( قال ) قال أبو حنيفة - C تعالى - ( المقطوع في الحرب وصاحب الديون في الغنيمة سواء ) لأن النبي - A - لما سئل عن الغنيمة قال ( لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم فقال السائل فهل أحدا أحق بشيء من غيره قال لا حتى لو رميت بسهم في جنبك فاستخرجته لم تكن أحق به من صاحبك ) ولأن السبب هو القهر على وجه يكون فيه إعزاز الدين والمتطوع في ذلك كصاحب الديون ومن دخل دار الحرب للتجارة وهو في عسكر المسلمين فلا حق له في الغنيمة إلا أن يلقى المسلمون العدو فيقاتل معهم فيشاركهم حينئذ لأن التاجر ما كان قصده عند الانفصال إلى دار الحرب القتال لاعزاز الدين وإنما كان قصده التجارة فلا يكون هو من الغزاة وإن كان فيهم إلا أن يقاتل فحينئذ يتبين بفعله أن مقصوده القتال ومعنى التجارة تبع فلا يحرمه ذلك سهمه وقيل نزل قوله D { ليس عليكم جناح أن يبتغوا فضلا من ربكم } يعني التجارة في طريق الحج فكذلك في طريق الغزو وقال أبو يوسف - C تعالى - سألت أبا حنيفة - C تعالى - عن قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير الذي لا يطيق القتال والذين بهم زمانة لا يطيقون القتال فنهى عن ذلك وكرهه والأصل فيه قول رسول الله - A - حين رأى امرأة مقتولة ( ها ما كانت هذه تقاتل ) فهذا تنصيص على أنها لا تقتل والشيخ الكبير ومن به زمانة بهذه الصفة قالوا : وهذا إذا كان لا يقاتل برأيه وأما إذا كان يقاتل برأيه ففي قتله كسر شوكتهم فلا بأس بذلك فإن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وكان ابن مائة وستين وقد عمى وكان ذا رأي في الحرب .
( قال ) ( وسألته عن أصحاب الصوامع والرهبان فرأى قتلهم حسنا ) وفي السير الكبير مروي عن أبي حنيفة - C تعالى - أنهم لا يقتلون وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهم الله تعالى - وقيل لا خلاف في الحقيقة فإنهم إن كانوا يخالطون الناس يقتلون عندهم جميعا لأن المقاتلة يصدرون عن رأيهم وهم الذين يحثونهم على قتال المسلمين وإن كانوا طينوا على أنفسهم الباب ولا يخالطون الناس أصلا فإنهم لا يقتلون لأنهم لا يقاتلون بالفعل ولا بالحث عليه وقيل بل في المسألة خلاف فهما استدلا بوصية أبي بكر - Bه - ليزيد بن أبي سفيان حيث قال ( وستلقى أقواما من أصحاب الصوامع والرهبان زعموا أنهم فرغوا أنفسهم للعبادة فدعهم وما فرغوا أنفسهم له ) والمعنى فيه أنهم لا يقاتلون والقتل لدفع القتال فكانوا هم في ذلك كالنساء والصبيان وأبو حنيفة - C تعالى - يقول هؤلاء من أئمة الكفر قال تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر } ( التوبة : 12 ) فمعنى هذا الكلام أنهم فرغوا أنفسهم للإصرار على الكفر والاشتغال بما يمنع عنه في الإسلام والظاهر أن الناس يقتدون بهم فهم يحثون الناس على القتال فعلا وإن كانوا لا يحثونهم على ذلك قولا ولأنهم بما صنعوا لا تخرج بنيتهم من أن تكون صالحة للمحاربة وإن كانوا لا يشتغلون بالمحاربة كالمشغولين بالتجارة والحراثة منهم بخلاف النساء والصبيان .
( قال ) ( وسألته عن الرجل يأسر الرجل من أهل العدو هل يقتله أو يأتي به الإمام قال أي ذلك فعل فحسن ) لأن بالأسر ما تسقط الإباحة من دمه حتى يباح للإمام أن يقتله فكذلك يباح لمن أسره كما قبل أخذه ولما قتل أمية بن خلف بعدما أسر يوم بدر لم ينكر ذلك رسول الله - A - على من قتله وإن أتى به الإمام فهو أقرب إلى تعظيم حرمة الإمام والأول أقرب إلى إظهار الشدة على المشركين وكسر شوكتهم فينبغي أن يختار من ذلك ما يعلمه أنفع وأفضل للمسلمين .
( قال ) ( وسألته عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون جيفته من أهل الحرب قال لا بأس في ذلك بدار الحرب في غير عسكر المسلمين وقال أبو يوسف - C تعالى - أكره ذلك وأنهي عنه ) وأصل الخلاف في عقود الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب وقد بيناه وأشار إلى المعنى ههنا فقال أموال أهل الحرب تحل للمسلمين بالغصب فبطيب أنفسهم أولى معناه أن في غير عسكر المسلمين لا أمان لهم في المال الذي جاؤا به فإن للمسلمين أن يأخذوه بأي طريق يتمكنون من ذلك ولا يكون هذا أخذا بسبب بيع الميتة والدم بل بطريق الغنيمة ولهذا يخمس ويقسم ما بقي بينهم على طريق الغنيمة وسألته عن المسلمين يستعينون بأهل الشرك على أهل الحرب قال لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الظاهر الغالب لأن قتالهم بهذه الصفة لإعزاز الدين والاستعانة عليهم بأهل الشرك كالاستعانة بالكلاب ولكن يرضخ لأولئك ولا يسهم لأن السهم للغزاة والمشرك ليس بغاز فإن الغزو عبادة والمشرك ليس من أهلها وأما الرضخ لتحريضهم على الإعانة إذا احتاج المسلمون إليهم بمنزلة الرضخ للعبيد والنساء .
( قال ) ( وسألته عن الأسير يقتل أو يفادى قال لا يفادى ولكنه يقتل أو يجعل فيئا أي ذلك كان خيرا للمسلمين فعله الإمام ) والكلام ههنا في فصول : .
( أحدها ) : مفاداة الأسير بمال يؤخذ من أهل الحرب فإن ذلك لا يجوز عنده .
وقال الشافعي - C تعالى - يجوز بالمال العظيم وذكر محمد - C تعالى - في السير الكبير أن ذلك يجوز إذا كان بالمسلمين حاجة إلى المال لقوله تعالى فإما منا بعد وإما فداء والمراد به الأسارى بدليل أول الآية فشدوا الوثاق ولما شاور رسول الله - A - أصحابه - رضي الله تعالى عنهم - في الأسارى يوم بدر أشار أبو بكر - Bه - بالمفاداة فمال رسول الله - A - إلى ذلك لما رأى من حاجة أصحابه إلى المال في ذلك الوقت والمعنى فيه أن استرقاق الأسير جائز وفيه منفعة للمسلمين من حيث المال فإذا فادوه بمال عظيم فمنفعة المسلمين من حيث المال في ذلك أظهر فيجوز ذلك ولا يجوز قتله وفيه إبطال حق الغانمين عنه بغير عوض فلأن يجوز بعوض وهو المال الذي يفادى به كان أولى .
( وحجتنا ) في ذلك قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( التوبة : 5 ) فبهذا تبين أن قتل المشرك عند التمكن منه فرض محكم وفي المفاداة ترك إقامة هذا الفرض وسورة براءة من آخر ما نزل فكانت هذه الآية قاضية على قوله تعالى { فإما منا بعد وإما فداء } ( محمد : 4 ) على ما فعله رسول الله - A - من مفاداة الأسارى يوم بدر كيف وقد قال تعالى { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } ( الأنفال : 68 ) وقال - A - ( لو نزل العذاب ما نجى منه إلا عمر فإنه كان أشار بقتلهم واستقصى في ذلك ) وقال تعالى { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم } ( البقرة : 85 ) فما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة على وجه الإنكار عليهم ففائدتنا أن لا نفعل مثل ما فعلوا و ( حديث أبي بكر - Bه - في الأسير حيث قال لا تفادوه وإن أعطيتم به مدين من ذهب ) ولأنه صار من أهل دارنا فلا يجوز إعادته إلى دار الحرب ليكون حربا علينا بمال يؤخذ منه كأهل الذمة وبه فارق الاسترقاق لأن في ذلك تقرير كونه من أهل دارنا لا لمقصود المال كأخذ الجزية من أهل الذمة ولأن تخلية سبيل المشرك ليعود حربا للمسلمين معصية وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز وقتل المشرك فرض ولو أعطونا مالا لترك الصلاة لا يجوز لنا أن نفعل ذلك مع الحاجة إلى المال فكذلك لا يجوز ترك قتل المشرك بالمفاداة يوضحه : أن في هذا تقوية المشركين بمعنى يختص بالقتال وذلك لا يجوز لمنفعة المال كما لا يجوز بيع الكراع والسلاح منهم بل أولى لأن قوة القتال بالمقاتل أظهر منه بآلة القتال وعن محمد - C تعالى - قال لا يجوز المفاداة للشيخ الكبير الذي لا يرجي له نسل ولا رأي له في الحرب بالمال لأن مثله لا يقتل وليس في المفاداة ترك القتل المستحق ولا تقوية المشركين بإعادة المقاتل إليهم فهو كبيع الطعام وغيره من الأموال منهم فأما مفاداة الأسير بالأسير لا يجوز في أظهر الروايتين عن أبي حنيفة - C تعالى - وفي رواية عنه أنه جوز ذلك وهو قولهما لأن في هذا تخليص المسلم من عذاب المشركين والفتنة في الدين وذلك جائز كما تجوز المفاداة في أسارى المسلمين بمال من كراع أو سلاح أو غير ذلك وجه قول أبي حنيفة - C تعالى - أن قتل المشركين فرض محكم فلا يجوز تركه بالمفاداة وهذا لأنه إذا ابتلى الأسير المسلم بعذاب أو فتنة من جهتهم فذلك لا يكون مضافا إلى فعل المسلم وإذا خلينا سبيل المشرك ليعود حربا لنا فذلك بفعل مضاف إلينا فمراعاة هذا الجانب أولى وهذا لأنا أمرنا ببذل النفوس والأموال لنتوصل إلى قتلهم فبعد التمكن من ذلك لا يجوز تركه للخوف على الأسير المسلم ولأن أسيرهم صار من أهل دارنا بمنزلة الذمي فكما لا يجوز إعادة الذمي إليهم بطريق المفاداة بأسير المسلمين فكذلك بأسيرهم ويستوي إن طلب مفاداة أسير بأسير أو أسيرين بأسير منهم لأن الظاهر أنهم إنما يطلبون ذلك لقوة قتال ذلك الأسير وفي المفاداة تقويتهم على قتال المسلمين وقد بينا أن ذلك ممتنع شرعا ثم قال أبو يوسف - C تعالى - تجوز المفاداة بالأسير قبل القسمة ولا يجوز بعد القسمة لأن قبل القسمة لم يتقرر كونه من أهل دارنا حتى كان للإمام أن يقتله وقد تقرر ذلك بعد القسمة حتى ليس للإمام أن يقتله فكان بمنزلة الذي بعد القسمة وجعل قوله { حتى تضع الحرب أوزارها } ( محمد : 4 ) كناية عن القسمة لأن تحققه يكون عند ذلك ومحمد - C تعالى - يجوز المفاداة بالأسير بعد القسمة لأن المعنى الذي لأجله جوزنا ذلك قبل القسمة الحاجة إلى تخليص المسلم من عذابهم وهذا موجود بعد القسمة وحقهم في الاسترقاق ثابت قبل القسمة وقد صار بذلك من أهل دارنا ثم تجوز المفاداة به لهذه الحاجة فكذلك بعد القسمة .
وقال : لو انفلتت إليهم دابة مسلم فأخذوها في دارهم ثم ظهر المسلمون عليها أخذها صاحبها قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة لأنه لا يد للدابة في نفسها فتحقق إحراز المشركين إياها بالأخذ في دارهم بخلاف الآبق على قول أبي حنيفة - C تعالى - وقد بيناه وإن خرج رجل من المشركين بمال أصابه من المسلمين ليبيعه في دار الإسلام فلا سبيل للمالك القديم عليه كما لو أسلم أو صار ذميا لأنا أعطيناه الأمان فيما معه من المال وفي أخذ ذلك منه ترك الوفاء بالأمان إلا في العبد الآبق فإن أبا حنيفة - C تعالى - قال يأخذه مولاه حيث ما وجده بغير شيء لأنهم لم يملكوه وإنما أعطيناه الأمان فيما هو مملوك له وإذا أسر المشركون جارية لمسلم فأحرزوها ثم اشتراها منهم مسلم فعميت عندهم لم يكن لمولاها أن يأخذها إلا بجميع الثمن في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - فيما أعلم لأن الثمن الذي يعطيه المالك القديم فداء وليس ببدل والفداء بمقابلة الأصل دون الوصف ألا ترى أن العبد الجاني إذا عمى عند مولاه واختار الفداء لزمه الفداء بجميع الدية ولأن المولى إذا اختار الأخذ بالثمن يصير المشتري كالمأمور من جهته بالشراء له ولو كان أمره بذلك فعميت عنده لم يسقط عنه شيء من الثمن فهذا مثله وكذلك لو قطعت يدها فأخذ المشتري أرشها فإن مولاها يأخذها دون الأرش بجميع الثمن لأن الأرش دراهم ودنانير وهي لا تفدى فإذا كان حق المولى في الأرض لا يثبت كان هذا في حقه وما لو سقطت اليد بآفة سواء فلا يسقط شيء من الفداء عن المولى بسلامة الأرش للمشتري ألا ترى أن المشتري لو كان هو الذي قطع يدها أو فقأ عينها لم ينتقص شيء من الفداء باعتباره فكذلك إذا فعل ذلك غيره لأن سلامة البدل كسلامة الأصل وبه يظهر الفرق بين هذا وبين الشفعة فإن هناك لو هدم المشتري شيئا من البناء سقط عن الشفيع حصته من الثمن فكذا إذا فعله غيره يسلم للمشتري بدله وهذا لأن ما يعطيه الشفيع بدل وما صار مقصودا من الأوصاف يكون له حصة من البدل كما لو فقأ البائع عين المبيعة قبل القبض وكذلك إن ولدت عند المشتري فأعتق المشتري الأم أو الولد أخذ الباقي منهما بجميع الثمن وكذلك لو قتل الولد فاختار الأخذ فله أن يأخذ الأم بجميع الثمن لأن الولد جزء من الأصل فإتلاف الولد كإتلاف جزء منها وإذا بقى الولد فبقاء الجزء في حكم الفداء كبقاء الأصل ولم يذكر الخلاف ههنا فيما إذا أتلف الأم وبقى الولد وفي ذلك اختلاف بين أبي يوسف ومحمد وقد قررنا ذلك فيما أمليناه من شرح الجامع ولو أن رجلا باع أمة من رجل فلم يقبضها المشتري ولم ينقد الثمن حتى أسرها أهل الحرب فاشتراها منهم رجل لم يكن للمشتري عليها سبيل حتى يأخذها البائع لأن قبل الأسر كان البائع أحق بها ليحبسها بالثمن فكذلك بعد الأسر هو أحق بأن يأخذها بالثمن ليعيد حقه في الحبس وإذا أخذها بالثمن كان للمشتري أن يأخذها بالثمنين جميعا الثمن الأول الذي اشتراها به والثاني الذي افتكها به لأن قصده بما أدى من الفداء إحياء حقه وكان لا يتوصل إلى إحياء حقه إلا بذلك فلم يكن متبرعا فيما أدى وكل حر أسره أهل الحرب ثم أسلموا عليه فهو حر لأنهم لم يملكوه بالأسر فكانوا ظالمين في حبسه فيؤمرون بعد الإسلام بتخلية سبيله وكذلك أم الولد والمدبر والمكاتب لأن أهل الحرب لم يملكوهم لما ثبت فيهم من حق الحرية أو اليد المحترمة للمكاتب في نفسه ولهذا لا يملكون بالبيع فكذلك بالأسر ولو أن الحر أمر تاجرا في دارهم فاشتراه منهم كان للمشتري أن يرجع عليه بالثمن لأنه أمره بأن يعطي مال نفسه في عمل يباشره له فيرجع عليه بذلك كما لو أمره بأن ينفق عليه أو على عياله والمكاتب كذلك لأن أحق بكسبه وأمره بالفداء صحيح في كسبه كأمر الحر وأما المدبر وأم الولد فإنه يرجع عليهما بالثمن إذا أعتقا لأن كسبهما ملك مولاهما وأمرهما غير معتبر في حق المولى ولكنه معتبر في حقهما فيكون هذا بمنزلة كفالة أو إقرار منهما بمال فيؤخذان به بعد العتق وإن اشتراهم بغير أمرهم لم يملكهم لأن البائع لم يكن مالكا فكذلك المشتري لا يملكهم وبطل ماله لأنه متبرع فيما فدى به غير مجبر على ذلك شرعا ولا مأمور به من جهة من حصلت له المنفعة فلا يرجع عليه بشيء كما لو انفق على عيال رجل بغير أمره ولو أن رجلا حرا أمر رجلا أن يشتري حرا من دار الحرب بعينه بمال سماه فاشتراه لم يكن له على الحر الذي اشتراه من ذلك شيء لأنه لم يأمره بما فعل وكان للمأمور أن يرجع على الذي أمره إن كان ضمن له الثمن أو قال اشتراه لي لأنه استعمله وضمن له ما يؤدي من مال نفسه وإن كان قال له اشتراه لنفسه واحتسب فيه لم يرجع عليه بشيء لأنه أشار عليه بما هو تبرع وإحسان ولم يستعمله ولا ضمن له شيئا والرجوع عليه بهذا الطريق يكون .
وإذا اشترى من المشركين عبدا كانوا أسروه من المسلمين فرهنه المشتري ثم جاء مولاه الأول لم يكن له عليه سبيل حتى يفتكه الراهن لأن الراهن بعقد الرهن أوجب الحق للمرتهن في ماليته وصح ذلك منه بمصادفة تصرفه ملكه ولا يتمكن المولى من أخذه من المرتهن لأنه ليس بمالك له ولا من الراهن قبل الفكاك لقصور يده عنه بحق المرتهن فإن أراد أن يتطوع بأداء الدين ثم يعطى الراهن الثمن فذلك له لأنه أوصل إلى المرتهن حقه وهو متطوع في الدين الذي أدى لأنه متبرع بقضاء الدين عن الغير ولأنه فادى ملك الغير وهذا بخلاف البائع فإنه قبل التسليم هو بمنزلة المالك يدا وإنما فادى حقا له يوضحه أن هناك لا يطريق له في التوصل إلى إحياء حقه إلا بما أدى من الفداء فلا يجعل متبرعا فيه وههنا للمولى القديم طريق إلى ذلك بدون قضاء الدين وهو أن يصبر حتى يفتك الراهن فيأخذه حينئذ .
( قال ) ( ولا يجبر الراهن على افتكاكه ) لأن الأحياء لحق ثابت في العين في الحال ولا حق للمولى القديم في الأخذ ما لم يسقط حق المرتهن فلهذا لا يجبر على افتكاكه ولو كان أجره المشتري إجارة كان لمولاه أن يأخذه بالثمن ويبطل الإجارة فيما بقي لأن الإجارة عقد ضعيف ينقض بالعذر ألا ترى أنها تنقض بالرد بسبب فساد البيع والرد بالعيب بخلاف الرهن فكذلك تنقض بالرد على المالك القديم بالثمن بخلاف الرهن وإذا غلب قوم من أهل الحرب على قوم آخرين من أهل الحرب فاتخذوهم عبيدا للملك ثم إن الملك وأهل أرضه أسلموا أو صاروا ذمة فأولئك المغلوبون عبيد له يصنع بهم ما شاء لما بينا نهبة فالمقهورون منهم صاروا مملوكين للقاهر بإحرازه إياهم بمنعته لأن قهره بالذين هم جنده يطيعونه كقهره بنفسه وأما جنده الذين غلب بهم فهم أحرار لأنه كان قاهرا بهم لا لهم فكانوا قبل الإسلام أحرارا وبالإسلام تتأكد حريتهم ولا تبطل وإن حضر الملك الموت فورث ماله بعض بنيه دون بعض أو جعل لكل واحد من بنيه موضعا ملعوما فإن كان صنع ذلك قبل أن يسلم أو يصير ذمة ثم أسلم ولده بعده فهو جائز على ما صنع لأن الولد الذي ملكه أبوه صار قاهرا مالكا لما أعطاه ولو فعل ذلك بعد موت أبيه بقوته بنفسه أو أتباعه كان يتم ملكه فكذلك إذا فعله بقوة أبيه ومنعته وما كان هو مالكا له قبل الإسلام فبالإسلام يتأكد ملكه فيه وكذلك إن كان فعله وهو موادع للمسلمين جاز أيضا لأن بالموادعة لا تخرج أمواله من أن تكون نهبة تملك بالقهر وإنما يحرم علينا أخذه لمعنى الغدر وهذا لأن بالموادعة لا يصير محرزا له فإن داره لا تصير دار الإسلام فكان ما فعله بعد الموادعة من تخصيص بعض الأولاد بتلميك المال منه كالمفعول قبل الموادعة ولأنه ما التزم أحكام الإسلام والمنع من ايثار بعض الأولاد على البعض من حكم الإسلام وإن كان جعله لابنه فظهر عليه ابن آخر له بعده فقتله أو نفاه وغلب على ما في يده ثم أسلم كان للابن القاهر ما غلب عليه من ذلك لما بينا أنه بالقهر يصير متملكا عليه ذلك المال لبقائه على الإباحة بعد الموادعة في حق ما بينهم فإن فعل ذلك هذا الابن بعدما أسلم الابن المقهور أو صار ذمة غلبه على جميع ذلك وأخرج منه أخاه فإن صنعه وهو محارب فجميع ما غلبه عليه له إن أسلم أو صار ذمة لأنه تم إحرازه لمال المسلم أو الذمي فيملكه ويتأكد ملكه بإسلامه وإن صنعه وهو مسلم أو ذمي أمر برد ذلك عليه لأنهم جميعا من أهل دار الإسلام فلا يملك بعضهم مال بعض بالقهر وإن صنع وهو محارب ثم ظهر المسلمون على ذلك فإن وجده الابن الأول قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة وإن اشتراه مسلم منهم وسعه ذلك وكان للأول أن يأخذه منه بالثمن إن شاء كما هو الحكم في أهل الحرب إذا أحرزوا مال المسلمين وإن كان الابن القاهر صنع ذلك وهما مسلمان أو ذميان فلا ينبغي للمسلمين أن يشتروا منه شيئا من ذلك لأنه غاصب غير مالك وهو مأمور بالرد ولا يسع أحد أن يشتري منه شيئا من ذلك وإن اشتراه أخذه منه الأول بغير ثمن لأن البائع لم يكن مالكا فكذلك المشتري منه لا يكون مالكا بل يؤمر برده على المالك مجانا وإن ارتد هذا الابن القاهر بعد ذلك ومنع الدار وأجرى حكم الشرك في داره فقد تم إحرازه وصارت داره دار حرب عندهما بإجراء أحكام الشرك فيها وعند أبي حنيفة - Bه - بالشرائط الثلاثة كما بينا فإن ظهر المسلمون على تلك الدار بعد ذلك أخذ الابن المقهور ما وجد من ماله قبل القسمة بغير شيء وما وجده بعد القسمة بالقيمة لأنه مال مسلم أحرزه أهل الحرب بدارهم ثم ظهر المسلمون عليه وقد بينا الحكم فيه - فيما سبق والله أعلم .
انتهى شرح السير الصغير المشتمل على معنى أثير بإملاء المتكلم بالحق المنير المحصور لأجله شبه الأسير المنتظر للفرج من العالم القدير السميع البصير المصلى على البشير الشفيع لأمته النذير وعلى كل صاحب له ووزير والله هو اللطيف الخبير