطلق فهلك المعير لم يصر غارا له ولكن المستعير مغتر بنفسه حتى ظن أنه بمطلق العقد يتركها في يده مدة طويلة . ولكن قد بينا فيما سبق أن الغرور بمباشرة عقد الضمان يكون سببا للرجوع وذلك لا يوجد هنا فإن المعير لا يباشر عقد ضمان . وإن وقت فالوجه أن يقول كلام العاقل محمول على الفائدة ما أمكن ولا حاجة إلى التوقيت في تصحيح العارية فلا بد من أن يكون لذكر الوقت فائدة أخرى وليس ذلك إلا التزام قيمة البناء . والغرس إذا أراد إخراجه قبله وصار تقدير كلامه كأنه قال ابن لي في هذه الأرض لنفسك على أن أتركها في يدك إلى كذا من المدة فإن لم أتركها فأنا ضامن لك ما تنفق في بنائك ويكون بناؤك لي فإذا بدا له في الإخراج ضمن قيمة بنائه وغرسه ويكون كأنه بنى له بأمره إلا أن يشاء المستعير أن يرفعها ولا يضمنه قيمتها فيكون له ذلك لأن البناء والغرس ملكه وإنما أوجبنا الضمان على المعير لدفع الضرر عن المستعير فإذا رضي بالتزام هذا الضرر كان هو أحق بملكه يرفعه بتفريغ ملك الغير .
( وقيل ) : هذا إذا لم يكن في قلع الأشجار ضرر عظيم بالأرض فأما إذا كان فيه ضرر عظيم فليس للمستعير أن يرفعها بغير رضا المعير لما فيه من الإضرار به ولكن للمعير أن يتملكها عليه بالقيمة . وإن كان إعاره الأرض ليزرعها ووقت لذلك وقتا أو لم يوقت وقتا تقارب حصاده أراد أن يخرجه ففي القياس له ذلك كما في البناء والغرس وهذا لأن الزارع زرع الأرض من غير حق لازم له فيها فلصاحبها أن يأخذها متى شاء كالغاصب للأرض إذا زرعها .
ولكن في الاستحسان لا يأخذها صاحبها إلى أن يحصد المستعير زرعها لأنه ما كان متعديا في الزراعة بجهة العارية ولإ دراك الزرع نهاية معلومة فلو تمكن المعير من قلع زرعه كان فيه إضرار بالمستعير في إبطال ملكه ولو تركت في يد المستعير كان فيه إضرار بالمعير من حيث تأخير حقه وضرر الإبطال فوق ضرر التأخير فإذا لم يكن بد من الإضرار بأحدهما ترجح أهون الضررين . بخلاف البناء والغرس فإنه ليس له نهاية معلومة فيكون الضرر من الجانبين ضرر إبطال الحق فترجح جانب صاحب الأصل على جانب صاحب التبع وبخلاف الغصب لأن الغاصب متعد في الزراعة في الابتداء فلا يستحق بفعل التعدي إبقاء زرعه ولم يبين في الكتاب أن الأرض تترك في يد المستعير إلى وقت إدراك الزرع بأجر أو بغير أجر .
قالوا وينبغي أن يترك بأجر المثل كما لو انتهت مدة الإجارة والزرع نقل بعده وهذا لأن إبطال حق صاحب الأرض عن منفعة ملكه مجانا لا يجوز بغير رضاه وإنما يعتدل النظر من الجانبين إذا ترك الزرع إلى وقت الإدراك بأجر المثل ( فإن ) رد المستعير الدابة مع غلامه فعقرها الغلام فهو ضامن لقيمتها يباع في ذلك أو يؤدي عنه مولاه لأنه استهلكها والعبد المحجور عليه يؤاخذ بضمان الاستهلاك في الحال .
( وإذا اختلف رب الدابة والمستعير فيما أعارها له وقد عقرها الركوب أو الحمولة فالقول قول رب الدابة عندنا ) وعند ابن أبي ليلى - C تعالى - القول قول المستعير لأن رب الدابة يدعي عليه سبب الضمان وهو الخلاف وهو منكر لذلك فالقول قوله . ولكنا نقول الإذن يستفاد من جهة صاحب الدابة ولو أنكر أصل الإذن كان القول قوله فكذلك إذا أنكر الإذن على الوجه الذي انتفع به المستعير وهذا لأن سبب وجوب الضمان قد ظهر وهو استعمال دابة الغير والمستعمل يدعي ما يسقط الضمان عنه وهو الإذن وصاحبها منكر لذلك فإذا حلف فقد انتفى المسقط ويبقى هو ضامنا بالسبب الظاهر . وإن إعاره الأرض على أن يبني فيها أو يسكن ما بدا له فإذا خرج فالبناء لصاحب الأرض فهذا الشرط فاسد لأن البناء ملك الباني شرط رب الأرض ذلك عليه لنفسه بإزاء منفعة الأرض فيكون هذا إجارة لا إعارة وهي إجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه حين لم يذكر مدة معلومة وبجهالة الأجر حين لم يكن مقدار ما يبني معلوما لهما وقت العقد وعلى الساكن أجر مثل الأرض فيما سكن لأنه استوفى منفعتها بحكم عقد فاسد .
( وينقض الساكن بناءه إذا طالبه صاحبها برد الأرض ) لأن البناء ملكه .
( فإن قيل ) : لماذا لا يتملك البناء صاحب الأرض بحكم الإجارة الفاسدة لأنه صار قابضا له باتصاله بالأرض .
( قلنا ) : كان الشرط بينهما أن يبني الساكن لنفسه ثم البناء كان معدوما عند العقد والعقد على المعدوم لا ينعقد أصلا وإنما يملك بالقبض ما يتناوله العقد الفاسد وإذا مات المعير والمستعير انقطعت العارية . أما إذا مات المعير فلأن العين انتقلت إلى وارثه والمنفعة بعد هذا تحدث على ملكه وإنما جعل المعير للمستعير ملك نفسه لا ملك غيره . وأما إذا مات المستعير فلأن المنفعة لا تورث لأن الوراثة خلافة وذلك فيما كان للميت فيخلفه فيه وارثه وإذا كانت المنافع لا تبقى وقتين لا يتصور فيها هذه الخلافة ولأن الدلالة قامت لنا على أن العقد على المنفعة بعوض يبطل بموت أحد المتعاقدين وهو الإجارة فما كان منها بغير عوض أولى .
وكذلك إن كان قال له هذه الدار لك سكنى لأن معناه سكناه لك فإن قوله لك يحتمل تمليك العين ويحتمل تمليك المنفعة وقوله سكنى يكون تفسيرا لذلك المحتمل وكذلك إذا قال عمري سكني كان قوله سكني تفسيرا لقوله عمري فإنما تثبت العارية بهذا اللفظ ثم تنقط بموته .
( وإذا جاء رجل إلى المستعير وقال إني استعرت من فلان هذا الذي عندك وأمرني أن أقبضه منك فصدقه ودفعه إليه فهلكت عنده ثم أنكر المعير أن يكون أمره بذلك فالمستعير ضامن له ) لأنه يدعي على المعير الأمر بالدفع إليه وهو منكر فالقول قوله مع يمينه وإذا حلف يتبين أن المستعير دفعه إلى غير المالك بغير إذنه وذلك موجب للضمان عليه .
( فإن قيل ) : لماذا لم تجعل هذه إعارة من المستعير حتى لا يكون موجبا للضمان عليه .
( قلنا ) : المستعير إذا أعاره من غيره فإنه يقيمه مقام نفسه في الانتفاع وإمساك العين فيكون يد الثاني كيد الأول ولهذا كان له أن يسترده متى شاء وهنا تسليمه إلى الثاني لم يكن بهذا الطريق بل بطريق أنه أحق بالعين منه ولهذا لا يملك الاسترداد منه فلا يمكن أن يجعل كالمعير منه ثم إذا ضمن المستعير لا يرجع به على الذي قبضه منه لأنه صدقه فيما ادعى ففي زعمه أنه مستعير من المالك وأنه لا ضمان على واحد منهما إلا أن المالك ظلمه حين ضمنه ومن ظلم فليس له أن يظلم غير ظالمه .
وإن كان الذي جاء فقبض العارية منه خادم المعير وأنكر مولاه أن يكون أمره بذلك فلا ضمان على المستعير لما بينا أن الرد على خادم المعير كالرد على المعير فلا يكون سببا لوجوب الضمان على المستعير .
وإذا رد المستعير الدابة فلم يجد صاحبها ولا خادمه فربطها في دار صاحبها على معلفها فضاعت فهو ضامن لها في القياس لأنه ضيعها حين أخرجها من يده ولم يسلمها إلى أحد يحفظها . ألا ترى أن الغاصب لو فعل ذلك كان مضيعا ضامنا فكذلك المستعير . وفي الاستحسان لا ضمان عليه لأنه ربطها في موضعها المعروف ولو ردها على صاحبها لكان يربطها في هذا الموضع فكذلك إذا ربطها بنفسه وهذا للعادة الظاهرة أن المستعير يأخذ الدابة من مربطها ويردها إلى مربطها فيثبت الإذن له من جهة صاحبها في ذلك بهذا الطريق دلالة . وهذا بخلاف الغاصب لأنه ضامن محتاج إلى إسقاط الضمان عن نفسه بنسخ فعله وذلك لا يتم بردها إلى مربطها بعدما أخذها من صاحبها فأما المستعير فهو أمين فإنما الحاجة إلى دفع سبب الضمان عنه وهو التضييع وقد اندفع باعتبار العادة لأن المربط في يد صاحب الدابة فأعادتها إلى المربط بمنزلة الإعادة إلى يد صاحبها حكما .
( ولو جحد المستعير العارية ثم زعم أنها هلكت فهو ضامن لها ) لأن العين كانت أمانة في يده فيصير ضامنا بالجحود كالمودع وإن لم يجحد ولكن قال قد رددته أو ضاع مني فهو مصدق مع يمينه في كل ما يصدق فيه المودع لأنه أمين ينكر وجوب الضمان عليه .
( وعارية الدراهم والدنانير والفلوس قرض ) لأن الإعارة إذن في الانتفاع ولا يتأتى الانتفاع بالنقود إلا باستهلاك عينها فيصير مأذونا في ذلك . وفيه طريقان إما الهبة أو القرض فيثبت الأقل لكونه متيقنا به ولأن المستعير يلتزم رد العين بعد الانتفاع ويتعذر هنا رد العين فيقام رد المثل مقام رد العين والقبض الذي يمكنه من استهلاك المقبوض ويوجب عليه ضمان المثل القبض بجهة القرض .
وكذلك كل ما يكال أو يوزن أو يعد مثل الجوز والبيض . قال في الأصل أرأيت لو استعار دراهم يشتري بها طعاما أو جارية أما كان له أن يأكل الطعام أو يطأ الجارية له ذلك والمال قرض عليه . وإن استعار آنية يتجمل بها في منزله أو سكينا محلى أو سيفا أو منطقة مفضضة أو خاتما لم يكن شيء من هذا قرضا لأن الانتفاع بهذه الأعيان مع بقائها ممكن ولهذا تجوز إجارتها .
( قالوا ) : ولو أن صيرفيا استعار دراهم أو دنانير ليتجمل بها في حانوته أو ليعبر بها صنجاته فإنه لا يكون قرضا لأنهما لما صرحا به علمنا أن مقصودهما الانتفاع مع بقاء العين دون الإذن في استهلاك العين .
وإذا استعار دابة ليركبها إلى مكان معلوم فأخذ بها في طريق آخر إلى ذلك المكان فعطبت لم يضمن لأنه مأذون في الوصول عليها إلى ذلك المكان ولم يقيد له طريق فلا يكون مخالفا في أي طريق ذهب بعد أن يكون طريقا يسلكه الناس إلى ذلك المكان فإن كان طريقا لا يسلكه الناس إلى ذلك المكان فهو ضامن لأن مطلق الإذن ينصرف إلى المتعارف .
وإن استعارها إلى حمام أعبر فجاوز بها حمام أعبر ثم جاء بها إلى حمام أعين أو إلى الكوفة فعطبت الدابة فهو ضامن لها حتى يردها إلى صاحبها .
( قيل ) هذا إذا استعارها ذاهبا لا راجعا . فأما إذا استعارها ذاهبا وجائيا فلا ضمان عليه وهكذا ذكر في النوادر لأنه في الأول لما وصل إلى حمام أعين انتهى العقد فإذا جاوز كان غاصبا فلا يبرأ إلا بالرد على المالك وفي الثاني إنما يضمن بالخلاف وهو استعمالها وراء المكان المشروط فإذا رجع إلى حمام أعين فقد ارتفع الخلاف والعقد قائم بينهما فيكون أمينا .
( وقيل ) الجواب في الفصلين سواء لأن يد المستعير يد نفسه . وفي الوديعة إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق إنما أبرأناه عن الضمان لأن يده يد المالك فيجعل في الحكم كما لو رده على المالك وهذا لا يوجد هنا فبقى ضامنا كما كان وإن عاد إلى مكان العقد ما لم يوصله إلى المالك . والإجارة في هذا كالعارية لأن يد المستأجر يد نفسه أيضا فإنه يقبض لمنفعة نفسه ورجوعه بضمان الاستحقاق لأجل الغرور الثابت بعقد ضمان لا لأن يده يد المالك .
يوضح الفرق أن المستعير والمستأجر يضمنان بالإمساك فإنه لو استعار أو استأجر دابة ليركبها إلى مكان كذا فأمسكها في المصر أياما كان ضامنا فكذلك إذا جاوز المكان المشروط فإنما ضمناه بإمساكها في غير الموضع الذي تناوله الإذن ولا ينعدم الإمساك إلا بالرد .
فأما المودع يصير ضامنا بالاستعمال لا بالامساك وقد انعدم الاستعمال حين عاد إلى الوفاق . يقول فإن أقام صاحبها البينة أنها نفقت تحته في دير عبدالرحمن من ركوبه وأقام المستعير شاهدين أنه قد ردها إلى صاحبها أخذت بينة رب الدابة لأنها تثبت سبب تقرر الضمان على الراكب وبينة المستعير تنفي ذلك والبينات للإثبات .
وإذا نفقت الدابة تحت المستعير ثم أقام رجل البينة أنها دابته يقضي القاضي له بالملك لإثباته ذلك بالحجة ولا يسأله البينة أنه لم يبع ولم يهب لأن ذلك لا يدعيه أحد والقاضي نصب لفصل الخصومات لا لإنشائها فإن ادعى ذلك الذي أراد أن يضمنه أو قال أذن لي في عاريتها يحلف على ذلك لأنه ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكر يستحلفه فإن نكل كان نكوله كإقراره فلا يضمن المستحق أحدا وإن حلف كان له أن يضمن أيهما شاء لأن كل واحد منهما متعد في حقه المعير بالتسليم والمستعير بالقبض والاستعمال فإن ضمن المعير لم يرجع على المستعير لأنه ملكها من حين وجب عليه الضمان فيتبين أنه أعار ملك نفسه وإن ضمن المستعير لم يرجع على المعير أيضا لأنه ضمن بفعل باشره لنفسه بخلاف المودع ولأنه لم يصر مغرورا من جهة المعير حين لم يشترط المعير لنفسه عوضا بخلاف المستأجر فقد صار مغرورا من جهة الأجر بمباشرته عقد الضمان واشتراط العوض لنفسه . ثم على المستأجر الأجر إلى الموضع الذي نفقت فيه الدابة لأنه استوفى المعقود عليه وذلك للأجر دون الملك لأن تقوم المنفعة كان بعقده وبه وجب الأجر .
ولا بأس بأن يعير العبد التاجر والعبد الذي يؤدي الغلة الدابة . وفي القياس ليس لهما ذلك لأنه تبرع والمملوك ليس من أهله فإن تبرعه يكون بملك الغير ولأنه صار منفك الحجر عنه في التجارة والإعارة ليست من التجارة في شيء .
ووجه الاستحسان أن هذا من توابع التجارة فإن التاجر لا يجد منه بدا لأنه إذا أراد الإنسان أن يعامله فلا بد أن يجلسه في حانوته أو يضع وسادة له وهو إعارة لذلك الموضع منه وقد يستعار منه الميزان أو صنجات الميزان فإذا لم يعر لا يعار منه عند حاجته أيضا .
وما يكون من توابع التجارة يملكه المأذون كاتخاذ الضيافة اليسيرة والإهداء إلى المجاهدين بشيء . والأصل فيه ما روي أن النبي - A - كان يجيب دعوة المملوك . وحديث أبي سعيد مولى أبي أسيد - رضي الله تعالى عنه - قال عرست وأنا عبد فدعوت رهطا من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - فيهم أبو ذر فأجابوني . فدل أن للعبد اتخاذ للدعوة حتى أجابه أبو ذر - رضي الله تعالى عنه - مع زهده .
والعبد الذي أمره المولى بأداء الغلة مأذون له في التجارة لأنه لا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب فأمر المولى إياه بأداء الغلة يكون إذنا له في الاكتساب .
( عبد مأذون له ) .
( أجر دابته من رجل فنفقت تحته فاستحقها رجل وضمن الراكب قيمتها يرجع بها على العبد المأذون كما يرجع على الحر ) .
لأنه صار مغرورا من جهته باشتراطه العوض لنفسه والمأذون يؤاخذ بضمان الغرور كالحر ولهذا تبين خطأ بعض المتأخرين من مشايخنا - رحمهم الله تعالى - أن ضمان الغرور كضمان الكفالة وأن الغار يصير كالقائل للمغرور إن ضمنك أحد بسبب ركوب هذه الدابة أو استيلاد هذه الجارية في البيع فأنا ضامن لك ذلك لأنه لو كان هذا بطريق الكفالة لم يؤاخذ به المأذون فإن العبد المأذون لا يؤاخذ بضمان الكفالة ولكن الطريق أن من باشر عقد المعاوضة فهو ملتزم سلامة المعقود عليه عن العيب ولا عيب فوق الاستحقاق والرجوع عليه لهذا . ولهذا لا رجوع على المعير الواهب لأنه لا يلتزم صفة السلامة بعقد التبرع .
ثم العبد في التزام صفة السلامة بعقد المعاوضة وهو التجارة كالحر .
وإذا أعار عبد محجور عليه عبدا مثله دابة فركبها فهلكت تحته ثم استحقها رجل فله أن يضمن أيهما شاء لأن أحدهما غاصب لملكه بالتسليم إلى الآخر والآخر مستهلك باستعماله فإن ضمن الراكب لم يرجع على المعير لانعدام الغرور منه ولأن المعير كان محجورا عليه فلا يؤاخذ بضمان الأقوال وإن ضمن المعير رجع