( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي إملاء المفقود اسم لموجود هو حي باعتبار أول حاله ولكنه خفي الأثر كالميت باعتبار مآله وأهله في طلبه يجدون ولخفاء أثر مستقره لا يجدون قد انقطع عليهم خبره واستتر عليهم أثره وبالجد ربما يصلون إلى المراد وربما يتأخر اللقاء إلى يوم التناد . والاسم في اللغة من الأضداد يقول الرجل فقدت الشيء أي أضللته وفقدته أي طلبته وكلا المعنيين يتحقق في المفقود فقد ضل عن أهله وهم في طلبه .
وحكمه في الشرع أنه حي في حق نفسه حتى لا يقسم ماله بين ورثته ميت في حق غيره حتى لا يرث هو إذا مات أحد من أقربائه لأن ثبوت حياته باستصحاب الحال فإنه علم حياته فيستصحب ذلك ما لم يظهر خلافه واستصحاب الحال معتبر في إبقاء ما كان على ما كان غير معتبر في إثبات ما لم يكن ثابتا وفي الامتناع من قسمة ماله بين ورثته إبقاء ما كان على ما كان وفي توريثه من الغير اثبات أمر لم يكن ثابتا له ولأن حياته باعتبار الظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق وليس بحجة للاستحقاق فلا يستحق به ميراث غيره ويندفع به استحقاق ورثته لماله بهذا الظاهر ولهذا لا تتزوج امرأته عندنا وهو مذهب علي - رضي الله تعالى عنه - كما بدأ به الكتاب من قوله في امرأة المفقود أنها امرأة ابتليت فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق وبه كان يأخذ إبراهيم كما قال .
( قد سمعنا أن امرأته تتربص أربع سنين وليس ذلك بشيء هي امرأة ابتليت فلتصبر ) وتربص أربع سنين كان يقول به عمر - رضي الله تعالى عنه - في الابتداء ثم رجع إلى قول علي - Bه .
ومالك كان يأخذ بقول عمر - Bه - فيقول الظاهر أنه يوقف على خبره بعد هذه المدة أن لو كان حيا والبناء على الظاهر واجب فيما لا يوقف على حقيقته خصوصا إذا وقعت الحاجة إلى دفع الضرر عنها وقد مست الحاجة إلى دفع الضرر عنها لكيلا تبقى معلقة .
ألا ترى أنه يفرق بين العنين وامرأته بعد مضي سنة لدفع الضرر عنها وبين المولى وامرأته بعد أربعة أشهر لدفع الضرر عنها ولكن عذر المفقود أظهر من عذر المولى والعنين فيعتبر في حقه المدتان في التربص وذلك بأن تجعل الشهور سنين فلهذا تتربص . ولا نأخذ بهذا لأن نكاحه حقه وهي حي في إبقاء ملكه وحقه عليه ولو مكنا زوجته من أن تتزوج كان فيه حكم بالموت ضرورة إذ المرأة لا تحل لزوجين في حالة واحدة فيجب قسمة ماله أيضا وذلك ممتنع ما لم يقم على موته دليل موجب له .
والتقدير بالمدة في حق المولى والعنين لدفع ظلم التعليق ولا يتحقق معنى الظلم من المفقود فقلنا إنها امرأة ابتليت فلتصبر ولو شاء الله تعالى لابتلاها بأشد من هذا .
فإذا لم يظهر خبره فظاهر المذهب أنه إذا لم يبق أحد من أقرانه حيا فإنه يحكم بموته لأن ما تقع الحاجة إلى معرفته فطريقه في الشرع الرجوع إلى أمثاله كقيم المتلفات ومهر مثل النساء وبقاؤه بعد موت جميع أقرانه نادر وبناء الأحكام الشرعية على الظاهر دون النادر .
وكان الحسن بن زياد - C تعالى - يقول : إذا تم مائة وعشرون سنة من مولده يحكم بموته وهذا يرجع إلى قول أهل الطبائع والنجوم فإنهم يقولون لا يجوز أن يعيش أحد أكثر من هذه المدة لأن اجتماع التحسين يحصل للطباع الأربع في هذه المدة ولا بد من أن يضاد واحد من ذلك طبعه في هذه المدة فيموت ولكن خطأهم في هذا قد تبين للمسلمين بالنصوص الواردة في طول عمر بعض من كان قبلنا كنوح - صلوات الله وسلامه عليه - وغيره فلا يعتمد على هذا القول .
وعن أبي يوسف - C تعالى - قال إذا مضى مائة سنة من مولده يحكم بموته لأن الظاهر أن أحدا في زماننا لا يعيش أكثر من مائة سنة .
وحكي أنه لما سئل عن معنى هذا قال أبينه لكم بطريق محسوس فإن المولود إذا كان ابن عشر سنين يدور حول أبويه هكذا وعقد عشرا فإن كان ابن عشرين سنة فهو بين الصبا والشباب هكذا وعقد عشرين فإن كان ابن ثلاثين سنة يستوي هكذا وعقد ثلاثين فإذا كان ابن أربعين تحمل عليه الأثقال هكذا وعقد أربعين فإذا كان ابن خمسين ينحني من كثر الأثقال والأشغال هكذا وعقد خمسين فإذا كان ابن ستين ينقبض للشيخوخة هكذا وعقد ستين فإذا كان ابن سبعين يتوكأ على عصا هكذا وعقد سبعين فإذا كان ابن ثمانين يستلقي هكذا وعقد ثمانين فإذا كان ابن تسعين تنضم امعاؤه هكذا وعقد تسعين فإذا كان ابن مائة سنة يتحول من الدنيا إلى العقبى كان كما يتحول الحساب من اليمنى إلى اليسرى .
وهذا يحمل من أبي يوسف على طريق المطايبة إلا أن يكون يعرف الحكم بمثل هذا وهو كما نقل عن أبي يوسف - C تعالى - أنه سئل عن بنات العشر من النساء فقال : لهو اللاهين فسئل عن بنات العشرين فقال : لذة المعانقين فسئل عن بنات الثلاثين فقال تنموا وتلين وسئل عن بنات الأربعين فقال : ذات مال وبنين فسئل عن بنات الخمسين فقال : عجوز في الغابرين وسئل عن بنات الستين فقال : لعنة اللاعنين .
وكان محمد بن سلمة يفتى في المفقود بقول أبي يوسف حتى تبين له خطؤه في نفسه فإنه عاش مائة سنة وسبع سنين . فالأليق بطريق الفقه أن لا يقدر بشيء لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون ولا نص فيه ولكن نقول إذا لم يبق أحد من أقرانه يحكم بموته اعتبارا لحاله بحال نظائره . ( وذكر ) عن عبدالرحمن بن أبي ليلى - رحمهما الله تعالى - قال لقيت المفقود نفسه فحدثني حديثه قال : أكلت حريرا في أهلي ثم خرجت فأخذني نفر من الجن فمكثت فيهم ثم بدا لهم في عتقي فأعتقوني ثم أتوا بي قريبا من المدينة فقالوا أتعرف النخل فقلت نعم فخلوا عني فجئت فإذا عمر بن الخطاب - Bه - قد أبان امرأتي بعد أربع سنين وحاضت وانقضت عدتها وتزوجت فخيرني عمر - Bه - بين أن يردها علي وبين المهر . وأهل الحديث رحمهم الله يرون في هذا الحديث أنه هم بتأديبه حين رآه وجعل يقول يغيب أحدكم عن زوجته هذه المدة الطويلة ولا يبعث بخبره فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين وذكر له قصته .
وفي هذا الحديث دليل لمذهب أهل السنة والجماعة - رحمهم الله تعالى - في أن الجن قد يتسلطون على بني آدم وأهل الزيغ ينكرون ذلك على اختلاف بينهم . فمنهم من يقول المستنكر دخولهم في الآدمي لأن اجتماع الروحين في شخص لا يتحقق وقد يتصور تسلطهم على الآدمي من غير أن يدخلوا فيه .
ومنهم من قال هم أجسام لطيفة فلا يتصور أن يحملوا جسما كثيفا من موضع إلى موضع ولكنا نقول نأخذ بما وردت به الآثار قال النبي - A - ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) وقال - A - ( إنه يدخل في رأس الإنسان فيكون على قافية رأسه ) حديث فيه طول وهذا الحديث دليل لنا أيضا فنتبع الآثار ولا نشتغل بكيفية ذلك . وكأن عمر - Bه - إنما رجع عن قوله في امرأة المفقود لما تبين من حال هذا الرجل .
وأما تخييره إياه بين أن يردها عليه وبين المهر فهو بناء على مذهب عمر - Bه - في المرأة إذا نعي إليها زوجها فاعتدت وتزوجت ثم أتى الزوج الأول حيا أنه يخير بين أن ترد عليه وبين المهر وقد صح رجوعه عنه إلى قول علي - Bه - فإنه كان يقول ترد إلى زوجها الأول ويفرق بينها وبين الآخر ولها المهر بما استحل من فرجها ولا يقربها الأول حتى تنفضي عدتها من الآخر وبهذا كان يأخذ إبراهيم - C تعالى - فيقول قول علي - Bه - أحب إلي من قول عمر - Bه - وبه نأخذ أيضا لأنه تبين أنها تزوجت وهي منكوحة ومنكوحة الغير ليست من المحللات بل هي من المحرمات في حق سائر الناس كما قال الله تعالى : { والمحصنات من النساء } ( النساء : 24 ) فكيف يستقيم تركها مع الثاني . وإذا اختار الأول المهر ولكن يكون النكاح منعقدا بينهما فكيف يستقيم دفع المهر إلى الأول وهو بدل بضعها فيكون مملوكا لها دون زجها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة فعرفنا أن الصحيح أنها زوجة الأول ولكن لا يقربها لكونها معتدة لغيره كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة .
وذكر عن عبدالرحمن بن أبي ليلى - C تعالى - أن عمر - Bه - رجع عن ثلاث قضيات إلى قول علي - Bه - عن امرأة أبي كنف والمفقود زوجها والمرأة التي تزوجت في عدتها أما حكم المفقود والمعتدة فقد بيناه . وأما حديث أبي كنف فهو ما رواه إبراهيم أن أبا كنف طلق امرأته فأعلمها وراجعها قبل انقضاء العدة ولم يعلمها فجاء وقد تزوجت فأتى عمر - Bه - فقص عليه القصة فقال له إن وجدتها لم يدخل بها فأنت أحق بها وإن كان قد دخل بها فليس لك عليها سبيل فقدم وقد وضعت القصة على رأسها فقال لهم إن لي إليها حاجة فخلوا بيني وبينها فوقع عليها وبات عندها ثم غدا إلى الأمير بكتاب عمر - Bه - فعرفوا أنه جاء بأمر بين وهذا كان مذهب عمر - Bه - في الابتداء أنه إذا راجعها ولم يعلمها لا يثبت حكم الرجعة في حقها ما لم تعلم حتى إذا اعتدت وتزوجت ودخل بها الثاني لم يبق للأول عليها سبيل لدفع الضرر عنها ثم رجع إلى قول علي - Bه - أن مراجعته إياها صحيح بغير علمها وهي منكوحة سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل لأن الزوج يستبد بالرجعة كما يستبد بالطلاق فكما يصح إيقاع الطلاق عليها وإن لم تعلم به فكذلك رجعتها لقوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ( البقرة : 228 ) وإنما يكون أحق إذا كان يستبد به . والرجعة إمساك بالنص كما قال الله تعالى : { فإمساك بمعروف } ( البقرة : 229 ) والمالك ينفرد بإمساك ملكه من غير أن يحتاج إلى علم غيره .
( قال ) ( وإذا فقد الرجل فارتفع ورثته إلى القاضي وأقروا أنه فقد وسألوا قسمة ماله فإنه لا يقسم حتى تقوم البينة على موته ) لما بينا أنه حي في حق نفسه ومال الحي لا يقسم بين ورثته فما لم يثبت موته بالبينة عند القاضي لا يشتغل بقسمة ماله .
( فإن قيل ) : كيف تقبل البينة للقضاء بها على الغائب .
( قلنا ) : بأن يجعل من في يده المال خصما عنه أو ينصب قيما في هذه الولاية وإذا قامت البينة على من ينصبه القاضي فيما قضى بموته .
( فإن قيل ) : كان ينبغي أن يجعله ميتا حكما لانقطاع خبره فيقسم ماله وإن لم تقم البينة على موته كالمرتد اللاحق بدار الحرب .
( قلنا ) : هناك ظهر دليل الحكم بموته وهو أنه صار حربيا وأهل الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت ولم يظهر هنا دليل موجب لموته حقيقة ولا حكما ولأن هناك لو ظفر به الإمام موته حقيقة بأن يقتله فإذا عجز عن ذلك بدخوله دار الحرب موته حكما فقسم ماله ولا يتحقق ذلك المعنى هنا .
( قال ) ( وتفسير المفقود الرجل يخرج في سفر ولا يعرف موته ولا حياته ولا موضعه ولا يأسره العدو ولا يستبين موته ولا قتله ) فهذا مفقود لا يقضي القاضي في شيء من أمره حتى تقوم البينة أنه مات أو قتل ومن كان من ورثة المفقود غنيا فلا نفقة له في ماله ما خلا الزوجة لأن حياته معلوم ولا يستحق أحد من الأغنياء النفقة في مال الحي سوى الزوجة لأن استحقاق الزوجة بالعقد فلا يختلف باليسار والعسرة أو بكونها محبوسة بحقه وذلك موجود في حق المفقود فأما استحقاق من سواها فباعتبار الحاجة وذلك ينعدم بغنى المستحق فإن كانت له غلة جعل القاضي فيها من يحفظها لأنه ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه والمفقود عاجز عن النظر لنفسه فينصب القاضي في غلاته من يجمعها ويحفظها عليه وما كان يخاف عليه الفساد من متاعه فإن القاضي يبيعه لأن حفظ عينه عليه متعذر فيصير إلى حفظ ماليته عليه وذلك يكون بالبيع وينفق على زوجته وأولاده الصغار أو الكبار من الإناث أو الزمنى من الذكور من ماله بالمعروف وهذا إذا كان السبب معلوما عنده لأنه لو كان حاضرا قضى بالنفقة لهم عليه بعلمه فإن كان غائبا يقضي بذلك لهم في ماله أيضا .
وقيل : هذا لا يكون منه قضاء على الغائب على الحقيقة بل يكون تمكينا للمستحق من أخذ حقه ولو تمكنوا من ذلك كان لهم أن يأخذوه فيعينهم القاضي على ذلك .
والأصل فيه قوله - A - لهند امرأة أبي سفيان - Bه - ( خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف ) .
وقيل : بل هو قضاء منه وللقاضي ولاية القضاء على الغائب بعلمه كما إذا أقر بين يديه ثم غاب . ثم هذا نظر منه للغائب لأن ملك النكاح حقه في زوجته ولا يبقى بدون النفقة فكان له أن ينفق عليها من ماله حفظا لملكه عليه وكذلك ولده جزء منه فينفق عليه من ماله حفظا لنسله . وللقاضي ولاية في ماله فيما يرجع إلى الحفظ والنظر وإن استوثق منهم بكفيل فحسن وإن لم يأخذ منهم كفيلا فهو مستقيم أيضا إلا أن الأحوط أن يأخذ الكفيل لجواز أن يكون فارقها قبل أن يفقد أو كان عجل لها النفقة لمدة فكان تمام النظر في الاستيثاق بالكفيل وهذا قولهم جميعا لأن هذه كفالة للمفقود وهو معلوم ولكن لا يجب على القاضي أخذ الكفيل من غير خصم يطلب ذلك وليس هنا خصم طالب فلهذا يسعه أن لا يأخذ كفيلا ولم ينفق من ماله على غير من سمينا من ذي الرحم المحرم لأن وجوب النفقة عليه لهم لا يكون إلا بعد قضاء القاضي والقاضي لا يقضي على الغائب ولأن ولايته فيما يرجع إلى النظر للمفقود وذلك لا يوجد في حق ذي الرحم المحرم ولا يبيع شيئا مما لا يخاف عليه الفساد من ماله في نفقة ولا غيرها لأن ولاية البيع للنظر له وحفظ العين فيما يتأتى حفظه نظر له فلا يبيع شيئا من ذلك وهو في الإنفاق على من سميناهم معين لهم على أخذ حقهم وإنما يثبت لهم حق الأخذ إذا ظفروا بجنس حقهم ولا يكون لهم أن يبيعوا عروضا ولا غيرها فكذلك القاضي لا يبيع شيئا من ذلك فإن لم يكن له مال إلا دار واحتاج زوجته وولده إلى النفقة لم يبع لهم الدار وكذلك لو كان له خادم لأن هذا مما لا يخاف عليه الفساد من ملكه فلا يكون بيعه محض الحفظ عليه فلهذا لا يبيعه بخلاف ما يخالف فساده .
وهذا بخلاف الوصي في حق الوارث الكبير الغائب فإن له أن يبيع العروض لأن ولايته ثابتة فيما يرجع إلى حق الموصي وبيع العروض فيه معنى حقه وربما يكون حفظ الثمن للاتصال إلى ورثته أيسر من حفظ العين وهنا لا ولاية للقاضي على المفقود إلا في الحفظ فقط وحفظ عين ملكه عند الإمكان أنفع له فلهذا لا يبيع شيئا من العروض وقال أبو حنيفة - C تعالى - إن كان له أب محتاج فلابنه أن يبيع شيئا من ماله من العروض وينفق على نفسه وليس له أن يبيع العقار وهو استحسان وفي القياس له أن يبيع العروض وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهم الله تعالى - وذكر الكرخي أن محمدا ذكر قول أبي حنيفة - C تعالى - في الأمالي وقال هو حسن .
وجه القياس : أنه لا ولاية للأب في مال ولده الكبير ونفوذ البيع يعتمد الولاية ألا ترى أنه لا يبيع عقاره لهذا ولا يبيع عروضه إذا كان حاضرا والمحاضر والغائب في حكم الولاية للأب عليه سواء ألا ترى أنه لم ثبت له ولاية التملك بالاستيلاد لما يفترق الحال بين حضور الولد وغيبته .
ووجه الاستحسان : أن ولاية الأب وإن زالت بالبلوغ فقد بقي أثرها حتى يصح منه استيلاد جارية الابن لحاجته إلى ذلك وحاجته إلى النفقة لبقاء نفسه حاجته إلى الاستيلاد لبقاء نسله ولهذا يتملك هناك بضمان القيمة وينفق على نفسه من ماله بغير ضمان وإذا ثبت بقاء أثر ولايته كان حاله كحال الوصي في حق الوارث الكبير الغائب وهناك ثبت له حق بيع العروض دون بيع العقار لأن بيع العروض من الحفظ وبيع العقار ليس من الحفظ فإن العقارات محصنة بنفسها ولهذا لا يبيع حال حضوره لأن بيعه في هذه الحالة ليس من الحفظ فإن الابن حافظ لماله كما لا يبيع الوصي عروض الولد الكبير الحاضر ولا يبعد زوال ولاية الأب بالبلوغ مع بقاء أثره كما لو مات وأوصى إلى رجل زالت ولايته بالموت وبقي أثره ببقاء الوصي فإن كان للمفقود دنانير أو دراهم أو ذهب أو فضة تبرا أنفق عليهم من ذلك وكذلك كل ما كان يخاف عليه الفساد من غلته ومتاعه فإن القاضي يبيع ذلك وينفق عليهم منه .
وإن باعته زوجته أو الولد فبيعهما باطل لأن البيع من الحفظ وليس من استيفاء النفقة في شيء وإليهما حق استيفاء النفقة دون الحفظ وأما القاضي فله حق الحفظ في مال المفقود وبيع ما يخاف عليه الفساد من الحفظ وبعد البيع الثمن من جنس حقهم فينفق عليهم منه .
وكذلك الوديعة تكون له عند الرجل فإنه ينفق منها عليهم إذا كان الرجل مقرا بالوديعة والزوجية أو يكون ذلك معلوما للقاضي عندنا .
وقال زفر - C تعالى - لا ينفق منها عليهم لأن إقرار المودع ليس بحجة على الغيب وهو ليس بخصم عن الغائب ولا يقضي على الغائب إذا لم يكن عنه خصم حاضر .
ولكنا نقول : المودع مقر بأن في يده ملك الغائب وأن للزوجة والولد حق الإنفاق منه وإقرار الإنسان فيما في يده معتبر فينتصب هو خصما باعتبار يده فيتعدى القضاء منه إلى المفقود .
وكذلك الدين يكون للمفقود على رجل وهو مقر به فهو والوديعة سواء والكلام في الدين أظهر لأن إقرار المديون يلاقي ملك نفسه فإن الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها .
والجواب في الفصلين جميعا استحسان إذا كان مقرا بالنسب والمال .
فإذا كان جاحدا لأحدهما لم تسمع البينة عليه من طالب النفقة لأنه إذا كان جاحدا للمال فطالب النفقة لا يثبت الملك في المال لنفسه إنما يثبته للمفقود حتى إذا ثبت ذلك ترتب عليه وهو ليس بخصم عن المفقود وإن كان منكرا للزوجية فإنما يثبت النكاح على المفقود المودع والمديون ليس بخصم عنه في إثبات النكاح عليه . وإن كانت الزوجية والمالية معلومين للقاضي فعلم القاضي بذلك أقوى من إقرار المودع والمديون .
وإن أعطاهما المديون بغير أمر القاضي لم يبرأ عن الضمان وكذلك إن أعطاهما المودع من الوديعة فهو ضامن لأنه دفع مال الغير إلى الغير بغير إذنه بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي فإن أمر القاضي في حق المفقود معتبر فيما يرجع إلى حفظ ملكه وقد بينا أن الإنفاق على الزوجة والولد من حفظ ملكه وحقه عليه فيكون أمر القاضي فيه كأمر المفقود وإن طلبت زوجته وولده من القاضي أن ينصب وكيلا يتقاضى دينه ويجمع غلاته ويؤاجر رقيقه فعلى القاضي ذلك نظرا منه للحاضر والغائب جميعا . للغائب بحفظ ماله وجمعه وللحاضر بوصوله إلى حقه وهي النفقة وكان للوكيل أن يتقاضى ويقبض ويخاصم من يجحد حقا من عقد يجري بينه وبين الوكيل لأن ما وجب بعقده فهو أحق بقبضه ألا ترى أنه لو ظهر المفقود كان حق القبض في هذا المال للوكيل الذي باشر سببه .
فأما كل دين كان المفقود تولاه أو نصيب من عقار أو عرض في يدي رجل أو حق من الحقوق فإن الوكيل لا يخاصم فيه من جحده لأنه ليس بخصم عن المفقود إنما هو حافظ لماله فقط وحفظه يتحقق فيما وصلت يده إليه فأما الخصومة وإقامة البينة فيما لم يكن في يده قط ليس من الحفظ فيكون الوكيل كأجنبي آخر إلا أن يكون القاضي قد ولاه ذلك ورآه وأنفذ الخصومة بينهم فيه فيجوز حينئذ لأنه مما اختلف فيه القضاة يعني بهذا القضاء على الغائب بالبينة فإنه مختلف فيه بين العلماء - رحمهم الله تعالى - فينفذ قضاء القاضي فيه .
وكذلك إن مات غريم من غرمائه وقد أقر له بدينه في وصيته عزلت حق المفقود من ذلك وجعلته على يدي وكيله لأن ذلك من الحفظ . وإن لم يكن أوصى به وعليه ديون لغيره لم يكن لورثة المفقود ووكيله في ذلك خصومة إلا أن يراه القاضي فيقضي به فحينئذ ينفذ قضاؤه لكونه مجتهدا فيه .
( فإن قيل ) : المجتهد فيه نفس القضاء فينبغي أن يتوقف على إمضاء قاض آخر كما لو كان القاضي محدودا في قذف .
( قلنا ) : لا كذلك بل المجتهد فيه سبب القضاء وهو أن البينة هل تكون حجة من غير خصم حاضر أم لا فإذا رآها القاضي حجة وقضى بها نفذ قضاؤه كما لو قضى بشهادة المحدود في قذف .
وإن ادعى إنسان على المفقود حقا من دين أو وديعة أو شركة في عقار أو رقيق أو طلاق أو عتاق أو نكاح أو رد بعيب أو مطالب باستحقاق لم يلتفت إلى دعواه ولم تقبل منه البينة ولم يكن هذا الوكيل ولا أحد من ورثته خصما له . أما الوكيل فلأنه نصب للحفظ فقط وأما الورثة فلأنهم يخلفونه بعد موته ولم يظهر موته فإن رأى القاضي سماع البينة وحكم بذلك نفذ حكمه لما بينا أنه أمضى فصلا مختلفا فيه باجتهاده .
وإذا رجع المفقود حيا لم يرجع في شيء مما أنفق القاضي أو وكيله بأمره على زوجته وولده من ماله وغلته ودينه لأن القاضي لما ثبت له ولاية الإنفاق كان فعله كفعل المفقود بنفسه وكذلك ما أنفقوا هم على أنفسهم من دنانير أو دراهم في وقت حاجتهم إلى النفقة لما بينا أنهم إذا ظفروا بجنس حقهم وسعهم أخذه بالمعروف فلا يضمنون شيئا من ذلك وكذلك إن كان في ماله طعام فأكلوه لأن ذلك من جنس حقهم وكذلك إن كان في ماله ثياب فلبسوها للكسوة لأن ذلك من جنس حقهم .
فأما ما سوى ذلك من العروض إن باعوا شيئا منه كانوا ضامنين له ألا ترى أن القاضي لا يبيع شيئا من ذلك للانفاق عليهم فكذلك لا يملكون بيعه وإنما لا يبيع القاضي مالا يخاف عليه الفساد في النفقة لأن في بيع ذلك في النفقة حجرا على الغائب وأبو حنيفة لا يرى الحجر عليه وهما وإن كانا يريان الحجر على من لزمه حق فذلك عند ظهور تعنته وامتناعه وبهذا الطريق يقول لا يقضي القاضي دين المفقود من ماله وكذلك مهر امرأته والنفقات المجتمعة عليه قبل أن يفقد لأن ذلك لا يرجع إلى حفظ ملكه بل فيه نوع حجر عليه .
ولم يذكر في الكتاب أنه إذا لم يكن للمفقود مال وطلبت زوجته من القاضي أن يقضي لها بالنفقة على زوجها هل يجيبها إلى ذلك .
وكان أبو حنيفة - C تعالى - يقول أولا يجيبها إلى ذلك وهو قول إبراهيم النخعي - C تعالى - ثم رجع إلي قول شريح وقال : لا يجيبها إلى ذلك .
فالحجة لقوله الأول حديث هند كما روينا .
ووجه قوله الآخر أن نفقة الزوجة لا تصير دينا إلا بقضاء القاضي وليس للقاضي أن يوجه القضاء على الغائب فيلزمه بقضائه شيئا من غير خصم عنه وهذا إذا كان النكاح معلوما له وإن أرادت إثبات النكاح بالبينة لم يسمع القاضي بينتها عندنا لأن البينة لا تكون حجة إلا على خصم جاحد فما لم يحضر هو أو خصم عنه لا يسمع القاضي بينتها عليه بالنكاح وعلى قول زفر تسمع البينة ويأمرها بأن تستدين وتنفق على نفسها فإذا حضر الزوج كلفها إعادة البينة عليه فإن أعادت قضى على الزوج بما أنفقت في المدة الماضية وإن لم تعد البينة على الزوج لم يقض عليه بشيء وهذا منه نوع احتياط في حق الحاضر والغائب جميعا .
( وإذا أجر المفقود شيئا قبل أن يفقد لم تنتقض الإجارة بعدما يصير مفقود ) لأنه حي في ابقاء ما كان علي ما كان ولا يبرأ المستأجر بدفع الأجرة إلى زوجته وولده إلا أن يأمره القاضي بذلك كما في سائر الديون .
( وإذا فقد الرجل بصفين أو بالجمل ثم اختصم ورثته في ماله اليوم فإن هذا قد مات ) . ألا ترى أنه لم يبق أحد أدرك ذلك الزمان فإذا بلغ المفقود هذه المدة فهو ميت يقسم ماله بين ورثته .
( والجمل ) حرب كان بين علي وعائشة وطلحة والزبير بالبصرة - رضوان الله عليهم أجمعين .
( وصفين ) كان بين علي ومعاوية - Bهما - وبين أهل الشام ومن ذلك الوقت إلى وقت تصنيف هذا الكتاب كان أكثر من مائة وعشرين سنة والرجل الذي فقد في ذلك الوقت كان ابن عشرين سنة أو أكثر لأنه خرج محاربا ولا شك أنه لا يبقى في مثل هذه المدة الطويلة ظاهرا .
فإن كان له ابن مات زمان خالد بن عبدالله وترك أخا لأمه وللمفقود عصبة فإني أنظر إلى سن المفقود يوم مات الابن فإن كان مثله يعيش إلى ذلك الوقت لم أورث الابن منه شيئا لبقائه حيا بطريق الظاهر واستصحاب الحال ولم أورثه من أبيه أيضا لأن بقاء الوارث بعد موت المورث شرط لوراثته عنه فإن الوراثة خلافة والحي يخلف الميت فأما الميت فلا يخلف الميت وما كان شرطا فما لم يثبت بدليل موجب له لا يثبت الحكم واستصحاب الحال دليل يبقى لا موجب فلهذا لا يرث المفقود من أبيه ثم يكون ميراث المفقود لعصبته الحي بعدما يمضي من المدة ما لا يعيش مثله إليه .
وإن كان مثله لا يعيش إلى مثل تلك المدة حين مات ابنه جعلت الميراث لابنه لأن حياته بعد موت أبيه معلوم هنا بدليل شرعي فإذا صار مال المفقود ميراثا له كان ذلك موروثا عن ابنه بعد موته كسائر أمواله لأخيه لأمه منه السدس والباقي لعصبته .
وإن كان مات بعض من يرثه المفقود قبل هذا فنصيبه من الميراث يوقف إلي أن يتبين حاله لأنه غير محكوم بموته ولكنه يشتبه الحال بمنزلة الجنين في البطن فيوقف نصيبه فإن ظهر حيا كان ذلك مستحقا له وإن لم يظهر حاله فذلك مردود إلى ورثة صاحب المال على سهامهم بمنزلة الموقوف للجنين . إذا انفصل الجنين ميتا وهذا لأنه لم يظهر شرط الاستحقاق له فيكون موروثا عن الميت كسائر ورثته يوم مات .
وإذا فقد المكاتب وله مال وولد ولدوا في المكاتبة وقف ماله حتى يظهر حاله لأن ولاية أداء الكتابة من ماله إنما تكون بعد موته ليحكم بحريته مستندا إلى حال حياته ولم يظهر موته وكذلك استسعاء أولاده في بدل الكتابة بطريق الخلافة عنه بعد موته ولم يظهر لأنه لا يستسعى الولد إذا كان له مال بعد موته حقيقة فكيف يستسعى ولده بعدما يصير مفقودا وله مال .
وينفق على أولاده ولده الصغار وبناته الذين ولدوا في المكاتبة وعلى امرأته من ماله لأن هؤلاء كانوا يستحقون عليه النفقة في كسبه أن لو كان حاضرا فكذلك ينفق عليهم من ماله بعدما يصير مفقودا كولد الحر وزوجته وهذا لأن استحقاق النفقة للزوجة بعقد النكاح والحر والمكاتب فيه سواء وأولاده الذين ولدوا في المكاتبة هو أحق بكسبهم فتلزمه نفقتهم لأن الغرم مقابل بالغنم .
فإن مات ابن له ولد في مكاتبته وترك مالا كان ماله موقوفا لأنه إن كان المفقود حيا حين اكتسب هذا الولد فكسبه للمفقود .
وإن كان ميتا فكسبه لورثته لأنه يحكم بحريته إذا أديت كتابة أبيه من ماله مستندا إلى حياة أبيه فلجهالة المستحق بقي موقوفا وإن كان ماله في يد أخيه لم أخرجه من يده ولم أتعرض له لأنه لا يدري لمن هذا المال وما لم يظهر مستحق للمال فليس للقاضي أن يتعرض لذي اليد بإزالة يده .
ولو أقر ولد المكاتب الذين ولدوا في المكاتبة وهم كبار أن أباهم قد مات وماله في أيديهم وأقر المولى بذلك فأدوا الكتابة وقسموا المال ثم اختلفوا وجحد بعضهم بعضا وارتفعوا إلى القاضي نفذ القاضي ذلك عليهم لتقدم الإقرار منهم بذلك وقسمتهم عن تراض منهم ولأن الذي يجحد بعد ذلك مناقض لكلامه والقاضي لا يلتفت إلى قول المناقض .
وكذلك لو لم يقتسموا حتى ارتفعوا إليه وأقروا به عنده جاز إقرارهم عليه وقسم المال بينهم بعد أداء الكتابة لأن الحق لا يعدوهم فالثابت بإقرارهم في حقهم كالثابت بالبينة وكذلك لو أقروا بدين عليه بدأت به قبل المكاتبة كما لو ثبت موته بالبينة وهذا لأن الدين أقوى من المكاتبة حتى إذا عجز نفسه سقطت المكاتبة عنه دون الدين وعند اجتماع الحقوق في المال يبدأ بالأقوى فالأقوى عرف ذلك بقضية العقول وشواهد الأصول وكذلك الحر إذا أقر ورثته أنه قد مات فإنه يقضي دينه ويقسم الميراث بينهم إذا كان في أيديهم لأن إقرار الإنسان فيما في يده معتبر ما لم يظهر له خصم ينازعه فيه وكذلك إذا كان المال في يد غيرهم فصدقهم بذلك .
وإن جحد موته لم أنزعه من يده إلا ببينة تقوم على موته لأنهم يدعون استحقاق اليد في هذا المال على ذي اليد وقولهم ليس بحجة عليه في استحقاق يده فما لم تقم البينة على موته لا يخرج القاضي المال من يد ذي اليد . ولو أن المولى أعتق المكاتب المفقود ثم مات ابن المكاتب وهو حر وله أخوة أحرار لم يقض لهم بشيء من ذلك حتى يعلم موت المكاتب قبله لأن المفقود إن كان حيا فقد عتق بإعتاق المولى إياه والميراث له دون الأخوة فشرط توريث الأخوة عدم أب هو وارث بالظاهر لا يثبت هذا الشرط فلهذا لا يقضي لهم بشيء حتى يعلم موت الأب قبله . وكذلك إن كان مكاتب المكاتب عبدا لأن إعتاق المولى عبده المفقود كإعتاقه المكاتب المفقود ولا ينفق على أولاده الصغار من هذا المال شيئا لأنه لا يدري لمن هذا المال فإنه كما لم يثبت الاستحقاق فيه للأخوة لم يثبت للأب المفقود لأنه لا يرث من غيره ما لم يعلم حياته حقيقة وقت موت مورثه . ولو ادعى مملوك المفقود العتق وأقام بينته على ذلك لم يقبل منه لانعدام خصم حاضر .
( قال ) ( ولم أدع أولاده يبيعونه ) لأنه قبل هذه البينة ما كان لهم أن يبيعوه فبعدها أولى ومراده بعدما كانوا يقرون بموته لأن إقرارهم ليس بحجة على هذا العبد ولأنه إن كان ميتا فالولد خصم في البينة التي أقامها المملوك على العتق . وكذلك لو ادعت امرأته الطلاق أو ادعت امرأة أنه تزوجها لم أقبل بينتها على ذلك لانعدام الخصم ولو أوصى رجل للمفقود بوصية لم أقض بها له ولم أبطلها ولم أنفق على ولده منها لأن الوصية أخت الميراث وشرط لاستحقاق الموصى له بقاؤه حيا بعد موت الموصي كالميراث وقد بينا أنه يوقف نصيبه من الميراث حتى يتبين حاله ولا ينفق على ولده منه شيء فكذلك الوصية .
( رجل مات وترك ابنتين وابن ابن وبنت ابن وترك ابنا مفقودا وترك مالا في يد الابنتين فارتفعوا إلى القاضي وأقروا أن الابن مفقود فالقاضي لا ينبغي له أن يحول المال من موضعه ولا يوقف شيئا منه للمفقود ) ومراده بهذا اللفظ أنه لا يخرج شيئا من أيديهما لأن القاضي لا يتعرض لإخراج المال من يد ذي اليد إلا بمحضر من الخصم ولا خصم هنا فإن أولاد المفقود لا يدعون لأنفسهم شيئا ولا يكونون خصما عن المفقود لأنه لا يدري أن المفقود حي فيرث أو ميت فلا يرث فلهذا لا يخرج المال من أيديهما بخلاف مال المفقود الذي يعلم أنه له لأن حق أولاده ثابت في ذلك المال باعتبار ملكه فإنهم يستحقون النفقة في ملكه واستصحاب الحال معتبر في إبقاء ما كان علي ما كان وكذلك إن قالت الابنتان قد مات أخونا وقال ولد الابن هو مفقود لأن من في يده المال قد أقر لولد الابن ببعض ذلك المال وهم ردوا إقرارهم بقولهم أبونا مفقود فيسقط اعتبار ذلك الإقرار . ولو كان مال الميت في يدي ولد الابن المفقود وطلبت الابنتان ميراثهما واتفقوا أن الابن مفقود فإنه يعطي للابنتين النصف لأنا تيقنا باستحقاق النصف لهما فإن المفقود إن كان حيا فالميراث بينهما وبين أخيهما للذكر مثل حظ الانثيين فلهما النصف وإن كان ميتا فلهما الثلثان والباقي لولد الابن فيدفع إليهما الأقل وهو النصف ويترك الباقي في يد ولد الابن من غير أن يقضي به لهما ولا لأبيهما لأنه لا يدري من المستحق لهذا الباقي .
ولو كان المال في يد أجنبي فقالت الابنتان مات أخونا قبل أبينا وقال ولد الابن هو مفقود .
فإن أقر الذي في يده المال بالمال للميت وبأن الابن مفقود فإنه يعطي للابنتين النصف أقل النصيبين لهما والباقي موقوف على يده حتى يظهر خصمه ومستحقه بظهور رحال المفقود .
وإن قال الذي في يده المال قد مات المفقود قبل أبيه فإنه يجبر على دفع الثلثين إلى الابنتين لأن إقرار ذي اليد فيما في يده معتبر وقد أقر بأن ثلثي ما في يده للابنتين فيجبر علي تسليم ذلك إليهما ولا يمنع صحة إقراره بقول أولاد الابن أبونا مفقود لأنهم لأنفسهم بهذا القول لا يدعون شيئا ثم يوقف الثلث الباقي على يد ذي اليد حتى يظهر خصمه ومستحقه .
ولو جحد الذي في يديه المال أن يكون المال للميت فأقامت الابنتان البينة أن أباهم مات وترك هذا المال ميراثا لهما ولأخيهما المفقود فإن كان حيا فهو الوارث معهما وإن كان ميتا فولده الوارث معهما ولا يعلم له غير هؤلاء فإنه يدفع إلى الابنتين النصف وهذا لأنهما بهذه البينة يثبتان الملك لأبيهما في المال والأب ميت وأحد الورثة ينتصب خصما عن الميت في إثبات الملك له بالبينة ثم يدفع إليهما القدر المتيقن بأنه مستحق لهما وهو النصف والباقي يخرج من يد ذي اليد فيوضع في يد عدل حتى يظهر مستحقه لأن ذا اليد قد جحده وظهرت جنايته بجحوده فلا يؤتمن بعد ذلك وإن كان معروفا بالعدالة لأن العدالة لا تتحرز زمن تناول ما يزعم أنه ملك بخلاف ما سبق فذو اليد كان هناك مقرا بأن المال للميت وقد انتفت الجناية منه بهذا الإقرار فكان ترك الباقي في يده أولى لظهور أمانته بالتجربة .
( فإن قيل ) : كيف تقبل البينة للقضاء بها على الغائب .
( فإن قيل ) : كيف تقبل البينة للقضاء بها على الغائب .
( قلنا ) : بأن يجعل من في يده المال خصما عنه أو ينصب قيما في هذه الولاية وإذا قامت البينة على من ينصبه القاضي فيما قضى بموته .
( فإن قيل ) : كيف تقبل البينة للقضاء بها على الغائب .
فإن ادعى ولد المفقود أنه مات بعد شهادة الشهود لم أدفع إليهم شيئا حتى تقوم البينة على موته قبل أبيه لأنهم يريدون استحقاق اليد على ذي اليد ومجرد قولهم لا يكفي لذلك ولأن سبب الاستحقاق لهم غير معلوم فإن أباهم إن مات قبل موت الجد فهم يستحقون الثلث ميراثا من الجد .
وإن مات بعد موت الجد فهم يستحقون النصف ميراثا من أبيهم ولا يجوز القضاء لهم بشيء قبل ظهور سبب الاستحقاق فلا بد أن يقيموا البينة على موته قبل أبيه أو بعده ولا ينفق عليهم من ذلك المال شيء وإن كانوا محتاجين لأنه لا يدرى لمن هذا المال ونفقتهم عند الحاجة في مال أبيهم والملك لأبيهم في هذا المال لا يثبت ما لم تعلم حياته بعد موت الجد .
فإن كان المال أرضا في أيدي الابنتين وولد الابن فأقروا جميعا أن الابن قد مات قبل أبيه واقتسموا الأرض بينهم على ذلك ثم ادعوا أنه مفقود فإن القاضي يمضي القسمة عليهم لأنها تمت بتراضيهم وقولهم فيما في أيديهم مقبول فكانت القسمة ماضية ولا يقبل قولهم أنه مفقود لأنهم مناقضون في ذلك والقاضي لا يلتفت إلى قول المناقض .
وكذلك لو كان في ولد الابن رجل غائب لم يشهد القسمة ولم يكن في يده شيء من هذه الأرض ثم قدم فقال والدي مفقود وأراد نقض القسمة لم يكن له ذلك لأنه لا يدعي لنفسه بمقابلته وإنما يدعي الملك للمفقود وهو مقر أنه ليس بوكيل له ولا وارث لأنه حي ونقض القسمة بقول من لا يدعي لنفسه شيئا لا يجوز بخلاف ما لو كان بعض الأرض في يده لأنه مدع لنفسه حقا وهو إبقاء يده فيما في يده وقسمتهم قبل حضوره غير صحيح لما فيه من استحقاق يده عليه .
وكذلك لو كان مكان الغائب صغير فأدرك وإن ادعى أن أباه مات قبل جده كان له أن ينقض القسمة فيقسمها القاضي بينهم قسمة مستقبلة بإقرارهم على أنفسهم لأنه يدعي لنفسه بعض الملك هنا ويدعي بطلان قسمتهم لأن تراضيهم على القسمة بعد موت الجد لا يعمل به في حق الغائب والصغير وهم مصدقون له فيما يدعي فلهذا ينقض القسمة بخلاف ما لو كان القاضي هو الذي قسمه بين الحضور وعزل نصيب الغائب والصغيرة فإنه ينفذ قسمته في حقهما إذا لم يكن في يد الغائب والصغير من هذا المال شيء لأن للقاضي نوع ولاية في حق الغائب والصغير وليس للورثة تلك الولاية في حق الغائب والصغير ولو ماتت ابنة هذا الابن المفقود .
فإن كان ميراثها في يد أخيها لم أتعرض له ولم أقف منه شيئا للمفقود لأنه لا يدرى أحي هو فيكون وارثا أو ميت فلا يكون وارثا وقد بينا أنه لا يتعرض ليد ذي اليد إلا بمحضر من الخصم .
وإن كان ميراثها في يد أجنبي لم أدفع إلى أخيها منه شيئا لأن شرط توريث الأخ أن يكون الأب ميتا فما لم يصر هذا الشرط معلوما بالحجة لا يدفع إلى الأخ من الميراث شيء وإن كان ميراثها في يد أخيها وأختها وأرادوا القسمة وهم مقرون بأن الأب مفقود لم أقسم بينهم لأن القسمة تبنى على ثبوت استحقاقهم بالميراث ولا يثبت ذلك ما لم تقم البينة على موت الأب المفقود قبل موت الابنة ولو كان للمفقود امرأة فماتت وميراثها في يد ولدها لم أقسم للمفقود من ذلك نصيبا لأن حياته بعد موتها غير معلوم ولم أقف له شيئا لأن التعرض ليد ذي اليد لا يجوز إلا بمحضر من الخصم وإن أراد ولدها قسمة ميراثها وهو في أيديهم لم أقسمه بينهم حتى تقوم البينة على موت المفقود ثم يعزل من ذلك مثل نصيب المفقود فيوقف حتى يعلم أنه مات قبلها أو بعدها ويقسم ما بقي بينهم .
أما قبل أن تقوم البينة على موته فالقاضي لا يشتغل بالقسمة لأن فيها قضاء على المفقود وهو حي في حق نفسه فلا يوجه القاضي القضاء عليه بغير محضر من الخصم وأما بعد موته فقد ثبت للقاضي ولاية توجه القضاء عليه لما ظهر موته فيعزل نصيبه من القسمة ويجعله موقوفا حتى يتبين مستحقه بظهور موته قبلها أو بعدها .
ولو كان في يد غيرهم قضيت لهم بثلاثة أرباعه لأنا تيقنا باستحقاقهم لهذا المقدار فيسلم إليهم ويوقف الربع على يد ذي اليد حتى يظهر حال المفقود بخلاف ما سبق فإن المال هناك في أيديهم ففي القسمة تمييز نصيب المفقود عن نصيبهم وذلك قضاء على المفقود وهنا المال ليس في أيديهم فقضاؤه لهم بثلاثة أرباعه لا يمس المفقود وهو متيقن استحقاقه لهم .
وإذا فقد المرتد ولم يعلم ألحق بدار الحرب أم لا فإنه يوقف ميراثه كما يوقف ميراث المسلم لأن اللحاق بدار الحرب بمنزلة الموت في حق المسلم فكما يوقف ميراث المفقود المسلم حتى يتبين م