( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C تعالى - إملاء : .
الإيداع عقد جائز لأنه تصرف من المالك في ملكه وقد يحتاج إليه عند إرادة السفر والحاج يحتاج إلى إيداع بعض ماله في كل موضع لينتفع به إذا رجع والمودع مندوب إلى القبول شرعا لما فيه من الإعانة على البر قال الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } ( المائدة : 2 ) وقال - A - ( إن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ) وبعد القبول عليه أداء ما التزم وهو الحفظ حتى يؤديها إلى صاحبها لقوله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } ( النساء : 58 ) وقد قيل في سبب النزول أن المراد رد مفتاح الكعبة على عثمان بن أبي طلحة لأنه حين أتاه به قال خذه بأمانة الله تعالى ولكن ظاهر الآية يتناول كل أمانة قال - A - ( من ائتمن أمانة فليؤدها ) وقال - A - ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) وقال - A - ( علامة المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ) .
على الموحد أن يحترز عما هو من علامة المنافق وذلك بأن يحفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ به مال نفسه فيضعها في بيته أو صندوقه لأنه وعد لصاحبها ذلك وخلف الوعد مذموم وإذا ترك الحفظ بعد غيبة صاحبها ففيه ترك الوفاء بما التزم والغرور في حق صاحبها وذلك حرام فإن وضعها في بيته أو صندوقه فهلكت لم يضمنه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( أن النبي - A - قال : من أودع وديعة فهلكت فلا ضمان عليه ) .
ولحديث ابن الزبير عن جابر - رضي الله تعالى عنه - ( أن النبي - A - قال : ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المودع غير المغل ضمان ) . فالمراد بالمغل الخائن قال - A - ( لا أغلال ولا أسلال في الإسلام ) .
والاغلال الخيانة والأسلال السرقة وقد قيل المغل المنتفع من قولهم : أرض مغل . أي كثير الريع والغلة فعلى هذا المراد المنتفع بغير إذن صاحبه .
وقال عمر - Bه - : العارية كالوديعة لا يضمنها صاحبها إلا بالتعدي .
وقال علي - رضي الله تعالى عنه - : لا ضمان على راع ولا على مؤتمن .
والمعنى فيه أن المودع متبرع في حفظها لصاحبها والتبرع لا يوجب ضمانا على المتبرع للمتبرع عليه فكان هلاكها في يده كهلاكها في يد صاحبها وهو معنى قول الفقهاء - رحمهم الله تعالى - يد المودع كيد المودع ويستوي إن هلك بما يمكن التحرز عنه أو بما لا يمكن لأن الهلاك بما يمكن التحرز عنه بمعنى العيب في الحفظ ولكن صفة السلامة عن العيب إنما تصير مستحقا في المعاوضة دون التبرع والمودع متبرع .
فإن دفعها إلى بعض من في عياله من زوجته أو ولده أو والديه أو أجيره فلا ضمان عليه إذا هلكت استحسانا .
وفي القياس هو ضامن لأنه استحفظ من استحفظ منه ويؤيد وجه القياس قوله تعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } والمراد النساء فإن كان هو منهيا عن دفع مال نفسه إلى امرأته فما ظنك في مال غيره . وجه الاستحسان أن المطلوب منه حفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ مال نفسه والإنسان يحفظ مال نفسه بيد من في عياله على ما قيل قوام العالم بشيئين كاسب يجمع وساكنة تحفظ ولأنه لا يجد بدا من هذا فإنه إذا خرج من داره في حاجته لا يمكنه أن يجعل الوديعة مع نفسه وإذا خلفها في داره صارت في يد امرأته حكما وما لا يمكن الامتناع عنه عفو .
فأما ما سوى ذلك من العروض إن باعوا شيئا منه كانوا ضامنين له ألا ترى أن القاضي لا يبيع شيئا من ذلك للانفاق عليهم فكذلك لا يملكون بيعه وإنما لا يبيع القاضي مالا يخاف عليه الفساد في النفقة لأن في بيع ذلك في النفقة حجرا على الغائب وأبو حنيفة لا يرى الحجر عليه وهما وإن كانا يريان الحجر على من لزمه حق فذلك عند ظهور تعنته وامتناعه وبهذا الطريق يقول لا يقضي القاضي دين المفقود من ماله وكذلك مهر امرأته والنفقات المجتمعة عليه قبل أن يفقد لأن ذلك لا يرجع إلى حفظ ملكه بل فيه نوع حجر عليه .
وإذا رجع المفقود حيا لم يرجع في شيء مما أنفق القاضي أو وكيله بأمره على زوجته وولده من ماله وغلته ودينه لأن القاضي لما ثبت له ولاية الإنفاق كان فعله كفعل المفقود بنفسه وكذلك ما أنفقوا هم على أنفسهم من دنانير أو دراهم في وقت حاجتهم إلى النفقة لما بينا أنهم إذا ظفروا بجنس حقهم وسعهم أخذه بالمعروف فلا يضمنون شيئا من ذلك وكذلك إن كان في ماله طعام فأكلوه لأن ذلك من جنس حقهم وكذلك إن كان في ماله ثياب فلبسوها للكسوة لأن ذلك من جنس حقهم .
فأما ما سوى ذلك من العروض إن باعوا شيئا منه كانوا ضامنين له ألا ترى أن القاضي لا يبيع شيئا من ذلك للانفاق عليهم فكذلك لا يملكون بيعه وإنما لا يبيع القاضي مالا يخاف عليه الفساد في النفقة لأن في بيع ذلك في النفقة حجرا على الغائب وأبو حنيفة لا يرى الحجر عليه وهما وإن كانا يريان الحجر على من لزمه حق فذلك عند ظهور تعنته وامتناعه وبهذا الطريق يقول لا يقضي القاضي دين المفقود من ماله وكذلك مهر امرأته والنفقات المجتمعة عليه قبل أن يفقد لأن ذلك لا يرجع إلى حفظ ملكه بل فيه نوع حجر عليه .
( قلنا ) : لا كذلك بل المجتهد فيه سبب القضاء وهو أن البينة هل تكون حجة من غير خصم حاضر أم لا فإذا رآها القاضي حجة وقضى بها نفذ قضاؤه كما لو قضى بشهادة المحدود في قذف .
وذكر في جملة من في عياله الأجير والمراد التمليذ الخاص الذي استأجره مشاهرة أو مسانهة فأما الأجير بعمل من الأعمال كسائر الأجانب يضمن الوديعة بالدفع إليه فإذا انشق الكيس في صندوقه فاختلط بدراهمه فلا ضمان عليه لانعدام الصنع الموجب للضمان عليه ولو يمكن تقصير فذلك من المودع بأن جعل دراهم الوديعة في كيس بال ولكن المختلط مشترك بينهما بقدر ملكهما فإن هلك بعضها هلك من مالهما جميعا ويقسم الباقي بينهما على قدر ما كان لكل واحد منهما لأنه ليس أحدهما بأن يجعل الهالك من نصيبه بأولى من الآخر والأصل في المال المشترك إذا هلك شيء منه أن ما هلك هلك على الشركة وما بقي على الشركة باعتبار أن الهالك يجعل كأن لم يكن .
( وإن فعل ذلك إنسان ممن هو في عيال المودع من صغير أو كبير أو مملوك أو أجنبي فلا ضمان فيه على المستودع ) لانعدام الخلط منه حقيقة وحكما فإن فعل من في عياله كفعله فيما هو مأمور به من جهته صريحا أو دلالة وذلك لا يوجد في الخلط ولكن الضمان على الذي خلطها بمباشرة الفعل الموجب للضمان والصغير والكبير في ذلك سواء لأن الصغير مؤاخذ بضمان الفعل فإن تحقق الفعل بوجوده لا ينعدم بالحجر بسبب الصغر .
ثم الخلط أنواع ثلاثة : .
( خلط ) يتعذر التمييز بعده كخلط الشيء بجنسه فلهذا موجب للضمان لأنه يتعذر به على المالك الوصول إلى عين ملكه .
وخلط يتيسر معه التمييز كخلط السود بالبيض والدراهم بالدنانير فهذا لا يكون موجبا للضمان لتمكن المالك من الوصول إلى عين ملكه فهذه مجاورة ليس بخلط .
وخلط يتعسر معه التمييز كخلط الحنطة بالشعير فهو موجب للضمان لأنه يتعذر على المالك الوصول إلى عين ملكه إلا بحرج والمتعسر كالمعذر كما بيناه في الغصب .
( فإن قيل ) : تمييز الحنطة من الشعير ممكن بأن يصب من ماء فترسب الحنطة ويطفو الشعير .
( قلنا ) : في هذا إفساد للمخلوط في الحال .
ثم الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير كما لا يخلو الشعير عن حبات الحنطة فما كان من حبات الحنطة لصاحب الشعير يرسب وما كان من حبات الشعير لصاحب الحنطة يطفو فعرفنا أن التمييز متعذر بهذا الطريق أيضا . وكذلك خلط الجياد بالزيوف إن كان بحيث يتعذر التمييز أو يتعسر فهو موجب للضمان على الخالط وإن كان بحيث يتيسر التمييز لا يكون موجبا للضمان عليه يقول : .
فإن لم يظهر بالخلط فقال أحدهما أنا آخذ المخلوط وأغرم لصاحبي مثل ما كان له فرضي به صاحبه جاز لأن الحق لهما فإذا تراضيا على شيء صح ذلك في حقهما وإن إبى أحدهما فإنه يباع المخلوط ويقسم الثمن بينهما على قيمة الحنطة والشعير على التفسير الذي بيناه في الغصب قبل هذا الجواب إنما يستقيم على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - ورواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله - في أن ملك المالك لا ينقطع عن المخلوط بل له الخيار بين الشركة في المخلوط وبين تضمين الخالط فأما على ما هو الظاهر من مذهب أبي حنيفة المخلوط ملك للخالط وحقهما في ذمته فلا يباع ماله في دينهما لما فيه من الحجر عليه وأبو حنيفة لا يرى ذلك والأصح أنه قولهم جميعا لأن ملكهما وإن انقطع عن المخلوط فالحق فيه باق ما لم يصل إلى كل واحد منهما بدل ملكه ولهذا لا يباح للخالط أن ينتفع بالمخلوط قبل أداء الضمان فلبقاء حقهما يكون لهما أن يستوفيا حقهما من المخلوط إما صلحا بالتراضي أو بيعا وقسمة الثمن إذا لم يتراضيا على شيء .
وإذا كان عند الرجل وديعة دراهم أو دنانير أو شيء من المكيل أو الموزون فأنفق طائفة منهما في حاجته كان ضامنا لما أنفق منها اعتبارا للبعض بالكل ولو لم يصر ضامنا لما بقي منها لأنه في الباقي حافظ للمالك وبما أنفق لم يتعيب الباقي فإن هذا مما لا يضره التبعيض فهو كما لو أودعه وديعتين فأنفق إحداهما لا يكون ضامنا للأخرى . فإن جاء بمثل ما أنفق فخلطه بالباقي صار ضامنا لجميعها لأن ما أنفق صار دينا في ذمته وهو لا ينفرد بقضاء الدين بغير محضر من صاحبه فيكون فعله هذا خلطا لما بقي بملك نفسه وذلك موجب للضمان عليه .
فإن كان حين أنفق بعضها وجاء بمثله فخلط بالباقي أفتى بأنه صار ضامنا لها كلها فباعها ثم جاء رب الوديعة فضمنها إياه وفي الثمن فضل قال : يطيب له حصة ما خلطه بها من ماله من الفضل لأنه ربح حصل على ملكه وضمانه ويتصدق بحصة الثاني من الوديعة في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله .
وفي قول أبي يوسف - C - لا يتصدق به لأنه بالضمان قد ملكه مستندا إلى وقت وجوب الضمان ولهذا نفذ بيعه فكان هذا ربحا حاصلا على ملكه وضمانه فيطب له كما في حصة ملكه وهما يقولان هذا ربح حصل له بكسب خبيث فإنه ممنوع من بيع الوديعة إما لبقاء ملك المودع كما في الباقي بعد الخلط في إحدى الروايتين أو لبقاء حقه على ما قلنا والربح الحاصل بكسب خبيث سبيله التصدق به ولأن المودع عند البيع يخبر المشتري أنه يبيع ملكه وحقه وهو كاذب في ذلك والكذب في التجارة يوجب الصدقة بدليل حديث قيس بن عروة الكناني قال كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق ونسمي أنفسنا السماسرة فدخل علينا رسول الله - A - وسمانا بأحسن الأسماء وقال : ( يا معشر التجار إن تجارتكم هذه يحضرها اللغو والكذب فشربوها بالصدقة ) . فعملنا بالحديث في إيجاب التصدق بالفضل .
وهذا إذا كانت الوديعة شيئا يباع فإن كانت دراهم فالدراهم يشتري بها ثم ينظر إن اشترى بها بعينها ونقدها لا يطيب له الفصل أيضا وإن اشترى بها ونقد غيرها أو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقدها يطيب له الربح هنا لأن الدراهم لا تتعين بنفس العقد ما لم ينضم إليه التسليم ولهذا لو أراد أن يسلم غيرها كان له ذلك فأما بالقبض يتعين نوع تعين ولهذا لا يملك استرداد المقبوض من البائع ليعطيه مثلها فلهذا قلنا إذا استعان في العقد والنقد جميعا بالدراهم الوديعة أو المغصوبة لا يطيب له الفضل وكذلك إن اشترى بها مأكولا ونقدها لم يحل له أن يأكل ذلك قبل أداء الضمان ولو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقد تلك الدراهم حل له أن ينتفع بها .
وفي النوادر لو اشترى دينارا بعشرة دراهم ونقد الدراهم المغصوبة لم يحل له أن ينتفع بالدينار ما لم يؤد الضمان لأن صاحب الدراهم إذا استحق دراهمه فسد العقد ووجب عليه رد الدينار فكانت كالمقبوض بحكم عقد فاسد بخلاف ما لو نقدها في ثمن الطعام لأنه بالاستحقاق هناك لا يبطل الشراء بل يبقى الثمن دينا في ذمته كما كان .
وعلى هذا قالوا لو غصب ثوبا واشترى به جارية لم يحل له أن يطأها لأنه لو استحق الثوب لزمه رد الجارية . ولو تزوج بالثوب المغصوب امرأة حل له أن يطأها لأن المغصوب منه إذا استحق الثوب لا يبطل النكاح ولا التسمية .
( فإن كان أخذ بعض الوديعة لينفقه في حاجته ثم بداله فرده إلى موضعه ثم ضاعت الوديعة فلا ضمان عليه ) لأن رفعه حفظ فلا يكون موجبا للضمان عليه .
بقي مجرد نية الإنفاق في حاجته وبمجرد النية لا يصير ضامنا كما لو نوى أن يغصب مال إنسان وهذا لقوله - A - ( إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا ) والعراقيون يقولون كاد ولما أي كاد يعصي فعصم والمعصوم لا يعاقب بعقوبة من عصى ولئن صار ضامنا بالرفع فقد عاد إلى الوفاق برد العين إلى مكانه وذلك يبرئه عن الضمان عندنا على ما نبينه بخلاف ما سبق لأن هناك إنما جاء بملك نفسه فوضعه مكان ما أنفق ولهذا لا يكون عودا إلى الوفاق فيما خالف فيه وهنا إنما جاء بالوديعة بعينها فتحقق عوده إلى الوفاق وهذا أولى الوجهين عندي فإنه لو باعها ثم ضمن قيمتها نفذ البيع من جهته وإنما يستند ملكه بالضمان إلى وقت وجوب الضمان فلو لم يكن الرفع للبيع موجبا للضمان عليه قبل البيع والتسليم لم يستند ملكه إلى تلك الحالة فينبغي أن لا ينفذ بيعه والرواية محفوظة في هذا الكتاب وفي المضاربة أن البيع نافذ فعرفنا أن الأوجه هو الطريق الثاني .
( وإذا طلب المودع الوديعة فقال المستودع قد رددتها عليك فالقول قوله مع يمينه ) لأنه أمين والقول قول الأمين مع اليمين لإنكاره السبب الموجب للضمان وإخباره بما هو مسلط عليه وهو رد الوديعة على صاحبها والمودع هو الذي سلطه على ذلك فيجعل قوله كقول المسلط إلا أنه يستحلف لنفي التهمة عنه . وكذلك لو سرقت أو ضاعت أو ذهبت وقال لا أدري كيف ذهبت لأنه أمين أخبر بما هو محتمل ولأنه ينكر وجوب الضمان عليه والمالك يدعي عليه سبب الضمان وهو المنع بعد الطلب فلا يصدق إلا بحجة .
( واختلف ) المتأخرون - رحمهم الله - فيما إذا قال ابتداء لا أدري كيف ذهبت فمنهم من يقول هو ضامن لها لأنه جهلها بما قال والمودع بالتجهيل يصير ضامنا بخلاف ما إذا قال ذهبت ولا أدرى كيف ذهبت لأن بقوله ذهبت يخبر بهلاكها ويكفيه هذا المقدار فلا معتبر بعد ذلك بقوله لا أدري كيف ذهبت والأصح أنه لا يصير ضامنا لأنه مخبر بهلاكها محترز عن الكذب والمجازفة في القول بقوله لا أدري كيف ذهبت وهذا لأن أصل الذهاب معلوم من هذا اللفظ لا محالة وإنما التجهيل في كيفية الذهاب والإخبار بأصل الذهاب يكفي في براءته عن الضمان .
وإن قال بعثت بها إليك مع رسولي وسمى بعض من في عياله فهو كقوله رددتها عليك لأن يد من في عياله لما جعل كيده في الحفظ فكذلك في الرد يد من في عياله كيده فلا يصير بهذا مقرا بالسبب الموجب للضمان عليه .
( وإذا قال بعثت بها إليك مع أجنبي فهو ضامن حتى يقر المودع بوصولها إليه عندنا ) ( قال ) ابن أبي ليلى - C - لا ضمان عليه وهذا بناء على أن عنده للمودع أن يودع غيره لأنه يحفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ ماله وقد يودع الإنسان مال نفسه من أجنبي فكذلك له أن يودع الوديعة من غيره فلا يصير ضامنا بالدفع إلى غيره ليحفظ أو يرد كما في حق من في عياله . وعندنا ليس للمودع أن يودع غيره لأن الحفظ يتفاوت فيه الناس والمودع إنما رضي بحفظه وأمانته دون غيره فإذا دفع إلى أجنبي فقد صار تاركا للحفظ الذي التزمه مستحفظا عليه من استحفظ منه فيكون ضامنا . بخلاف من في عياله فإن المودع هو الحافظ له بيد من في عياله لأن من في عياله في يده فما في يد من في عياله كذلك فأما إذا دفع إلى أجنبي لا يكون هو حافظا له بل الأجنبي هو الحافظ له والمودع لم يرض بهذا فيكون ضامنا حتى يقر المودع بوصولها إليه فإذا أقر بذلك برئ عن الضمان بوصول المال إلى يد صاحبه كما يبرأ الغاصب بوصول المغصوب إلى يد صاحبه .
وكذلك العارية في جميع ذلك لأنها أمانة كالوديعة وفي هذا بيان أن المستعير ليس له أن يودع أجنبيا كالمودع .
وقد قال بعض مشايخنا - رحمهم الله - له ذلك لأن للمستعير أن يعير فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع به وفي الإعارة إيداع وزيادة ولكن الأول أصح لأن المستعير عندنا مالك للمنفعة فإعاراته من الغير تصرف فيما هو مملوك له وهو المنفعة ثم يتعدى تسليمه إلى العين حكما لتصرفه في ملك نفسه فلا يكون موجبا للضمان عليه فأما إيداعه من الغير فهو تصرف في العين ولا حق له في العين فيكون موجبا للضمان عليه كالإيداع من المودع .
فإن قال بعثت بها إليك مع هذا الأجنبي أو استودعتها إياه ثم ردها علي فضاعت عندي لم يصدق وهو ضامن لها لأنه أقر بوجود السبب الموجب للضمان عليه ثم ادعى ما يسقط عنه فلا يصدق كالغاصب إذا ادعى رد المغصوب فإن أقام البينة على ذلك برئ من الضمان لأنه أثبت البراءة بالحجة والثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وهو مذهبنا فإن المودع إذا حالف ثم عاد إلى الوفاق يبرأ عن الضمان وعند الشافعي - رضي الله تعالى عنه - لا يبرأ وبيانه في هذه المسألة وفيما إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه فهلك وحجة الشافعي قوله - A - ( على اليد ما أخذت حتى ترد ) وهو حين أخذها للاستعمال صارت مضمونة عليه حتى لو هلكت في تلك الحالة ضمنها فلا يبرأ إلا بالرد على المالك ولم يوجد ولأن الوديعة تضمن بالخلاف من طريق القول وهو الجحود تارة وبالخلاف من طريق الفعل أخرى ثم إذا ضمنها بالجحود لم يبرأ بذلك الخلاف ما لم يردها إلى المالك . فكذلك بالاستعمال بل أولى لأن الاستعمال يتصل بالعين والجحود لا يتصل به .
وقاس بالمستأجر للدابة إلى مكان إذا جاوزه ثم عاد إليه لم يبرأ .
وكذلك المستعير يعلم أنه أمين ضمن الأمانة بالخيانة ولأن المودع معير يده من المودع في الحفظ فإذا خالف فقد استرد يد عاريته وهو ينفرد به ثم إذا عاد إلى الوفاق فقد أراد إعادة يده ثانيا منه وهو لا ينفرد به ولأن موجب العقد هو الحفظ للمالك وبالخلاف يفوت موجب العقد إما لتركه الحفظ أصلا أو لتركه الحفظ للمالك حين حفظها لنفسه فلا يبقى العقد بعد فوات موجبه ولأن الإنسان إنما يأتمن الأمين على ماله دون الخائن ومطلق العقد يتقيد بدلالة العرف كالشراء بمطلق الدراهم يتقيد بنقد البلد وإذا تقيد العقد بما قبل الخلاف لا يبقى بعده .
وحجتنا في ذلك أن الإيداع مطلق فكان باقيا بعد الخلاف .
وبيان الوصف أنه قال احفظ مالي أو قال احفظه أبدا ولا يشكل على أحد أن هذا اللفظ يتناول الحفظ قبل الخلاف وبعده ثم لم يبطل بالخلاف لأن بطلان الشيء بما هو موضع لإبطاله أو بما ينافيه والاستعمال ليس بموضع لإبطال الإيداع وهو لا ينافيه .
ألا ترى أن الأمر بالحفظ مع الاستعمال صحيح ابتداء بأن يقول للغاصب أودعتك وهو مستعمل له والخلاف ليس برد لأن الأمر قول ورد القول بقول مثله ولأن الخلاف يكون في حال غيبة المودع ولو قال رددت الأمر في هذه الحالة لم يرتد ولأنه تصرف في حفظ الواجب بالأمر على خلاف ما يوجبه وليس بتصرف في الأمر وصحة الأمر كأن يكون الآمر أهلا له وكون الحفظ مقصودا من المأمور ولم ينعدم شيء من ذلك بخلاف الجحود فإنه رد للأمر بعينه لأن الجاحد يكون متملكا للعين والمالك في ملكه لا يكون مأمورا بالحفظ من جهة غيره والدليل عليه أوامر الشرع فالجحود فيها رد والخلاف لا يكون ردا حتى لو ترك صوما أو صلاة لم يكفر .
( وكذلك ) في أوامر العباد إذا وكله ببيع عين بألف فباعه بخمسمائة وسلم لم تبطل الوكالة مع تحقق الخلاف ومع أن الوكالة جائزة غير لازمة كالإيداع . وعذره أن البيع لا يستغرق المدة فالأمر به لا يبطل بالخلاف والحفظ يستغرق المدة فيبطل الأمر به إذا خالف في بعض المدة هنا وهناك حتى يصير ضامنا .
ويشكل بالاستئجار للحفظ فإنه يستغرق المدة ثم لا يبطل بالخلاف من طريق الفعل وعذره عن الإجارة أنها لازمة حتى لا يبطل بالجحود ضعيف لأن بطلان العقد عنده بفوات المعقود عليه واللازم وغير اللازم فيه سواء إنما يفترق اللازم وغير اللازم فيما هو رد . ثم في الاستئجار العقد ورد على منفعة الحافظ في المدة والمنفعة تحدث شيئا فشيئا فبترك الحفظ في بعض المدة يبطل العقد في ذلك القدر ويكون باقيا فيما وراءه كبقاء المعقود عليه فكذلك في الحفظ بغير بدل .
فأما استئجار الدابة إلى مكان فقد قال بعض أصحابنا - رحمهم الله - إن استأجرها ذاهبا وجائيا يبرأ عن الضمان بالعود إلى ذلك المكان فيصير ضامنا بالمجاوزة لوجود سبب الضمان ثم بالعود إلى ذلك المكان لا يعود العقد بينهما .
ولو سلمنا فنقول العقد هناك يرد على منافع الدابة في ذلك المكان فبإخراج الدابة من ذلك المكان يفوت المعقود عليه أصلا وهنا العقد يرد على منفعة الحافظ وبالخلاف من طريق الفعل لم يفت جميع المعقود عليه إنما وقع التغير في التسليم في بعضه لأنه كان مأمورا بتسليم العين في المصر فإذا أخرجه يتغير التسليم من غير أن يفوت المعقود عليه حتى أن في الإجارة لو حمل عليها حملا آخر في ذلك المكان ثم نزع برئ عن الضمان لبقاء المعقود عليه وتمكن التغير كان في الاستيفاء ولأن المستأجر ضامن بالإمساك لا في المكان المأمور به وهو في الإمساك عامل لنفسه .
ألا ترى أنه لو أمسكها أياما في بيته كان ضامنا فلا يتحقق الرد منه بعد الخلاف إذا كان ممسكا لمنفعة نفسه فأما المودع لا يضمن بالإمساك بل بالاستعمال وقد زال ذلك كله حتى أن في الإجارة إذا لم يضمن بالإمساك برئ بترك الخلاف على ما قال في الإجارات إذا استأجرت المرأة ثوب صيانة لتلبسه أياما فلبست بالليل كانت ضامنة فإذا جاء النهار برئت لأن الضمان عليها بالاستعمال ليلا دون الإمساك .
( وإذا ثبت بقاء عقد الوديعة فنقول يد المودع كيد المودع ) فإما أن يجعل في حالة الخلاف كأن العين في يد المالك والمستعمل متشبث به فإن هلك من عمله ضمن وإلا فلا كما لو تشبث بثوب في يد صاحبه وهذا اختيار الهندواني - C - والأصح أنه ضامن إذا هلك في حالة الخلاف سواء كان من استعماله أو من غير استعماله .
وفي الكتاب ما يدل عليه فإنه قال برئ عن الضمان وذلك لا يكون إلا بعد صيرورة العين مضمونا عليه .
ولو تنازعا في الهلاك أنه كان في حالة الخلاف أو بعد ترك الخلاف كان القول قول المالك فعرفنا أنه صار ضامنا وطريق صيرورته ضامنا تفويت المعقود عليه ونزع يده ضمنا للخلاف ولكن ما ثبت ضمنا للشيء يتقدر بقدره ففيما وراء زمان الخلاف يد المودع كيد المودع لبقاء العقد والاستدامة فيما يستدام له حكم الإنشاء .
ولو أودعه ابتداء برئ عن الضمان باعتبار إن يد المودع كيد المودع فكذلك هنا .
وتبين بهذا أن استرداده يد عاريته كان مقصودا على حالة الخلاف لأنه ثبت ضمنا له ودعوى تقييد الأمر بما قبل الخلاف . كلام باطل فإن أحدا لا يظن بصاحب المال أن يقول احفظ مالي ما لم تخن فإذا خنت فلا تحفظ ولكنه يقول احفظ ولا تحن فإذا خنت فاترك الخيانة واحفظه لي لأن مقصوده من الأمر بالحفظ أن يكون ماله مصونا عنده والحاجة إلى ذلك في حالة الخلاف أظهر .
وإذا طلب المودع الوديعة فجحدها المستودع كان ضامنا لها لوجهين : .
( أحدهما ) : أنه بالجحود صار متملكا فإن الشرع جعل القول قوله فيما في يده ولا يتملك أحذ مال الغير بغير رضاه إلا بالضمان .
ولأن المالك عزله عن الحفظ حين طالبه بالرد فهو بالجحود صار مانعا المالك عن ملكه مفوتا عليه يده الثابتة حكما فيكون كالغاصب ضامنا بهذا الطريق ولم يذكر في الكتاب إذا جحدها لا في وجه المودع .
فإن قال له إنسان ما حال وديعة فلان عندك فجحدها أو جحدها في وجه المودع من غير أن يطالبه بالرد بأن قال له ما حال وديعتي عندك ليشكره على حفظها فجحدها وذكر الفصلين في اختلاف زفر ويعقوب - رحمهما الله - أنه على قول زفر يكون ضامنا لما ذكرنا أنه بالجحود متملك لها ومفوت يد المالك حكما .
( وقال ) أبو يوسف : لا يكون ضامنا لأن المالك ما عزله عن الحفظ فيكون العقد باقيا وباعتبار بقائه يده كيد المالك في العين ولأن الجحود في حال غيبة المالك من الحفظ لأنه طريق لدفع طمع الطامعين عنها فلا يكون موجبا للضمان عليه . فإن أقام رب الوديعة البينة بعد جحود المودع أنه استودعه كذا ثم أقام المستودع البينة أنها ضاعت فهو ضامن لها لأنه بالجحود صار ضامنا وهلاك المضمون في يد الضامن يقرر عليه الضمان . وكذلك إن أقام البينة أنها كانت ضاعت قبل جحوده لأن البينة لا تقبل إلا بعد تقدم الدعوى .
وهو مناقض في كلامه فجحوده أصل الإيداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله فلهذا لا تقبل بينته إلا أن يقر المودع بذلك فحيئنذ لا ضمان على المودع لأن الإقرار موجب بنفسه في حق المقر ولأن المناقض إذا صدقه خصمه كان مقبول القول .
( وإن قال لم تودعني شيئا ثم قال قد أودعتني ولكنها هلكت فهو ضامن لها ) لما بينا أن جحوده أصل الإيداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله والهلاك بعد الجحود يؤكد الضمان عليه .
( وإن قال قد أعطيتكها ثم قال بعد أيام لم أعطكها ولكنها ضاعت لم يصدق وهو ضامن لها ) وطعن عيسى في هذا وقال لا ضمان عليه لأنه تكلم بكلامين لو تكلم بكل واحد منهما على الانفراد لم يكن ضامنا فبمجموعهما كيف يصير ضامنا .
وتقرير هذا من وجهين : .
( أحدهما ) : أن الضمان يستدعي سببا لا محالة ولم يوجد لأن قبضه بإذن المالك ولم يوجد منه جحود ليكون ضامنا .
( والثاني ) : أن قول المودع رددتها أو هلكت معتبر في نفي الضمان عنه لا في ثبوت الرد به ولهذا لو ادعى الرد على الوصي لم يضمن الوصي شيئا . وإذا كان المقصود نفي الضمان عنه ولا تناقض بين كلاميه فيما هو المقصود لا يكون ضامنا شيئا . ووجه ظاهر الرواية : أنه مناقض في كلامه لأن إخباره بالرد من دعوى الهلاك في يده وإخباره بالهلاك في يده يمنعه من دعوى الرد فسقط اعتبار كلامه للتناقض فيبقى ساكتا ممتنعا من رد الوديعة بعد ما طولب بها وذلك سبب موجب للضمان عليه فكان ضامنا لهذا .
فإن قال استودعتني ألف درهم فضاعت وقال الطالب كذبت بل غصبتها مني فالقول قول المستودع لأن المقر له يدعي عليه سبب الضمان وهو الغصب والمستودع منكر لذلك ولم يسبق منه إقرار بسبب موجب للضمان إنما ذكر أن صاحب المال وضع ماله في موضع فضاع وفعل الإنسان في ماله نفسه لا يكون موجبا للضمان على غيره .
وإن قال المستودع أخذتها منك وديعة وقال الآخر بل غصبتني فهو ضامن لها لإقراره بوجود الفعل الموجب للضمان منه في ملك الغير وهو الآخذ . قال - A - ( على اليد ما أخذت حتى ترد ) ثم ادعى ما يسقط الضمان عنه وهو إذن المالك إياه في الأخذ فلا يصدق على ذلك ويكون ضامنا إلا أن يقيم البينة أو يأتي المالك اليمين فيقوم نكوله مقام إقراره . وإن قال رب المال : بل أقرضتكها قرضا وقال المستودع بل وضعتها عندي وديعة أو أخذتها منك وديعة وقد ضاعت فلا ضمان عليه لأنهما تصادقا على أن الأخذ حصل بإذن المالك فلا يكون موجبا للضمان إلا باعتبار عقد الضمان والمالك يدعي ذلك بقوله أقرضتكها والمودع منكر فكان القول قوله لانكاره . ثم بين في خلط الحنطة بالشعير أنه إن كان بحيث يستطاع أن يخلص فلا ضمان على المودع وقد يكون ذلك بأن يدق حبات الحنطة فتغربل فتتميز من الشعير فإذا كان بهذه الصفة كان هذا كخلط البيض بالسود فلا يكون موجبا للضمان .
( رجل استودع رجلا ألف درهم وله على المستودع ألف قرض فأعطاه ألف درهم ثم اختلفا بعد أيام فقال الطالب : أخذت الوديعة وقال المستودع أعطيت القرض وقد ضاعت الوديعة فالقول قول المستودع ) لأنه هو الدافع للألف فالقول قوله أنه من أي جهة دفعه وقد زعم أنه دفعه عن جهة قضاء الدين فبرئ من الدين به وبقيت الوديعة في يده وقد أخبر بهلاكها فالقول قوله في ذلك يوضحه أنه لو لم يدفع إليه شيئا حتى أخبر بهلاك الوديعة كان القول قوله ولا يجب عليه إلا أداء الألف بدل القرض فكذلك إذا أخبر بهلاك الوديعة بعد أداء الألف .
( رجل استودع صبيا محجورا عليه مالا فاستهلكه لم يضمن في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وهو ضامن في قول أبي يوسف والشافعي - رحمهما الله - ) وجه قولهما : أن ضمان الاستهلاك ضمان فعل والصبي والبالغ فيه سواء لما بينا أن تحقق الفعل بوجوده . ألا ترى أن الوديعة لو كانت عبدا أو أمة فقتلهما الصبي كان ضامنا بهذا الطريق فكذلك في سائر الأموال ولأن الإيداع من الصبي باطل لأنه استحفاظ من لا يحفظ فكأنه لم يودعه ولكنه جاء فأتلف ماله واستحفاظ من لا يحفظ تضييع للمال فكأنه ألقاه على قارعة الطريق ولو فعل ذلك فأتلفه صبي كان ضامنا فكذا هذا . وحجة أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - ما قال في الكتاب لأنه صبي وقد سلطه رب المال على ماله حين دفعه إليه ( وفي ) تفسير هذا التسليط نوعان من الكلام : .
( أحدهما ) : أنه تسليط باعتبار العادة لأن عادة الصبيان إتلاف المال لقلة نظرهم في عواقب الأمور فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير كالإذن له في الإتلاف وبقوله احفظ لا يخرج من أن يكون إذنا لأنه إنما يخاطب بهذا من لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار وقال لا تأكل . بخلاف العبد والأمة لأنه ليس من عادة الصبيان القتل لأنهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون إيداعه تسليطا على القتل باعتبار عادتهم وهذا بخلاف الدابة فإن من عادتهم إتلاف الدواب ركوبا فيثبت التسليط في الدابة بطريق العادة .
والأصح أن نقول : معنى التسليط تحويل يده في المال إليه فإن المالك باعتبار يده كان متمكنا من استهلاكه فإذا حول يده إليه صار ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع أو صبيا إلا أنه بقوله احفظ قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ دون غيره وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبي لأنه لما التزم بالعقد والصبي ليس من أهله فيبقى التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا بخلاف العبد والأمة فإن المالك باعتبار يده ما كان متمكنا من قتل الآدمي فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله ولأن الإيداع من المالك تصرف في ملكه والمملوك في حكم الدم مبقي على أصل الحرية فلا يتناوله الإيداع والتسليط يثبت باعتباره . بخلاف ما لو قال اقتل عبدي لأن ذاك استعمال والاستعمال وراء التسليط فإن بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان يرجع على المستعمل وبعد التسليط يسقط حق المسلط في التضمين لرضاه به ولا يثبت لأحد حق الرجوع عليه ولهذا قلنا في هذا الموضع أن الصبي المستهلك إذا ضمن للمستحق لا يرجع على المودع بخلاف ما لو قال له اتلفه فذلك استعمال للصبي وهذا تسليط له بمنزلة قوله أبحت لك أن تأكل هذا الطعام إن شئت ولو قال ذلك فأكله الصبي لم يضمن ولو جاء مستحق وضمنه لم يرجع على الذي قال له ذلك فهذا مثله إلا أن أبا يوسف يقول قوله احفظه بمنزلة الاستثناء مما تناوله مطلق التسليم والاستثناء تصرف من المستثنى على نفسه في حقه فلا يعتبر لصحته حال المخاطب به أو ثبوت ولاية له عليه بل باستثنائه يخرج ما وراء الحفظ من هذا التسليط فإذا استهلكه الصبي كان مستهلكا بغير إذنه ولكن أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - يقولان : التسليط بالفعل وهو نقل اليد إليه مطلقا وقوله احفظ كلام فلا يتحقق استثناؤه من الفعل المطلق بل يكون معارضا لذلك الفعل الذي هو تسليط ولا يكون معارضا إلا بعد صحته حكما لكون المخاطب من أهل الالتزام بالعقد وذلك في حق البالغ دون الصبي فيبقى التسليط مطلقا في حق الصبي .
والدليل عليه أن الصبي لوضيع الوديعة لم يضمن بأن رأى إنسانا يأخذها أو دله على أخذها والبائع يضمن بمثله فعرفنا أن العارض صحيح في حق البالغ دون الصبي .
وعلى هذا لو أودع عبدا محجورا عليه مالا فاستهلكه لم يضمن عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - حتى يعتق لأن العارض صحيح في حقه دون المولى فإنه التزام بالنقد .
وعلى وقول أبي يوسف يباع فيه في الحال لأن المودع يتصرف على نفسه في الاستثناء فيبقى الاستهلاك بغير إذنه .
فإن كان العبد صبيا لم يضمن عندهما في الحال ولا بعد البلوغ والعتق لأن العارض لم يصح في حقه ولا في حق المولى وإن كان الصبي أو العبد مأذونا كان ضامنا في الحال لأن العارض قد صح في حقهما وفي حق المولى فالمأذون من أهل الالتزام بالعقد ولهذا يؤاخذان بضمان التضيع .
وعلى هذا الخلاف لو أقرض صبيا محجورا عليه أو عبدا محجورا عليه مالا فاستهلكه لأن التسليم إليه تسليط وقوله أقرضتك معارض لقوله احفظ في الوديعة على ما بينا : .
وكذلك لو باع من صبي محجور عليه أو عبد محجور عليه أو عبد محجور عليه ( شيئا فاستهلكه فهو على هذا الخلاف لأن التسليم إليهما تسليط وقوله بعت معارض فلا يعمل هذا المعارض في حق الصبي أصلا ولا في حق العبد حتى يعتق فهذا هو الحرف الذي يخرج عليه هذه المسائل .
( وإن هلكت الوديعة عند الصبي والعبد فلا ضمان عليهما ) لانعدام صنيع موجب للضمان منهما . وفي قتل العبد والأمة يجب عليهما ما يجب قبل الإيداع فعلى عاقلة الصبي قيمة المقتول في ثلاث سنين عمدا قتله أو خطأ لأن عمد الصبي وخطأه سواء وعلى المملوك القصاص إن قتله عمدا وإن قتله خطأ يخاطب المولى بالدفع أو الفداء في العبد وعليه القيمة في المدبر وأم الولد يعني الأقل من قيمة المقتول وقيمة القاتل وعلى المكاتب أن يسعى في الأقل من قيمته ومن قيمة المقتول .
ولو أودع رجلا شيئا فاستهلكه ابن له صغير أو عبد فعلى المستهلك ضمانه في الحال لأن قبوله الوديعة يكون إذنا لمن في عياله بأن يحفظهما والصبي والعبد إذا كان مأذونا في حفظ الوديعة يؤاخذ بضمان الاستهلاك ( رجل استودع رجلا ألف درهم فدفعها المستودع إلى آخر وادعى أن رب الوديعة أمره بذلك لم يصدق عليه إلا ببينة ) ( وقال ) ابن أبي ليلى : هو مصدق في ذلك مع يمينه لأن عنده للمودع أن يودع وهو منكر لوجوب الضمان عليه ثم يدعي ما يسقط الضمان عنه وهو الإذن فلا يصدق إلا ببينة كما لو أخذ مال إنسان فادعى أنه أخذه بإذنه . وله أن يستحلف صاحبها أنه لم يأمره بالدفع لأنه لو أقر بالأمر برئ المودع فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله .
فإن كان رب الوديعة أمره أن يدفعها إلى رجل فقال قد دفعتها وقال الرجل لم أقبضها منك وقال ربع الوديعة لم تدفعها فالقول قول المودع مع يمينه لأن دعواه الدفع إلى من أمر المالك بالدفع إليه بمنزلة دعواه الدفع إلى مالكها فيكون مصدقا في براءته عن الضمان دون وصول المال إلى ذلك الرجل حتى لا يضمن ذلك الرجل ما لم تقم البينة على قبضه .
وإذا قال صاحب الوديعة للمودع أخبئها في بيتك هذا فخبأها في بيت آخر في داره تلك فضاعت فلا ضمان عليه استحسانا وفي القياس هو ضامن لأنه خالف أمره نصا فهو كما لو قال أخبئها في دارك هذه فخبأها في دار أخرى فهلكت .
وفي الاستحسان يقول إنما يعتبر من كلامه ما يون مفيدا دون ما لا يكون مفيدا . ألا ترى أنه لو قال احفظها بيمينك دون يسارك أو انظر إليها بعينك اليمنى دون اليسرى لم يعتبر لأنه غير مفيد .
إذا ثبت هذا فنقول البيتان في دار واحدة لا يتفاوتان في معنى الحرزية لأن الكل حرز واحد ألا ترى أن السارق إذا أخرج المتاع من أحد البيتين إلى البيت الآخر لم يقطع إذا أخذ قبل أن يخرجه من الحرز فأما الداران يتفاوتان في الحرز فكان تقييده في الدار مفيدا لأن كل دار حرز على حدة .
ألاترى أنه لو قال له لا تخرج بها من الكوفة فخرج بها إلى البصرة كان ضامنا لها لأن التقييد في المصرين مفيد فإن انتقل من الكوفة إلى البصرة أو إلى غيرها لشيء لم يكن له منه بد فهلكت فلا ضمان عليه لأن المودع إنما يلتزم شرط المودع بحسب إمكانه .
ألا ترى أنه لو قال أمسكها بيدك ولا تضعها ليلا ولا نهارا فوضعها في بيته فهلكت لم يضمنها لأن ما شرط عليه ليس في وسعه باعتبار العادة فكذلك يسقط اعتبار شرطه إذا لم يجد بدا من الانتقال من بلد إلى بلد فلا ضمان عليه إذا هلكت وهذا بناء على أصلنا فإن للمودع أن يسافر بالوديعة عند إطلاق العقد . وعند الشافعي ليس له ذلك لأن فيه تعريض المال للهلاك قال - A - ( المسافر ومتاعه وماله على قلت إلا ما وقى الله تعالى ) وليس للمودع تعريض الوديعة للتلف وهذا بخلاف الأب والوصي والمضارب فإنهم يسافرون للتجارة وطلب الربح . ألا ترى أن لهم أن يسافروا بالمال من طريق البحر وليس للمودع حق التصرف والاسترباح في الوديعة ولهذا لا يسافر من طريق ا لبحر . يوضحه : أن مقصود المودع أن يكون ماله في المصر محفوظا يتمكن منه متى شاء ويفوت عليه هذا المقصود إذا سافر المودع به . وحجتنا في ذلك أن الأمر مطلق فلا يتقيد بمكان دون مكان كما لا يتقيد بزمان وهذا لأن من يراعي أمره في شيء يراعي إطلاق أمره كأوامر الشرع والأمكنة كلها في صفة الأمر سواء إنما الخوف من الناس دون المكان فإذا كان الطريق أمنا كان الحفظ فيه كالحفظ في جوف المصر ومراد رسول الله - A بيان الحالة في ذلك الوقت فإن المسلمين كانوا لا يأمنون خارج المدينة لغلبة الكفار ألا ترى أنه فيما أخبر من الأمر بعده قال يوشك أن تخرج الظعينة من القادسية إلى مكة لا تخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمها ولا يجوز أن يتقيد مطلق أمره بالعرف والمقصود لأن النص مقدم على ذلك والمقصود مشترك فقد يكون قصده أن يحمل المال إليه خصوصا إذا سافر إلى البلد الذي فيه صاحب المال ولأن المودع لا يتعذر عليه الخروج للسفر في حاجته بسبب قبول الوديعة وإذا خرج فإما أن يدفع الوديعة إلى غيره فيكون تاركا للنص لأنه أمره أن يحفظ بنفسه وإما أن يحمل مع نفسه فيكون مخالفا لمقصوده ولا شك أن مراعاة النص أولى من مراعاة المقصود ولهذا قال أبو حنيفة ما له حمل ومؤنة وما لا حمل له ولا مؤنة في ذلك سواء بعدت المسافة أو قربت لمراعاة النص وهو القياس واستحسن أبو يوسف - C تعالى - فقال : إذا كان له حمل ومؤنة فليس له أن يسافر به لأنه يلزم صاحبها مؤنة الرد ولا ولاية له عليه في إلزام المؤنة إياه . واستحسن محمد - C تعالى - فقال إذا قربت المسافة فله أن يسافر بها وإذا بعدت المسافة فليس له ذلك لأنه يعظم الضرر والمؤنة على صاحبها عند بعد المسافة إذا أراد ردها .
ولو أودعه وديعة فقال لا تدفعها إلى امرأتك أو عبدك أو ولدك أو أجيرك فإني أتهمهم عليها فدفعها إلى الذي نهاه عنه فهلكت فإن كان يجد بدا من الدفع إليه بأن كان له سواه أهل وخدم فهو ضامن وإن كان لا يجد بدا من ذلك لم يضمن لأن شرطه هذا مفيد وقد يأتمن الإنسان الرجل على ماله ولا يأتمن زوجته إلا أنه إنما يلزمه مراعاة شرطه بحسب الإمكان لا فإذا كان يجد بدا من الدفع إلى من نهاه عنه فهو متمكن من حفظها على الوجه المأمور به فيصير ضامنا ب