( قال ) الشيخ الإمام : الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي الفضل السرخسي اختلف الناس فيمن وجد لقطة فالمتفلسفة يقولون : لا يحل له أن يرفعها لأنه أخذ المال بغير إذن صاحبه وذلك حرام شرعا فكما لا يحل له أن يتناول مال الغير بغير إذن صاحبه لا يحل له إثبات اليد عليه وبعض المتقدمين من أئمة التابعين كان يقول : يحل له أن يرفعها والترك أفضل لأن صاحبها إنما يطلبها في الموضع الذي سقطت منه فإذا تركها وجدها صاحبها في ذلك الموضع ولأنه لا يأمن على نفسه أن يطمع فيها بعد ما يرفعها فكان في رفعها معرضا نفسه للفتنة والمذهب عند علمائنا - رحمهم الله - وعامة الفقهاء أن رفعها أفضل من تركها لأنه لو تركها لم يأمن أن تصل إليها يد خائنة فيكتمها عن مالكها فإذا أخذها هو عرفها حتى يوصلها إلى مالكها ولأنه يلتزم الأمانة في رفعها لأنه يحفظها ويعرفها والتزام أداء الأمانة يفرض بمنزلة الثواب لأنه يثاب على أداء ما يلتزمه من الأمانة فإنه يمتثل فيه الأمر قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } وامتثال الأمر سبب لنيل الثواب ثم ما يجده نوعان : .
( أحدهما ) : ما يعلم أن مالكه لا يطلبه كقشور الرمان والنوى .
( والثاني ) ما يعلم أن مالكه يطلبه فالنوع الأول له أن يأخذه وينتفع به إلا أن صاحبه إذا وجده في يده بعد ما جمعه كان له أن يأخذه منه لأن إلقاء ذلك من صاحبه كان إباحة الانتفاع به للواحد ولم يكن تمليكا من غيره فإن التمليك من المجهول لا يصح وملك المبيح لا يزول بالإباحة ولكن للمباح له أن ينتفع به مع بقاء ملك المبيح فإذا وجده في يده فقد وجد عين ملكه قال A ( من وجد عين ماله فهو أحق به ) .
وإن وجد ذلك مجتمعا لم يحل له أن ينتفع به لأن الظاهر أن المالك ما ألقاه بعد ما جمعه ولكنه سقط منه فكان هذا من النوع الثاني .
وروى بشر عن أبي يوسف - رحمهما الله - أن من ألقى شاة ميتة له فجاء آخر وجز صوفها كان له أن ينتفع به ولو وجده صاحب الشاة في يده كان له أن يأخذه منه ولو سلخها ودبغ جلدها كان لصاحبها أن يأخذ الجلد منه بعد ما يعطيه ما زاد الدباغ فيه لأن ملكه لم يزل بالإلقاء والصوف مال متقوم من غير اتصال شيء آخر به فله أن يأخذه مجانا .
فأما الجلد لا يصير مالا متقوما إلا بالدباغ فإذا أراد أن يأخذه كان عليه أن يعطيه ما زاد الدباغ فيه .
فأما ( النوع الثاني ) وهو ما يعلم أن صاحبه يطلبه فمن يرفعه فعليه أن يحفظه ويعرفه ليوصله إلى صاحبه وبدأ الكتاب به ورواه عن إبراهيم قال : في اللقطة يعرفها حولا فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها فإن جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء أنفذ الصدقة وإن شاء ضمنه وما ذكر هذا على سبيل الاحتجاج بقول إبراهيم : لأن أبا حنيفة - C - كان لا يرى تقليد التابعين وكان يقول : هم رجال ونحن رجال ولكن ظهر عنده أن إبراهيم فيما كان يفتي به يعتمد قول علي وابن مسعود - Bهما - فإن فقه أهل الكوفة دار عليهما وكان إبراهيم أعرف الناس بقولهما فما صح عنه فهو كالمنقول عنهما فلهذا حشا الكتاب من أقاويل إبراهيم وفي هذا الحديث بيان أن الملتقط ينبغي له أن يعرف اللقطة والتقدير بالحول ليس بعام لازم في كل شيء وإنما يعرفها مدة يتوهم أن صاحبها يطلبها وذلك يختلف بقلة المال وكثرته حتى قالوا : في عشرة دراهم فصاعدا يعرفها حولا لأن هذا مال خطير يتعلق القطع بسرقته ويتملك به ماله خطر والتعريف لإيلاء العذر والحول الكامل لذلك أحسن قال القائل : .
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما .
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر .
وفيما دون العشرة إلى ثلاثة يعرفها شهرا وفيما دون ذلك إلى الدرهم يعرفها جمعة وفي دون الدرهم يعرف يوما وفي فلس أو نحوه ينظر يمنة ويسرة ثم يضعه في كف فقير وشيء من هذا ليس بتقدير لازم لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون .
ولكنا نعلم أن التعريف بناء على طلب صاحب اللقطة ولا طريق له إلى معرفة مدة طلبه حقيقة فيبني على غالب رأيه ويعرف القليل إلى أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه بعد ذلك فإذا لم يجئ صاحبها بعد التعريف تصدق بها لأنه التزم حفظها على مالكها وذلك باتصال عينها إليه إن وجده وإلا فباتصال ثوابها إليه وطريق ذلك التصدق بها فإن جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء ضمنه لأنه تصدق بماله بغير إذنه وذلك سبب موجب للضمان عليه وإن شاء أنفذ الصدقة فيكون ثوابها له وإجازته في الانتهاء بمنزلة إذنه في الابتداء .
فإن قيل : كيف يضمنها له وقد تصدق بها بإذن الشرع .
قلنا : الشرع أباح له التصدق بها وما ألزمه ذلك ومثل هذا الإذن مسقط للإثم عنه غير مسقط لحق محترم للغير كالإذن في الرمي إلى الصيد والإذن في المشي في الطريق فإنه يتقيد بشرط السلامة وحق صاحب هذا المال مرعي محترم فلا يسقط حقه عن هذا العين بهذا الإذن فله أن يضمنه أن شاء والإذن هنا دون الإذن لمن أصابته مخمصة في تناول ملك الغير وذلك غير مسقط للضمان الواجب لحق صاحب المال وذكر عن ابن مسعود - Bه - أنه اشترى جارية بسبعمائة درهم أو بثمانمائة درهم فذهب صاحبها فلم يقدر عليه فخرج ابن مسعود - Bه - بالثمن في صرة فجعل يتصدق بها ويقول لصاحبها فإن أبى فلنا وعلينا الثمن فلما فرغ قال : هكذا يصنع باللقطة وفي هذا اللفظ بيان أن الملتقط له أن يتصدق بها بعد التعريف على أن يكون ثوابها لصاحبها إن أجاز وإن أبى فله الضمان على المتصدق .
وليس مراد ابن مسعود - Bه - من هذا أن حكم الثمن الواجب عليه حكم اللقطة من كل وجه وكيف يكون ذلك والثمن دين في ذمته وما تصدق به من الدراهم خالص ملكه فأما عين اللقطة فمملوكة لصاحبها والملتقط أمين فيها فعرفنا أن هذا ليس في معنى اللقطة ولا يقال لعله كان اشتراها بمال معين لأنه صح من مذهبه أن النقود لا تتعين في العقد ولو تعينت فهي مضمونة على المشتري فعرفنا أنه ليس كاللقطة من كل وجه وأنه بالتصدق ما قصد إسقاط الثمن عن نفسه بل قصد إظهار المجاملة في المعاملة واتصال ثوابها إلى صاحبها إن رضي بصنيعه وإلا فالثمن دين عليه كما كان .
وعن أبي سعيد مولى أسيد قال : وجدت خمسمائة درهم بالحرة وأنا مكاتب فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب - Bه - فقال : اعمل بها وعرفها فعملت بها حتى أديت مكاتبتي ثم أتيته فأخبرته بذلك فقال : ادفعها إلى خزان بيت المال وفي هذا دليل أن للإمام ولاية الإقراض في اللقطة والدفع مضاربة لأن قول عمر - Bه - اعمل بها وعرفها إما أن يكون بطريق المضاربة أو الإقراض مضاربة وقد علمنا أنه لم يرد المضاربة حتى لم يتبين نصيبه من الربح فكان مراده الإقراض منه وفي هذا معنى النظر لصاحب المال لأنه يعرض للهلاك فيهلك من صاحبه قبل الإقراض وبعد الإقراض يصير دينا في ذمة المستقرض يؤمن فيه التوي بالهلاك وكذلك بالجحود لأنه متأكد بعلم القاضي ولهذا كان للقاضي ولاية الإقراض في أموال اليتامى وربما يكون معنى النظر في الدفع إليه مضاربة أو إلى غيره فذلك كله إلى القاضي لأنه نصب ناظرا وفيه دليل على أن الملتقط إذا كان محتاجا فله أن ينتفع باللقطة بعد التعريف لأن هذا المكاتب كان محتاجا إلى العمل فيها فيؤدي مكاتبته من ربحها فأذن له عمر - Bه - في ذلك وفيه دليل أن للإمام أن يقبض اللقطة من الملتقط إن رأى المصلحة في ذلك لأنه أمره بدفعها إلى خزان بيت المال وكأنه إنما أمره بذلك لأنه كان سبيلها التصدق بها بعد التعريف فأمره بدفعها إلى من هو في يده بيت مال الصدقة ليضعها موضع الصدقة .
وذكر في الأصل عن سويد بن عقلة قال : حججت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأناس من أصحاب رسول الله - A - ورضي عنهم - فوجدنا سوطا فاحتماه القوم وكرهوا أن يأخذوه وكنت أحوجهم إليه فأخذته فسألت عن ذلك أبي بن كعب فحدثني بالمائة دينار التي وجدها على عهد رسول الله - A - قال : وجدت مائة دينار فأخبرت النبي - A - بذلك قال عرفها سنة فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته ثم قال بعد ثلاث سنين اعرف عددها ووكاءها واخلطها بمالك فإن جاء طالبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها فإنها رزق ساقه الله إليك .
وأما قوله ( وجدنا سوطا ) يحتمل أن يكون ذلك مما يكسر من السياط ويعلم أن صاحبه ألقاه فتركه القوم لأنهم ما كانوا محتاجين إليه وأخذه سويد لينتفع به فإنه كان محتاجا إليه فذلك يدل على أن ما ألقاه صاحبه يباح أخذه للانتفاع به لمن شاء ويحتمل أن هذا كان سوطا هو مال متقوم يعلم أن صاحبه يطلبه فيكون بمنزلة اللقطة وفي قوله فاحتماه القوم حجة لمن يقول : ترك اللقطة أولى من رفعها .
ولكنا نقول : هذا كان في ذلك الوقت لأن الغلبة كانت لأهل الخير والصلاح فإذا تركه واحد يتركه الآخر أيضا أو يأخذه ليؤدي الأمانة فأما في زماننا فقد غلب أهل الشر إذا ترك الأمين يأخذ الخائن فيكتم من صاحبه والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس ألا ترى أن النساء كن يخرجن إلى الجماعات في زمن رسول الله - A - والصديق - Bه - ثم منعن من ذلك في زمن عمر - Bه - وكان صوابا .
وفي الحديث الذي رواه أبي بن كعب - Bه - دليل لما قلنا أن التقدير بالحول في التعريف ليس بلازم ولكنه يعرفها بحسب ما يطلبها صاحبها ألا ترى أن المائة دينار لما كانت مالا عظيما كيف أمره رسول الله - A - بأن يعرفها ثلاث سنين .
ثم بظاهر الحديث يستدل الشافعي - Bه - في أن للملتقط أن ينتفع باللقطة بعد التعريف وإن كان غنيا فإن رسول الله - A - جوز ذلك لأبي - Bه - وهو كان غنيا وقد دل على غناه قوله - E - اخلطها بمالك ولكنا نقول يحتمل أنه لفقره وحاجته لديون عليه فأذن له في الانتفاع وخلطها بماله ويحتمل أنه علم أن ذلك المال لحربي لا أمان له وقد سبقت يده إليه فجعله أحق به لهذا وإليه أشار رسول الله - A - فإنه قال رزق ساقه الله إليك ولكن مع هذا أمره بأن يعرف عددها ووكاءها احتياطا حتى إذا جاء طالب لها محترم تمكن من الخروج مما عليه يدفع مثلها إليه وذكر عن الحسن بن صباح قال : وجد رجل لقطة أيام الحاج فسأل عنها عبدالله بن عمر - Bهما - فقال : عرفها في الموسم فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها فإن جاء صاحبها فخيره بين الأجر وبين الثمن يعنى القيمة فإن اختار الثمن فادفع إليه وإن اختار الأجر فله الأجر وفي هذا دليل على أنه ينبغي للملتقط أن يعرفها في الموضع الذي أصابها فيه وأن يعرفها في مجمع الناس ولهذا أمره بالتعريف في الموسم وهذا لأن المقصود إيصالها إلى صاحبها وذلك بالتعريف في مجمع الناس في الموضع الذي أصابها حتى يتحدث الناس بذلك بينهم فيصل الخبر إلى صاحبها وذكر عن أبي إسحاق عن رجل قال : وجدت لقطة حين أنفر علي بن أبي طالب - Bه - الناس إلى صفين فعرفتها تعريفا ضعيفا حتى قدمت على علي - Bه - فأخبرته بذلك فضرب يده على صدري وفي رواية قال لي : إنك لعريض القفا خذ مثلها فاذهب حيث وجدتها فإن وجدت صاحبها فادفعها إليه وإلا فتصدق بها فإن جاء صاحبها فخيره إن شاء اختار الأجر وإن شاء ضمنك .
ومعنى قوله فعرفتها تعريفا ضعيفا أي عرفتها سرا وما أظهرت تعريفها في مجمع الناس فكأنه طمع في أن تبقي له وعرف ذلك منه علي - Bه - حين ضرب يده على صدره وقال ما قال إنك سليم القلب تطمع في مال الغير وهذا من دعابة علي - Bه - وقد كان به دعابة كما قال عمر - Bه - حين ذكر علي - Bه - للخلافة أما أنه إن ولي هذا الأمر حمل الناس على محجة بيضاء لولا دعابة به وفيه دليل أن التعريف سرا لا يكفي بل ينبغي للملتقط أن يظهر التعريف كما أمر علي - Bه - الرجل به وأنه ينبغي أن يعرفها في الموضع الذي وجدها لأن صاحبها يطلبها في ذلك الموضع .
وحكي أن بعض العلماء وجد لقطة وكان محتاجا إليها فقال في نفسه : لا بد من تعرفها ولو عرفتها في المصر ربما يظهر صاحبها فخرج من المصر حتى انتهى إلى رأس بئر فدلى رأسه في البئر وجعل يقول وجدت كذا فمن سمعتوه ينشد ذلك فدلوه علي وتجنب البئر رجل يرقع شملة وكان صاحب اللقطة فتعلق به حتى أخذها منه ليعلم أن المقدور كائن لا محالة فلا ينبغي أن يترك ما التزمه شرعا وهو إظهار التعريف وبعد إظهار التعريف إن جاء صاحبها دفعها إليه لحصول المقصود بالتعريف وإن لم يجئ فهو بالخيار إن شاء أمسكها حتى يجيء صاحبها وإن شاء تصدق بها لأن الحفظ هو العزيمة والتصدق بها بعد التعريف حولا رخصة فيخير بين التمسك بالعزيمة أو الترخص بالرخصة فإن تصدق بها ثم جاء صاحبها فهو بالخيار إن شاء أجاز الصدقة ويكون له ثوابها وإن شاء اختار الضمان وإذا اختار الضمان يخير بين تضمين الملتقط وبين تضمين المسكين لأن كل واحد منهما في حقه مكتسب سبب الضمان الملتقط بتمليك ماله من غيره بغير إذنه والمسكين يقبضه لنفسه على طريق التمليك وأيهما ضمنه لم يرجع على الآخر بشيء أما المسكين فلأنه في القبض عامل لنفسه فلا يرجع بما يلحقه من الضمان على غيره وأما الملتقط فلأنه بالضمان قد ملك وظهر أنه تصدق بملك نفسه فله ثوابها ولا رجوع له على المسكين بشيء .
وإن كان الملتقط محتاجا فله أن يصرفها إلى حاجة نفسه بعد التعريف لأنه إنما يتمكن من التصدق بها على غيره لما فيه من سد خلة المحتاج واتصال ثوابها إلى صاحبها وهذا المقصود يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا فكان له صرفها إلى نفسه لهذا المعنى .
فأما إذا كان غنيا فليس له أن يصرف اللقطة إلى نفسه عندنا .
وقال الشافعي له ذلك على أن يكون ذلك دينا عليه إذا جاء صاحبها لحديث أبي بن كعب - Bه - كما روينا ولما روي عن علي - Bه - أنه وجد دينارا فاشترى به طعاما بعد التعريف فأكل من ذلك رسول الله - A - وعلي وفاطمة والحسن والحسين - Bهم - أجمعين ولو كان سبيله التصدق ولم يكن للملتقط صرفها إلى منفعة نفسه لما أكلوا من ذلك فإن الصدقة ما كانت تحل لهم .
والمعنى فيه أن للملتقط أن يصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا بسبب الالتقاط وما يثبت له بسبب الالتقاط يستوي فيه أن يكون غنيا أو فقيرا كالحفظ والتعريف والتصدق به على غيره وهذا لأن في الصرف إلى نفسه معنى النظر له ولصاحبها أظهر لأنه يتوصل إلى منفعته ببدل يكون دينا عليه لصاحبها إذا حضر فكان منفعة كل واحد في هذا أظهر .
وحجتنا في ذلك ما روينا من الآثار الموجبة للتصدق باللقطة بعد التعريف ولأن المقصود اتصال ثوابها إلى صاحبها وهذا المقصود لا يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان غنيا بل يتبين به أنه في الأخذ كان عاملا لنفسه ولا يحل له شرعا أخذ اللقطة لنفسه فكما يلزمه أن يتحرز عن هذه النية في الابتداء فكذلك في الانتهاء يلزمه التحرز عن إظهار هذا وقد بينا تأويل حديث أبي فأما حديث علي - Bه - فقد قيل ما وجده لم يكن لقطة وإنما ألقاها ملك ليأخذه علي - Bه - فقد كانوا لم يصيبوا طعاما أياما وعرف رسول الله - A - ذلك بطريق الوحي فلهذا تناولوا منه على أن الصدقة الواجبة كانت لا تحل لهم وهذا لم يكن من تلك الجملة فلهذا استجاز علي - Bه - الشراء بها لحاجته .
وإذا وجد الرجل اللقطة وهي دراهم أو دنانير فجاء صاحبها وسمى وزنها وعددها ووكاءها فأصاب ذلك كله فإن شاء الذي في يده دفعها إليه وإن شاء أبي حتى يقيم البينة عندنا وقال مالك يجبر على دفعها إليه لأنه لما أصاب العلامات فالوهم الذي سبق إلى وهم كل واحد أنه صاحبه والاستحقاق بالظاهر يثبت خصوصا عند عدم المنازع كما يثبت الاستحقاق لذي اليد باعتبار الظاهر يثبت والملتقط غير منازع له لأنه لا يدعيها لنفسه ولأنه يتعذر على صاحبها إقامة البينة فإنه ما أشهد أحدا عند سقوطها منه ولو تمكن من ذلك لما سقطت منه فسقط اشتراط إقامة البينة للتعذر وتقام العلامة مقام ذلك كما يقام شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال مقام شهادة الرجال .
ولكنا نقول : إصابة العلامة محتمل في نفسه فقد يكون ذلك جزافا وقد يعرف الإنسان ذلك من ملك غيره وقد يسمع من مالكه ينشد ذلك ويذكر علاماته والمحتمل لا يكون حجة للإلزام ثم الملتقط أمين ويصير بالدفع إلى غير المالك ضامنا فيكون له أن يتحرز عن اكتساب سبب الضمان بأن لا يدفع إليه حتى يقيم البينة فيثبت استحقاقه بحجة حكمية وله أن يتوسع فيدفع إليه باعتبار الظاهر فإن دفعها إليه أخذ منه بها كفيلا نظرا منه لنفسه فلعله يأتي مستحقها فيضمنها إياه ولا يتمكن من الرجوع على الأخذ منه لأنه يخفي شخصه فيحتاط فيها بأخذ الكفيل منه وإن صدقه ودفعها إليه ثم أقام آخر البينة أنها له فله أن يضمن الملتقط أما بعد التصديق يؤمر بالدفع إليه لأن الإقرار حجة في حق المقر لكن الإقرار لا يعارض بينة الآخر لأن البينة حجة متعدية إلى الناس كافة فيثبت الاستحقاق بها للذي أقام البينة ويتبين أن الملتقط دفع ملكه إلى غيره بغير أمره فله الخيار : إن شاء ضمن القابض بقبضه وإن شاء ضمن الملتقط بدفعه فإن ضمن الملتقط رجع على المدفوع إليه وإن صدقه بإصابته العلامة فقد كان ذلك منه اعتمادا على الظاهر ولا بقاء له بعد الحكم بخلافه والمقر إذا صار مكذبا في إقراره يسقط اعتبار إقراره كالمشتري إذا أقر بالملك للبائع ثم استحقه إنسان من يده رجع على البائع بالثمن والرواية محفوظة في وكيل المودع إذا جاء إلى المودع وقال أنا وكيله في استرداد الوديعة منك فصدقه لا يجبر على الدفع إليه إلا في رواية عن أبي يوسف - C - بخلاف وكيل صاحب الدين لأن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه وإقراره في ملك نفسه ملزم فأما المودع يقر له بحق القبض في ملك الغير وإقراره في ملك الغير ليس بملزم فعلى هذا قال بعض مشايخنا - رحمهم الله - في اللقطة كذلك لا يجبر على دفعها إليه وإن صدقه .
ومنهم من فرق فقال : هناك الملك لغير الذي حضر ظاهر في الوديعة وهنا ليس في اللقطة ملك ظاهر لغير الذي حضر فينبغي أن يكون إقرار الملتقط ملزما إياه الدفع إليه ثم في الوديعة إذا دفع إليه بعد ما صدقه وهلك في يده ثم حضر المودع وأنكر الوكالة وضمن المودع فليس له أن يرجع على الوكيل بشيء وهنا للملتقط أن يرجع على القابض لأن هناك في زعم المودع أن الوكيل عامل للمودع في قبضه له بأمره وأنه ليس بضامن بل المودع ظالم في تضمينه إياه ومن ظلم فليس له أن يظلم غيره وهنا في زعمه أن القابض عامل لنفسه وأنه ضامن بعد ما يثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بعدما ضمن لهذا يوضحه : أن هناك المودع منكر الوكالة والقول فيه قوله مع يمينه فلا حاجة به إلى البينة وإنما يقضي القاضي على المودع بالضمان باعتبار الأصل وهو عدم الوكالة فلا يصير المودع مكذبا في زعمه حكما وهنا إنما يقضي بالضمان على الملتقط بحجة البينة فيصير هو مكذبا في زعمه حكما فإن كانت اللقطة مما لا يبقى إذا أتى عليه يوم أو يومان عرفها حتى إذا خاف أن تفسد تصدق بها لأن المقصود من التعريف إيصالها إلى صاحبها فتقيد مدة التعريف بالوقت الذي لا يفسد فيه لأن بعد الفساد لا فائدة لصاحبها في إيصالها إليه وقد بينا أن التصدق بها طريق لحفظها على صاحبها من حيث الثواب فيصير إلى ذلك إذا خاف أن تفسد العين .
وإذا وجد شاة أو بعيرا أو بقرة أو حمارا فحبسه وعرفه وأنفق عليه ثم جاء صاحبها وأقام البينة أنه له لم يرجع عليه بما أنفق لأنه متبرع في الإنفاق على ملك الغير بغير أمره إلا أن يكون أنفق بغير أمر القاضي فأما أمر القاضي بمنزلة أمر صاحبها لما للقاضي على صاحبها من ولاية النظر عند عجزه عن النظر بنفسه والأمر بالإنفاق من النظر لأنه لا بقاء للحيوان بدون النفقة عادة فإن رفعها إلى القاضي وأقام البينة أنه التقطها أمره بأن ينفق عليها على قدر ما يرى .
وقد بينا طريق قبول هذه البينة والأمر بالإنفاق بعدها في اللقيط ثم إنما يأمر بالأنفاق نظرا منه لصاحبها فلا يأمر إلا في مدة يتحقق فيها معنى النظر له من يومين أو ثلاثة لأنه لو أمر بالإنفاق في مدة طويلة ربما يأتي ذلك على قيمتها فلا يكون فيها نظر لصاحبها فأما في المدة اليسيرة تقل النفقة ومعنى النظر لحفظ عين ملكه عليه يحصل فإن لم يجئ صاحبها باع الشاة ونحوها لأن في البيع حفظ المالية عليه بالثمن وله ولاية الحفظ عليه بحسب الإمكان فإذا تعذر حفظ العين عليه لعوز النفقة صار إلى حفظ المال عليه بالبيع .
وأما الغلام والدابة فنؤاجره وننفق عليه من أجره لأن بهذا الطريق يتوصل إلى حفظ عين ملكه والمنفعة لا تبقى له بعد مضي المدة فإجارته والإنفاق عليه محض نظر له فإذا باعها أعطاه القاضي من ذلك الثمن ما أنفق عليه بأمره في اليومين أو الثلاثة لأن الثمن مال صاحبها والنفقة دين واجب للملتقط على صاحبها وهو معلوم للقاضي فيقضي دينه بماله لأن صاحب الدين لو ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه فكذلك القاضي يعينه على ذلك فإن لم يبعها حتى جاء صاحبها وأقام البينة أنها له قضى له بها القاضي وقضى عليه بنفقة الملتقط فإن قال الملتقط لا أدفعها إليك حتى تعطيني النفقة . كان له ذلك لأن ملكه في الدابة حي وبقي تملك النفقة فكانت تلك النفقة متعلقة بمالية الدابة من هذا الوجه فيحبسها كما يحبس البائع المبيع بالثمن ولم يذكر في الكتاب أن الملتقط إذا لم يقم البينة هل يأمر القاضي بالإنفاق أم لا والصحيح أنه ينبغي للقاضي أن يقول له إن كنت صادقا فقد أمرتك بالإنفاق عليه لأن في هذا معنى النظر لهما ولا ضرر فيه على أحد فإنه إن كان غاضبا للدابة لم يخرج من ضمانه ولا يستوجب الرجوع بالنفقة على مالكها بالأمر لما قيده بكونه صادقا فيه وإذا التقط الرجل لقطة أو وجد دابة ضالة أو أمة أو عبدا أو صبيا حرا ضالا فرده على أهله لم يكن في شيء من ذلك جعل لأنه متبرع بمنافعه في الرد ووجوب الجمل لرد الأبق حكم ثبت نصا بخلاف القياس بقول الصحابة - Bهم - فلا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه والضال ليس في معنى الآبق فالآبق لا يزال يتباعد من المولى حتى يفوته والضال لا يزال يقرب من صاحبه حتى يجده فلهذا أخذنا فيه القياس وإن عوضه صاحبه شيئا فهو حسن لأنه يحسن إليه في إحياء ملكه ورده عليه { وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان } ( الرحمن : 60 ) ولأنه منعم عليه وقال A ( من أزالت إليه نعمة فليشكرها ) وذلك بالتعويض وأدنى درجات الأمر الندب وإذا وجد الرجل بعيرا ضالا أخذه يعرفه ولم يتركه يضيع عندنا وقال مالك - C - تركه أولى للحديث المشهور أن النبي - A - سئل عن ضالة الغنم فقال : ( هي لك أو لأخيك أو للذئب ) فلما سئل عن ضالة الإبل غضب حتى احمرت وجنتاه وقال : ( مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها ) .
وتأويله عندنا أنه كان في الابتداء فإن الغلبة في ذلك الوقت كان لأهل الصلاح والخير لا تصل إليها يد خائنة إذا تركها واجدها فأما في زماننا لا يأمن واجدها وصول يد خائنة إليها بعده ففي أخذها إحياؤها وحفظها على صاحبها فهو أولى من تضييعها كما قررنا في سائر اللقطات إلا إذا باع اللقطة بأمر القاضي لم يكن لصاحبها ذا حضر إلا الثمن كما لو باعها القاضي بنفسه وهذا لأن البيع نفذ بولاية شرعية فهو كبيع ينفذ بإذن المالك وإن كان باعها بغير أمر القاضي فالبيع باطل لحصوله ممن لا ولاية له على المالك بغير أمر معتبر شرعا ثم إن حضر صاحبها واللقطة قائمة في يد المشتري يخير بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن وبين أن يبطل البيع ويأخذ عين ماله لأن البيع كان موقوفا على إجازته كما لو كان حاضرا حين باعه غيره بغير أمره فإن كان قد هلكت اللقطة في يد المشتري فصاحبها بالخيار : إن شاء ضمن البائع القيمة لوجود البيع والتسليم منه بغير إذنه وإن شاء ضمن المشتري بقبضه ملكه بنفسه بغير رضاه فإن ضمن البائع كان الثمن للبائع لأنه ملكه بالضمان فينفذ البيع من جهته ولكن يتصدق بما زاد على القيمة من الثمن لأنه حصل له بكسب خبيث .
فإن قيل : الضمان إنما يلزمه بالتسليم والبيع كان سابقا عليه كيف ينفذ البيع من جهته بأداء الضمان .
قلنا : لا كذلك بل كما رفعه ليبيعه بغير أمر القاضي صار ضامنا بمنزلة المودع يبيع الوديعة ثم يضمن قيمتها فإن البيع ينفذ من جهته بهذا الطريق وهو أنه كما رفعها إلى البيع صار ضامنا فيستند ملكه إلى تلك الحالة فإن ضمن المشتري قيمتها رجع بالثمن على البائع لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العين فيبطل البيع به وليس له أن يجيز البيع بعد هلاك السلعة لأن الإجازة في حقه بمنزلة ابتداء التمليك فلا يصح إلا في حالة بقاء المعقود عليه ولو كان المعقود عليه قائما في يده وقد قبض الملتقط الثمن وقد هلك في يده ثم أجاز البيع نفذ لقيام المعقود عليه وكان الملتقط أمينا في الثمن لأن إجازته في الانتهاء كإذنه في الابتداء .
وإذا أخذ عبدا فجاء به إلى مولاه فقال : هذا عبد آبق فقد وجب لي الجعل عليك وقال مولى العبد بل هو الضال أو قال أنا أرسلته في حاجة لي فالقول قول المولى لأن الراد يدعي لنفسه عليه الجعل والمولى ينكر ذلك ولأنه يدعي أن ملكه تغيب بالأباق والمولى منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه .
وإذا هلكت اللقطة عند الملتقط فهو على ثلاثة أوجه : إن كان حين أخذها قال أخذتها لأردها على مالكها وأشهد على ذلك شاهدين فلا ضمان عليه لأنه مأذون في أخذها للرد على المالك مندوب إلى ذلك شرعا فكان هذا الأخذ نظير الأخذ بإذن المالك فلا يكون سببا للضمان .
وإن كان أخذها لنفسه وأقر بذلك فهو ضامن لها لأنه ممنوع من أخذها فكان متعديا في هذا الأخذ فيكون ضامنا كالغاصب .
والأصل فيه قوله A ( على اليد ما أخذت حتى ترد ) أي ضمان ما أخذ والآخذ مطلقا من يكون عاملا لنفسه وإن لم يكن أشهد عند الالتقاط ولكنه ادعى أنه أخذها للرد ويدعي صاحبها أنه أخذها لنفسه فعلى قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - القول قول صاحبها والملتقط ضامن وعند أبي يوسف - C - القول قول الملتقط مع يمينه لوجهين : .
( أحدهما ) أن مطلق فعل المسلم محمول على ما يحل شرعا قال A ( لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ) والذي يحل له شرعا الأخذ للرد لا لنفسه فيحمل مطلق فعله عليه وهذا الدليل الشرعي قائم مقام الإشهاد منه .
( والثاني ) : أن صاحبها يدعي عليه سبب الضمان ووجوب القيمة في ذمته وهو منكر لذلك فالقول قوله كما لو ادعى عليه الغصب وهما يقولان كل حر عامل لنفسه ما لم يظهر منه ما يدل على أنه عامل لغيره ودليل كونه عاملا لغيره الإشهاد هنا فإذا تركه كان آخذا لنفسه باعتبار الظاهر هذا إذا وجدها في موضع يتمكن من الإشهاد فإن لم يكن متمكنا من الإشهاد لعدم من يشهد أو لخوفه على أن يأخذ منه ذلك ظالم فالقول قوله ولا ضمان عليه .
والثاني أن أخذ مال الغير بغير إذنه سبب موجب للضمان عليه إلا عند وجود الإذن شرعا والإذن شرعا مقيد بشرط الإشهاد عليه والإظهار فإذا ترك ذلك كان أخذه سببا للضمان عليه شرعا فلا يصدق في دعوى المسقط بعد ظهور سبب الضمان كمن أخذ مال الغير وهلك في يده ثم ادعى أن صاحبه أودعه لم يصدق في ذلك إلا بحجة وإن قال قد التقطت لقطة أو ضالة أو قال عندي شيء فمن سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي فلما جاء صاحبها قال قد هلكت فهو مصدق على ذلك ولا ضمان عليه لأنه أظهرها بما قال وتبين أن أخذها للرد فكان أمينا فيها ولا يضره أن يسمي جنسها ولا صفتها في التعريف لأنه إنما امتنع من ذلك لتحقيق الحفظ على المالك كيلا يسمع إنسان ذلك منه فيدعيها لنفسه ويخاصمه إلى قاض يرى الاستحقاق لمصيب العلامة فقد بينا أن في هذا اختلافا ظاهرا وما يرجع إلى تحقيق الحفظ على المالك لا يكون سببا للضمان عليه وكذلك لو وجد لقطتين فقال من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي .
وإن لم يقل عندي لقطتان ثم هلكتا عنده ثم جاء صاحبهما فلا ضمان عليه فيهما لأنه أظهرهما بما ذكر من التعريف فاللقطة اسم جنس يتناول الواحد وما زاد عليه حتى لو قال عندي لقطة برئ من الضمان وإن كانت عنده عشرة لأن الإشهاد بهذا اللفظ يتم منه في حق كل واحد منهما .
وإذا أخذ الرجل لقطة ليعرفها ثم أعادها إلى المكان الذي وجدها فيه فلا ضمان عليه لصاحبها وإن هلكت قبل أن يصل إليها صاحبها أو استهلكها رجل آخر لأن أخذها للتعريف لم يكن سببا لوجوب الضمان عليه وكذلك ردها إلى مكانها لأنه نسخ لفعله فلا يكون سببا لوجوب الضمان عليه كرد الوديعة إلى مالكها ورد المغصوب إلى صاحبه ولأنه بمجرد الأخذ لا يصير ملتزما للحفظ فقد يأخذها على ظن أنها له بأن كان سقط منه مثلها فإذا تأملها وعلم أنها ليست له ردها إلى مكانها وقد يأخذها ليعرف صفتها حتى إذا سمع إنسانا يطلبها دله عليها وقد يأخذها ليحفظها على المالك وهو يطمع في أن يتمكن من أداء الأمانة فيها فإذا أحس بنفسه عجزا أو طمعا في ذلك ردها إلى مكانها فلهذا لا يضمن شيئا وإنما الضمان على المستهلك لها .
وإن كان الأول أخذها لنفسه ثم أعادها إلى مكانها فهو ضامن لها إن هلكت وإن استهلكها غيره فلصاحبها الخيار يضمن أيهما شاء . لأن أخذها لنفسه سبب موجب للضمان عليه وبعد ما وجب الضمان لا يبرأ إلا بالرد على المالك كالغاصب وإعادتها إلى مكانها ليس برد على المالك فلا يكون مسقطا للضمان عليه .
وقيل على قول زفر يبرأ عن الضمان لأنه نسخ فعله بما صنع فيسقط عنه حكم ذلك الفعل .
ونظائر هذه المسألة ذكرها في اختلاف زفر ويعقوب قال : إذا كانت دابة فركبها ثم نزل عنها وتركها في مكانها فعلى قول زفر - C - لا ضمان عليه وعلى قول أبي يوسف - C - هو ضامن لها وكذلك لو نزع الخاتم من أصبع نائم ثم أعاده إلى أصبعه بعد ما انتبه ثم نام فعند أبي يوسف - C - لا يبرأ عن الضمان وعند زفر يبرأ عن ضمانه ولو أعاده إلى أصبعه قبل أن ينتبه من تلك النومة برأ بالاتفاق فزفر - C - سوى بينهما باعتبار أنه نسخ فعله حين أعاده على الحال الذي أخذه وأبو يوسف - C - يقول لما انتبه صاحبه وجب عليه رده في حالة الانتباه فلا يكون نومه بعد ذلك مسقطا للضمان عليه بخلاف ما إذا رده قبل أن ينتبه وكذلك لو كان ثوبا فلبسه ثم نزعه وأعاده إلى مكانه فهو على هذا الخلاف .
هذا إذا لبسه كما يلبس ذلك الثوب عادة فأما إذا كان قميصا فوضعه على عاتقه ثم أعاده إلى مكانه فلا ضمان عليه لأن هذا حفظ وليس باستعمال فلا يصير به ضامنا وكذلك الخاتم إن لبسه في الخنصر فهو استعمال يصير به ضامنا اليد اليمنى واليسرى في ذلك سواء لأن بعض الناس يلبسون الخاتم في الخنصر من اليد اليمنى للتزين والاستعمال وإن لبسه في أصبع آخر لم يكن ضامنا لأن المقصود هنا الحفظ دون التزين به وذكر هشام عن محمد - رحمهما الله - ان لبسه على خاتم في خنصره لم يكن ضامنا لأن المقصود هو الحفظ دون التزين به قال هشام - C - فقلت له من السلاطين من يتختم بخاتمين للتزين فقال : يكون أحدهما للختم لا لتزين ثم قال : حتى أتأمل في هذا .
والحاصل أن الرجل إذا كان معروفا بأنه يلبس خاتمين للتزين فهذا يكون استعمالا منه وإلا فهو حفظ وكذلك إن كان سيفا فتقلد به فهذا استعمال وإن كان متقلدا سيفا فكذلك لأن المبارز قد يتقلد بسيفين إلا أن يكون متقلدا بسيفين فحينئذ تقلده بهذه اللقطة يكون حفظا ولا يكون استعمالا فلا يصير ضامنا لها .
قال : وكذلك الغاصب إذا رد الدابة إلى دار صاحبها لم يبرأ من الضمان حتى يدفعها إلى صاحبها بخلاف المستعير فإنه ليس بضامن لها فإذا ردها إلى دار صاحبها فقد أتى بما هو المعتاد في الرد فلا يكون ضامنا شيئا فأما الغاصب ضامن لها فحاجته إلى رد مسقط للضمان عليه ولا يحصل ذلك ما لم يدفعها إلى صاحبها رجل جاء إلى دابة مربوطة لرجل فحلها ولم يذهب بها ثم ذهبت الدابة فلا ضمان على الذي حلها .
وروي عن محمد - C - أنه ضامن لها وعلى هذا لو فتح باب القفص فطار الطير أو فتح باب الاصطبل ففرت الدابة .
وجه قول محمد : أن الذي حل الرباط أو فتح الباب في الحقيقة مزيل للمانع موجد شرط الذهاب إلا أن ما هو علة للتلف هنا وهو فعل الطير والدابة ساقط الاعتبار شرعا وفي مثله يحال الإتلاف على صاحب الشرط فيصير ضامنا كحافر البئر في الطريق فإنه أوجد شرط السقوط بإزالة المسكة عن الأرض فأما العلة ثقل الماشي في نفسه ومشيه في ذلك الموضع ولكن لما تعذر إضافة الإتلاف إليه إذا لم يكن عالما به كان مضافا إلى الحافر حتى يكون ضامنا وكذلك من شق زق إنسان فسال منه مائع كان فيه فهو ضامن وعمله إزالة المائع فقط فأما علة السيلان كونه مائعا ولكن لما تعذر إضافة الحكم إلى ما هو العلة كان مضافا إلى الشرط وعلى هذا لو قطع حبل قنديل فسقط فعمل القاطع في إزالة المانع فكان ضامنا لهذا المعنى .
وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - يقولان عمله في اتحاد الشرط كما قال محمد - C - وقد طرأ على ذلك الفعل فعل فاعل معتبر حصل به التلف فيسقط اعتبار ذلك الشرط ويحال بالتلف على هذا الفعل المعتبر قوله بأن فعل الدابة هدر قلنا نعم هو غير معتبر في إيجاب الضمان ولكنه معتبر في نسخ حكم الفعل به .
ألا ترى أن من أرسل دابته في الطريق فأصابت في سير إرساله مالا أو نفسا كان المرسل ضامنا ولو تيامنت أو تياسرت ثم أصابت شيئا لم يضمن المرسل واعتبر فعلها في نسخ حكم فعل المرسل به فكذلك هنا يعتبر فعلها في نسخ حكم فعل الذي حلها أو فتح باب الإصطبل به وهو نظير من حفر بئرا في الطريق فجاء حربي لا أمان له وألقى فيه غيره لم يضمن الحافر شيئا وفعل الحربي غير معتبر في إيجاب الضمان عليه ثم كان معتبرا في نسخ حكم فعل الحافر به وهذا بخلاف مسألة الزق والحبل فإنه ما طرأ على فعله ما ينسخه حتى إذا كان ما في الزق جامدا ثم ذاب بالشمس فسال لم يضمن الشاق .
فإن قيل : كيف يستقيم القول في هذه الفصول بأن عمله في اتحاد الشرط والشرط يتأخر عن العلة ولا يسبقها .
قلنا : هذا شرط في معنى السبب فإن الحكم يوجد عند وجود الشرط وعند وجود السبب إلا أن السبب يتقدم والشرط يتأخر فهذا التقدم في معنى السبب ولكونه مزيلا للمانع هو شرط كما بينا وعلى هذا لو حل قيد عبد آبق فذهب العبد لم يضمن شيئا لما قلنا .
قال محمد - C - إلا أن يكون العبد مجنونا فحينئذ يضمن لأن فعله في الذهاب غير معتبر شرعا فيبقى الإتلاف مضافا إلى إزالة المانع بحل القيد وقال أيضا : لو كان هذا المجنون مقيدا في بيت مغلق فحل إنسان قيده وفتح آخر الباب فذهب فالضمان على الفاتح لأن حل القيد لم يكن إزالة للمانع قبل فتح الباب وإتمام ذلك بالفاتح للباب فهو الضامن وعلى قول الشافعي - Bه - في هذه الفصول إن ذهب في فور فتح الباب أو حل الرباط فهو ضامن وإن لم يذهب في فوره ذلك فلا ضمان عليه لأنه لما لم يذهب في فوره فقد علمنا أن الباب لم يكن مانعا له وإنما ذهب بقصد حدث له وقصد الدابة عنده معتبر .
وإذا ذهب في فوره فقد علمنا أن الباب كان مانعا ومن أزال هذا المانع فهو متعدي فيما صنع فيكون ضامنا وإذا كانت اللقطة في يد مسلم فادعاها رجل ووصفها فأبى الذي في يده أن يدفعها إليه إلا ببينة فأقام شاهدين كافرين لم تجز شهادتهما لأنها تقوم على المسلم في استحقاق يده عليه وشهادة الكافر ليست بحجة على المسلم وإن كانت في يد كافر فكذلك في القياس لأني لا أدري لعلها ملك المسلم وشهادة الكافر في استحقاق ملك المسلم ليست بحجة ولكن في هذا الاستحسان يقضى له بشهادتهما لأنها تقوم لاستحقاق اليد على الملتقط والملتقط كافر وشهادة الكافر حجة على الكافر ثم كما يتوهم أنها لمسلم يتوهم أنها لكافر فتقابل الموهومات مع أن الموهوم لا يعارض المعلوم وإن كانت في يدي مسلم وكافر لم تجز شهادتهما في القياس على واحد منهما وفي الاستحسان يجوز على الكافر منهما فيقضي له بما في يد الكافر لما قلنا .
وإذا أقر الملتقط بلقطة لرجل وأقام آخر البينة أنها له قضيت بها للذي أقام البينة لما قلنا أن البينة حجة في حق الكل والإقرار ليس بحجة في حق الغير والضعيف لا يعارض القوي فإن أقر بها لأحدهما أولا ودفعها إليه بغير حكم فاستهلكها ثم أقام آخر البينة فله أن يضمن إن شاء الدافع وإن