( قال ) Bه وإذا غزا الجيش أرضا لم تبلغهم الدعوة لا يحل لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم الإسلام ليعرفوا أنهم على ماذا يقاتلون وهو معنى حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ما غزا رسول الله - A - قوما حتى دعاهم إلى الإسلام .
ولو قاتلوهم بغير دعوة كانوا آثمين في ذلك ولكنهم لا يضمنون شيئا مما أتلفوا من الدماء والأموال عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - في القديم يضمنون ذلك لبقاء صفة الحقن والعصمة إلا أن يوجد الإباء منهم ولا يتحقق ذلك إلا أن تبلغهم الدعوة .
ولكنا نقول : العصمة المقومة تكون بالإحراز وذلك لم يوجد في حقهم ولئن كانت العصمة بالدين كما يدعيه الخصم فهو غير موجود في حقهم أيضا .
والقتل إما أن يكون للمحاربة كما يقوله علماؤنا - رحمهم الله تعالى - أو للشرك كما يقوله الخصم وذلك موجود في حقهم ولكن شرط الإباحة تقديم الدعوة فبدونه لا يثبت ومجرد حرمة القتل لا يكفي لوجوب الضمان كما في النساء والولدان منهم وكما نهي عن قتل من بلغته الدعوة منهم بطريق المثلة ثم لا يكون موجبا للضمان عليه على من فعله وإن كانوا قد بلغتهم الدعوة فإن هم دعوهم فحسن لما روي أن رسول الله - A - بعث معاذا في سرية وقال ( لا تقاتلوهم حتى تدعوهم فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدؤكم فإن بدؤكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلا ثم أروهم ذلك القتيل وقولوا لهم هل إلى خير من هذا سبيل فلأن يهدي الله تعالى على يديك خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ) .
وقد بينا أن المبالغة في الإنذار قد تنفع وإن تركوا ذلك فحسن أيضا لأنهم ربما لا يقوون عليهم إذا قدموا الإنذار والدعاء ولا بأس أن يغيروا عليهم ليلا أو نهارا بغير دعوة لما روى أن النبي - A - أغار على بني المصطلق وهم غارون غافلون ويعمهم على الماء بسقي .
وعهد إلى أسامة بن زيد - Bه - أن يغيروا على أبنا صباحا ثم يحرق .
وكان رسول الله - A - إذا أراد أن يغير على قوم صبحهم واستمع النداء فإن لم يسمع أغار عليهم حتى روى أنه صبح أهل خيبر وقد خرج العمال ومعهم المساحي والمكاتل فلما رأوهم ولوا منهزمين يقولون محمد والخميس والخميس الجيش وقد كانوا وجدوا في التوراة أن رسول الله - A - يغزوهم يوم الخميس ويظفر عليهم وكان ذلك اليوم يوم الخميس فلما قالوا ذلك قال رسول الله - A - ( الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) .
ولا بأس بأن يحرقوا حصونهم ويغرقوها ويخربوا البنيان ويقطعوا الأشجار .
وكان الأوزاعي - C تعالى - يكره ذلك كله لحديث أبي بكر - Bه - في وصية يزيد ابن أبي سفيان - Bه - لا تقطعوا شجرا ولا تخربوا ولا تفسدوا ضرعا ولقوله تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها } ( البقرة : 205 ) الآية .
وتأويل هذا ما ذكره محمد - C تعالى - في السير الكبير أن أبا بكر - Bه - كان أخبره رسول الله - A - بأن الشام تفتح له على ما روى أنه قال يوما إنكم ستظهرون على كنوز كسرى وقيصر فقد أشار أبو بكر - Bه - إلى ذلك في وصيته حيث قال فإن الله ناصركم عليهم وممكن لكم أن تتخذوا فيها مساجد فلا يعلم الله منكم أنكم تأتونها تلهيا فلما علم أن ذلك كله ميراث للمسلمين كره القطع والتخريب لهذا .
ثم الدليل على جوازه ما ذكره الزهري - C تعالى - أن النبي - A - أمر بقطع نخيل بني النضير فشق ذلك عليهم حتى نادوه ما كنت ترضى بالفساد يا أبا القاسم فما بال النخيل تقطع فأنزل الله تعالى { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها } ( الحشر : 5 ) الآية واللينة النخلة الكريمة فيما ذكره المفسرون .
وأمر بقطع النخيل بخيبر حتى أتاه عمر - Bه - فقال أليس أن الله تعالى وعد لك خيبر فقال نعم فقال إذا تقطع نخيلك ونخيل أصحابك فأمر بالكف عن ذلك ولما حاصر ثقيفا أمر بقطع النخيل والكروم حتى شق ذلك عليهم وجعلوا يقولون الحبلة لا تحمل إلا بعد عشرين سنة فلا عيش بعد هذا ففي هذا بيان أنهم يذلون بذلك وأن فيه كبتا وغيظا لهم وقد أمرنا بذلك قال الله تعالى { ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار } ( التوبة : 120 ) ولما مر رسول الله - A - من أوطاس يريد الطائف بدا له قصر عوف بن مالك النضري فأمر بأن يحرق وفيه يقول حسان بن ثابت - Bه - : .
وهان على سراة بني لؤي .
حريق بالبويرة مستطير .
فهذه الآثار تدل على جواز ذلك كله .
وكان الحسن بن زياد - C تعالى - يقول هذا إذا علم أنه ليس في ذلك الحصن أسير مسلم فأما إذا لم يعلم ذلك فلا يحل التحريق والتغريق لأن التحرز عن قتل المسلم فرض وتحريق حصونهم مباح والأخذ بما هو الفرض أولى ولكنا نقول لو منعناهم من ذلك يتعذر عليهم قتال المشركين والظهور عليهم والحصون قل ما تخلو عن أسير وكما لا يحل قتل الأسير لا يحل قتل النساء والولدان .
ثم لا يمتنع تحريق حصونهم بكون النساء والولدان فيها فكذلك لا يمتنع ذلك بكون الأسير فيها ولكنهم يقصدون المشركين بذلك لأنهم لو قدروا على التمييز فعلا لزمهم ذلك فكذلك إذا قدروا على التمييز بالنية يلزمهم ذلك .
ولا تقسم الغنيمة في دار الحرب حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - لا بأس بقسمتها في دار الحرب بعدما تم انهزام المشركين وهو بناء على أن الملك عنده يثبت بنفس الإصابة لأنه مال مباح فيملك بنفس الأخذ ويجوز قسمته في ذلك الموضع كالصيد وهذا لأن سبب الملك الأخذ وذلك محسوس يتم بنفسه وقيام منازعة المشركين لكون الغزاة في دارهم لا يمنع تقرر ملكهم لقيام منازعتهم في ثياب الغزاة ودوابهم فإنهم لو تمكنوا من الكر عليهم أخذوا جميع ذلك وهذا لأن توهم الكرة عليهم سبب يعارض الاستيلاء بالنقض والأمن عما ينقض سبب الملك ليس بشرط لوقوع الملك كالملك بالبيع والهبة ألا ترى أنه لو كان القتال في دار الإسلام أو صير الإمام البقعة دار إسلام يجوز له أن يقسم فيها وهذا التوهم باق ولأنهم إن كروا فالمسلمون واثقون بجميل وعد الله تعالى الله في نصرة أوليائه ينصرهم في المرة الثانية كما نصرهم في المرة الأولى .
فأما عندنا الحق يثبت بنفس الأخذ ويتأكد الإحراز ويتمكن بالقسمة كحق الشفيع يثبت بالبيع ويتأكد بالطلب ويتم الملك بالأخذ وما دام الحق ضعيفا لا تجوز القسمة لأنه دون الملك الضعيف في المبيع قبل القبض وبيان هذا الأصل أن السبب لا يتم قبل الإحراز لأن السبب هو القهر وقبل الإحراز هم قاهرون يدا مقهورون دارا والثابت من وجه دون وجه يكون ضعيفا وهذا لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والشوكة ولما بقيت هذه البقعة منسوبة إليهم عرفنا أن القوة فيها لهم والدليل عليه أنه يحل للإمام أن يرجع إلى دار الإسلام ويترك هذه البقعة في أيديهم وإنما حل ذلك لعجزه عن المقام في هذا الموضع فعرفنا أنا نحسن العبارة في قولنا أنه هزم المشركين وفي الحقيقة هو المنهزم منهم حين ترك هذا الموضع في أيديهم .
والدليل عليه أن بالأخذ يملك الأراضي كما يملك الأموال ثم لا يتأكد الحق في الأرض التي نزلوا فيها إذا لم يصيرها دار الإسلام فكذلك في الأموال والقصد إلى التملك وجد في الكل فإنه ما دخل دار الحرب إلا قاصدا لملك الأراضي والأموال عليهم بحسب الإمكان ولسنا نسلم أن سبب الملك نفس الأخذ بل هو قهر يحصل به إعلاء كلمة الله تعالى ولهذا كان المصاب غنيمة يخمس وهذا القهر لا يتم بنفس الأخذ ولا بقهر الملاك بل بقهر جميع أهل دار الحرب وذلك بالإحراز ليكون حينئذ جميع دارهم مقابلا بجميع دارنا فأما قبل الإحراز يقابل جميع دارهم بالجيش وليس بهم قوة المقاومة مع جميع أهل الحرب وبه فارق المراغم إذا أحرز نفسه بمنعة أهل الجيش فإنه يعتق لأن حاجته إلى قهر مولاه فقط وذلك يتم بالجيش .
ألا ترى أنه لا يجب الخمس في رقبته وإذا كان القتال في دار الإسلام فبنفس الأخذ يصير المال محرزا بالدار فيتم القهر وإذا صير البقعة دار إسلام فقد تم الإحراز بالدار .
ألا ترى أنه وإن لم يؤخذ المال يتأكد حقهم فيها وإن الحق يتأكد في الأراضي أيضا وبه فارق الصيد فسبب الملك هناك الأخذ وهو القهر على الممتنع في نفسه وهنا الامتناع في المال بل فيمن يقاتل دونه وذلك جميع أهل الحرب ولا يتم قهر جميعهم إلا بالإحراز حكما نقول فإن قسمها جاز لأنه أمضى فصلا مجتهدا فيه وقضاء المجتهد في المجتهدات نافذ وبيان هذا أن الاختلاف في سبب القسمة وهو الملك أنه هل يتم بنفس الأخذ أم لا فإذا نفذ باجتهاده كان صحيحا كما إذا قضي بشهادة الأعمى أو المحدود في قذف .
وقيل من مذهبنا كراهة القسمة في دار الحرب لا بطلان القسمة لما في القسمة من قطع شركة المدد فتقل به رغبتهم في اللحوق بالجيش ولأنه إذا قسم تفرقوا فربما يكثر العدو على بعضهم وهذا أمر وراء ما يتم به القسمة فلا يمتنع جوازها .
وعن أبي يوسف - C تعالى - أنه قال إذا لم يجد الإمام حمولة لها يحمله عليها فليقسمها في دار الحرب هكذا ذكر في بعض روايات هذا الكتاب .
ووجهه أن هذه حالة ضرورة لأنه لو لم يقسمها يحتاج إلى تركها فيبطل حق الغانمين فيها فكان تقرير حقهم بالقسمة أنفع وإن كان فيه قطع شركة المدد وكما لا يقسمها لا يبيعها في دار الحرب لأن البيع ينبني على تأكد الحق بالإحراز ولأن البيع تصرف كالقسمة ألا ترى أن في البيع قبل القبض يسوى بين البيع والقسمة وإذا كان في الغنيمة طعام أو علف فاحتاح إليه رجل تناول بقدر حاجته .
وقوله ( فاحتاج ) : مذكور على وجه العادة دون الشرط فللمحتاج وغير المحتاج أن يتناول من ذلك لحديث ابن عمر - Bهما - أن المسلمين أصابوا مع رسول الله - A - في غزو طعاما وعسلا فلم يخمس ذلك وكان الرجل منهم يصيب من ذلك بقدر حاجته وأن المسلمين لما ظهروا على كسرى ظفروا بمطبخه وكان قد أركت القدور وظن بعض الأعراب أن ذلك طيب فهموا أن يصبغوا به لحاهم فقيل أنه مأكول فوقعوا في ذلك حتى اتخموا وأن غلاما لسلمان - Bه - أتاه بسلة يوم القادسية فقال افتحها فإن كان فيها طعام أصبنا منه وإن كان فيها مال رددناه على هؤلاء فإذا فيها خبز وجبن وسكين فجعل يأكل من ذلك ويقطع لأصحابه من الجبن ويصف لهم كيف يتخذ الجبن فدل أنه كان معروفا بينهم الرخصة في الطعام والعلف نظير الطعام لأنه محتاج إليه لظهره كما يحتاج إلى القوت لنفسه وهذا لأنهم لا يمكنهم أن يستصحبوا من الطعام والعلف مقدار حاجتهم للذهاب والرجوع ولا يجدون في دار الحرب من يشترون منه وما يأخذون يكون غنيمة فللعلم بوقوع الحاجة إليه يصير مستثنى من شركة الغنيمة ويبقى على أصل الإباحة ولهذا حل للمحتاج وغير المحتاج ما لم يخرجوا إلى دار الإسلام فإذا خرجوا فقد ارتفعت الضرورة لأنهم يجدون في دار الإسلام الطعام والعلف بالشراء فيثبت حكم الغنيمة فيما كان باقيا منها وكذلك يتناول من سلاح الغنيمة إذا احتاج إليه للقتال ثم يرده إذا استغنى عنه ويكره من غير حاجة لأن المستثنى من شركة الغنيمة الطعام والعلف للعلم بتجدد الحاجة إليهما في كل وقت وذلك لا يوجد في السلاح وكل واحد منهم يتمكن من أن يستصحب السلاح من دار الإسلام فلا يصير هذا مستثنى من الشركة وفني المبيح تحقق الحاجة فإذا لم يوجد ذلك يكره الاستعمال وإذا وجد فلا بأس به لأن عند الضرورة يجوز له أن ينتفع بملك الغير مما لا حق له فيه فماله فيه حق أولى وهذا لأن المبارز قد يبتلي بهذا بأن يسقط سيفه من يده فيعالج قرنه ليأخذ منه سيفه فإذا أخذه صار غنيمة له فلو لم يجز له أن يضربه أدى إلى الضرر والحرج وإلى نحوه أشار قال أرأيت لو رماه العدو بنشابة فرماهم بها أو انتزع سيفا من بعضهم فضربه أكان يكره ذلك هذا ونحوه لا بأس به .
فأما المتاع والثياب والدواب فيكره الانتفاع بها قبل القسمة لما روينا من النهي قبل هذا ولأن حقهم ثبت فيها وإن لم يتأكد قبل الإحراز فلا يكون لبعضهم أن يختص بالانتفاع بشيء منها قبل القسمة اعتبارا للمنفعة بالعين فإن احتاجوا إلى ذلك قسمها الإمام بينهم في دار الحرب لتحقق الحاجة وهذا لأن مراعاة حقهم عند حاجتهم أولى من مراعاة حق المدد ولا يدري أيلحق بهم المدد أم لا يلحق وإن لم يحتاجوا إلى ذلك كرهت القسمة في دار الحرب وهذا اللفظ دليل على أن الخلاف في كراهة القسمة لا في الجواز .
( قال ) ( ألا ترى أن جيشا آخر لو دخلوا دار الحرب شركوهم في تلك الغنيمة وهذا عندنا ) فأما عند الشافعي - C تعالى - لا شركة للمدد إذا لحق الجيش بعد الإصابة بناء على أصله أن السبب هو الأخذ والملك يثبت بنفس الأخذ وما قبل الإحراز بدار الإسلام وبعده سواء .
ودليل أن حقه في المالية أن للإمام بيع الغنائم وقسمتها بين الغانمين ومراده بالثمن القيمة فالقيمة ثمن التعديل والمسمى ثمن التراضي ولهذا مكنه من الأخذ من المشتري بالثمن لأن حق المشتري فيما أعطى من ماله وهو الثمن فينظر له في ذلك كما ينظر للمستولي عليه في إعادة ماله إليه .
يسوق الفوارس سوق النعم .
يسوق الفوارس سوق النعم .
وعندنا السبب هو القهر وتمام القهر بالإحراز فإذا شارك المدد للجيش في الإحراز الذي به يتم السبب يشاركونهم في تأكد الحق به كما إذا التحقوا بهم في حالة القتال بعدما أخذوا بعض الأموال وهذا لأن اجتماع المحاربين في دار الحرب للمحاربة سبب الشركة في المصاب بدليل أن الردء يستوي بالمباشر للقتال وقد سأل علي - Bه - رسول الله - A - فقال أرأيت الرجل يكون حامية لقوم وآخر لا يقدر على حمل السلاح أيشتركان في الغنيمة فقال A ( إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم ) ولأن دخول دار الحرب سبب لقهر المشركين .
قال علي بن أبي طالب - Bه - ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ولهذا جعل الله تعالى الواطئ موطئ العدو بمنزلة النيل في الثواب قال الله تعالى { ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا } ( التوبة : 120 ) الآية فكذلك في الشركة في المصاب يجعل الواطئ موطئ العدو على قصد الحرب بمنزلة النيل منهم لما فيه من الكبت والغيظ لهم .
ولا يدخل على شيء مما ذكرنا التجار وأهل سوق العسكر والأسير المنقلب منهم والذي أسلم في دار الحرب إذا التحق بالجيش لأن قصد هؤلاء ليس هو الحرب بل قصد بعضهم التجارة وقصد بعضهم التخلص فلا يستحقون الشركة إلا أن يقاتلوا فيظهر حينئذ بفعلهم أن قصدهم هو القتال وإن احتاج رجل من المسلمين إلى شيء من المتاع حاجة يخاف على نفسه منها فلا بأس باستعمالها قبل القسمة كما يجوز تناول ملك الغير عند الحاجة إلا أن ذلك بشرط الضمان لثبوت الملك للمأخوذ منه وهذا بغير ضمان لعدم تأكد الحق قبل الإحراز .
ألا ترى أنه لو أتلف شيئا من المال قبل الإحراز لم يكن ضامنا لما أتلف ولا يقسم السبي بينهم وإن احتاج الناس إليه ما لم يخرجوهم إلى دار الإسلام ولا يبيعهم كما لا يفعل في شيء من سائر الأموال وهذا لعدم تأكد الحق فيهم قبل الإحراز ولكن يمشيهم حتى يحرزهم بدار الإسلام إن أطاقوا المشي فإن لم يطيقوه وكان معهم فضل حمولة من الغنيمة حملهم عليها لأن الحمولة حق الغانمين والسبي كذلك فمن النظر لهم أن يحمل حقهم فإن لم يكن معهم فضل حمولة ولكن كان مع بعض الغانمين فضل حمولة يحملهم عليها فعل ذلك برضاهم وإن لم تطب أنفسهم بذلك لم يفعل لأن الحمولة للخاص والسبي حق الجماعة فلا يكون له أن يستعمل في إحراز حق الجماعة حمولة الخاص منهم بغير رضاهم أرأيت لو أطاق بعضهم حمل بعض السبي على ظهره أو على عاتقه أكان يجبره الإمام على ذلك ثم يقتل الرجال لما بينا من جواز قتل الأسير قبل تعين الملك فيه إذا كان فيه نظر .
وفي هذا الموضع لو لم يقتلهم احتاج إلى تركهم فيرجعون إلى دار الحرب حربا على المسلمين فكان النظر في قتلهم ويترك النساء والصبيان في موضع يأمن أيدي المشركين أن تصل إليهم لأنه إذا تركهم في موضع تصل إليهم أيديهم يتقوون بهم وبتركه إياهم في هذا الموضع لا يكون تاركا للإحسان إليهم وترك الإحسان لا يكون إساءة وإنما جاز له هذا القدر لعجزه عن الإحسان إليهم بالإخراج عن المهلكة .
وإن رأى أن يقسم ليتكلف كل واحد منهم حمل نصيبه فعل ذلك وهو أنفع من الترك .
وأما السلاح والمتاع فيحرقه بالنار إذا لم يستطع إخراجه إلى دار الإسلام لأنه مأمور بقطع قوة المشركين عنه وإثبات القوة للمسلمين به وقد عجز عن أحدهما وقدر على الآخر فيأتي بما يقدر عليه وهو الإحراق بالنار كيلا تصل إليه يد المشركين ليتقووا به .
قال هذا فيما يحترق فأما ما لا يحترق كالحديد ينبغي أن يدفنه في موضع لا يقف عليه أهل الحرب فيستعينوا به وأما الدواب والمواشي إذا قامت عليه فإنه لا يعقرها خلافا لمالك - C تعالى - وقد بينا هذا ولا يتركها كذلك خلافا للشافعي - C تعالى .
لما في الترك من تقوى المشركين بها ولكنه يذبحها ثم يحرقها لئلا ينتفع بها العدو فالذبح عند الحاجة مباح شرعا في مأكول اللحم وغير مأكول اللحم وبعد الذبح ربما يتقوون بلحمها فيقطع ذلك عنهم بالإحراق بالنار كما يفعل بالثياب والمتاع وفي هذا كبت وغيظ لهم .
وقد بينا جواز التخريب والإحراق فيما يكون فيه الكبت والغيظ للمشركين .
وما ظهروا عليه من أرض العدو فالإمام فيها بالخيار إن شاء خمسها وقسمها بين الغانمين كما فعله رسول الله - A - بخيبر وإن شاء من بها على أهلها فتركهم أحرار الأصل ذمة للمسلمين والأراضي مملوكة لهم وجعل الجزية على رقابهم والخراج على أراضيهم عندنا كما فعله عمر - Bه - بالسواد .
وقال الشافعي - C تعالى - له ذلك في الرقاب فأما في الأراضي ليس له ذلك بل عليه أن يقسمها بين الغانمين ويصرف الخمس إلى مصارفه وينبني هذا الكلام على فصلين : .
أحدهما : في السواد أنها فتحت عنوة أو صلحا وقد بينا .
والثاني : في فتح مكة فإنها فتحت عنوة وقهرا عندنا .
وزعم الشافعي - C تعالى - أنها فتحت صلحا .
قال الكرخي - C تعالى - في كتابه : ومن له أدنى علم بالسير والفتوح لا يقول بهذا وقد كان أهل العلم مجمعين على فتح مكة عنوة وقهرا حتى حدث قول بعد المأتين أنها فتحت صلحا وإنما قال الشافعي - C تعالى - هذا لأن النبي - A - ترك لهم الأراضي والنخيل التي هي حول مكة فلم يجد بدا في إجراء مذهبه من هذا .
( قال ) ( والدليل على ذلك حديث ابن عباس - Bه - أن النبي - A - صالح أهل مكة عام الحديبية على أن وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ثم دخلها بعد ذلك باثنين وعشرين شهرا ) فعرفنا أنه دخلها بذلك الصلح وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } ( الفتح : 24 ) والدليل عليه أنه لم يضع على أراضيهم وظيفة وفي البلاد المفتوحة عنوة وقهرا لا يجوز ترك الأراضي لهم بغير وظيفة .
( وحجتنا ) في ذلك أن الآثار اشتهرت بنقض قريش الصلح الذي كان بينه وبينهم على ما روى أن بني خزاعة دخلوا في عهد رسول الله - A - يومئذ وبني بكر في عهد قريش ثم قاتل بنو بكر بني خزاعة وأردفتهم قريش بالأسلحة والأطعمة وقاتل من قاتل من قريش معهم مستخفيا بالليل حتى جاء وافد بني خزاعة عمرو بن سالم إلى رسول الله - A - يستنصره ويقول : .
لا هم إني ناشد محمدا .
حلف أبينا وأبيه الاتلدا .
إن قريشا أخلفوك الموعدا .
ونقضوا ميثاقك المؤكدا .
وبيتونا بالوتير هجدا .
وقتلونا ركعا وسجدا .
فقال A نصرت يا عمرو بن سالم فنشأت سحابة فقال إنها تستهل بنصر بني خزاعة إلى أن نزل A بمر الظهران قال العباس - Bه - قلت واصباحا قريش لو دخل رسول الله - A - قبل أن يخرجوا فيستأمنوا لهلكت قريش فركبت بغلة رسول الله - A - ودخلت الأراك لعلي أجد بعض الحطابين فأخبرهم بمجيء رسول الله - A - فلقيت أبا سفيان بن حرب وحكيم ابن حزام - رضوان الله عليهم أجمعين - يتراجعان الحديث ويقول أحدهما لصاحبه ما هذه النيران فيقول الآخر نيران خزاعة ويقول الآخر هم أقل من ذلك وأذل فقلت يا حنظلة ما شأنك قال يا أبا الفضل ما تفعل ههنا فقلت هذا رسول الله - A - نزل بمر الظهران في عشرة آلاف قال وما الحيلة قلت لا أعرف لك حيلة ولكن أركب عجز دابتي فأردفته فما مررت بنار إلا قيل هذه بغلة رسول الله - A - وهذا عمه حتى مررت بنار عمر - Bه - فعرفه فأخذ السيف وعدا خلفه ليقتله فسرت بالدابة حتى اقتحمت مضرب رسول الله - A - فدخل عمر - Bه - وقال يا رسول الله - A - إن الله مكنك من عدوك من غير عقد ولا صلح فدعني لأقتله فقلت مهلا فإني أجرته ولو كان من بني عدي ما قتلته فبكى عمر - Bه - وقال والله إن سروري بإسلامك يوم أسلمت أكثر من سروري بإسلام الخطاب أن لو أسلم فأمرني رسول الله - A - أن أحمله إلى رحلي فغدوت به عليه وقال ألم يأن أن تشهد أن لا إله إلا الله فقال أبو سفيان إني أقول لو كان مع الله آلهة لجاز أن ينصرونا فقال A أتشهد أني رسول الله فقال إن في النفس بعد من هذا لشيئا فقلت أسلم فإن السيف في قفاك فأسلم فقلت إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له من الأمر شيئا يا رسول الله فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقال وكم تسعهم داري يا رسول الله قال من أغلق الباب على نفسه فهو آمن ومن ألقي السلاح فهو آمن ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن إلا ابن خطل ويعيش بن صبابة وقينتين لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله - A - ثم أمرني أن أحبسه في مضيق الوادي لتمر عليه الكتائب فكلما مرت عليه كتيبة قال من هؤلاء الحديث إلى أن مر رسول الله - A - في كتيبته الخضراء وفيها ألفا رجل من المهاجرين والأنصار عليهم السلاح والحلق لا يرى منهم إلا الحدق فلما حاذاه سعد بن عبادة وكان لواء رسول الله - A - بيده هز اللواء وقال اليوم يوم الملحمة اليوم تهتك فيه الحرمة فقال أبو سفيان أن ابن أخيك أصبح في ملك عظيم فقلت ليس بملك إنما هو نبوة قال أو ذاك ثم نادى رسول الله - A - أمرت باستئصال قومك من قريش فقد قال سعد كذا فقال A اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ فيه الحرمة وبعث إلى سعد ليسلم اللواء إلى ابنه قيس الحديث .
فهذه القصة من أولها إلى آخرها تدل على انتقاض ذلك العهد ولما دخل رسول الله - A - مكة بعث خالد بن الوليد - Bه - من جانب والزبير بن العوام - Bه - من جانب وقال أترون أوباش قريش احصدوهم حصدا حتى تلقوني على الصفا وفيه يقول قائلهم يخاطب زوجته : .
إنك لو شهدت يوم خندمه .
إذ فر صفوان وفر عكرمه .
لم ينطق اليوم بأدنى كلمه .
وقال ابن رواحة - Bه - ينشد بين يدي رسول الله - A - ويقول : .
خلوا بني الكفار عن سبيله .
اليوم نضربكم على تأويله .
ضربا يزيل الهام عن مقيله .
ويذهل الخليل عن خليله .
لا هم أني مؤمن بقيله .
فقال له عمر - Bه - أتنشد الشعر في حرم الله تعالى فقال له رسول الله - A - ( دعه يا عمر فإنه أسرع في قلوبهم من وقع النبل ) حتى جاء أبو سفيان إلى رسول الله - A - فقال لقد انتدب حضرا قريش فلا قريش بعد اليوم فقال A ( الأبيض والأسود آمن إلا ابن خطل ) ثم جاء رسول الله - A - إلى باب الكعبة وفيها رؤساء قريش فأخذ بعضادتي الباب وقال ( ماذا ترون أني صانع بكم ) فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم ملكت فاسجح فقال A ( إني أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين أنتم الطلقاء لكم أموالكم ) وصح أنه A دخل مكة وعلى رأسه المغفر فذلك دليل أنه A دخله مقاتلا وقال A في خطبته ( إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة ) وإنما مراده حل القتال فيها فدل أنه دخلها مقاتلا وفي قوله تعالى { إذا جاء نصر الله والفتح } ( النصر : 1 ) يشهد لما قلنا ونزول قوله تعالى { وهو الذي كف أيديهم } ( الفتح : 24 ) في صلح الحديبية ألا ترى إلى قوله تعالى { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } ( الفتح : 25 ) وإنما يضع الخراج على أراضيهم لأن الأراضي تابعة للرقاب ولم يضع الجزية على رقابهم إذ لا جزية على عربي ولا رق فكذلك لا خراج على أراضيهم فإذا ظهر أنها فتحت قهرا اتضح مذهبنا في المسألة التي قلنا .
وعلى سبيل الابتداء في تلك المسألة فالشافعي - C تعالى - يقول قد تأكد حق الغانمين في الأراضي أما عندي فقد ثبت الملك لهم بنفس الإصابة وعندكم تأكد الحق بالإحراز فقد صارت محرزة بفتح البلدة وإجراء أحكام الإسلام فيها وفي المن إبطال حق الغانمين عما تأكد حقهم فيه والإمام لا يملك ذلك كما إذا استولى على الأموال بدون الأراضي لم يكن له أن يبطل حق الغانمين عنها بالرد عليهم بخلاف الرقاب فالحق في رقابهم لم يتأكد .
بدليل أن له أن يقتلهم فكذلك يكون له أن يمن على رقابهم بجزية يأخذها منهم ثم حق مصارف الخمس ثابت بالنص وفي المن إبطال ذلك ولهذا قلت إما تخمس الجزية لأن الخمس من الرقاب كان حقا لأرباب الخمس فيثبت حقهم في بدل ذلك وهو الجزية .
وعلماؤنا - رحمهم الله تعالى - يقولون : تصرف الإمام وقع على وجه النظر وأنه نصب لذلك .
وبيانه : أنه لو قسمها بينهم اشتغلوا بالزراعة وقعدوا عن الجهاد فيكر عليهم العدو وربما لا يهتدون لذلك العمل أيضا فإذا تركها في أيديهم وهم أعرف بذلك العمل اشتغلوا بالزراعة وأدوا الجزية والخراج فيصرف ذلك إلى المقاتلة ويكونون مشغولين بالجهاد وبهذا تبين أنه ليس في هذا إبطال حقهم بل فيه توفير المنفعة عنهم لأن منفعة القسمة وإن كانت أعجل فمنفعة الخراج أدوم ولأنه كما ثبت الحق فيها للذين أصابوا ثبت لمن يأتي بعدهم بالنص قال الله تعالى { والذين جاؤا من بعدهم } ( الحشر : 10 ) وفي القسمة إبطال حق من يأتي بعدهم أصلا وفي المن عليهم مراعاة الحقين جميعا وإنما قسم رسول الله - A - خيبر لحاجة لأصحابه - Bه - كانت يومئذ ونحن نقول للإمام ذلك عند حاجة المسلمين فأما بدون الحاجة الأولى ما فعله - Bه - بالسواد والاستدلال بما استدل به ولا قول أبعد من قول من أوجب في الجزية الخمس فإن رسول الله - A - أخذ الجزية من مجوس هجر والحلل من بني نجران وقال لمعاذ - Bه - خذ من كل حالم وحالمة دينارا ولم يخمس شيئا من ذلك فدل أنه لا خمس في الجزية .
وإذا قسم الغنيمة ضرب للفارس بسهمين وللراجل بسهم في قول أبي حنيفة - Bه - وهو قول أهل العراق .
وفي قولهما والشافعي - رحمهم الله تعالى - يضرب للفارس بثلاثة أسهم وهو قول أهل الشام وأهل الحجاز لحديث عبدالله بن العمري - رضي الله تعالى عنهما - أنه أسهم للفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وقسم رسول الله - A - خيبر على ثمانية عشر سهما وكانت الرجال ألفا وأربعمائة والخيل مائتي فرس وباسم كل مائة سهم فتبين أنه جعل سهم الفرس ضعف سهم الرجل وعند تعارض الأخبار المصير إلى ما روينا أولى لما فيه من إثبات الزيادة ولأنه اتفق عليه أهل الشام وأهل الحجاز فهم أعرف بذلك من أهل العراق ثم مؤنة الفرس أعظم من مؤنة الرجل والاستحقاق باعتبار التزام المؤنة .
وأبو حنيفة - C تعالى - استدل بحديث عبيدالله العمري عن نافع عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - A - قسم للفارس سهمين سهما له وسهما لفرسه وعبيدالله أوثق من أخيه عبدالله - رضي الله تعالى عنهما - وفي حديث كريمة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها المقداد - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - A - أسهم له يوم بدر سهمين سهما له وسهما لفرسه وفي حديث مجمع بن يعقوب بن مجمع عن أبيه عن جده أن النبي - A - أسهم للفارس يوم خيبر سهمين .
وما رووا أنه قسم خيبر على ثمانية عشر سهما صحيح لكن ذكر في هذا الحديث أن الخيل كانت ثلثمائة ولو ثبت ما رووا فالمراد من قوله وكانت الخيل مائتي فرس الخيل بفرسانها والرجال ألف وأربعمائة أي الرجالة قال الله تعالى { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } ( الإسراء : 64 ) أي بفرسانك ورجالتك وقال تعالى { يأتوك رجالا } ( الحج : 27 ) أي رجالة فتبين بهذا أن الناس كانوا ألفا وستمائة فإذا كان باسم كل مائة سهم كان للفارس سهمان وللراجل سهم ثم المصير إلى ما روينا أولى لأنه هو المتيقن وما رجح به من إثبات الزيادة متعارض ففيما روينا إثبات الزيادة في نصيب الراجل ثم في هذا تفضيل البهيمة على الآدمي وذلك غير جائز لأن الاستحقاق بالقتال والرجل يقاتل وحده والفرس لا تقاتل ولهذا كان القياس أن لا يسوى بين الفرس والرجل وأن لا يستحق بالفرس شيئا لأنه آلة من آلات الحرب كسائر الآلات ولكن الآثار اتفقت على سهم واحد فأخذنا بما اتفق عليه الأثر وأبقينا ما اختلف فيه الأثر على أصل القياس .
ولا معنى لاعتبار المؤنة فصاحب الحمار والبغل يلتزم المؤنة أيضا ولا يستحق به شيئا وصاحب الفيل والبعير مؤنته أكثر ثم لا يستحق بهما شيئا مع أنا لا نسلم أن مؤنة الفرس أكثر فإن ما يحتاج إليه الفرس من العلف يوجد مباحا ومطعوم بني آدم من الخبز واللحم لا يوجد إلا بثمن .
ومذهب أبي حنيفة - C تعالى - مروي عن عمر - Bه .
وصاحب البرذون والهجين والمقرف كصاحب الفرس العربي في استحقاق السهم به عندنا سواء .
وقال أهل الشام لا يسهم للبراذين ورووا فيه حديثا عن رسول الله - A - لكنه شاذ والمشهور لهم حديث عمر - Bه - على ما روى أن الخيل أغارت بالشام وعلى القوم المنذر بن حميضة الوداعي فأدركت العراب اليوم والبراذين ضحى الغد فلم يسهم المنذر للبراذين وقال لا أجعل من أدرك كمن لا يدرك وكتب في ذلك إلى عمر - Bه - فقال هبلت الوداعي أمه لقد أذكت به وفي رواية لقد أذكرته أمضوها على ما قال .
( وحجتنا ) في ذلك أن استحقاق السهم بالخيل لمعنى إرهاب العدو قال الله تعالى { ومن رباط الخيل } ( الأنفال : 60 ) الآية والإرهاب يحصل بالبرذون كما يحصل بالفرس العربي ثم العرب في الطلب والهرب أقوى والبرذون أقوى على الحرب وأصبر وألين عطفا عند اللقاء ففي كل جانب نوع منفعة معتبرة ومعنى التزام المؤنة يجمعهما .
وتأويل حديث عمر - Bه - أن المنذر فعل ذلك باجتهاده فأمضى عمر - Bه - اجتهاده وهكذا نقول ومن الناس من يقول يستحق بالفرس العربي سهمان وبما سوى ذلك سهم واحد وهذا بعيد فإن البرذون فرس العجم والعربي فرس العرب وكما يسوى بين العجمي والعربي في استحقاق السهم فكذلك في الخيل والهجين ما يكون أبوه من الكوادن وأمه عربية والمقرف ما يكون أبوه عربيا وأمه من الكوادن ومعنى قوله لقد أذكت به أتت به ذكيا وقوله أذكرته أتت به ذكرا جلدا .
( قال ) ( وإذا دخل الغازي دار الحرب مع الجيش فارسا ثم نفق فرسه أو عقر قبل إحراز الغنيمة فله سهم الفرسان عندنا ) وهو قول عمر - Bه .
وقال الشافعي - C تعالى - له سهم الراجل لقول عمر - Bه - الغنيمة لمن شهد الوقعة وقد شهد الوقعة راجلا ولأن سبب الاستحقاق الأخذ وعند الأخذ هو راجل فيستحق سهم الراجل كما لو نفق فرسه قبل دخول دار الحرب وهذا لأن سهم الفرس لا يكون أقوى من سهم صاحبه ولو مات الغازي بعد مجاوزة الدرب لم يستحق شيئا فإذا نفق الفرس أولى ولأنه يستحق السهم بفرسه كما يستحق الرضخ بعبده ولو مات عبده بعد مجاوزة الدرب لم يستحق به شيئا فكذلك الفرس .
( وحجتنا ) أنه دخل دار الحرب فارسا على قصد الجهاد فيستحق سهم الفرسان كما لو كان فرسه قائما وقاتل راجلا وهذا لأن الاستحقاق بالفرس لمعنى إرهاب العدو به وقد حصل به والجيش إنما يعرض عند مجاوزة الدرب فمن كان فارسا في ذلك الوقت وأثبت اسمه في ديوان الفرسان فقد حصل إرهاب العدو بفرسه لأنه ينتشر الخبر في دار الحرب أنه دخل كذا وكذا فارس وقل ما يعيش بعد ذلك ولأن الاعتبار للقهر الذي يحصل به إعزاز الدين وذلك بدخول دار الحرب على قصد الجهاد فإذا كان هو عند دخول دار الحرب ملتزما مؤنة الفرس على قصد الجهاد انعقد له سبب الاستحقاق وبالإجماع لا معتبر ببقاء الفرس إلى حال تمام الاستحقاق لأنه لو نفق فرسه بعد القتال قبل إحراز الغنيمة بدار الإسلام استحق سهم الفرسان فكان المعتبر حال انعقاد السبب ابتداء بخلاف ما لو مات قبل مجاوزة الدرب لأن معنى إرهاب العدو والقهر لم يحصل به وبخلاف ما إذا مات الفارس لأنه هو المستحق ولا يبقى الاستحقاق بعد موت المستحق وإن كان السبب منعقدا .
ألا ترى أنه لو قتل في دار الحرب أن ما بعد الفراغ قبل الإحراز عندنا لا يستحق شيئا والعبد آدمي كالحر ثم الرضخ ليس نظير السهم .
ألا ترى أنه غير مقدر بشيء فلا يستقيم اعتبار السهم بما دونه ولو باع فرسه بعدما جاوز الدرب قبل القتال ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - يستحق سهم الفرسان أيضا لأنه أثبت اسمه في ديوان الفرسان وفي ظاهر الرواية يستحق سهم الرجالة لأنه تبين بالبيع أنه ما كان قصده من التزام مؤنة الفرس القتال عليه إنما كان قصده التجارة وبمجاوزة الدرب على قصد التجارة لا ينعقد سبب استحقاق الغنيمة بخلاف ما إذا مات فرسه ولأنه بالبيع والهبة أزاله عن ملكه باختياره فيكون به مسقطا حقه وبالموت ما أزا له عن ملكه باختياره بل هو مصاب في ذلك .
ولو باعه بعد الفراغ من القتال لم يسقط سهمه لأنه لا يتبين به أنه لم يكن قصده من التزام مؤنة الفرس عدم القتال ألا ترى أنه ما لم يفرغ من القتال لم يشتغل بالبيع فيه واختلف مشايخنا - رحمهم الله تعالى - فيما إذا باعه في حالة القتال قال بعضهم لا يسقط سهمه لأن بيع الفرس عند القتال مخاطرة بالنفس فمن ليس له قصد القتال يطلب في ذلك الوقت فرسا ليهرب عليه وبهذا تبين أن بيعه الفرس لإظهار المبالغة في الحرب وهو أنه يرى العدو أنه غير عازم على الفرار أصلا .
( قال ) C تعالى ( والأصح عندي أنه لا يستحق سهم الفارس ) لأن تأخيره بيع الفرس إلى وقت القتال يحقق قصد التجارة فيه فإن المشتري فيه عند ذلك أرغب والتاجر يحبس مال تجارته إلى وقت عزته وكثرة الرغبة فيه فلهذا يسقط سهمه ببيع الفرس فأما إذا دخل دار الحرب راجلا ثم اشترى فرسا وقاتل فارسا له سهم الراجل .
وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة - C تعالى - أن له سهم الفرسان لأن معنى إرهاب العدو والقهر الذي يتم به إعزاز الدين بالقتال على الفرس أظهر منه في مجاوزة الدرب فإذا كان يستحق سهم الفرسان بمجاوزة الدرب فارسا فالقتال على الفرس أولى .
وجه ظاهر الرواية أن الإمام إنما يدون الدواوين ويثبت أسامي الفرسان والرجالة عند مجاوزة الدرب ويشق عليه تفقد أحوالهم بعد ذلك فمن أثبت اسمه في ديوان الرجالة فقد انعقد له سبب الاستحقاق راجلا فلا يتغير ذلك بشراء الفرس كما في الفصل الأول لا يتغير حاله بموت الفرس ومن دخل دار الحرب فارسا ثم قاتل راجلا بأن كان القتال على باب حصن أو في السفينة فإنه يستحق سهم الفارس أما عندنا فلأنه أثبت اسمه في ديوان الفرسان والاستحقاق بحصوله في دار الحرب فارسا وعند الشافعي - C تعالى - لأنه قاتل وله فرس معد للقتال عليه لو احتاج إليه فيستحق سهم الفرسان كما يستحق الردء السهم مع المباشر وإذا مات الغازي أو قتل بعد إصابة الغنيمة قبل إخراجها إلى دار الإسلام لم يورث سهمه عندنا وهو قول علي - Bه - وقال الشافعي - C تعالى - يورث وهو قول عمر - Bه - وهذا ينبني على الأصل الذي بينا فإن عنده الملك يثبت لهم بنفس الإصابة وموت أحد الشركاء لا يبطل ملكه عن نصيبه بل يخلفه وارثه فيه كالشركاء في الاصطياد إذا مات أحدهم بعد الأخذ ومن أصلنا أن الحق يثبت بنفس الإصابة ولا يتأكد إلا بالإحراز والحق الضعيف لا يورث كحق القبول فإن المشتري إذا مات بعد إيجاب البائع قبل قبوله لا يخلفه وارثه في القبول وأما بعد الإحراز الحق يتأكد والإرث يجري في الحق المتأكد كحق الرهن والرد بالعيب وهو نظير مذهبنا في الشفعة وخيار الشرط لا يورث لأنه حق ضعيف وقد استدل بعض مشايخنا على ضعف الحق قبل الإحراز بإباحة تناول الطعام والعلف لكل واحد منهم من غير ضرورة وضمان وبامتناع وجوب الضمان على من أتلف شيئا من الغنيمة قبل الإحراز بخلاف ما بعد الإحراز وبقبول شهادة الغانمين في الغنيمة قبل الإحراز وامتناع قبول الشهادة بعد الإحراز وتبين بذلك أن الحق ضعيف كحق كل مسلم في مال بيت المال .
ولكن أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - ربما لا يسلمون هذين الفصلين وإذا كان العبد مع مولاه فقاتل بإذنه يرضخ له وكذلك الصبي والمرأة والذمي والمكاتب لحديث أبي هريرة - Bه - أن النبي - A - كان لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد وكان يرضخ لهم وعن فضالة بن عبيد أن النبي - A - كان يرضخ للمماليك ولا يسهم لهم ولأن العبد غير مجاهد بنفسه ألا ترى أن للمولى أن يمنعه من الخروج فلا يسوى بينه وبين الحر الذي هو أهل للجهاد بنفسه في استحقاق السهم ولكن يرضخ له إذا قاتل لمعنى التحريض .
والصبي والمرأة ليس لهما قوة الجهاد بأنفسهما ولهذا لا يلحقهما فرض الجهاد والذمي ليس من أهل الجهاد بنفسه فإن الكفار لا يخاطبون بالشرائع ما لم يسلموا والرق في