( قال ) ( وإذا رأى الرجل رجلا يقتل أباه متعمدا فأنكر القاتل أن يكون قتله أو قال لابنه فيما بينه وبينه أني قتلته ) لأنه قتل ولي فلانا عمدا أو لأنه ارتد عن الإسلام ولا يعلم الابن مما قال القاتل شيئا ولا وارث للمقتول غيره فالابن في سعة من قتل القاتل لأنه تيقن بالسبب الموجب لحل دمه للقاتل فكان له أن يقتص منه معتمدا على قوله تعالى { فقد جعلنا لوليه سلطانا } ( الإسراء : 33 ) وعلى قوله - A - ( العمد قود ) وحاصل المسألة على أربعة أوجه : أحدها : إذا عاين قتله والثاني : إذا أقر عنده أنه قتله فهذا ومعاينة القتل سواء لأن الإقرار موجب بنفسه حتى لا يملك المقر الرجوع عن إقراره فهذا ومعاينة السبب سواء والثالث : أن يقيم البينة بأنه قتل أباه فيقضى له القاضي بالقود فهو في سعة من قتله لأن قضاء القاضي ملزم فيثبت به السبب المطلق لاستيفاء القود له والرابع : أن يشهد عنده شاهدا عدل أن هذا الرجل قتل أباه فليس له أن يقتله بشهادة لأن الشهادة لا توجب الحق ما لم ينضم إليه القضاء والذي بينا في الإبن كذلك في غيره إذا عاين القتل أو سمع إقرار القاتل به أو عاين قضاء القاضي به كان في سعة من أن يعين الإبن على قتله لأنه يعينه على استيفاء حقه وذلك من باب البر والتقوى ولو شهد عنده بذلك شاهدان لم يسعه أن يعينه على قتله بشهادتهما حتي يقضي القاضي له بذلك وإن أقام القاتل عند الابن شاهدين عدلين أن أباه كان قتل أبا هذا الرجل عمدا فقتله به لم ينبغ للابن أن يعجل بقتله حتى ينظر فيما شهدا به لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي حكم ببطلان حقه فكذلك إذا شهدا عنده وكذلك لا ينبغي لغيره أن يعينه على ذلك إذا شهد عنده عدلان لما قلنا أو بأنه كان مرتدا حتى يتثبت فيه وهذا لأن القتل إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فيتثبت فيه حتى يكون إقدامه عليه عن بصيرة وإن شهد بذلك عنده محدودان في قذف أو عبدان أو نسوة عدول لا رجل معهن أو فاسقان فهو في سعة من قتله لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي لم يمنعه من قتله بل يعينه على ذلك فكذلك إذا شهدوا عنده وإن تثبت فيه فهو خير له .
لأنه أقرب إلى الاحتياط فإن القتل لا يمكن تداركه إذا وقع فيه الغلط وفرق بين القصاص وحد القدف فقال القاذف إذا أقام أربعة من الفساق يشهدون على صدق مقالته لا يقام عليه حد القذف والقاتل إذا أقام فاسقين على العفو أو على أن قتله كان بحق لا يسقط القود عنه والفرق أن هناك السبب الموجب للحد لم يتقرر فإن نفس القذف ليس بموجب للحد لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب وإنما يصير موجبا بعجزه عن إقامة أربعة من الشهداء ولم يظهر ذلك العجز لأن للفساق شهادة وإن لم تكن مقبولة والموجب للقود هو القتل وقد تقرر ذلك فالعفو بعده مسقط وهذا المسقط لا يظهر إلا بقبول شهادته وليس للفاسق شهادة مقبولة وبيان هذا أن الله تعالى قال { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ( النور : 4 ) والمعطوف على الشرط شرط وفي باب القتل أوجب القود بنفس القتل فقال تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } ( البقرة : 178 ) ثم قال فمن تصدق به فهو كفارة له فعرفنا أن العفو مسقط بعد الوجوب لا أن يكون عدم العفو مقررا سبب الوجوب وإن شهد بذلك عنده شاهد عدل ممن يجوز شهادته فقال القاتل عندي شاهد آخر مثله ففي القياس له أن يقتله لأن المانع لا يظهر بشهادة الواحد وفي الاستحسان لا يعجل بقتله حتى ينظر أيأتيه بآخر أم لأنه لو أقام شاهد عدل عند القاضي وادعى أن له شاهدا آخر حاضرا أمهله إلي آخر مجلسه فكذلك الولى يمهله حتى يأتي بشاهد آخر وإن قتله كان في سعة لأن السبب المثبت لحقه كقرر والمانع لم يظهر وعلى هذا مال في يدي رجل شهد عدلان عند رجل أن هذا المال كان لأبيك غصبه هذا الرجل منه ولا وارث للأب غيره فله أن يدعى بشهادتهم وليس له أن يأخذ ذلك المال ما لم تقم البينة عند القاضي ويقضي له بذلك لأن الشهادة لا تكون ملزمة بدون القضاء وفي الأخذ قصر يد الغير وليس في الدعوى إلزام أحد شيئا فيتمكن من الدعوى بشهادتهما .
ولا يتمكن من الأخذ حتى يقضي له القاضي بذلك لأن ذا اليد مزاحم له بيده ولا تزول مزاحمته إلا بقضاء القاضي وكذلك لا يسع غير الوارث أن يعين الوارث على أخذه من أبيه وسعه أخذه منه وكذلك إن أقر الآخذ عنده بالأخذ لأن إقراره ملزم فهو كمعاينة السبب أو قضاء القاضي له به ويسعه أن يقاتله عليه وكذلك يسع من عاين ذلك إعانته عليه وإن أتى ذلك على نفسه إذا امتنع وهو في موضع لا يقدر فيه على سلطان يأخذ له بحقه لأنه يعلم أنه ملكه وكما أن له أن يقاتل دفعا عن ملكه إذا قصد الظالم أخذه منه فكذلك له أن يقاتل في استرداده والأصل فيه قوله - A - ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) وإذا شهد عدلان عند امرأة أن زوجها طلقها ثلاثا وهو يجحد ذلك ثم ماتا أو غابا قبل أن يشهدا عند القاضي بذلك لم يسع امرأته أن تقيم عنده وكان ذلك بمنزلة سماعها لو سمعته يطلقها ثلاثا لأنهما لو شهدا بهذا عند القاضي حكم بحرمتها عليه فكذلك إذا شهدا بذلك عندها وهذا بخلاف ما تقدم لأن القتل وأخذ المال قد يكون بحق وقد يكون بغير حق فأما التطليقات الثلاث لا تكون إلا موجبة للحرمة .
فإن قال قائل فقد يطلق الرجل غير امرأته ولا يكون ذلك طلاقا .
( قلنا ) هذا على أحد وجهين : إما أن تكون امرأته فيكون الطلاق واقعا عليها أو تكون غير امرأته فليس لها أن تمكنه من نفسها وحاصل الفرق أن هناك الشبهة من وجهين : ( أحدهما ) احتمال الكذب في شهادتهما والآخر كون القتل بحق فيصير ذلك مانعا من الإقدام على ما لا يمكنه تداركه وهنا الشبهة من وجه واحد : وهو احتمال الكذب في شهادتهما فأما إذا كانا صادقين فلا مدفع للطلاق وبظهور عدالتهما عندها ينعدم هذا الاحتمال حكما كما ينعدم عند القاضي .
( فإن قيل ) كما أن في شهادة شاهدين احتمال الكذب ففي إقرار المقر ذلك وقد قلتم يسعه أن يقتله إذا سمع إقراره .
( قلنا ) هذا الاحتمال يدفعه عقل المقر فالإنسان لا يقر على نفسه بالسبب الموجب لسفك دمه كاذبا إذا كان عاقلا وإن لم يكن عاقلا فلا معتبر بإقراره وكذلك لو شهدا على رضاع بينهما لم يسعها المقام على ذلك النكاح لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي فرق بينهما فكذلك إذا شهدا عندها فإن مات الشاهدان وجحد الزوج وحلف ينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه ولا تمكنه من نفسها بوجه من الوجوه لأنه تمكين من الزنا وكان إسماعيل الزاهد - C تعالى - يقول تسقيه ما تنكسر به شهوته فإن لم تقدر على ذلك قتلته إذا قصدها لأنه لو قصد أخذ مالها كان لها أن تقتله دفعا عن مالها فإذا قصد الزنا بها أولى أن يكون لها أن تقتله دفعا عن نفسها ولو هربت منه لم يسعها أن تعتد وتتزوج لأنها في الحكم زوجة الأول فلو تزوجت غيره كانت ممكنة من الحرام فعليها أن تكف عن ذلك قالوا وهذا في القضاء فأما فيما بينها وبين الله تعالى فلها أن تتزوج بعد انقضاء عدتها ولا يشتبه ما وصفت لك قضاء القاضي فيما يختلف فيه الفقهاء مما يرى الزوج فيه خلاف ما يرى القاضي وبيان هذا الفصل : أنه لو قال لامرأته اختارى فاختارت نفسها وهو يري أن ذلك تطليقة بائنة والمرأة لا ترى ذلك فاختصما في النفقة والقاضي يراه تطليقة رجعية فقضى القاضي بأنه يملك رجعتها جاز قضاؤه ووسع الرجل أن يراجعها فيمسكها وكذلك إن كانت المرأة هي التي تراه تطليقة بائنة فراجعها الزوج وحكم القاضي له بذلك وسعها المقام بذلك معه ولم يسعها أن تفارقه لأن قضاء القاضي هنا اعتمد دليلا شرعيا وفي الأول قضى بالنكاح لعدم ظهور الدليل الموجب للحرمة فكان إبقاء لما كان لا قضاء بالحل بينهما حقيقة ثم حاصل الكلام في المجتهدات أن المبتلى بالحادثة إذا كان غائبا لا رأي له فعليه أن يتبع قضاء القاضي سواء قضي القاضي له بالحل أو بالحرمة وإن كان عالما مجتهدا فقضى القاضي بخلاف اجتهاده فإن كان هو يعتقد الحل وقضى القاضي عليه بالحرمة فعليه أن يأخذ بقضاء القاضي ويدع رأي نفسه لأن القضاء ملزم للكافة ورأيه لا يعدوه .
وإن قضى له بالحل وهو يعتقد الحرمة ففي قول أبي يوسف - C تعالى - عليه أن يتبع رأى نفسه وفي قول محمد - C تعالى - يأخذ بقضاء القاضي لأن الاجتهاد لا يعارض القضاء ألا ترى أن للقاضي ولاية نقض اجتهاد المجتهد والقضاء عليه بخلافه وليس له ولاية نقض القضاء في المجتهدات والقضاء بخلاف الأول والضعيف لا يظهر مع القوى وأبو يوسف يقول اجتهاده ملزم في حقه وقضاء القاضي يكون عن اجتهاد فمن حيث ولاية القضاء ما يقضي به القاضي أقوى ومن حيث حقيقة الاجتهاد يترجح ما عنده في حقه على ما عند غيره فتتحقق المعارضة بينهما فيغلب الموجب للحرمة عملا بقول A ( ما اجتمع الحرام والحلال في شيء إلا غلب الحرام الحلال ) يوضحه أن عنده أن قضاء القاضي ليس بصواب ولو كان ما عنده غير القاضي لم يقض بالحل فكذلك إذا كان ذلك عنده لا يعتقد فيه الحل فإن الله تعالى قال { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام } الآية ففي هذا بيان أن قضاء القاضي لا يحل للمرء ما يعتقد فيه الحرمة وعلى هذا الأموال فإن القاضي لو قضى بالميراث للجد دون الأخ والأخ فقيه يعتقد فيه قول زيد - Bه - فعليه أن يتبع رأى القاضي - وإن قضى القاضي بالمقاسمة على قول زيد - C تعالى - والأخ يعتقد مذهب الصديق - Bه - فعلى قول أبي يوسف - C تعالى - ليس له أن يأخذ المال وعلى قول محمد - C تعالى - له أن يأخذ المال وعلى هذا الطلاق المضاف إذا كان الزوج يعتقد وقوع الطلاق فقضى القاضي بخلافه فهو على الخلاف وإن كان الزوج غائبا أو كان يعتقد أن الطلاق غير واقع فعليه أن يتبع رأى القاضي أو قضي بخلاف اعتقاده وعلى هذا لو استفتى العامي أقوى الفقهاء عنده فأفتى له بشيء فذلك بمنزلة اجتهاده لأنه وسع مثله ثم فيما يقضي القاضي بعد ذلك بخلافه حكمه كحكم المجتهد في جميع ما بينا وكذلك لو حكمنا فقيها فحكمه كفتواه لأن سببه تراضيهما لا ولاية ثابتة له حكما .
فكان تراضيهما على تحكيمه كسؤالهما إياه والفتوي لا تعارض قضاء القاضي فإذا قضي القاضي عليه بخلاف ذلك كان عليه أن يتبع رأى القاضي ألا ترى أن للقاضي أن يقضي بخلاف حكم الحكم في المجتهدات وليس له أن يقضي بخلاف ما قضي به غيره في المجتهدات ولو قضي به لم ينفذ قضاؤه فهذا معنى قولنا حكم الحكم في حقهما كفتواه وعلى هذا لو شهد عدلان عند جارية أن مولاها أعتقها أو أقر أنه أعتقها لم يسعها أن تدعه يجامعها إن قضي القاضي به أو لم يقض لأن حجة حرمتها عليه تمت عندها فهو والطلاق سواء ولا يسعها أن تتزوج إذا كان المولى يجحد العتق وكذلك إذا شهدا بعتق العبد والمولى يجحد لم يسع العبد أن يتزوج بشهادتهما حتى يقضي له القاضي بالعتق لأنهما مملوكان له في الحكم فلو تزوجا بغير إذنه كانا مرتكبين للحرام عند القاضي وعند الناس والتحرز عن ارتكاب الحرام فرض والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب