( قال ) Bه إعلم بأن التحري لغة هو الطلب والابتغاء كقول القائل لغيره اتحرى مسرتك أي أطلب مرضاتك قال تعالى { فاولئك تحروا رشدا } ( الجن : 14 ) وهو والتوخي سواء إلا أن لفظ التوخي يستعمل في المعاملات والتحري في العبادات قال A للرجلين الذين اختصما في المواريث إليه ( أذهبا وتوخيا واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه ) وقال A في العبادات ( إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ) وفي الشريعة عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته وقد منع بعض الناس العمل بالتحري لأنه نوع ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ولا ينتفي الشك به من كل وجه ومع الشك لا يجوز العمل ولكنا نقول التحري غير الشك والظن فالشك أن يستوى طرف العلم بالشيء والجهل به والظن أن يترجح أحدهما بغير دليل والتحري أن يترجح أحدهما بغالب الرأي وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم وإن كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم ولأجله سمى تحريا فالحر اسم لجبل على طرف المفاوز والدليل على ما قلنا الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى { فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات } ( الممتحنة : 10 ) وذلك بالتحري وغالب الرأي فقد أطلق عليه العلم والسنة قوله A ( المؤمن ينظر بنور الله ) وقال A ( فراسة المؤمن لا تخطيء ) وقال A لوابصة ( ضع يدك على صدرك فالإثم ما حاك في قلبك وإن أفتاك الناس ) وشيء من المعقول يدل عليه فإن الاجتهاد في الأحكام الشرعية جائز للعمل به وذلك عمل بغالب الرأى ثم جعل مدركا من مدارك أحكام الشرع وإن كان لا يثبت به ابتداء فكذلك التحري مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداء والدليل عليه أمر الحروب فإنه يجوز العمل فيها بغالب الرأى مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك .
( فإن قيل ) ذلك من حقوق العباد وتتحقق الضرورة لهم في ذلك كما في قيم المتلفات ونحوها ونحن إنما أنكرنا هذا في العبادات التي هي حق الله تعالى .
( قلنا ) في هذا أيضا معنى حق العبد وهو التوصل إلى اسقاط ما لزمه أداؤه وكذلك في أمر القبلة فإن التحري لمعرفة حدود الأقاليم وذلك من حق العبد وفي الزكاة التحري لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى فيجوز أن يكون غالب الرأي طريقا للوصول إليه إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بمسائل الزكاة وكان الأولى أن يبدأ بمسائل الصلاة لأنها مبتدأة في القرآن وكأنه إنما فعل ذلك لأن معنى حق العبد في الصدقة أكثر فإنه يحصل بها سد خلة المحتاج أو لأنه وجد في باب الصدقة نصا وهو حديث يزيد السلمي على ما بينه فبدأ بما وجد فيه النص ثم عطف عليه ما كان مجتهدا فيه ومسألة الزكاة على أربعة أوجه : أحدها أن يعطي زكاة ماله رجلا من غير شك ولا تحر ولا سؤال فهذا يجزيه ما لم يتبين أنه غنى لأن مطلق فعل المسلم محمول على ما يصح شرعا وعلى ما يصخ فيه تحصيل مقصوده وعلى ما هو المستحق عليه حتى يتبين خلافه فإن الفقر في القابض أصل فإن الإنسان يولد ولا شيء له والتمسك بالأصل حتى يظهر خلافه جائز شرعا فالمعطى في الإعطاء يعتمد دليلا شرعيا فيقع المؤدي موقعه ما لم يعلم أنه غنى فإذا علم ذلك فعليه الإعادة لأن الجواز كان باعتبار الظاهر ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الأمر بخلافه فإن شك في أمره بأن كان عليه هيئة الأغنياء أو كان في أكبر رأيه أنه غنى ومع ذلك دفع إليه فإنه لا يجزيه ما لم يعلم أنه فقير لأن بعد الشك لزمه التحري فإذا ترك التحري بعد ما لزمه لم يقع المؤدي موقع الجواز إلا أن يعلم أنه فقير فحينئذ يجوز لأن التحري كان لمقصود وقد حصل ذلك المقصود بدونه فسقط وجوب التحري كالسعى إلى الجمعة واجب لمقصود وهو أداء الجمعة فإذا توصل إلى ذلك بأن حمل إلى الجامع مكرها سقط عنه فرض السعى والثالث : أنه يتحرى بعد الشك ويقع في أكبر رأيه أنه غني فدفع إليه مع ذلك فهذا لا يشكل أنه لا يجزيه ما لم يعلم بفقره فإذا علم فهو جائز وهو الصحيح وقد زعم بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - أن عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه لا يجزيه على قياس ما نبينه في الصلاة والأصح هو الفرق فإن الصلاة لغير القبلة مع العلم لا تكون طاعة فإذا كان عنده أن فعله معصية لا يمكن إسقاط الواجب عنه فأما التصدق على الغني صحيح ليس فيه معنى المعصية فيمكن إسقاط الواجب بفعله هذا إذا تبين وصول الحق إلى متسحقه بظهور فقر القابض .
والفصل الرابع : أن يتحرى ويقع في أكبر رأيه أنه فقير فدفع إليه فإذا ظهر أنه فقير أو لم يظهر من حاله شيء جاز بالاتفاق وإن ظهر أنه كان غنيا فكذلك في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف - C تعالى - الأول وفي قوله الآخر تلزمه الإعادة وهو قول الشافعي - C تعالى - وكذلك لو كان جالسا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء أو سأله فأعطاه فهذه الأسباب بمنزلة التحري وجه قول أبي يوسف - C تعالى - أنه تبين له الخطأ في اجتهاده بيقين فسقط اعتبار اجتهاده كمن توضأ بماء وصلى ثم تبين له أنه كان نجسا أو صلى في ثوب ثم علم أنه كان نجسا أو القاضي قضى في حادثة بالاجتهاد ثم ظهر نص بخلافه وبيانه أن صفة الفقر والغني يوقف عليهما حقيقة فإن الشرع علق بهما أحكاما من النفقة وضمان العتق وغير ذلك وإنما تتعلق الأحكام الشرعية بما يوقف عليه وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المقصود ليس هو عين الاجتهاد بل المقصود اتصال الحق إلى المستحق فإذا تبين أنه لم يوصله إلى مستحقه صار اجتهاده وجودا وعدما بمنزلة لأن غالب الرأى معتبر شرعا في حقه ولكن لا يسقط به الحق المستحق عليه لغيره والزكاة صلة مستحقة للمحاويج على الأغنياء فلا يسقط ذلك بعذر في جانبه إذا لم يوصل الحق إلى مستحقه وبه فارق الصلاة على أصل أبي يوسف - C تعالى - لأن فريضة التوجه إلى القبلة لحق الشرع وهو معذور عند الاشتباه فيمكن إقامة الاجتهاد مقام ما هو المستحق عليه في حق الشرع وحجة أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه مؤد لما كلف فيسقط به الواجب كما لو لم يظهر شيء من حال المصروف إليه وبيانه أنه مأمور بالأداء إلى من هو فقير عنده لا إلى من هو فقير حقيقة لأنه لا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة فالإنسان قد لا يعرف من نفسه حقيقة الفقر والغني فكيف يعرفه من غيره والتكليف يثبت بحسب الوسع والذي في وسعه الاستدلال على فقره بدليل ظاهر من سؤال أو هيئة عليه أو جلوس في صف الفقراء وعند انعدام ذلك كله المصير إلى غالب الرأي وقد أتى بذلك وإنما يكتفي بهذا القدر لمعنى الضرورة ولا يرتفع ذلك بظهور حاله بعد الأداء لأنه ليس له أن يسترد المقبوض من القابض ولا أن يضمنه بالاتفاق فلو لم يجز عنه ضاع ماله فلبقاء الضرورة قلنا يجعل المؤدي مجزيا عنه .
ولأنه لا يعلم حقيقة غناه وإنما يعرف ذلك بالاجتهاد وما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وتعلق الأحكام الشرعية بالغنى لا يدل على أنه يعرف صفة الغني حقيقة لأن الأحكام تنبني على ما يظهر لنا كما ينبني الحكم على صدق الشهود وإن كان لا يعلم حقيقة وبه فارق النص لأنه يوقف عليه حقيقة فكان المجتهد مطالبا بالوصول إليه وإن كان قد تعذر إذا كان يلحقه الحرج في طلبه فإذا ظهر بطل حكم الاجتهاد وكذلك نجاسة الماء ونجاسة الثوب يعرف حقيقة فيبطل بظهور النجاسة حكم الاجتهاد في الطهارة ولا نقول في الزكاة حق الفقراء بل هي محض حق الله تعالى والفقير مصرف لا مستحق كالكعبة لأداء الصلاة جهة تستقبل عند أدائها والصلاة تقع لله تعالى ثم هناك يسقط عنه الواجب إذا أتى بما في وسعه ولا معتبر بالتبين بعد ذلك بخلافه فكذلك هنا ولو تبين أن المدفوع إليه كان أبا الدافع أو ابنه فهو على هذا الاختلاف أيضا وذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة - C تعالى - أنه لا يجزئه هنا كما هو قول أبي يوسف - C تعالى - أما طريق أبي يوسف - C تعالى - أنه من لا يكون مصرفا للصدقة مع العلم بحاله لا يكون مصرفا عند الجهل بحاله إذا تبين الأمر بخلافه وجه رواية ابن شجاع أن النسب مما يعرف حقيقة ولهذا لو قال لغيره لست لأبيك لا يلزم الحد والحد يدرأ بالشبهة فكان ظهور النسب بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد وجه ظاهر الرواية ما احتج به في الكتاب فإنه روى عن إسرائيل عن أبي الجويرية عن معن بن يزيد السلمي قال : خاصمت أبي إلى رسول الله - A - فقضي لي عليه وذلك أن أبي أعطى صدقته لرجل في المسجد وأمره بأن يتصدق بها فأتيته فأعطانيها ثم أتيت أبي فعلم بها فقال والله يا بني ما أياك أردت بها فاختصمنا إلى رسول الله - A - فقال ( يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت ) ولا معنى لحمله على التطوع لأن ترك الاستفسار من رسول الله - A - دليل على أن الحكم في الكل واحد مع أن مطلق الصدقة ينصرف إلى الواجب وفي بعض الروايات قال صدقة ماله وهو تنصيص على الواجب .
وكان المعنى فيه أن الواجب فعل هو قربة في محل يجري فيه الشح والضن وهو المال باعتبار مصرف ليس بينهما ولاد ثم عند الاشتباه والحاجة أقام الشرع أكثر هذه الأوصاف مقام الكل في حكم الجواز والحاجة ماسة لتعذر استرداد المقبوض من القابض وبهذا يستدل في المسألة الأولى أيضا فإن الصدقة على الغني فيها معني القربة كالتصدق على الولد ولهذا لا رجوع فيه فيقام أكثر الأوصاف مقام الكل في حق الجواز ثم طريق معرفة البنوة الاجتهاد ألا ترى أنه لما نزل قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } قال عبدالله بن سلام - Bه والله إني بنبوته أعرف مني بولدي فإني أعرفه نبيا حقا ولا أدري ماذا أحدث النساء بعدي وإذا كان طريق المعرفة الاجتهاد كان هذا والأول سواء من حيث أنه لا ينتقض الاجتهاد باجتهاد مثله فإن تبين أنه هاشمي فكذلك الجواب في ظاهر الراوية لأن المنع من جواز صرف الواجب إليه باعتبار النسب مع أن التصدق عليه قربة فهو وفصل الأب سواء وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أنه يلزمه الإعادة لأن كونه من بني هاشم مما يوقف عليه في الجملة ويصير كالمعلوم حقيقة فكان هذا بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد ودليله أنه لو قال لهاشمي لست بهاشمي فإنه يحد أو يعزر على حسب ما اختلفوا فيه ولو تبين أن المدفوع إليه ذمي فهو على هذا الخلاف أيضا وفي الأمالي روي أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - أنه لا يجزئه لأن الكفر مما يوقف عليه ولهذا لو ظهر أن الشهود كفار بطل قضاء القاضي وفي ظاهر الرواية قال ما يكون في الإعتقاد فطريق معرفته الاجتهاد والتصدق على أهل الذمة قربة فهو وما سبق سواء وفي الكتاب قال أعطى ذميا أخبره أنه مسلم أو كان عليه سيما المسلمين وفي هذا دليل أنه يجوز تحكيم السيما في هذا الباب قال تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم } ( الرحمن : 41 ) وقال تعالى { تعرفهم بسيماهم } ( البقرة : 273 ) وفيه دليل أن الذمي إذا قال أنا مسلم لا يصير مسلما لأنه قال أخبره أنه مسلم ثم علم أنه ذمي وهذا لأن قوله أنا مسلم أي منقاد للحق مستسلم وكل أحد يدعي ذلك فيما يعتقده وقد قال بعض المتأخرين المجوسي إذا قال أنا مسلم يحكم بإسلامه .
لأنهم يتشاءمون بهذا اللفظ ويتبرؤن منه بخلاف أهل الكتاب وإن تبين أن المدفوع إليه مستأمن حربي فهو جائز على ما ذكر في كتاب الزكاة وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - الفرق بين الذمي والحربي المستأمن فقال قد نهينا عن البر مع من يقاتلنا في ديننا فلا يكون فعله في ذلك قربة وبدون فعل القربة لا يتأدى الواجب ولم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا قال تعالى { لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } فيكون فعله في حق الذمي قربة يتأدى به الواجب عند الاشتباه ولو تبين أنه المدفوع إليه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لقصور فعله فإن الواجب عليه بالنص الإيتاء وذلك لا يكون إلا بإخراجه عن ملكه وجعله لله تعالى خالصا وكسب العبد مملوك له وله في كسب المكاتب حق الملك فبقاء حقه يمنع جعله لله تعالى خالصا وهذا بخلاف ما لو تبين أن المدفوع إليه عبد لغني أو مكاتب له فإنه يجزئه وفي حق المكاتب مع العلم أيضا ولا ينظر إلى حال المولى لأن إخراجه من ملكه وبقاء حقه يمنعه أن يصير لله تعالى خالصا فلهذا لا يسقط به الواجب والأصل في فريضة التوجه إلى الكعبة للصلاة قوله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } ( البقرة : 144 ) وكان رسول الله - A - بمكة يصلى إلى بيت المقدس ويجعل البيت بينه وبين بيت المقدس وكان يحب أن تكون الكعبة قبلته كما كانت قبلة إبراهيم - صلوات الله عليه - فسأل جبريل عليه السلام أن يسأل الله له في ذلك وكان يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل عليه السلام بذلك فأنزل الله تعالى { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها } الآية ثم لا خلاف في حق من هو بمكة أن عليه التوجه إلى عين الكعبة فأما من كان خارجا من مكة فقد كان أبو عبدالله الجرجاني يقول : الواجب عليه التوجه إلى عين الكعبة أيضا لظاهر الآية ولأن وجوب ذلك لإظهار تعظيم البقعة فلا يختلف بالقرب منه والبعد وغيره من مشايخنا - رحمهم الله تعالى - يقول الواجب في حق من هو خارج عن مكة التوجه إلى الجهة لأن ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ومعرفة الجهة إما بدليل يدل عليه أو بالتحري عند انقطاع الأدلة فمن الدليل المحاريب المنصوبة في كل موضع لأن ذلك كان باتفاق من الصحابة - Bهم - ومن بعدهم فإن الصحابة - Bه - فتحوا العراق وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب ثم فتحوا خراسان .
وجعلوا قبلة أهلها ما بين المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف فكانوا يصلون إليها ولما ماتوا جعلت قبورهم إليها أيضا من غير نكير منكر من أحد منهم وكفي بإجماعهم حجة وقد كانت عنايتهم في أمر الدين أظهر من عناية من كان بعدهم فيلزمنا اتباعهم في ذلك ومن الدليل السؤال في كل موضع ممن هو من أهل ذلك الموضع لأن أهل كل موضع أعرف بقبلتهم من غيرهم عادة وقال تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ( النحل : 43 ) ومن الدليل النجوم أيضا على ما حكى عن عبدالله بن المبارك - Bه - أنه قال أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى وكان الشيخ أبو منصور الماتريدي - C تعالى - يقول السبيل في معرفة الجهة أن ينظر إلى مغرب الصيف في أطول أيام السنة فيعينه ثم ينظر إلى مغرب الشمس في أقصر أيام الشتاء فيعينه ثم يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره فيكون مستقبلا للجهة إذا واجه ذلك الموضع ولا معنى للإنحراف إلى جانب الشمال بعد هذا لأنه إذا مال بوجهه يكون إلى حد غروب الشمس في أقصر أيام السنة أو يجاوز ذلك فلا يكون مستقبلا للقبلة ولا للحرم أيضا على ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوني - C تعالى - أن الحرم من جانب الشمال ستة أميال ومن الجانب الآخر اثنى عشر ميلا ومن الجانب الآخر ثمانية عشر ميلا ومن الجانب الآخر أربعة وعشرون ميلا وقيل قبلة أهل الشام الركن الشامي وقبلة أهل المدينة موضع الحطيم والميزاب من جدار البيت وقبلة أهل اليمن الركن اليماني وما بين الركن اليماني إلى الحجر قبلة أهل الهند وما يتصل بها وقبلة أهل خراسان والمشرق الباب ومقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإذا انحرف بعد هذا وإن قل انحرافه يصير غير مستقبل للقبلة وعند انقطاع الأدلة فرضه التحري وزعم بعض أصحابنا - رحمهم الله - أن الجهة التي يؤديه إليها تحريه تكون قبلة حقيقة في حقه لأنه أتى بما في وسعه والتكليف بحسب الوسع وهذا غير مرضي ففيه قول بأن كل مجتهد مصيب ولكنه مؤد لما كلف وإنما كلف طلب الجهة على رجاء الإصابة والمقصود ليس عين الجهة إنما المقصود وجه الله تعالى كما قال { فأينما تولوا فثم وجه الله } ( البقرة : 115 ) .
ولا جهة لوجه الله تعالى إلا أنا لو قلنا يتوجه إلى جانب شاء انعدم الابتلاء وإنما يتحقق معنى العبادة إذا كان فيه معنى الابتلاء فإنما نوجب عليه التحري لرجاء الإصابة لتحقيق الابتلاء وإذا فعل ذلك كان مؤديا لما عليه وإن لم يكن مصيبا للجهة حقيقة والدليل على أن الصحيح هذا ما بينا في كتاب الصلاة أن المصلين بالتحري إذا أمهم أحدهم فصلاة من يعلم أنه مخالف للإمام في الجهة فاسدة ولو انتصب ما ظن الإمام إليه قبلة حقيقة يصح اقتداء هذا الرجل به وإن خالفه في الجهة كما إذا صلوا في جوف الكعبة إذا عرفنا هذا نقول من اشتبه عليه القبلة في السفر في ليلة مظلمة واحتاج إلى أداء الصلاة فعليه التحري ثم المسألة على أربع أوجه : فإما أن يصلي إلى جهة من غير شك ولا تحر أو يشك ثم يصلى إلى جهة من غير تحر أو يتحرى فيصلى إلى جهة التحري أو يعرض عن الجهة التي أدى إليها اجتهاده فيصلى إلى جهة أخرى فأما بيان الفصل الأول أنه إذا صلى من غير شك ولا تحر فإن تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شيء بأن ذهب من ذلك الموضع فصلاته جائزة لأن فعل المسلم محمول على الصحة ما أمكن فكل من قام لأداء الصلاة يجعل مستقبلا للقبلة في أدائها باعتبار الظاهر وحمل أمره على الصحة حتى يتبين خلافه وإن تبين أنه أخطأ القبلة فعليه إعادة الصلاة لأن الظاهر يسقط اعتباره إذا تبين الحال بخلافه لأن الحكم بجواز الصلاة هنا لانعدام الدليل المفسد لا للعلم بالدليل المجوز فإذا ظهر الدليل المفسد وجب الإعادة وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه أخطأ فعليه الإعادة لأن أكبر الرأى كاليقين خصوصا فيما يبني على الاحتياط وأما إذا شك ولم يتحر ولكن صلى إلى جهة فإن تبين أنه أخطأ القبلة أو أكبر رأيه أنه أخطأ أو لم يتبين من حاله شيء فعليه الإعادة لأنه لما شك فقد لزمه التحرى لأجل هذه الصلاة وصار التحرى فرضا من فرائض صلاته فإذا ترك هذا الفرض لا تجزيه صلاته بخلاف الأول لأن التحري إنما يفترض عليه إذا شك ولم يشك في الفصل الأول فأما إذا تبين أنه أصاب القبلة جازت صلاته لأن فريضة التحري لمقصود وقد توصل إلى ذلك المقصود بدونه فسقطت فريضة التحري عنه وإن كان أكبر رأيه أنه أصاب فكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن حامد - رحمهم الله تعالى - يفتي بالجواز هنا أيضا .
لأن أكبر الرأى بمنزلة اليقين فيما لا يتوصل إلى معرفته حقيقة والأصح أنه لا يجزيه لأن فرض التحري لزمه يقين فلا يسقط اعتباره إلا بمثله ولأن غالب الرأي يجعل كاليقين احتياطا والاحتياط هنا في الإعادة فأما إذا شك وتحرى وصلى إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده فإن تبين أنه أصاب أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شيء فصلاته جائزة بالاتفاق وكذلك إن تبين أنه أخطأ فصلاته جائزة عندنا وقال الشافعي - C تعالى - إن تبين أنه تيامن أو تياسر فكذلك الجواب وإن تبين أنه استدبر الكعبة فصلاته فاسدة وعليه الإعادة في أحد القولين لأنه تبين الخطأ في اجتهاده فيسقط اعتبار اجتهاده كالقاضي فيما يقضي باجتهاده إذا ظهر النص بخلافه والمتوضئ بماء إذا علم بنجاسته بخلاف ما إذا تيامن أو تياسر لأن هناك لا يتيقن بالخطأ فإن وجه المرء مقوس فإن عند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانب وجهه إلى القبلة وأما عند الاستدبار لا يكون شيء من وجهه إلى الكعبة فيتيقن بالخطأ به .
( وحجتنا ) في ذلك قوله تعالى { ولله المشرق والمغرب } ( البقرة : 115 ) الآية وفي سبب نزولها حديثان : أحدهما ما روي عن عبدالله بن عامر - C تعالى - قال ( كان أصحاب رسول الله - A - في سفر في ليلة طحياء مظلمة فاشتبهت علينا القبلة فتحرى كل واحد منا وخط بين يديه خطا فلما أصبحنا إذا الخطوط على غير القبلة فلما رجعنا إلى رسول الله - A - سألناه عن ذلك فنزلت الآية فقال - A - أجزأتكم صلاتكم ) وفي حديث جابر - Bه - قال ( كنا في سفر في يوم ذي ضباب فاشتبهت علينا القبلة فتحرى وصلى كل واحد منا إلى جهة فلما انكشف الضباب فمنا من أصاب ومنا من أخطأ فسألنا رسول الله - A - عن ذلك فنزلت الآية ولم يأمرنا رسول الله - A - بإعادة الصلاة ) وقال علي - Bه - قبلة المتحري جهة قصده معناه تجوز صلاته إذا توجه إلى جهة قصده والمعنى فيه أنه مؤد لما كلف فيسقط عنه الفرض مطلقا كما لو تيامن أو تياسر وبيان الوصف ما قررناه فيما سبق أن المقصود من طلب الجهة ليست عين الجهة إنما المقصود وجه الله تعالى إلا أنه يؤمر بطلب الجهة لتحقيق معنى الابتلاء وما هو المقصود وهو الابتلاء قد تم بتحريه فيسقط عنه ما لزمه من الفرض ألا تري أن في التيامن والتياسر على وجه لا يجوز مع العلم يحكم بجواز صلاته عند التحري للمعنى الذي قلنا فكذلك في الاستدبار وإيضاح ما قلنا فيما نقل عن بعض العارفين قال : قبلة البشر الكعبة وقبلة أهل السماء البيت المعمور وقبلة الكرويين الكرسي وقبلة حلمة العرش العرش ومطلوب الكل وجه الله تعالى وهذا بخلاف ما إذا ظهرت النجاسة في الثوب أو في الماء لما قلنا أن ذلك مما يمكن الوقوف على حقيقته ولأن التوضؤ بالماء النجس ليس بقربة فلا يمكن أداء الواجب به بحال فأما الصلاة إلى غير القبلة قربة ألا ترى أن الراكب يتطوع على دابته حيث ما توجهت به اختيارا .
ويؤدي الفرض كذلك عند العذر أيضا وبنحو هذا فرق في الزكاة أيضا أن التصدق على الأب وعلى الغني قربة ولهذا لا يثبت له حق الاسترداد كما قررنا فأما إذا أعرض عن الجهة التي أدى إليها اجتهاده وصلى إلى جهة أخرى ثم تبين أنه أصاب القبلة فعليه إعادة الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقد روي عن أبي حنيفة - C تعالى - قال أخشي عليه الكفر لإعراضه عن القبلة عنده وروى عنه أيضا أنه قال أما يكفيه أن لا يحكم بكفره وقال أبو يوسف - C تعالى - تجوز صلاته لأن لزوم التحري كان لمقصود وقد أصاب ذلك المقصود بغيره فكان هذا وما لو أصابه بالتحرى سواء وهذا على أصله مستقيم لأنه يسقط اعتبار التحري إذا تبين الأمر بخلافه كما قال في الزكاة وإذا سقط اعتبار التحرى فكأنه صلى إلى هذه الجهة من غير تحر وقد تبين أنه أصاب فتجوز صلاته وجه قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه اعتقد فساد صلاته لأن عنده أنه صلى إلى غير القبلة فلا يجوز الحكم بجواز صلاته مع اعتقاده الفساد فيه كما لو اقتدى بالإمام وهو يصلي إلى غير جهته لم تجز صلاته إذا علم لاعتقاده أن إمامه على الخطأ يوضحه أن الجهة التي أدي إليها اجتهاده صارت بمنزلة القبلة في حقه عملا حتى لو صلى إليها جازت صلاته وإن تبين الأمر بخلافه فصار هو في الإعراض عنها بمنزلة ما لو كان معاينا الكعبة فأعرض عنها وصلى إلى جهة أخرى فتكون صلاته فاسدة ولهذا لا يحكم بكفره لأن تلك الجهة ما انتصبت قبلة حقيقة في حق العلم وإن انتصبت قبلة في حق العمل فإن كان تبين الحال له في خلال الصلاة فنقول أما في هذا الفصل فعليه استقبال الصلاة لأنه لو تبين له بعد الفراغ لزمه الإعادة فإذا تبين في خلال الصلاة أولى ولم يرو عن أبي يوسف - Bه - خلاف هذا وينبغي أن يكون هذا مذهبه أيضا لأنه قد يقول قوي حاله بالتيقن بالإصابة في خلال الصلاة ولا ينبني القوى على الضعيف كالمومى إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة فأما إذا كان مصليا إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده فتبين أنه أخطأ فعليه أن يتحول إلى جهة الكعبة ويبنى على صلاته لأنه لو تبين له بعد الفراغ لم يلزمه الإعادة فكذلك إذا تبين له في خلال الصلاة .
وهذا لأن افتتاحه إلى جهة تلك الجهة قبلة في حقه عملا فيكون حاله كحال أهل قباحين كانوا يصلون إلى بيت المقدس فأتاهم آت وأخبرهم أن القبلة حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم وهم ركوع ثم جوز رسول الله - A - صلاتهم وعلى هذا قالوا لو صلى بعض الصلاة إلى جهة بالتحرى ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى يستقبل تلك الجهة ويتم صلاته لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ولكن في المستقبل يبنى على ما أدى إليه اجتهاده حتى روى عن محمد أنه قال : لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات بهذه الصفة يجوز واختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الأولى فمنهم من يقول يستقبل تلك الجهة أيضا فتتم صلاته جريا على طريقة القياس ومنهم من يستقبح هذا ويقول إذا آل الأمر إلى هذا فعليه استقبال الصلاة لأنه كان أعرض عن هذه الجهة في هذه الصلاة فليس له أن يستقبلها في هذه الصلاة أيضا فأما إذا افتتح الصلاة مع الشك من غير تحر ثم تبين له في خلال الصلاة أنه أصاب القبلة أو أكبر رأيه أنه أصاب فعليه الاستقبال لأن افتتاحه كان ضعيفا حتى لا يحكم بجواز صلاته ما لم يعلم بالإصابة فإذا علم في خلال الصلاة فقد تقوى حاله وبناء القوى على الضعيف لا يجوز فيلزمه الاستقبال بخلاف ما إذا علم بعد الفراغ فإنه لا يحتاج إلى البناء ونظيره في المومى والمتيمم وصاحب الجرح السائل يزول ما بهم من العذر وإذا كان بعد الفراغ لا يلزمهم الإعادة وإن كان في خلال الصلاة يلزمهم الاستقبال فأما إذا كان افتتحها من غير شك وتحر فإن تبين في خلال الصلاة أنه أخطأ فعليه الاستقبال وإن تبين أنه أصاب فهذا الفصل غير مذكور في الكتاب وكان الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل - رحمهم الله تعالى - يقول يلزمه الاستقبال أيضا لأن افتتاحه كان ضعيفا ألا ترى أنه إذا تبين الخطأ تلزمه الإعادة فإذا تبين الصواب في خلال الصلاة فقد تقوى حاله فيلزمه الاستقبال وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد - C تعالى - يقول لا يلزمه الاستقبال وهو الأصح لأن صلاته هنا في الابتداء كانت صحيحة لانعدام الدليل المفسد فبالتبين لا تزداد القوة حكما فلا يلزمه الانتقال بخلاف ما بعد الشك لأن هناك صلاته ليست بصحيحة إلا بالتيقن بالإصابة .
فإذا تبين أنه أصاب فقد تقوى حاله حكما فلهذا لزم مع الاستقبال رجل دخل مسجدا لا محراب فيه وقبلته مشكلة وفيه قوم من أهله فتحرى القبلة وصلى ثم علم أنه أخطأ القبلة فعليه أن يعيد الصلاة لأن التحرى حصل في غير أوانه فإن أوان التحرى ما بعد انقطاع الأدلة وقد بقي هنا دليل له وهو السؤال فكان وجود التحري كعدمه فيصير كأنه صلى بعد الشك من غير التحري فلا تجزيه صلاته إلا إذا تبين أنه أصاب فكذا هذا عليه الإعادة لما تبين أنه أخطأ فإن تبين أنه أصاب فصلاته جائزة واستشهد لهذا بمن أتي ماء من المياه أو حيا من الأحياء وطلب الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم وجده فإن كان في الحي قوم من أهله ولم يسألهم حتى تيمم وصلى ثم سألهم فأخبروه لم تجز صلاته وإن سألهم فلم يخبروه أو لم يكن بحضرته من يسأله أجزأته صلاته وكذلك لو افتتح الصلاة بالتيمم ثم رأى إنسانا فظن أن عنده خبر الماء يتم صلاته ثم يسأله فإن أخبره أن الماء قريب منه يعيد الصلاة فإن لم يعلم من خبر الماء شيئا فليس عليه إعادة الصلاة وقد بينا في كتاب الصلاة هذه الفصول والفرق بينهما وبين ما إذا سأله في الابتداء فلم يخبره حتى صلى بالتيمم ثم أخبره فليس عليه إعادة الصلاة فأمر القبلة كذلك ولم يذكر في الكتاب أن هذا الاشتباه لو كان له بمكة ولم يكن بحضرته من يسأله فصلى بالتحري ثم تبين أنه أخطأ هل يلزمه الإعادة فقد ذكر ابن رستم عن محمد - رحمهما الله تعالى - أنه لا إعادة عليه وهذا هو الأقيس لأنه لما كان محبوسا في بيت وقد انقطعت عنه الأدلة ففرضه التحري ويحكم بجواز صلاته بالتحرى فلا تلزمه الإعادة كما لو كان خارج مكة وكان أبو بكر الرازي C تعالى يقول هنا تلزمه الإعادة لأنه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة .
( قال ) ( وكذلك إذا كان بالمدينة ) لأن القبلة بالمدينة مقطوع بها فإنه إنما نصبها رسول الله - A - بالوحي بخلاف سائر البقاع ولأن الاشتباه بمكة يندر والحكم لا ينبني على النادر فلا يندر تحريه للحكم بالجواز هنا بخلاف سائر البقاع فإن الاشتباه يكثر فيها والأصل في المسائل بعد هذا أن الحكم للغالب لأن المغلوب يصير مستهلكا في مقابلة الغالب والمستهلك في حكم المعدوم ألا ترى أن الاسم للغالب فإن الحنطة لا تخلو من حبات الشعير ثم يطلق على الكل اسم الحنطة وعلى هذا قالوا في قرية عامة أهلها المجوس : لا يحل لأحد أن يشتري لحما ما لم يعلم أنه ذبيحة مسلم وفي القرية التي عامة أهلها مسلمون يحل ذلك بناء للحكم على الغالب ويباح لكل أحد الرمي في دار الحرب إلى كل من يراه من بعد ما لم يعلم أنه مسلم أو ذمي ولا يحل له ذلك في دار الإسلام ما لم يعلم أنه حربي ولو أن أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذمة لم يجز استرقاق واحد منهم إلا من يعلم بعينه أنه حربي لأن الغالب في هذه المواضع أهل الذمة ولو دخل قوم من أهل الذمة قرية من قري أهل الحرب جاز للمسلمين استرقاق أهل تلك القرية إلا من يعلم أنه ذمي ثم المسائل نوعان : مختلط منفصل الأجزاء ومختلط متصل الأجزاء فمن المختلط الذي هو منفصل الأجزاء مسألة المساليخ وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام : إما أن تكون الغلبة للحلال أو للحرام أو كانا متساويين وفيه حالتان حالة الضرورة بأن كان لا يجد غيرها وحالة الاختيار ففي حالة الضرورة يجوز له التحري في الفصول كلها لأن تناول الميتة عند الضرورة جائز له شرعا فلأن يجوز له التحري عند الضرورة وإصابة الحلال بتحريه مأمول كأن أولى وأما في حالة الاختيار فإن كانت الغلبة للحلال بأن كانت المساليخ ثلاثة : أحدها ميتة جاز له التحري أيضا لأن الحلال هو الغالب والحكم للغالب فبهذا الطريق جاز له التناول منها إلا ما يعلم أنه ميتة فالسبيل أن يوقع تحريه على أحدها أنها ميتة فيتجنبها ويتناول ما سوى ذلك لا بالتحرى بل بغلبة الحلال وكون الحكم له وإن كان الحرام غالبا فليس له أن يتحرى عندنا وله ذلك عند الشافعي لأنه يتيقن بوجود الحلال فيها ويرجو إصابته بالتحرى فله أن يتحرى كما في الفصل الأول وهذا لأن الحرمة في الميتة محض حق الشرع والعمل بغالب الرأى جائز في مثله كما في استقبال القبلة فإن جهات الخطأ هناك تغلب على جهات الصواب ولم يمنعه ذلك من العمل بالتحرى فهذا مثله .
( وحجتنا ) في ذلك أن الحكم للغالب وإذا كان الغالب هو الحرام كان الكل حراما في وجوب الاجتناب عنها في حالة الاختيار وهذا لأنه لو تناول شيئا منها إنما يتناول بغالب الرأى وجواز العمل بغالب الرأى للضرورة ولا ضرورة في حالة الاختيار بخلاف ما إذا كان الغالب الحلال فإن حل التناول هناك ليس بغالب الرأى كما قررنا وهذا بخلاف أمر القبلة لأن الضرورة هناك قد تقررت عند انقطاع الأدلة عند فوزانه أن لو تحققت الضرورة هنا بأن لم يجد غيرها جهة الكعبة قربة جائزة في حالة الاختيار وهو التطوع على الدابة وتناول الميتة لا يجوز مع الاختيار بحال ولهذا لا يجوز له العمل بغالب الرأى هنا في حالة الاختيار وكذلك إن كانا متساويين لأن عند المساواة يغلب الحرام شرعا قال - A - ( ما اجتمع الحرام والحلال في شيء إلا غلب الحرام الحلال ) ولأن التحرز عن تناول الحرام فرض وهو مخير في تناول الحلال إن شاء أصاب من هذا وإن شاء أصاب من هذا وإن شاء أصاب من غيره ولا يتحقق المعارضة بين الفرض والمباح فيترجح جانب الفرض وهو الاجتناب عن الحرام ما لم يعلم الحلال بعينه أو بعلامة يستدل بها عليه ومن العلامة أن الميتة إذا ألقيت في الماء تطفوا لما بقى من الدم فيها والذكية ترسب وقد يعرف الناس ذلك بكثرة النشيش وبسرعة الفساد إليها ولكن هذا كله ينعدم إذا كان الحرام ذبيحة المجوسي أو ذبيحة مسلم ترك التسمية عمدا ومن المختلط الذي هو متصل الاجزاء مسألة الدهن إذا اختلط به ودك الميتة أو شحم الخنزير وهي تنقسم ثلاثة أقسام فإن كان الغالب ودك الميتة لم يجز الانتفاع بشيء منه لا بأكل ولا بغيره من وجوه الإنتفاع لأن الحكم للغالب وباعتبار الغالب هذا محرم العين غير منتفع به فكان الكل ودك الميتة واستدل عليه بحديث جابر - Bه - قال جاء نفر إلى رسول الله - A - وقالوا إن لنا سفينة في البحر وقد احتاجت إلى الدهن فوجدنا ناقة كثيرة الشحم ميتة افندهنها بشحمها فقال A ( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) وكذلك إن كانا متساويين لأن عند المساواة يغلب الحرام فكان هذا كالأول فأما إذا كان الغالب هو الزيت فليس له أن يتناول شيئا منه في حالة الاختيار لأن ودك الميتة وإن كان مغلوبا مستهلكا حكما فهو موجود في هذا المحل حقيقة وقد تعذر تمييز الحلال من الحرام ولا يمكنه أن يتناول جزءا من الحلال إلا بتناول جزء من الحرام وهو ممنوع شرعا من تناول الحرام ويجوز له أن ينتفع بها من حيث الاستصباح ودبغ الجلود بها .
فإن الغالب هو الحلال فالانتفاع إنما يلاقي الحلال مقصودا وقد روينا في كتاب الصلاة عن رسول الله - A - وعن علي - رضي الله تعالى عنه - جواز الانتفاع بالدهن النجس لأنه قال : ( وإن كان مائعا فانتفعوا به دون الأكل ) وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا ولا يجوز عند الشافعي - C تعالى لأنه نجس العين كالخمر ولكنا نقول النجاسة للجار لا لعين الزيت فهو كالثوب النجس يجوز بيعه وإن كان لا تجوز الصلاة فيه وهذا لأن إلى العباد أحداث المجاورة بين الأشياء لا تقليب الأعيان وإن كان التنجس يحصل بفعل العباد عرفنا أن عين الطاهر لا يصير نجسا وقد قررنا هذا الفصل في كتاب الصلاة فإن باعه ولم يبين عيبه فالمشتري بالخيار إذا علم به لتمكن الخلل في مقصوده حين ظهر أنه محرم الأكل وإن دبغ به الجلد فعليه أن يغسله ليزول بالغسل ما على الجلد من أثر النجاسة وما يشرب فيه فهو عفو ومن المختلط الذي هو منفصل الأجزاء مسألة الموتى إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وهي تنقسم ثلاثة أقسام أيضا : فإن كانت الغلبة لموتى المسلمين فإنه يصلي عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين لأن الحكم للغالب والغالب موتى المسلمين إلا أنه ينبغي لمن يصلي عليهم أن ينوى بصلاته المسلمين خاصة لأنه لو قدر على التمييز فعلا كان عليه أن يخص المسلمين بالصلاة عليهم فإذا عجز عن ذلك كان له أن يخص المسلمين بالنية لأن ذلك في وسعه والتكليف بحسب الوسع ونظيره ما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم وإن كان الغالب موتى الكفار لا يصلي على أحد منهم إلا من يعلم أنه مسلم بالعلامة لأن الحكم للغالب والغلبة للكفار هنا وإن كانا متساويين فكذلك الجواب لأن الصلاة على الكافر لا تجوز بحال الله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } ( التوبة : 84 ) ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين كأهل البغي وقطاع الطريق فعند المساواة يغلب ما هو الأوجب وهو الامتناع عن الصلاة على الكفار ولا يجوز المصير إلى التحرى هنا عندنا لما بينا أن العمل بغالب الرأى في موضع الضرورة ولا تتحقق الضرورة هنا وذكر في ظاهر الرواية أنهم يدفنون في مقابر المشركين لأن في حكم ترك الصلاة عليه جعل كانهم كفار كلهم فكذلك في حكم الدفن .
هذا قول محمد - C تعالى - فأما على قول أبي يوسف - C - ينبغي أن يدفنوا في مقابر المسلمين مراعاة لحرمة المسلم منهم فإن الإسلام يعلو ولا يعلى ودفن المسلم في مقابر المشركين لا يجوز بحال وقيل بل يتخذ لهم مقبرة على حدة لا من مقابر المسلمين ولا من مقابر المشركين فيدفنون فيها وأصل هذا الخلاف بين الصحابة - Bهم - في نظير هذه المسألة وهو أن النصرانية إذا كانت تحت مسلم فماتت وهي حبلى فإنه لا يصلي عليها لكفرها ثمن تدفن في مقابر المشركين عند علي وابن مسعود - Bهما - ومنهم من يقول تدفن في مقابر المسلمين لأن الولد الذي في بطنها مسلم ومنهم من يقول يتخذ لها مقبرة على حدة فهذا مثله وهذا كله إذا تعذر تمييز المسلم بالعلامة فإن أمكن ذلك وجب التمييز ومن العلامة للمسلمين الختان والخضاب ولبس السواد فأما الختان فلأنه من الفطرة كما قال - A - ( عشر من الفطرة وذكر من جملتها الختان ) إلا أن من أهل الكتاب من يختتن فإنما يمكن التمييز بهذه العلامة إذا اختلط المسلمون بقوم من المشركين يعلم أنهم لا يختتنون وأما الخضاب فهو من علامات المسلمين قال A ( غير والشيب ولا تتشبهوا باليهود ) وكان أبو بكر الصديق - Bه - يختضب بالحناء والكتم حتى قال الراوي رأيت ابن أبي قحافة - Bه على منبر رسول الله - A - ولحيته كأنها ضرام عرفج واختلفت الرواية في أن النبي - A - هل فعل ذلك في عمره والأصح أنه لم يفعل ولا خلاف أنه لا بأس للغازي أن يختضب في دار الحرب ليكون أهيب في عين قرنه وأما من اختضب لأجل التزين للنساء والجواري فقد منع من ذلك بعض العلماء - رحمهم الله تعالى