( قال ) Bه بني مسائل الباب على أصل مختلف فيه : وهو أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر إذا أحرزوه بدارهم عندنا .
ولا يملكونها عند الشافعي لقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } ( النساء : 141 ) والتملك بالقهر أقوى جهات السبيل ولما أغار عتيبة بن حصن على سرح المدينة وفيه ناقة رسول الله - A - العضباء وامرأة من الأنصار قالت الأنصارية فلما جن الليل قصدت الفرار من أيديهم فما وضعت يدي على بعير الأرغي حتى وضعت يدي على ناقة رسول الله - A - العضباء فركنت إلي فركبتها وقلت لئن نجاني الله تعالى عليها لأنحرنها ولآكلن من سنامها وكبدها فلما أتيت رسول الله - A - وقصصت عليه هذه القصة قال بئسما جازيتها لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم وفي رواية رديها فإنها ناقة من إبلنا وارجعي إلى أهلك على اسم الله والمعنى فيه أن هذا عدوان محض لأنه حرام ليس فيه شبهة الإباحة فلا يكون سببا للملك كاستيلاء المسلم على مال المسلم وهذا لأن الملك حكم مشروع مرغوب فيه فيستدعي سببا مشروعا والعدوان المحض ضد المشروع ولأن المعصوم بالإسلام لا يملك بالقهر كالرقاب فإن الشرع أثبت العصمة بسبب واحد في المال والرقاب قال - A - ( فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ) فذلك دليل المساواة بينهما في المنع من التملك بالقهر وهذا لأن الاستيلاء سبب الملك في محل مباح لا في محل معصوم حتى لا يملك مال المستأمن بالقهر بخلاف مال الحربي الذي لا أمان له ولا يملك صيد الحرم بالاستيلاء بخلاف صيد الحل والسبب لا يعمل إلا في محله فإذا صادف الاستيلاء محلا معصوما لم يكن موجبا للملك وبه فارق سائر أسباب الملك من البيع والهبة لأنه موجب للملك في محل معصوم وهو مملوك .
( وحجتنا ) في ذلك قوله تعالى { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم } ( الحشر : 8 ) الآية فإن الله تعالى سمى المهاجرين فقراء والفقير حقيقة من لا ملك له ولو لم يملك الكفار أموالهم بالاستيلاء لما سماهم فقراء ولما قال علي لرسول الله - A - يوم فتح مكة ألا تنزل دارك قال ( وهل ترك لنا عقيل من ربع ) وقد كان له دار بمكة ورثها من خديجة - Bها - فاستولى عليها عقيل بعد هجرته والمعنى فيه أن الاستيلاء سبب يملك به المسلم مال الكافر فيملك به الكافر مال المسلم كالبيع والهبة وتأثيره أن نفس الآخذ سبب لملك المال إذا تم بالإحراز وبيننا وبينهم مساواة في أسباب إصابة الدنيا بل حظهم أوفر من حظنا لأن الدنيا لهم ولأنه لا مقصود لهم في هذا الأخذ سوى اكتساب المال ونحن لا نقصد بالأخذ اكتساب المال ثم جعل هذا الأخذ سببا للملك في حق المسلم بدون القصد فلأن يكون سببا للملك في حقهم مع وجود القصد أولى وإنما يفارقوننا فيما يكون طريقه طريق الجزاء لأن الجزاء بوفاق العمل وذلك في تملك رقاب الأحرار لأن الآدمي في الأصل خلق مالكا لا مملوكا فصفة المملوكية فيه تكون بواسطة إبطال صفة المالكية وذلك مشروع في حقهم بطريق الجزاء فإنهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى جازاهم الله تعالى على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده ولا يوجد ذلك في حق المسلمين ولا إشكال أن إبطال صفة الحرية يكون بطريق الجزاء والعقوبة .
ألا ترى أن إثبات صفة الحرية في المملوك مشروع بطريق الجزاء والتقرب فإبطال صفة الحرية يكون بطريق الجزاء والعقوبة وقد تعذر إثبات هذه الواسطة في رقاب الأحرار المسلمين أو من ثبت له حق العتق منهم حتى أن في حق العبيد لما كان الملك يثبت بدون هذه الواسطة قلنا بأنهم يملكون عبيدنا بالأخذ والمفارقة بيننا وبينهم في الحل والحرمة لا يمنع المساواة في حكم الملك عند تقرر سببه .
ألا ترى أن استكساب المسلم عبده الكافر سبب مباح للملك واستكساب الكفار عبده المسلم حرام ومع ذلك كان موجبا للملك لتقرر السبب مع أن الفعل الذي هو عدوان غير موجب للملك عندنا لأن الفعل إنما يكون عدوانا في مال معصوم والعصمة بالإحراز والإحراز بالدار لا بالدين لأن الإحراز بالدين من حيث مراعاة حق الشرع والاثم في مجاوزة ذلك ولا يتحقق ذلك في حق المنكرين فإنما يكون الإحراز في حقهم بالدار التي هي دافعة لشرهم حسا وما بقي المال معصوما بالإحراز بدار الإسلام لا يملك بالاستيلاء عندنا وإنما يملك بعد انعدام هذه العصمة بالإحراز بدار الحرب والأخذ بعد ذلك ليس بعدوان محض والمحل غير معصوم أيضا فلهذا كان الاستيلاء فيه سببا للملك .
والدليل على أن الإحراز بالدين لا يظهر حكمه في حقهم فصل الضمان فإنهم لا يضمنون ما أتلفوا من نفوس المسلمين وأموالهم وتأثير العصمة في إيجاب الضمان أظهر منه في دفع الملك ثم لما لم يبق للعصمة بالدين اعتبار في حقهم في إيجاب الضمان فكذلك في دفع الملك .
وتأويل الحديث أنهم لم يحرزوها بدارهم بعد فلم يملكوها ولا ملكت هي فلهذا استردها وجعل نذرها فيما لا تملك والمراد بالآية حكم الأخذ بدليل قوله تعالى { فالله يحكم بينهم يوم القيامة } ( البقرة : 113 ) وبه نقول أنهم يفارقوننا في دار الآخرة فإنها دار الجزاء ولا سبيل لهم علينا في دار الجزاء .
إذا عرفنا فنقول إذا وقع هذا المال في الغنيمة وقد كان المشركون أحرزوه فإن وجده مالكه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة إن شاء لحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن المشركين أحرزوا ناقة رجل من المسلمين بدارهم ثم وقعت في الغنيمة فخاصم فيها المالك القديم فقال - A - ( إن وجدتها قبل القسمة أخذتها بغير شيء وإن وجدتها بعد القسمة أخذتها بالقيمة إن شئت ) ففي هذا دليل أنهم قد ملكوها وإنما فرق في الأخذ مجانا بين ما قبل القسمة وما بعدها لأن المستولى عليه صار مظلوما وقد كان يفترض على من يقوم بنصرة الدار وهم الغزاة أن يدفعوا الظلم عنه بأن يتبعوا المشركين ليستنقذوا المال من أيديهم وقبل القسمة الحق لعامة الغزاة فعليهم دفع الظلم بإعادة ماله إليه فأما بعد القسمة فقد تعين الملك لمن وقع في سهمه وعليه دفع الظلم ولكن لا بطريق إبطال حقه وحقه في المالية حتى كان للإمام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بين الغانمين وحق المالك القديم في العين فيتمكن من الأخذ بالقيمة إن شاء ليتوصل كل واحد منهما إلى حقه فيعتدل النظر من الجانبين ولأن قبل القسمة ثبوت حق الغزاة فيه ليس بعوض على شيء بل صلة شرعية لهم ابتداء فلا يكون في أخذ المالك القديم إياه مجانا إبطال حقهم عن عوض كان حقا لهم فأما بعد القسمة فمن وقع في سهمه استحق هذا العين عوضا عن سهمه في الغنيمة فلا وجه لإبطال حقه في ذلك العوض فيثبت للمالك القديم حق الأخذ بعدمال يعطي من وقع في سهمه العوض الذي كان حقا له وإنما يأخذه إذا أثبت دعواه فإن مجرد قوله ليس بحجة في إبطال حق الغانمين قبل القسمة ولا في استحقاق الملك على من وقع في سهمه بعد القسمة .
وهذا إذا كان المأخوذ شيئا لا مثل له فأما الدراهم والدنانير والفلوس والمكيل والموزون فإن وجدها قبل القسمة أخذها بغير شيء وإن وجدها بعد القسمة فلا سبيل له عليها لأن الأخذ شرعا إنما ثبت له إذا كان مفيدا وقبل القسمة هو مفيد فأما بعد القسمة لو أخذها أخذها بمثلها وذلك غير مفيد فإن المالية في هذه الأشياء باعتبار الكيل والوزن ولهذا جرى الربا فيها فلكون الأخذ غير مفيد قلنا بأنه لا يكون مشروعا بخلاف مالا مثل له فإنه يأخذه بالقيمة وذلك يكون مفيدا لما في العين من الغرض الصحيح للناس .
وإن وجد عبدا كان له فأبق إليهم وقد وقع في سهم رجل من الجند أخذه منه بغير شيء في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يأخذه بالقيمة إن شاء لحديث ابن عمر - Bهما - أن عبدا لمسلم أبق إلى دار الحرب ثم وقع في الغنيمة فخاصم فيه المالك إلى رسول الله - A - فقال إن وجدته القسمة أخذته بغير شيء وإن وجدته بعد القسمة أخذته بالقيمة إن شئت .
وعن الأزهر بن يزيد أن أمة لقوم أبقت إلى دار الحرب ثم وقعت في الغنيمة فخاصم فيها مولاها فكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر - Bهما - فرد جوابه إن وجدها قبل القسمة أخذها وإن وجدها بعد القسمة فقد مضت القسمة ولأن الآبق يملك بسائر أسباب الملك فيملك بالاستيلاء كما لو كان مترددا في دار الإسلام فأحرزوه بدارهم أو كالدابة إذا ندت إليهم .
وبيان الوصف أنه يملك بالإرث حتى لو أعتقه بعد موت المورث ينفذ عتقه ويملك بالضمان حتى إذا كان مغصوبا فضمن الغاصب قيمته يملكه بالضمان ويملك بالهبة من ابنه الصغير وبالبيع ممن في يده وإنما لا يجوز بيعه من غيره للعجز عن التسليم لا لأنه ليس بمحل للتمليك والدليل عليه آبقهم إلينا فإنما نملكه بالاستيلاء فكذا آبقنا إليهم لما بينا من تحقق المساواة بيننا وبينهم في أسباب إصابة الدنيا وعلل أبو حنيفة في الكتاب وقال لأن الكفار لم يحرزوه ويعني أنه صار في يد نفسه وهي يد محترمة فتكون دافعة لإحراز المشركين إياه كيد المكاتب في نفسه وإنما قلنا ذلك لأن يد المولى زالت عنه حقيقة بالإباق وحكما بدخوله دار الحرب إذ لا يجوز أن يثبت للمسلم يد على من في دار الحرب حكما كما لا يثبت لإمام المسلمين اليد على من كان في دار الحرب فلم يخلفه الآخر إما لأنه حين انتهى إلى الموضع الذي لا يأتي فيه المسلمون وأهل الحرب فقد زالت يد المولى ولا تثبت يد أهل الحرب عليه في هذا الموضع أو لأن يد أهل الحرب إنما تثبت عليه حسا لا حكما فما لم يأخذوه لا تثبت يدهم عليه فصار في يد نفسه لأن الآدمي من أهل أن تثبت له اليد على نفسه وإن كان مملوكا .
ألا ترى أن العبد إذا توكل بشراء نفسه من مولاه لا يملك البائع حبسه بالثمن لثبوت اليد له على نفسه وهذا لأن المانع من ثبوت يده على نفسه يد المولى فإذا زالت تلك اليد لا إلى من يخلفه تثبت اليد له في نفسه لزوال المانع كما في المكاتب وباعتبار هذه اليد المحترمة يبقى هو محرزا بدار الإسلام لأن صاحب اليد من أهل دار الإسلام ولا طريق لهم إلى الحيلولة بينه وبين هذه اليد وما بقى المال محرزا بدار الإسلام لا يتم إحراز المشركين إياه فهذا معنى قوله أن الكفار لم يحرزوه بخلاف المتردد في دار الإسلام فإنه في يد مولاه حكما ولهذا لو وهبه لابنه الصغير صار قابضا له فبقاء المانع حكما يمنع ثبوت اليد له في نفسه فيتم إحراز المشركين إياه .
فأما الآبق إلى دار الحرب لا يكون في يد مولاه حكما حتى لو وهبه من ابنه الصغير لا يجوز هكذا ذكره أبو الحسين قاضي الحرمين عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - بخلاف الدابة إذا ندت إليهم لأنها ليست من أهل أن تثبت لها اليد في نفسها وبخلاف آبقهم إلينا لأن يده في نفسه ليست بمحترمة فيتم إحراز المسلمين إياه وبخلاف التملك بالإرث والضمان فإنه تملك حكمي يثبت في المحل الذي لا يقبل الملك قصدا بسببه كالخمر والقصاص يملك بالإرث والدين يملك بالإرث والضمان وإن لم يكن محلا للتمليك بالقهر وهذا لما بينا أنه مع بقاء العصمة والإحراز قد يملك بالإرث والضمان ولا يملك بالأخذ .
وتأويل الحديثين أن الآبق لم يكن وصل إليهم حتى خرجوا إليه فأخذوه وأحرزوه .
وإذا عرفنا هذا فنقول : عند أبي حنيفة - C تعالى - لما كان له أن يأخذه بعد القسمة بغير شيء فالإمام يعوض لمن وقع في سهمه قيمته من بيت المال لأن نصيبه استحق فله أن يرجع على شركائه في الغنيمة وقد تعذر ذلك لتفرقهم في القبائل فيعوضه من بيت المال لأن حقه من نوائب المسلمين ومال بيت المال معد لذلك ولأنه لو فضل من الغنيمة شيء يتعذر قسمه كالجوهر ونحوه يوضع ذلك في بيت المال فكذلك إذا لحق غرم يجعل ذلك على بيت المال لأن الغرم يقابل بالغنم وهكذا يقال على أصل الكل إذا كان المأسور مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد لمسلم فإن المالك القديم يأخذه بغير شيء بعد القسمة ويعوض الإمام من وقع في سهمه قيمته من بيت المال لما قلنا فإن وجد العبد في يد مسلم اشتراه من أهل الحرب فأخرجه فإن كان قد أبق إليهم فعند أبي حنيفة - C تعالى - للمولى أن يأخذه بغير شيء لبقائه على ملكه ولا يغرم للمشتري شيئا مما أدى لأنه فدى ملكه بغير أمره إلا أن يكون أمره بالفداء فحينئذ يرجع عليه بما أدى وعندهما يأخذه منه بالثمن إن شاء وكذلك إن كان العبد مأسورا بالاتفاق لأنه لا يستحق على المشتري دفع الظلم عنه بالتزام الخسران في مال نفسه ولأنه وصل إليه هذا العبد بعوض وهو ما أدى من الثمن فيبقى حقه مرعيا في ذلك العوض ولهذا يأخذه منه بالثمن إن شاء .
وإن كان أهل الحرب قد وهبوه لرجل أخذه منه مولاه بالقيمة إن شاء لأنه صار ملك الموهوب له وهو ملك مرعى محترم فلا يجوز إبطاله عليه مجانا لدفع الظلم عن المأسور منه ولكن حاله في ذلك كحال من وقع في سهمه فلهذا يأخذه منه بالقيمة .
( فإن قيل ) : هذا الملك يثبت للموهوب له بغير عوض .
( قلنا ) : لا كذلك فالعوض والمكافأة في الهبة مقصود وإن لم يكن مشروطا ولهذا يثبت حق الرجوع للواهب إذا لم ينل العوض فجعل ذلك المعني معتبرا في إثبات حقه في القيمة وإن كان المشتري للعبد من العدو باعه من غيره أخذه المولى من المشتري الثاني بالثمن الذي اشتراه به إن كان من ذوات الأمثال فبمثله وإن لم يكن فبقيمته ولأن المشتري الثاني قائم مقام المشتري الأول وملكه مرعى كملك المشتري الأول وليس للمالك القديم أن يبطل العقد الثاني ليأخذه من يد المشتري الأول بالثمن الأول .
وروى ابن سماعة عن محمد - رحمهما الله تعالى - أن له ذلك لأن حق المولى القديم في العين سابق على حق المشتري الأول ولم يبطل ذلك بتصرفه فيكون متمكنا من نقض تصرفه كما يتمكن الشفيع من نقض تصرف المشتري وهذا لأن له في نقض هذا التصرف فائدة لما بين الثمنين من التفاوت .
وجه ظاهر الرواية : أن الشرع جعل للمالك القديم حق الأخذ من غير نقض التصرف .
ألا ترى أنه لم يجعل له حق نقض القسمة ليأخذه مجانا وفائدته في ذلك أظهر وهذا بخلاف الشفيع لأن تصرف المشتري قد يكون مبطلا لحق الشفيع لو لم يكن له حق النقض وربما يهبه من إنسان والشفعة تثبت في الشراء دون الهبة فلإبقاء حق الشفيع في العين مكناه من نقض التصرف فأما ههنا ليس في تنفيذ تصرف المشتري إبطال حق المالك القديم فإن حق الآخذ يبقى سواء باعه المشتري أو وهبه أو تصدق به ولهذا تمكن من الأخذ من غير نقض التصرف .
توضيحه أن حق الشفيع يثبت قبل ملك المشتري ولهذا لو اشترى بشرط الخيار يثبت حتى الشفيع وتصرف المشتري بحكم ملكه فينتقض تصرفه بحق من سبق حقه في ملكه فأما حق المولى القديم لم يثبت بعد ملك المشتري .
ألا ترى أن الكفار لو أسلموا قبل أن يبيعوه لم يكن للمولى أن يأخذه ولهذا لا يتمكن من نقض تصرف المشتري فإن وقع الاختلاف بينهما في مقدار الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه إنما يتملك عليه ماله فلا يتمكن من أخذه إلا بما يقر هو له كالمشتري مع الشفيع إذا اختلفا في الثمن إلا أن يقيم المالك البينة أنه اشتراه بأقل من ذلك فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم .
وإن اشتراه رجل من أهل الحرب وعلم به مولاه فلم يخاصم فيه زمانا ثم أراد أن يأخذه بالثمن فله ذلك .
وفي رواية ابن سماعة عن محمد ليس له بمنزلة الشفيع إذا لم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع . وجه ظاهر الرواية أن سكوت الشفيع جعل مبطلا حقه لدفع الضرر والغرر عن المشتري فإنه يتمكن الشفيع من نقض تصرفه فلو لم يبطل حقه بالسكوت كان يتعذر على المشتري تنفيذ التصرف فيه مخافة أن يبطل الشفيع تصرفه وهذا المعنى لا يوجد ههنا فإن المالك القديم لا يتمكن من نقض تصرف المشتري على ما بينا فلهذا لا يكون سكوته مبطلا لحقه فإن لم يأخذه حتى أسروه ثانيا ثم اشتراه رجل آخر منهم ثم حضر مولاه الأول فلا سبيل له على المشتري الثاني لأن حق الآخذ إنما يثبت للمأسور منه والمأسور منه في هذه المرة المشتري الأول دون المالك القديم فلهذا كان حق الآخذ من يد المشتري الثاني للمشتري الأول فإذا أخذه حينئذ يثبت للمالك الآخذ من يده بالثمنين جميعا إن شاء وإن أبى المشتري الأول أن يأخذه فلا سبيل للمالك القديم عليه لأن حقه كان ثابتا في ملك المشتري الأول فإذا أخذه فقد ظهر محل حقه وإن لم يأخذه لم يظهر محل حقه فلا سبيل له عليه كالموهوب له إذا وهبه لغيره فلا سبيل للواهب الأول عليه بالرجوع إلا أن يرجع الموهوب له الأول فيه فحينئذ يثبت للواهب الأول حق الرجوع لهذا المعنى .
( فإن قيل ) : إنما كان للمالك القديم حق الأخذ في الملك الذي استفاده المشتري من العدو وهذا ملك آخر استفاد من المشتري الثاني فكيف يثبت حقه فيه .
( قلنا ) : لا كذلك لأن المأسور منه بالأخذ يعيده إلى قديم ملكه ولهذا لو كان موهوبا كان للواهب أن يرجع فيه وما يغرم المشتري من العدو فداء وليس ببدل عن الملك كالمولى يفدى عبده من الجناية فيبقى على قديم ملكه لا أن يتملكه بالفداء وإنما يأخذه بالثمنين لأن ذلك هو العوض الذي أدى من ماله فيه مرتين ولو أداه مرة واحدة لم يملك المولى أخذه مالم يرد عليه جميع ذلك فكذلك إذا غرمه مرتين وإذا أسر العدو عبدا وفي عنقه جناية عمد أو خطأ أو دين إنسان فإن رجع إلى مولاه الأول بوجه من الوجهين بحق الملك الأول فذلك كله في عنقه كما كان لما بينا أنه بالأخذ أعاده إلى قديم ملكه فالتحق بما لم يزل عن ملكه أصلا وإن لم يرجع إليه أو رجع إليه بملك مستأنف بطلت جناية الخطأ لأن المستحق بالجناية الخطأ على الملك الذي كان له في وقتها وقد فات ذلك ولم يعد والحق لا يبقى بعد فوات محله كما لو زال العبد الجاني عن ملكه بالبيع أو بالعتق وأما جناية العمد والدين فهما عليه كما كان يؤخذ بهما لأن المستحق بجناية العمد ذمته وذلك باق بعد زوال ملك الولى . ألا ترى أنه لو زال ملكه بالبيع أو الهبة لا يبطل القصاص عنه وكذلك الدين المستحق في ذمته وذمته باقية . ألا ترى أن بالبيع والعتق لا يبطل الدين عنه والدين في ذمته يكون شاغلا لماليته إذا كان ظاهرا في حق مولاه فلهذا أخذ به وفي الموضع الذي تلحقه الجناية والدين يبدأ بالدفع بالجناية ثم بالبيع ثم بالدين لأنه لو بدأ بالبيع بطل حق ولى الجناية ولو دفع بالجناية أولا لم يبطل حق صاحب الدين فلهذا كانت البداية بالدفع بالجناية .
فإن وقع المأسور في سهم رجل فلم يحضر مولاه حتى أعتقه هذا الرجل أو دبره جاز لأنه تصرف بحكم ملكه وملكه تام مع قيام حق المأسور منه فينفذ تصرفه ثم لا يكون للمولى عليه سبيل لأنه خرج من أن يكون قابلا للنقل من ملك إلى ملك لما ثبت فيه من الحرية أو حقها ولأن الولاء عليه قد لزم المشتري الأول على وجه لا سبيل إلى إبطاله وحق المالك القديم بعرض الإبطال وهو نظير الموهوب له إذا أعتق أو دبر يبطل حق الواهب في الرجوع لما قلنا .
وإن كانت أمة فزوجها فولدت من الزوج فله أن يأخذها وولدها لأنه بالولادة من الزوج لم تخرج من أن تكون قابلة لنقل من ملك إلى ملك والولد جزء من عينها فيثبت له حق الأخذ فيه كما في سائر أجزائها بخلاف حق الواهب في الرجوع فإنه لا يثبت في الولد لأن ذلك حق ضعيف العين . ألا ترى أنه لا يبقى بعد تصرف الموهوب له والحق الضعيف لا يعد ومحله والولد وإن كان جزءا من العين ففي المال هو محل آخر فأما حق المولى ههنا قوي يتأكد في العين حتى لا يبطل بتصرف المشتري فلهذا يسري إلى الولد الذي هو جزء من العين ولا يكون له أن يفسخ النكاح لما بينا أنه يتمكن من الأخذ من غير أن ينقض تصرف المشتري والنكاح ألزم من سائر التصرفات ولا يتمكن من نقضه وإن كان أخذ عقرها أو أرش جناية جني عليها لم يكن للمولى على ذلك سبيل لأن حقه في العين والأرش والعقر غير متولد من العين ولم يوجد فيه السبب وهو الاستيلاء عليه في ذلك المال ولأنه لو أخذ العقر والأرش أخذهما بمثلهما فلا يكون مفيدا شيئا ثم لا ينتقص عن المولى القديم شيء من الثمن بسبب احتباس العقر والأرش عند المشتري .
ألا ترى أنها لو تعيبت في يد المشتري بعيب يسير أو فاحش لم ينتقص عن المولى شيء وهذا لما بينا أن ما يعطى فداء وليس ببدل في حقه والفداء لا يقابل بشيء من الأوصاف .
وإن لم يكن زوجها المشتري من العدو حل له وطئها وإن كان يعلم قصتها لأنها مملوكة ملكا صحيحا وقيام حق المولى في الأخذ لا ينافي ملكه كالجارية الموهوبة يحل للموهوب له وطئها وإن كان للواهب فيها حق الرجوع .
( قال ) ( فإن كان المأسور منه يتيما كان للوصى أن يأخذه من مشتريه بالثمن ) لأنه قام مقام الصبي في استيفاء حقوقه نظرا له فلا يكون له أخذه لنفسه لأن الأسر لم يقع على ملكه وهو السبب المثبت لحق لأخذ له فإذا كانت الجارية رهنا بألف درهم وهي قيمتها فأسرها العدو ثم اشتراها منهم رجل بألف درهم كان مولاها أحق بها بالثمن لأنها أسرت على ملكه وحق الأخذ بالثمن للمأسور منه باعتبار ملكه القديم وذلك للراهن دون المرتهن فإن أخذها لم تكن رهنا لأنها في حق المرتهن تاوية ولأنه لا فائدة للمرتهن في أخذها لأن الراهن لم يكن متبرعا فيما أعطي من الألف فإنه ما كان يتوصل إلى إحياء ملكه إلا بأداء الألف فلا يتمكن المرتهن من أخذها إلا برد الألف على الراهن وإنما يأخذها ليستوفي ألفا من ماليتها فلا يفيده إعطاء الألف ليستوفي منه ألفا وهو نظير ما لو جنت جناية يبلغ أرشها ألف درهم وأبى المرتهن أن يفديها ففداها الراهن .
وإن كان الثمن أقل من ألف درهم كان للمرتهن أن يؤدي ذلك الثمن الذي أداه المولى فيكون رهنا عنده على حاله إن شاء وإن شاء تركها لأن أخذه إياها مفيد له فإنه يغرم الخمسمائة ليحيي به حقه في الألف وهو نظير الجناية إذا كان أرشها أقل من الألف ففداها الراهن كان للمرتهن أن يرد عليه الفداء وتكون رهنا عنده على حالها وإن شاء تركها فكانت تاوية في حقه وقد بينا فيما سبق أن الثمن الذي يعطيه المالك القديم للمشتري فداء وليس ببدل عن الملك بمنزلة الفداء من الجناية .
وإن كانت في يده وديعة أو عارية أو إجارة لم يكن له إلى أخذها سبيل وكان الحق في أخذها لمولاها لأن ثبوت الأخذ باعتبار قديم الملك وذلك للمولى دون ذي اليد وهذا بخلاف الاسترداد من الغاصب فالغصب لا يزيل ملك المولى والمودع والمستعير قائم مقامه في حفظ ملكه فيمكن من الاسترداد ليتوصل إلى الحفظ .
فأما الإحراز يزيل ملك المولى فيخرج به المستعير والمستودع من أن يكون عاملا له ولو أثبتنا له حق الأخذ بالثمن كان عاملا لنفسه في التملك ابتداء فلهذا لم يكن لهما حق الأخذ بالثمن وبه فارق الفداء من الجناية فإن المودع والمستعير لو فداها من الجناية صح وكان متبرعا في ذلك لأن الجناية لا تزيل ملك المولى ونظيرها بالفداء يقرر حفظ الملك عليه وأما الإحراز يزيل ملك المولى .
فإن أخذ بالثمن يكون إعادة للملك لا أن يكون حفظا للملك وهو ما أقامهما في ذلك مقام نفسه فإن كان لها زوج قبل أن تؤسر فالنكاح بحاله لأنه لم تتباين بهما الدار حكما فإنها مسلمة وإن كانت مأسورة في دار الحرب فالمسلم من أهل دار الإسلام حكما .
وإن كان في دار الحرب صورة وتباين الدارين حقيقة لا حكما لا يقطع عصمة النكاح وبالإحراز تصير مملوكة لأهل الحرب فيكون ذلك في حكم النكاح كبيع المولى إياها وذلك غير مفسد للنكاح فإن غلب العدو على مال المسلمين فأحرزوه وهناك مسلم تاجر مستأمن حل له أن يشتريه منهم فيأكل الطعام من ذلك ويطأ الجارية لأنهم ملكوها بالإحراز فالتحقت بسائر أملاكهم وهذا بخلاف ما لو دخل إليهم تاجر بأمان فسرق منهم جارية وأخرجها لم يحل للمسلم أن يشتريها منه لأنه أحرزها على سبيل الغدر وهو مأمور بردها عليهم فيما بينه وبين ربه .
وإن كان لا يجبره الإمام على ذلك لأنه غدر بأمان نفسه لا بأمان الإمام فأما ههنا هذا الملك تام للذي أحرزها بدليل أنه لو أسلم أو صار ذميا كانت سالمة ولا يفتى بردها فلهذا حل للمشتري منه وطئها وهذا للفقه الذي قلنا إن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام تنعدم عند تمام إحراز المشركين إياها .
وهذا بخلاف ما إذا كانت مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة فإنها لم تصر مملوكة بالإحرارز فلا يحل للتاجر أن يشتريها منهم ولا أن يطأها .
ألا ترى أنهم لو أسلموا أو صاروا ذمة وجب عليهم ردها على المالك القديم فتكون على ملكه كما كانت وإن اشترى التاجر مكاتبا أو مدبرا أو حرا أسره أهل الحرب فأخرجه فالحر على حاله والمكاتب والمدبر كذلك لأنهما لا يملكان بشيء من أسباب الملك وإن كان المشتري فداهما بغير أمرهما فلا رجوع له عليهما لأنه تبرع بما فداهما به وإن كان بأمرهما فله أن يرجع عليهما بما فداهما به لأنه أدى مال نفسه في تخليصهما وتوفير المنفعة عليهما بأمرهما وهذا في الحر غير مشكل وكذلك في المكاتب فإن موجب جناية المكاتب على نفسه لأنه بمنزلة الحر في ملك اليد والمكاسب .
وإن كان المأسور عبدا لمسلم فباعه ملكه من رجل من أهل الحرب فأعتقه فهو حر كما لو باعه من مسلم فأعتقه .
وقيل : على قياس قول أبي حنيفة - C تعالى - ينبغي أن يعتق بنفس البيع لا بإعتاقه لأن من أصله أن عبد الحربي إذا أسلم فباعه مولاه يعتق فهذا أيضا عبد مسلم لحربي فإذا زال ملكه ويده ببيعه يزول إلى العتق وعندهما بالبيع لا يعتق وإنما يعتق بالإعتاق أما عند أبي يوسف فالإعتاق من الحربي صحيح .
وكذلك عند محمد إذا كان من حكم ملكهم منع المعتق من استرقاق المعتق مع أن العبد ههنا مسلم فلا يكون محلا للاسترقاق بعد الإعتاق فلهذا يعتق بإعتاقه وقيل بل هذا قولهم جميعا فإن أبا حنيفة إنما يقول يعتق بالبيع في عبد ليس لمسلم فيه حق وفي هذا العبد للمولى القديم حق الإعادة إلى ملكه مجانا أو بفداء فلا يعتق بالبيع ما لم يعتقه مالكه وإذا أسلم أهل الحرب على مال أخذوه من أموال المسلمين وصاروا ذمة فهو لهم ولا سبيل للمسلمين عليه لأن القياس أن لا يكون للمالك القديم حق الأخذ بعد زوال ملكه بتمام الإحراز .
وبه كان يقول الزهري والحسن البصري - رحمهما الله تعالى - وإنما تركنا القياس بالسنة في الذي وقع في الغنيمة أو اشتراه منهم مسلم والسنة ههنا جاءت بتقرر الملك للذي أسلم قال رسول الله - A - ( من أسلم على مال فهو له ) والمعنى الذي لأجله ثبت للمالك القديم حق الأخذ هناك وجوب نصرته والقيام بدفع الظلم عنه على المسلم الذي وقع في سهمه كما بينا وهذا غير موجود ههنا فإنه ما كان على هذا الحربي بنصرته حين أحرزوه لأن ذلك ثابت شرعا وهم لا يخاطبون بذلك ولأن القيام بالنصرة على من هو أهل دار الإسلام وهو ما كان يومئذ من أهل دار الإسلام فلم يثبت حقه في ملكه .
وإذا أسلم أو صار ذمة فقد تقرر ملكه وكذلك لو كان ذلك الحربي باعه من حربي آخر ثم أسلم المشتري أو صار ذمة فالمشتري بمنزلة البائع في المعنى الذي قررنا وكذلك لو خرج إلينا بأمان ومعه ذلك المال فإنه لا يتعرض له فيه وهذا أظهر لأنه حربي .
وإن كان مستأمنا في دارنا ولم يكن حق المولى ثابتا في ملكه فلو مكناه من الأخذ منه كان غدرا بالأمان وذلك حرام إلا أنه يجبر المستأمن على بيعه من المسلمين لأنه عبد مسلم فلا يمكن الحربي من استذلاله باستدامة الملك وإعادته إلى دار الحرب وإذا سبي الصبي من أهل دار الحرب وأخرج إلى دار الإسلام فمات فإن كان معه أبواه كافرين أو أحدهما فإنه لا يصلي عليه . والأصل فيه أن الولد تابع للأبوين في الدين قال رسول الله - A - ( كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا ) ولا تظهر تبعية الدار عند تبعية الأبوين .
ألا ترى أن أولاد أهل الذمة في دار الإسلام يكونون على دين آبائهم وهذا لأن الولد من الأبوين ولكنه في الدار لا من الدار فكان اتباعه للأبوين أصلا والدار في حكم الخلف فلا يظهر الخلف مع قيام الأصل وكذلك أحد الأبوين في هذا الحكم بمنزلتهما .
ألا ترى أن الذمية إذا ولدت من زنا فإن الولد يتبعها في الدين ولا أب هنا فعرفنا أن أحد الأبوين يكفي في الاتباع فإن كان معه أبواه أو أحدهما فهو على دينه فإذا مات لا يصلي عليه .
وإن كانت جارية لم يحل للسابي وطئها إذا لم يكن أبواها أو أحدهما من أهل الكتاب فإن أسلم أبواه أو أحدهما فقد صار الصبي مسلما تبعا لمن أسلم منهما فإنه يتبع خير الأبوين دينا لأنه يقرب من التابع فإذا مات يصلي عليه وإن خرج وليس معه أبواه أو أحد من الأبوين فمات قبل أن يعقل الإسلام صلى عليه لأن التبعية بينه وبين الأبوين انقطعت بتباين الدار حقيقة وحكما فيظهر تبعية الدار ويصير محكوما بإسلامه تبعا للدار كاللقيط فإذا مات يصلي عليه وإن خرج الأب من ناحية والابن من ناحية معا فمات الصبي لم يصل عليه لأنه ما حصل في دارنا إلا وله أب كافر فيكون تبعا له دون الدار وكذلك إن خرج الأب أولا ثم الصبي بخلاف ما لو خرج الصبي أولا ثم الأب فإنه حين خرج أولا حكم بإسلامه تبعا للدار فلا يحكم بكفره بعد ذلك وإن خرج أبواه .
( فإن قيل ) : إذا خرج معه أحد أبويه فاعتبار جانب الأب يوجب كفره واعتبار جانب الدار يوجب إسلامه فينبغي أن يرجح الموجب لإسلامه كما لو أسلمت أمه .
قلنا : الاشتغال بالترجيح عند المساواة وذلك في حق الأبوين فأما الدار خلف عن الأبوين في حقه كما بينا ولا يظهر الخلف في حال بقاء الأصل فلا معنى للاشتغال بالترجيح .
وكذلك لو مات أبوه كافرا في دارنا لأن بموته لا ينقطع حكم التبعية . ألا ترى أن أولاد أهل الذمة لا يحكم بإسلامهم وإن ماتت آباؤهم وفي هذا نوع إشكال فإن من في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت ثم جعلنا الولد تبعا للدار إذا بقي أبواه في دار الحرب ولا نجمله تبعا للدار إذا مات أبواه في دار الإسلام .
ولكن نقول الموت لا يقطع العصمة . ألا ترى أن المتوفي عنها زوجها يبقى حل النكاح بينها وبينه في حق الغسل وتباين الدارين حقيقة وحكما ينافي العصمة والتبعية فمن هذا الوجه يفترقان ولا بأس ببيع السبي من أهل الذمة ما لم يسلموا لأنهم صاروا من أهل دارنا ولكنهم كفار فلا بأس ببيعهم من أهل الذمة وإن كان الأولى أن لا يفعل الإمام ذلك ولكن يبيعهم من المسلمين ليسلموا عسي ويكره ببيعهم من أهل الحرب لأنهم صاروا من أهل دارنا فلا يباعون من أهل الحرب ليعيدوهم إلى دار الحرب فيتقووا بهم على المسلمين ومن صار محكوما بإسلامه من صغارهم يكره بيعه من أهل الذمة كغيره من العبيد المسلمين وللإمام أن يقتل الرجال من الأسارى وله أن يستبقيهم ويقسمهم بين الجند ينظر أي ذلك خيرا للمسلمين فعله لأن رسول الله - A - قتل سبي بني قريظة وقسم سبايا أوطاس فعرفنا أن كل ذلك جائز والإمام نصب ناظرا فربما يكون النظر في قتلهم لمعنى الكبت والغيظ للعدو وليا من المسلمون فتنتهم وربما يكون النظر في قسمتهم لينتفع بهم المسلمون فيختار من ذلك ما هو الأنفع ولهذا لا يحل للمسلمين قتلهم بدون رأي الإمام لأن فيه افتيانا على رأيه إلا أن يخاف الآسر فتنة فحينئذ له أن يقتله قبل أن يأتي به إلى الإمام وليس لغير من أسره ذلك لحديث جابر - Bه - أن النبي - A - قال ( لا يتعاطى أحدكم أسير صاحبه فيقتله ) .
وإن كان لو قتله لم يلزمه شيء لأن الأسير ما لم يقسم الإمام مباح الدم بدليل أن للإمام أن يقتله وقتل مباح الدم لا يوجب ضمانه .
فإن أسلموا لم يقتلهم لقوله - A - ( فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ) ولأن القتل لدفع فتنة الكفر وقد اندفعت بالإسلام ولكنه يقسمهم لأنه كان مخيرا فيهم بين القتل والقسمة فإذا تعذر أحدهما تعين الآخر وهذا لأن حق المسلمين قد ثبت فيهم بالأخذ وصاروا بمنزلة الأرقاء والإسلام لا ينافي بقاء الرق والقسمة لتعيين الملك لا أن يكون ابتداء الاسترقاق فإسلامهم لا يمنع من ذلك فإن لم يسلموا ولكنهم ادعوا أمانا فقال قوم من المسلمين قد كنا أمناهم فإنهم لا يصدقون على ذلك لأن حق المسلمين قد ثبت فيهم فلا يصدقون في إبطال حق المسلمين وقولهم هذا إقرار لا شهادة فإنهم أخبروا به عن أنفسهم ومن أخبر بما لا يملك استئنافه كان متهما في خبره فلا يصدق وإن شهد قوم من المسلمين عدول على طائفة أخرى من المسلمين أنهم أسروهم وهم ممتنعون جازت شهادتهم لأنه لا تهمة في شهادتهم فإنهم إن كانوا من الجند ففي شهادتهم ضرر عليهم وإن كانوا من غير الجند فليس في شهادتهم منفعة لهم .
وإذا انتفت التهمة فالثابت بالشهادة كالثابت معاينة ولا يقتل الأعمى ولا المقعد والمعتوه من الأسارى لأنه إنما يقتل من يقاتل قال الله تعالى { وقاتلوهم } ( الأنفال : 39 ، التوبة : 14 ، البقرة : 193 ) والمفاعلة تكون من الجانبين ولما رأى رسول الله - A - امرأة مقتولة قال هاه ما كانت هذه تقاتل فعرفنا أنه إنما يقتل من الأسارى من يقاتل والأعمى والمقعد والمعتوه لا يقاتلون أحدا .
وإن كان ذلك منهم عارضا فقد اندفع بالأسر فلا يقتلون بعد ذلك كالمرأة منهم إذا قاتلت فأسرت لا تقتل بعد ذلك ولا بأس بإرساله الماء إلى مدينة أهل الحرب وإحراقهم بالنار ورميهم بالمنجنيق وإن كان فيهم أطفال أو ناس من المسلمين أسر أو تجاري .
وقال الحسن بن زياد - C تعالى - : إذا علم أن فيهم مسلم وأنه يتلف بهذا الصنع لم يحل له ذلك لأن الإقدام على قتل المسلم حرام وترك قتل الكافر جائز .
ألا ترى أن للإمام أن لا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه ولكنا نقول أمرنا بقتالهم فلو اعتبرنا هذا المعنى أدى إلى سد باب القتال معهم فإن حصونهم ومدائنهم قل ما تخلو من مسلم عادة ولأنه يجوز لنا أن نفعل ذلك بهم وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم وكما لا يحل قتل المسلم قتل نسائهم وصبيانهم ثم لا يمتنع ذلك لمكان نسائهم وصبيانهم فكذلك لمكان المسلم فلا يستقيم منع هذا . وقد روينا أن النبي - A - نصب المنجنيق على الطائف وأمر أسامة بن يزيد - Bه - بأن يحرق وحرق حصن عوف بن مالك .
وكذلك أن تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم وإن كان الرامي يعلم أنه يصيب المسلم وعلى قول الحسن - Bه - لا يحل له ذلك وهو قول الشافعي لما بينا أن التحرز عن قتل المسلم فرض وترك الرمي إليهم جائز .
ولكنا نقول : القتال معهم فرض وإذا تركنا ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم ولأنه يتضرر المسلمون بذلك فإنهم يمتنعون من الرمي لما أنهم تترسوا بأطفال المسلمين فيجترؤن بذلك على المسلمين وربما يصيبون منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر مدفوع إلا أن على المسلم الرامي أن يقصد به الحربي لأنه لو قدر على التمييز بين الحربي والمسلم فعلا كان ذلك مستحقا عليه فإذا عجز عن ذلك كان عليه أن يميز بقصده لأنه وسع مثله ولا كفارة عليه ولا دية فيما أصاب مسلما منهم لأنه إصابة بفعل مباح مع العلم بحقيقة الحال والمباح مطلقا لا يوجب عليه كفارة ولا دية والشافعي يوجب ذلك ويقول هذا قتل خطأ لأنه يقصد بالرمي الكافر فيصيب المسلم وهذا هو صورة الخطأ .
ولكنا نقول : إذا كان عالما بحقيقة حال من يصيبه عند الرمي لم يكن فعله خطأ بل كان مباحا مطلقا وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان وله في أيديهم جارية مأسورة كرهت له غصبها ووطئها لأنهم ملكوها عليه والتحقت بسائر أملاكهم فلو غصبها منهم أو سرقها كان ذلك منه غدرا للأمان وقد ضمن أن لا يغدر بهم ولا يأخذ شيئا من أموالهم إلا بطيب أنفسهم .
وإن كانت مدبرة أو أم ولد لم يكره له ذلك لأنهم لم يملكوها عليه فهو إنما يعيد ملكه إلى يده ولا يتعرض لملكهم بشيء فلم يكن ذلك منه غدرا للأمان . ألا ترى أنهم لو أسلموا كان عليهم ردها بخلاف الأمة .
وإن كان الرجل مأسورا فيهم لم أكره له أن يغصب أمته أو يسرقها لأنه ما كان بينه وبينهم أمان ولكنه مقهور فيهم مظلوم فكان له أن يدفع الظلم عن نفسه بما يقدر عليه . ألا ترى أن له أن يقتل من قدر عليه منهم وأن يسرق ما استطاع من أموالهم وأولادهم بخلاف الذي دخل إليهم بأمان وإذا أسلم الحربي في دار الحرب ثم ظهر المسلمون على تلك الدار ترك له ما في يده من ماله ورقيقه وولده الصغار لأن أولاده الصغار صاروا مسلمين بإسلامه تبعا فلا يسترقون والمنقولات في يده حقيقة وهي يد محترمة لإسلام صاحبها فلا يتملك ذلك عليه بالاستيلاء ولأنه صار محرزا في يده من المال بمنعة المسلمين وذلك سبب لتقرير ملك المسلم لا إبطال ملكه يوضحه أن يده إلى أمتعته أسبق من يد المسلمين .
فأما عقاره فإنها تصير غنيمة للمسلمين في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - استحسن فاجعل عقاره له لأنه ملك محترم له كالمنقول واستدل بحديث الكلبي ومحمد بن اسحاق - رحمهما الله تعالى - أن نفرا من بني قريظة أسلموا حين كان رسول الله - A - محاصرا لهم فأحرزوا بذلك أنفسهم وأموالهم قال وعامة أموالهم الدور والأراضي .
ولكنا نقول : هذه بقعة من بقاع دار الحرب فتصير غنيمة للمسلمين كسائر البقاع و