( قال ) رضي الله تعالى عنه ( وإذا ادعى رجل على رجل أنه قذفه ولا بينة له لم يستحلف على ذلك ولا يمين في شيء من الحدود ) لأن المقصود من الاستحلاف القضاء بالنكول والنكول إنما يكون بدلا والبدل لا يعمل في الحدود أو يكون قائما مقام الإقرار والحد لا يقام بما هو قائم مقام غيره .
إلا أن على قول الشافعي - C - يستحلف في حد القذف بخلاف سائر الحدود بناء على أصله أن حد القذف حق العبد فيستحلف فيه كالتعزير والقصاص ولأن في سائر الحدود رجوعه بعد الإقرار صحيح فلا يكون استحلافه مفيدا وفي حد القذف رجوعه عن الإقرار باطل فالاستحلاف فيه يكون مفيدا كالأموال .
ولكنا نقول : هذا حد يدرأ بالشبهة فلا يستحلف فيه كسائر الحدود وهو بناء على أصلنا أن المغلب فيه حق الله تعالى على ما نبينه .
( قال ) ( إلا أنه يستحلف في السرقة لأجل المال فإن أبى أن يحلف ضمن المال ولم يقطع ) لأن المال حق العبد وهو يثبت مع الشبهات وحقيقة المعنى فيه أن في السرقة أخذ المال فإنما يستحلف على الأخذ لا على فعل السرقة وعند نكوله يقضي بموجب الأخذ وهو الضمان كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة يثبت الأخذ الموجب للضمان ولا يثبت القطع الذي ينبني على فعل السرقة .
فإن جاء المقذوف بشاهدين فشهدا أنه قذفه سئلا عن ماهيته وكيفيته لأنهم شهدوا بلفظ مبهم فالقذف قد يكون بالزنا وقد يكون بغير الزنا فإن لم يزيدوا على ذلك لم تقبل شهادتهم لأن المشهود به غير معلوم ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول فكذلك يمتنع عن القضاء عند امتناعهما عن بيان ما شهدا به .
فإن قالا نشهد أنه قال يا زاني قبلت شهادتهما وحد القاذف إن كانا عدلين لأنهم شهدوا بالقذف بالزنا وهو موجب للحد بالكتاب والسنة .
أما الكتاب فقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } ( النور : 4 ) واتفق أهل التفسير أن المراد بالرمي الرمي بالزنا دل عليه قوله تعالى : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ( النور : 4 ) فإن عدد الأربعة في الشهود شرط في الزنا خاصة .
وأما السنة فما روى أن هلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سحماء قال A : ( ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك وإلا فخذ في ظهرك ) .
( قال ) ( وإن لم يعرف القاضي شهود القذف بالعدالة حبسه حتى يسأل عنهم ) لأنه صار متهما بارتكاب ما لا يحل من هتك الستر وأذى الناس بالقذف فيحبس لذلك ولا يكفله لأن التكفيل للتوثق والاحتياط والحد مبني على الدرء والاسقاط .
ثم ذكر أنه لا يكفل في شيء من الحدود والقصاص في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - الأول ذكره في كتاب الكفالة .
وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد - رحمهما الله تعالى - يأخذ منه الكفيل في دعوى حد القذف عليه وكذلك في دعوى القصاص .
ولا خلاف له أنه لا تصح الكفالة بنفس الحد والقصاص لأن النيابة لا تجري في إيفائهما والمقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في الإيفاء وهذا لا يتحقق في شيء من الحدود فلا تصح الكفالة بها .
فأما أخذ الكفيل بنفس المدعى عليه فعند أبي حنيفة - C - إذا زعم المقذوف أن له بينة حاضرة في المصر فإن القاضي لا يأخذ من المدعى عليه كفيلا بنفسه ولكن يحبسه إلى آخر المجلس فإن أحضر بينته وإلا خلى سبيله ومراده بهذا الحبس الملازمة أنه يأمره بملازمته إلى آخر المجلس لا حقيقة الحبس لأنه عقوبة وبمجرد الدعوى لا تقام العقوبة على أحد .
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يأخذ منه كفيلا بنفسه إلى ثلاثة أيام ليأتي بالبينة وقالا : إن حد القذف في الدعوى والخصومة بمنزلة حقوق العباد وفي أخذ الكفيل نظر للمدعى من حيث إنه يتمكن من إحضار الخصم بإقامة البينة عليه ولا ضرر فيه على المدعي عليه فيأخذ القاضي كفيلا بنفس المدعى عليه كما في الأموال وهذا لأن تسليم النفس مستحق على المدعى عليه حقا للمدعى ولهذا يستوفى منه عند طلبه وهو مما يجري فيه النيابة فيجوز أخذ الكفيل فيه .
وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : المقصود من هذه الخصومة إثبات الحد والكفالة للتوثق والاحتياط والحد مبني على الدرء والإسقاط فلا يحتاط فيه بأخذ الكفيل كما في حد الزنا .
وكان أبو بكر الرازي - C - يقول مراد أبي حنيفة أن القاضي لا يجبر الخصم على إعطاء الكفيل ولكن إن سمحت نفسه فأعطى كفيلا بنفسه صح ذلك لأن تسليم النفس مستحق عليه كما قلنا وإن أقام المدعى شاهدا واحدا فإن كان القاضي لا يعرف هذا الشاهد بالعدالة فهو وما لم يقم الشاهد سواء لا يحبسه إلا بطريق الملازمة إلى آخر المجلس .
وإن كان يعرف هذا الشاهد بالعدالة فادعى إن شاهده الآخر حاضر حبسه يومين أو ثلاثة استحسانا .
وفي القياس لا يفعل لأن الحجة لا تتم بالشاهد الواحد حتى لا يجوز القضاء به بحال .
ولكنه استحسن فقال : قد تم أحد شرطي الشهادة فإن للشهادة شرطين العدد والعدالة فلو تم العدد حبسه قبل ظهور العدالة فكذلك إذا وجدت صفة العدالة قلنا أنه يحبسه إلى أن يأتي بشاهد آخر ويمهله في ذلك يومين أو ثلاثة فيحبسه هذا المقدار استحسانا وهذا كله عند أبي حنيفة لأنه لا يرى الكفالة بالنفس في الحد فأما عندهما يأخذ كفيلا بنفسه ولا يحبسه والمقصود يحصل بذلك .
( قال ) ( وإذا تزوج المجوسي أمة ودخل بها ثم أسلما وفرق بينهما ثم قذفهما رجل فعليه الحد عند أبي حنيفة - C - ) لأن من أصله أن نكاح المحارم فيما بينهم له حكم الصحة فلا يسقط به الإحصان .
( قال ) ( وإن مات المكاتب وترك وفاء فأديت مكاتبته فقذفه رجل فلا حد عليه ) لشبهة الاختلاف بين الصحابة - Bهم - أنه مات حرا أو عبدا وقد بينا هذا فيما سبق . وبعد ثبوت القذف يسأله البينة أنه حر يريد به أنه إذا زعم القاذف أن المقذوف عبد وقد بينا أن الحرية الثابتة بالظاهر لا تكفي لثبوت الإحصان واستحقاق الحد على القاذف .
وكذلك إذا ادعى القاذف أنه عبد وعليه حد العبيد فالقول قوله فما لم يقم المقذوف البينة على حريته لا يقام عليه حد الأحرار فإن عرف القاضي حريته اكتفى بمعرفته لأن علم القاضي أقوى من الشهادة .
ولا يقال كيف يقضي القاضي بالحد بعلمه لأن في حد القذف له أن يقضي بعلمه ولأنه إنما يقضي بالحرية هنا بعلمه والحرية ليست بسبب لوجوب الحد .
فإن اختلف الشاهدان في الوقت أو المكان لم تبطل شهادتهما في قول أبي حنيفة - C تعالى .
وعلى قولهما لا يحد القاذف بهذه الشهادة .
فالحاصل أن ما يكون قولا محضا كالبيوع والأقارير ونحوها فاختلاف الشهود في المكان أو الزمان لا يمنع الشهادة لأنه مما يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان .
وكذلك لو اختلفا في الإنشاء والإقرار لأن حقيقة الإنشاء والإقرار واحد في هذا الباب ومن هذه الجملة القرض لأن تمام القرض وإن كان بالتسليم ولكن تحمل الشهادة على قول المقرض أقرضتك وذلك قول فألحقه بالإقرار لهذا فأما الجناية والغصب وما أشبههما من الأفعال اختلاف الشهود في المكان والزمان والإقرار والإنشاء يمنع قبول الشهادة لأن الفعل مما لا يتكرر والإقرار بالفعل غير الفعل .
وما لم يتفق الشاهدان على شيء واحد لا يتمكن القاضي من القضاء به والنكاح من هذا النوع أيضا لأنه وإن كان قولا فلا يصح إلا بمحضر من شاهدين وحضور الشهود فعل فالحق بالأفعال لهذا وفي القول الذي لا يتم إلا بالفعل كالهبة والصدقة والرهن اختلاف معروف نذكره في الهبة والرهن .
فأما القذف فأبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - قالا : اختلاف الشهود فيه في المكان والزمان يمنع قبول الشهادة لأنه إنشاء سبب موجب للحد وما لم يتفق الشاهدان على سبب واحد لا يتمكن القاضي من القضاء .
ألا ترى أنهما لو اختلفا في الإقرار والإنشاء لم تقبل شهادتهما وألحق ذلك بالأفعال فكذلك لو اختلفا في الوقت والمكان وهذا لأن وجوب الحد بالتناول من عرض المقذوف فالشهادة عليه بمنزلة الشهادة على التناول من نفسه بالجناية .
وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : القذف قول قد تكرر فيكون حكم الثاني حكم الأول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان كالطلاق والعتاق بخلاف الإقرار والأفعال وهذا هو القياس إذا اختلفا في الإنشاء والإقرار قال : .
إلا أني أستحسن هناك لأن حكم الإقرار بالقذف مخالف لحكم الإنشاء بالقذ .
ألا ترى أن من تزوج امرأة ثم أقر أنه كان قذفها قبل أن يتزوجها فعليه الحد وإن قذفها في الحال لاعنها وكذلك لو أبان امرأته ثم أقر أنه كان قذفها قبل الإبانة فلا حد عليه ولا لعان ولو قذفها في الحال حد فلما كان حكم الإقرار مخالفا لحكم الإنشاء يتحقق الاختلاف بين الشاهدين إذا اختلفا في الإقرار والإنشاء فأما حكم القذف لا يختلف بالمكان والزمان فلا يتحقق الاختلاف بينهما في المشهود به وإن اختلفا في المكان والزمان .
( قال ) ( وإذا قضى القاضي بحد القذف على القاذف ثم عفي المقذوف عنه بعوض أو بغير عوض لم يسقط الحد بعفوه عندنا ) وذكر ابن عمران عن بشر بن الوليد عن أبي الوليد عن أبي يوسف - رحمهم الله تعالى - أنه يسقط وهو قول الشافعي - C تعالى .
وأصل المسألة أن المغلب في حد القذف عندنا حق الله تعالى وما فيه من حق العبد فهو في حكم التبع .
وعند الشافعي - C تعالى - المغلب حق العبد وحجته لإثبات هذا الأصل أن سبب الوجوب التناول من عرضه وعرضه حقه بدليل قوله A : ( أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم إذا أصبح قال اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك ) .
وإنما يستحق المدح على التصدق بما هو من حقه والمقصود دفع الشين عن المقذوف وذلك حقه ومن حيث الحكم حد القذف يستوفى بالبينة بعد تقادم العهد ولا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار وذلك دليل ظاهر على أنه حق العبد ولذلك لا يستوفى إلا بخصومته وإنما يستوفي بخصومته ما هو حقه بخلاف السرقة فخصومته هناك بالمال دون الحد ويقام هذا الحد على المستأمن بالاتفاق وإنما يواخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد إلا أن من له لا يتمكن من الاستيفاء بنفسه لأن ألم الجلدات غير معلوم المقدار فإذا فوض إلى من له ربما لا يقف على الحد لغيظه فجعل الاستيفاء إلى الإمام مراعاة للنظر من الجانبين بخلاف القصاص فإنه معلوم بحده فإذا جاوز من له الحق ذلك الحد يعلم ذلك فيمنع منه .
( وحجتنا ) في ذلك وهو أن هذا حد يعتبر فيه الإحصان فيكون حقا لله تعالى كالرجم وتأثير هذا الكلام لأن الحدود زواجر مشروعة حقا لله تعالى فأما ما يكون حقا للعبد فهو في الأصل جائز فما أوجب من العقوبات حقا للعبد وجب باسم القصاص الذي ينبئ عن المساواة ليكون إشارة إلى معنى الجبر وما أوجب باسم الحد فهو حق الله تعالى وفي هذا الاسم إشارة إلى معنى الزجر .
والدليل عليه : أن في حقوق العباد يعتبر المماثلة وبه ورد النص حيث قال تعالى : { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ولا مناسبة بين نسبة الزنا وبين ثمانين جلدة لا صورة ولا معنى والدليل عليه وهو أن الحد مشروع لتعفية أثر الزنا وحرمة إشاعة الفاحشة من حقوق الله تعالى فكان هذا نظير الواجب بمباشرة الزنا من حيث إن كل واحد منهما مشروع لإبقاء الستر وتعفية أثر الزنا واعتبار الإحصان لمعنى النعمة وذلك فيما هو من حق الله تعالى .
وما ذكره الخصم لا ينفي معنى حق الله تعالى لأن في عرضه حقه وحق الله تعالى وذلك في دفع عار الزنا عنه لأن في إبقاء ستر العفة معنى حق الله تعالى فإذا دل بعض الأدلة على أنه محض حق الله تعالى وبعض الأدلة على اجتماع الحقين فيه قلنا بأن المغلب حق الله تعالى مع اعتبار حق العبد فيه أيضا ليكون عملا بالأدلة كلها .
والدليل عليه أن الاستيفاء إلى الإمام والإمام إنما يتعين نائبا في استيفاء حق الله تعالى وأما ما كان حقا للعبد فاستيفاؤه إليه ولا معتبر بتوهم التفاوت فإن للزوج أن يعزر زوجته وإن كان ذلك يوهم التفاوت لكن التعزير لما كان للزوج حقا له لا ينظر إلى توهم التفاوت من هذا الوجه وهذا لأن هذه المبالغة كما تتوهم من صاحب الحق تتوهم من الجلاد ويمنع صاحب الحق من ذلك إذا ظهر أثره كما يمنع الجلاد منه مع أن توهم الزيادة لا يمنع صاحب الحق عن استيفاء حقه كتوهم السراية في القصاص .
والدليل عليه : أنه يتنصف هذا الحد بالرق وإنما يتنصف بالرق لانعدام نعمة الحرية في حق العبد لا لأن بدنه دون بدن الحر في احتمال الضرب فاحتمال بدن العبد للمهانة والضرب أكثر وإنما يتكامل بتكامل النعم ما كان حقا لله تعالى لأن شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة حق للمنعم .
والدليل عليه : أن ما كان متمما لهذا الحد وهو سقوط الشهادة كان حقاف لله تعالى فكذلك أصل الحد .
ولكن قد بينا أن فيه معنى حق العبد أيضا فلهذا تعتبر خصومته وطلبه ولهذا لا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار لأن الخصم مصدق له في الإقرار مكذب له في الرجوع بخلاف ما كان محض حق الله تعالى فإن هناك ليس من يكذبه ولهذا يقام بحجة البينة بعد التقادم لعدم تمكن الشهود من أداء الشهادة قبل طلب المدعي فلا يصيرون متهمين بالضغينة ولهذا يقام على المستأمن لأنه لما كان للعبد حق الخصومة والطلب به والمستأمن ملتزم لحقوق العباد فيقام عليه .
إذا ثبت هذا الأصل فنقول بعفوه لا يسقط عندنا ولأنه إنما يملك إسقاط ما يتمحض حقا له فأما حق الله تعالى لا يملك إسقاطه وإن كان للعبد فيه حق كالعدة فإنها لا تسقط بإسقاط الزوج لما فيها من حق الله تعالى وقد روي مثل مذهبنا عن علي Bه ولكن الحد وإن لم يسقط بعفوه فإذا ذهب العافي لا يكون للإمام أن يستوفي لما بينا أن الاستيفاء عند طلبه وقد ترك الطلب إلا أنه إذا عاد فطلب فحينئذ يقيم الحد لأن عفوه كان لغوا فكأنه لم يخاصم إلى الآن ولو صدقه فيما قال أو قال شهودي شهدوا بالباطل فليس له أن يخاصم في شيء لأنه إذا أكذب شهوده تبطل شهادتهم كالمسروق منه إذا أكذب شهوده وإذا صدقه فقد صار مقرا بالزنا وانعدم به إحصانه وقذف غير المحصن لا يوجب الحد فبإقراره ينعدم السبب الموجب للحد لا إنه يسقط فأما بعفوه لا ينعدم السبب وما أسقطه حق الشرع فكان إسقاطه لغوا لهذا .
( قال ) ( ويستحسن للإمام أن يقول للطالب قبل إقامة البينة أترك هذا وانصرف ) لأن الحد لم يثبت عنده بعد وهذا نوع احتيال منه لدرء الحد وهكذا في السرقة يستحب له أن يقول للمسروق منه اترك دعوى السرقة قبل أن نثبت السرقة بالبينة .
( قال ) ( ولو قذف جماعة في كلمة واحدة أو في كلمات متفرقة لا يقام عليه إلا حد واحد عندنا ) وعند الشافعي إن قذفهم بكلام واحد فكذلك الجواب وإن قذفهم بكلمات متفرقة يحد لكل واحد منهم لأنه حق المقذوف عنده فلا يجري فيه التداخل عند اختلاف السبب وعندنا المغلب فيه حق الله تعالى وهو مشروع للزجر فيجري فيه التداخل كسائر الحدود وكذلك إن حضر بعضهم للخصومة ولم يحضر البعض فأقيم الحد بخصومة من حضر فعلى مذهبه إذا حضر الغائب وخاصم يقام عليه الحد لأجله أيضا وعندنا لا يقام إذا علم أنه قذفه بالزنا قبل إقامة الحد عليه لأن حضور بعضهم للخصومة كحضور جماعتهم وما هو المقصود قد حصل وهو دفع العار عن المقذوف بالحكم بكذب القاذف .
( قال ) ( ولا يقبل في القذف كتاب القاضي إلى القاضي ولا الشهادة على الشهادة ولا شهادة النساء مع الرجال ) لأن موجبه حد يندرئ بالشبهات وتجوز شهادة القاذف بعدما ضرب بعض الحد إذا كان عدلا لأن رد شهادته من تتمة الحد فلو ثبت قبل كمال الجلد لم يكن متمما للحد ولأن الله تعالى عطف رد الشهادة على الجلدات والمعطوف لا يسبق المعطوف عليه .
( قال ) ( رجل قال لامرأته زنيت مستكرهة أو قال جامعك فلان جماعا حراما أو زنيت وأنت صغيرة لا حد عليه ) لأنه نسبها إلى فعل غير موجب للحد عليها وقد بينا أن وجوب الحد على القاذف بنسبة المقذوف إلى فعل موجب للحد عليه ثم المستكرهة لا فعل لها وقوله جامعك جماعا حراما ليس بصريح بالقذف بالزنا .
وقوله زنيت وأنت صغيرة محال شرعا لأن فعل الصغيرة لا يكون زنا شرعا . ألا ترى أنها لا تأثم به فهو كقوله زنيت قبل أن تولدي وذلك غير موجب للحد لأن الشين بهذا الكلام يلحق القاذف دون المقذوف وإقامة الحد لدفع العار عن المقذوف وإن قال زنيت وأنت كافرة وقد أسلمت أو قال زنيت وأنت أمة وقد أعتقت فعليه الحد لدفع العار عن المقذوف لأنه نسبها إلى فعل موجب للحد عليها فإن فعل الذمية والأمة زنا ويحدان على ذلك ولو قال قذفتك بالزنا وأنت كتابية أو أمة فلا حد عليه لأنه ما نسبها إلى الزنا بهذا الكلام بل أقر على نفسه أنه قذفها في حال . لو علمنا منه القذف في تلك الحالة لم يلزمه الحد فكان منكرا للحد لا مقرا به ويضرب في حد القذف ضربا ليس بشديد مبرح وهكذا في سائر الحدود لأن المستحق فعل مؤلم لا متلف فالشديد المبرح متلف فعلى الجلاد أن يتحرز عن ذلك .
( قال ) ( رجل قذف ميتا بالزنا فعليه الحد ) لأن وجوب الحد باعتبار إحصان المقذوف والموت يقرر إحصانه ولا ينفيه ثم الخصومة في هذا القذف إلى من ينسب إلى الميت بالولاد أو ينسب إليه الميت بالولاد ولأنه يلحقهم الشين بذلك وحق الخصومة لدفع العار فمن يلحقه الشين به كان له أن يخاصم بإقامة الحد عليه .
( قال ) ( وليس لأخيه أن يخاصم في ذلك عندنا ) وعند ابن أبي ليلى له ذلك لأن للأخ علقة في حقوقه بعد موته كالولد ألا ترى أنه في القصاص يخلفه فكذا في حد القذف ولكنا نقول الخصومة هنا ليست بطريق الخلافة فإن حد القذف لا يورث ليخلف الوارث المورث فيه وإنما الخصومة لدفع الشين عن نفسه والأخ لا يلحقه الشين بزنا أخيه لأنه لا ينسب أحد الأخوين إلى صاحبه وإنما نسبة زنا الغير باعتبار نسبته إليه بخلاف الآباء والأولاد .
( قال ) ( ولولد الولد أن يأخذ بذلك كما للولد ذلك قال وفي كتاب الحدود الاختلاف فيمن يرث ويورث ولا معتبر بهذه الزيادة ) لأن المطالبة بالحد ليس بطريق الوراثة إلا أن محمدا - C تعالى - روى عنه أنه ليس لولد الابنة حق الخصومة في هذا الحد لأنه منسوب إلى أبيه لا إلى أمه فلا يلحقه الشين بزنا أبي أمه وفي ظاهر الرواية النسب يثبت من الطرفين ويصير الولد به كريم الطرفين .
ولو قذف أمه كان له أن يخاصم باعتبار نسبته إليها ليدفع به عن نفسه فكذلك إذا قذف أبا أمه .
وقال زفر - C تعالى - : مع بقاء الولد ليس لولد الولد أن يخاصم لأن الشين الذي يلحق الولد فوق ما يلحق ولد الولد فصار ولد الولد مع بقاء الولد كالولد مع بقاء المقذوف واعتبر هذا بطلب الكفاءة فإنه لا خصومة فيه للأبعد مع بقاء الأقرب .
ولكنا نقول : حق الخصومة باعتبار ما لحقه من الشين بنسبته إليه وذلك موجود في حق ولد الولد كموجوده في حق الولد فأيهما خاصم يقام الحد بخصومته بخلاف المقذوف فإن حق الخصومة له باعتبار تناول القاذف من عرضه وذلك لا يوجد في حق ولده .
( قال ) ( ولولد الكافر والمملوك أن يأخذ بالحد كما يأخذ به الولد الحر المسلم وعند زفر ليس له ذلك ) لأن الكافر والمملوك لو قذف في نفسه لم يجب الحد على قاذفه فإذا قذف في أبيه وأمه أولى ولكنا نقول الحد وجب لحق الله تعالى وخصومة الولد باعتبار الشين الذي لحقه وذلك موجود في حق الولد الكافر والمملوك لأن النسبة لا تنقطع بالرق والكفر وإنما تنعدم الخلافة إرثا بالكفر والرق فيما هو من حق الميت وحد القذف ليس من ذلك في شيء وهذا بخلاف ما إذا قذف في نفسه لأن الموجب للحد قذف المحصن والعبد والكافر ليس بمحصن أما هنا تم سبب وجوب الحد وهو قذف المحصن إذ الميت محصن فكل من يلحقه الشين بهذا القذف فهم خصم في المطالبة بالحد بعد تقرر سببه .
( قال ) ( وإن كان المقذوف حيا غائبا ليس لأحد من هؤلاء أن يأخذ بحده عندنا ) وقال ابن أبي ليلى - C تعالى - الغائب كالميت لأن خصومته تتعذر لغيبته كما هو متعذر بعد موته ولكنا نقول ينوب أو يبعث وكيلا ليخاصم والخصومة باعتبار تناول العرض أصل فما لم يقع اليأس عنه لا يعتبر بالخصومة باعتبار الشين وفي الميت الخصومة باعتبار تناول العرض مأيوس عنه فيقام الحد بخصومة من يلحقه الشين بخلاف الغائب .
فإن مات هذا الغائب قبل أن يرجع لم يأخذ وليه أيضا عندنا خلافا للشافعي - C تعالى - لأن المغلب عنده حق العبد فيصير موروثا عن المقذوف بعد موته لورثته وعندنا المغلب حق الله تعالى فلا يورث عملا بقوله A : ( لا يجري الإرث فيما هو من حق الله تعالى ) ولأن الإرث خلافة الوارث المورث بعد موته في حقه والله تعالى يتعالى عن ذلك .
( فإن قيل ) : فحق لله تعالى لا يسقط أيضا بموت المقذوف .
( قلنا ) : لا نقول سقط بموته ولكنه يتعذر استيفاؤه لانعدام شرطه فالشرط خصومة المقذوف ولا يتحقق منه الخصومة بعد موته .
( فإن قيل ) : كان ينبغي أن يقوم الوارث مقامه في خصومته أو وصية إن أوصى بذلك إلى إنسان .
( قلنا ) : شرط الحد معتبر بسببه فكما أن ما يقوم مقام الغير لا يثبت به سبب الحد فكذلك لا يثبت به شرط الحد بخلاف ما إذا قذف بعد الموت لأنا لا نقول خصومة ولده تقوم مقام خصومته وكيف يقال ذلك ولا يورث ذلك ولا يثبت له حق الخصومة بعد موته ولكن الولد خصم عن نفسه باعتبار ما لحقه من الشين فأما في حال الحياة لم يثبت للولد حق الخصومة فلو ثبت بعد الموت كان بطريق القيام مقامه وذلك لا يكون في الحدود .
( قال ) ( ولو وكل الغائب من يطلب بحده صح التوكيل في قول أبي حنيفة ومحمد ) وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله تعالى ثم رجع وقال لا أقبل الوكالة في حد ولا قصاص لأن خصومة الوكيل تقوم مقام الموكل وشرط الحد لا يثبت بمثله ولأن بالإجماع لا يصح التوكيل باستيفاء الحد والقصاص لأنها عقوبة تندرئ بالشبهات فكذلك في الإثبات كما في الحدود التي هي حق لله تعالى وهما يقولان الإثبات من جملة ما إذا وقع الغلط فيه أمكن التدارك فيه وتلافيه والتوكيل في مثله صحيح كالأموال بخلاف الاستيفاء فإنه إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه ولو استوفاه الوكيل في حال غيبة الموكل كان استيفائه مع تمكن الشبهة لجواز أن من له القصاص قد عفي وأن المقذوف قد صدق القاذف أو أكذب شهوده وهذا لا يستوفي بحضرة الوكيل حال غيبة الموكل .
( قال ) ( فإن مات المقذوف بعدما ضرب القاذف بعض الحد فإنه لا يقام عليه ما بقي ) اعتبارا للبعض بالكل وكذلك إن غاب بعدما ضرب بعض الحد لم يتم إلا وهو حاضر . ألا ترى أنه لو عمي الشهود أو فسقوا بعدما ضرب بعض الحد درئ عنه ما بقي .
( قال ) ( والقذف بأي لسان كان بالفارسية أو العربية أو النبطية يوجب الحد بعد أن يكون بصريح الزنا ) لأن المقصود دفع الشين وذلك لا يختلف باختلاف الألسن . رجل قال لرجل يا زانية لا حد عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - استحسانا .
وفي القياس عليه الحد وهو قول محمد - C تعالى - ورواية عن أبي يوسف - C تعالى .
ولو قال لامرأة يا زاني فعليه الحد بالإتفاق لوجهين : .
أحدهما : أن الإيجاز والترخيم معروف في لسان العرب قال القائل : .
أصاح ترى برقا أريك وميضه .
معناه يا صاحب وقرئ ( ونادوا يا مال ) أي مالك وهذا أيضا حذف آخر الكلام للترخيم فلا يخرج به من أن يكون قذفا لها . ألا ترى إلى قول امرئ القيس : أفاطم مهلا .
أي يا فاطمة .
ولأن الأصل في الكلام التذكير وإلحاق هاء التأنيث للفصل والفصل هنا حاصل بالإشارة فلا يخرج بإسقاط حرف التأنيث من أن يكون قذفا لها واستدل في الأصل بقوله تعالى : { إذا جاءك المؤمنات } ( الممتحنة : 12 ) { وقال نسوة في المدينة } ( يوسف : 40 ) فأما إذا قال يا زانية فمحمد - C تعالى - يقول صرح بنسبته إلى الزنا وزاد حرف الهاء فتلغو الزيادة ويبقى قاذفا له ملتزما للحد ولأن في لسان العرب إلحاق هاء التأنيث بآخر الكلام للمبالغة في الوصف فإنهم يقولون نسابة وعلامة وراوية للشعر .
وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى - يقولان : هو كذلك ولكن المقصود هو المبالغة في الوصف بعلم ذلك الشيء فكأنه قال أنت أكثر الناس علما بالزنا أو أعلم الناس بالزنا وهكذا لا يكون قذفا موجبا للحد ثم نسبه إلى فعل لا يتحقق ذلك منه لأن الزانية هي الموطوءة الممكنة من فعل الزنا والرجل ليس بمحل لذلك فقذفه بهذا اللفظ نظير قذف المجبوب وذلك غير موجب للحد بخلاف ما إذا قال لامرأته يا زاني لأنه نسبها إلى مباشرة فعل الزنا وذلك يتحقق منها بأن تستدخل فرج الرجل في فرجها .
( قال ) ( وإذا ادعى القاذف أن له بينة على تحقيق قوله أجل ما بينه وبين قيام القاضي من مجلسه من غير أن يطلق عنه ) وعن أبي يوسف - C تعالى - يستأني به ويمهل إلى المجلس الثاني ليحضر شهوده لأن القذف موجب للحد بشرط عجزه عن إقامة أربعة من الشهداء والعجز لا يتحقق إلا بالإمهال . ألا ترى أن المدعي عليه إذا ادعى دفعا أو طعنا في الشهود يمهل إلى المجلس الثاني ليأنى به فهذا مثله .
وجه ظاهر الرواية : أن سبب وجوب الحد ظهر عند القاضي فلا يكون له أن يؤخر الإقامة لما فيه من الضرر على المقذوف بتأخير دفع العار عنه ولكن إلى آخر المجلس لا يكون تأخيرا فلا يتضرر بذلك القدر . ألا ترى أنه يؤخر إلى أن يحضر الجلاد فلهذا جوزنا له أن يمهله إلى آخر المجلس من غير أن يطلق عنه ولكن يقول له ابعث إلي شهودك .
وذكر ابن رستم عن محمد - رحمهما الله تعالى - إذا لم يكن له من يحضر شهوده أطلق عنه وبعث معه بواحد من شرطه ليرده عليه وهذا لأن كل واحد لا يجد نائبا والقاضي مأمور بالنظر من كل جانب ولكن لم يعتبر هذا في ظاهر الرواية لأنه إذا لم يحضر الشهود بقي ستر العفة على المقذوف وذلك أولى الوجهين .
( قال ) ( ولا يقبل منه أقل من أربعة شهود ) لقوله تعالى : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ( النور : 4 ) وقال تعالى : { فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } ( النور : 13 ) .
فإن جاء بهم فشهدوا على المقذوف بزنا متقادم درأت الحد عن القاذف استحسانا . والقياس أن الشهادة على الزنا بعد التقادم لا تكون مقبولة فوجودها كعدمها إلا أنه استحسن فقال إنما لا تقبل الشهادة على الزنا بعد التقادم لتوهم الضغينة وذلك معتبر في منع وجوب الحد على المشهود عليه لا في إسقاط الحد عن القاذف كما لو أقام أربعة من الفساق على صدق مقالته .
وإن جاء بثلاثة فشهدوا عليه بالزنا وقال القاذف أنا رابعهم لم يلتفت إلى كلامه ويقام عليه وعلى الثلاثة الحد لأنه خصم ملتزم للحد فلا يكون شاهدا وبالثلاثة لا تتم الحجة فكانوا قذفة يحدون جميعا .
( قال ) ( وإن شهد رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنا يدرأ الحد عن القاذف وعن الثلاثة ) لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وليس المقصود من إثبات الإقرار هنا إقامة الحد على المقر لأن الإقرار لا يثبت بحجة البينة موجبا للحد وإن كثر الشهود فإنه في الحال منكر ولو سمعنا إقراره ثم رجع عنه لم يقم عليه الحد فكيف يثبت إقراره بالبينة . ولكن المقصود إسقاط الحد وذلك يثبت مع الشبهات بخلاف ما إذا شهد الشاهدان على زنا المقذوف لأن موجب تلك الشهادة الحد على الزاني إذا تم عدد الشهود فلهذا لا يكون للمثنى شهادة في ذلك .
( قال ) ( ومن قذف الزاني بالزنا فلا حد عليه عندنا ) سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنا آخر أو مبهما . وحكى عن إبراهيم وابن أبي ليلى - رحمهما الله تعالى - أنه إن قذفه بغير ذلك الزنا أو بالزنا مبهما فعليه الحد لأن الرمي موجب للحد إلا أن يكون الرامي صادقا وإنما يكون صادقا إذا نسبه إلى ذلك الزنا بعينه ففي ما سوى ذلك فهو كاذب ملحق الشين به . ولكنا نقول رمى المحصن موجب للحد بالنص قال تعالى : { والذين يرمون المحصنات } ( النور : 4 ) والمحصن لا يكون زانيا فقاذف الزاني بالزنا قاذف غير المحصن وهو صادق في نسبته إلى أصل فعل الزنا فلا يكون ملتزما للحد .
( قال ) ( وإذا وطئ الرجل امرأة وطءا حراما فهو على وجهين ) إما إن يكون وطؤه هذا في الملك أو في غير الملك أما في الملك فإن كانت الحرمة بعارض على شرف الزوال لم يسقط به إحصانه كوطء امرأته الحائض والمجوسية أو التي ظاهر منها أو المحرمة أو أمته التي زوجها أو هي في عدة من غيره لأن ملك الحل قائم ببقاء سببه والمحرم هو الاستمتاع وهو نظير وطء امرأته المريضة إذا كانت تستضر بالوطء وهذا لأن مع قيام الملك بالمحل لا يكون الفعل زنا ولا في معناه فأما إذا كانت محرمة عليه على التأبيد كأمته التي هي أخته من الرضاع فإنه يسقط بوطئها إحصانه في ظاهر المذهب .
وذكر الكرخي - C تعالى - أنه لا يسقط به الإحصان لأن حرمة الفعل مع قيام الملك الذي هو مبيح وهو نظير ما سبق . وجه ظاهر الرواية أن بين الحل والحرمة في المحل منافاة ومن ضرورة ثبوت الحرمة المؤبدة انتفاء الحل فالسبب لا يوجب الحكم إلا في محل قابل له وإذا لم يكن المحل قابلا للحل في حقه لا يثبت ملك الحل فكان فعله في معنى الزنا .
ولو وطئ مكاتبته لم يسقط به إحصانه عندنا .
وعند زفر - C - وهو رواية عن أبي يوسف - C تعالى - يسقط لأن المكاتبة غير مملوكة له وطءا بدليل أنه يلزمه العقر بوطئها والوطء في غير الملك يسقط الإحصان ولأن المكاتبة مملوكة له رقا لا يدا فهي بمنزلة الأمة المشتركة ووطء المشتركة مسقط للإحصان ولكنا نقول ملكه في المكاتبة قائم والحرمة بعارض على شرف الزوال فهو نظير الأمة المزوجة وبأن يلزمه العقر لا يدل على أنه يسقط به الإحصان كالزوجة .
( قال ) ( فإن وطئ أمته التي هي محرمة عليه بوطء أبيه إياها أو بوطئه أمها يسقط إحصانه ) لأن في المصاهرة حرمة مؤبدة فهو نظير حرمة الرضاع فأما إذا نظر إلى فرج امرأة أو أمة بشهوة ثم اشترى أمها أو ابنتها أو تزوجها فوطئها فقذفه رجل حد قاذفه في قول أبي حنيفة - C - ولم يحد في قولهما لأنها محرمة عليه على التأبيد فإن اللمس والتقبيل يثبت حرمة المصاهرة فلا معنى لاعتبار اختلاف العلماء فيه كالزنا فإن أباه لو زنى بأمة ثم اشتراها هو فوطئها يسقط إحصانه .
وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا مختلف فيه بين العلماء .
وأبو حنيفة - C تعالى - يقول كثير من الفقهاء لا يرون اللمس والتقبيل موجبا للحرمة وليس في إثبات الحرمة نص ظاهر بل نوع إحتياط أخذنا به من حيث إقامة السبب الداعي إلى الوطء مقام الوطء وبمثل هذا الاحتياط لا يسقط الإحصان الثابت بيقين بخلاف المزني بها فإن في ثبوت حرمة المصاهرة بالوطء نص وهو قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } ( النساء : 22 ) فقد قامت الدلالة لنا أن النكاح حقيقة للوطء ومع وجود النص لا يعتبر اختلاف العلماء وأما الوطء في غير الملك مسقط للإحصان على كل حال وكذلك في الأب يطأ جارية ابنه .
( قال ) ( وإذا تزوج امرأة بغير شهود أو في عدة من زوج أو تزوجها وهي مجوسية ووطئها سقط به إحصانه ) لأن العقد الفاسد غير موجب للملك والوطء في غير الملك في معنى الزنا وكذلك إذا تزوج أمة على حرة أو تزوج أختين أو امرأة وعمتها في عقد واحد فبالوطء بحكم هذه العقود الفاسدة يسقط الإحصان وكذلك إذا تزوج امرأة فوطئها ثم علم أنها كانت محرمة عليه بالمصاهرة وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى .
وأما عند أبي يوسف - C - إذا كان عالما عند الوطء بأنها غير مملوكة سقط إحصانه وإن لم يكن معلوما له لا يسقط إحصانه وهو رواية عن محمد لأن في الظاهر هذا الوطء حلال بدليل أنه لا يأثم به . وجه قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أنه معذور لجهله من حيث الظاهر فأما الوطء فغير مملوك له في الحقيقة بل هو في معنى الزنا فيكون مسقطا لإحصانه .
( قال ) ( وإن ملك أختين فوطئهما حد قاذفه ) لأن هذا وطء في الملك والحرمة بعارض على شرف الزوال . ألا ترى أنه لو أخرج إحداهما عن ملكه حل له وطء الأخرى وبمثل هذا الوطء لا يسقط الإحصان فإن وطئ المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث لم يحد قاذفه لأن هذا وطء في غير الملك وإن وطئ امرأة مستكرهة لم يحد قاذفه ولا قاذفها لأن هذا وطء غير مملوك وعند الإكراه وإن كان يسقط الإثم عنها فلا يخرج من أن يكون الفعل زنا فلهذا سقط إحصانها وإن وطئ جارية ابنته أو أحد أبويه أو أخته ثم ادعى أن مولاها باعها منه ولم يكن له بينة فلا حد على قاذفه وكذلك إن أقام شاهدا واحدا على الشراء لأن سبب ملك الحل لا يثبت بالشاهد الواحد فيكون وطؤه في غير الملك وهو مسقط للإحصان فإن زنى في حال كفره في دار الحرب أو في دار الإسلام ثم أسلم فقذفه إنسان لم يحد قاذفه لأن فعل الزنا يتحقق من الكافر وإن كان لا يقام به الحد عليه فيكون قاذفه صادقا في مقالته .
وإن باشر امرأة حراما وبلغ كل شيء منها سوى الجماع فقذفه قاذف فعليه الحد لأن سقوط الإحصان بالوطء فإن المسقط للإحصان الزنا أو ما في معناه واللمس والتقبيل ليس في معنى الزنا .
( قال ) ( مجنون زنى بامرأة مطاوعة أو مستكرهة ثم قذف المجنون أو المرأة قاذف فلا حد على قاذفه أما المرأة فلوجود الوطء منها في غير الملك وأما المجنون فإن قذفه بعد الإفاقة لم يحد ) لأن الوطء الذي هو غير مملوك قد تحقق من المجنون وهو مسقط للإحصان وإن قذفه في حال جنونه فقاذف الصبي والمجنون لا يحد لأن إحصان المقذوف شرط والإحصان عبارة عن خصال حميدة فأول ذلك كمال العقل وذلك ينعدم بالصغر والجنون ولأن الحد لدفع الشين عن المقذوف والشين بقذف الصبي والمجنون يلحق القاذف دون المقذوف وكذلك المملوك لا يكون محصنا لقوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ( النساء : 25 ) فهو بيان أن المملوك لا يكون محصنا وإن كان المملوك هو القاذف فعليه نصف حد الحر للآية .
( قال ) ( ولا حد على قاذف الكافر ) لأن الإسلام من شرائط الإحصان قال A ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) وعلى الذمي في قذف المسلم حد كامل لأن المسلم محصن يلحقه الشين بقذفه والقاذف مع كفره حر فعليه حد الأحرار ثمانون جلدة والذي يجن ويفيق في حال إفاقته محصن ولا يحد قاذف الأخرس لأنه لو كان ينطق ربما يقر بما يكون فيه من تصديق القاذف ولا يقام الحد مع الشبهة ولا حد على قاذف المجبوب والرتقاء لأنه لا يلحقه الشين فإن الزنا منهما لا يتحقق ويلحق الشين القاذف في هذا القذف .
( قال ) ( والقاذف من أهل البغي متى قذف رجلا من أهل العدل في عسكرهم أو في عسكر أهل الحرب أو قذف رجل من أهل الحرب رجلا منهم لم يحد واحد منهم ) لأنه ارتكب السبب وهو ليس تحت ولاية الإمام وقد بينا أن ولاية الاستيفاء إنما ثبت للإمام إذا ارتكب السبب وهو تحت ولايته وبدون المستوفى لا يجب الحد .
( قال ) ( ولو دخل حربي دارنا بأمان فقذف مسلما لم يحد في قول أبي حنيفة - C - الأول ) لأن المغلب في هذا الحد حق الله تعالى ولأنه ليس للإمام عليه ولاية الاستيفاء حين لم يلتزم شيئا من أحكام الإسلام بدخوله دارنا بأمان ويحد في قوله الآخر وهو قولهما فإن في هذا الحد معنى حق العبد وهو ملتزم حقوق العباد ولأنه بقذف المسلم يستخف به وما أعطي الأمان على أن يستخف بالمسلمين ولهذا يجبر على بيع العبد المسلم فكذلك يحد بقذف المسلم .
( قال ) ( وكل شيء أوجبنا فيه الحد على الأجنبي فإنه إذا قال ذلك لامرأته وهما حران مسلمان فعليهما اللعان ) لأن اللعان موجب قذف الزوج زوجته بالنص وقد بيناه في باب اللعان .
( قال ) ( وإن قال لامرأته زنيت قبل أن أتزوجك لاعنها ) لأنه قاذف لها في الحال بخلاف ما لو قال كنت قذفتك بالزنا قبل أن أتزوج فإنه يحد لأنه ما صار قاذفا لها بكلامه بعد النكاح وإنما ظهر بكلامه قذف كان قبل النكاح فكأنه ظهر ذلك بالبينة فعليه الحد .
( قال ) ( وإن قال لأجنبية يا زانية فقالت زنيت بك لا حد على الرجل لها وتحد المرأة للرجل ) لأنها صدقته بقولها زنيت فصارت قاذفة للرجل بقولها زنيت بك فعليها الحد له .
( قال ) ( ولو قال ذلك لامرأته فقالت زنيت بك فلا لعان ولا حد ) لأنها صدقته فسقط اللعان بتصديقها ولم تصر قاذفة له لأن فعل المرأة بزوجها لا يكون زنا .
( قال ) ( ولو قالت المرأة لزوجها مبتدئه زنيت بك ثم قذفها الزوج بعد ذلك لم يكن عليه حد ولا لعان ) لوجود الإقرار منها بقولها زنيت .
( قال ) ( رجل قال لآخر يا فاسق يا خبيث أو يا فاجر أو يا بن الفاجر أو يا بن القحبة فلا حد عليه ) لأنه ما نسبه ولا أمه إلى صريح الزنا فالفجور قد يكون بالزنا وغير الزنا والقحبة من يكون منها ذلك الفعل فلا يكون هذا قذفا بصريح الزنا فلو أوجبنا به الحد إنما يوجب بالقياس ولا مدخل للقياس في الحد ولو قال يا آكل الربا أو يا خائن أو يا شارب الخمر لا حد عليه في شيء من ذلك ولكنه عليه التعزير لأنه ارتكب حراما وليس فيه حد مقدر ولأنه ألحقه نوع شين بما نسبه إليه فيجب التعزير لدفع ذلك الشين عنه .
ولو قال يا حمار أو يا ثور أو يا خنزير لم يعزر في شيء من ذلك لأن من عادة العرب إطلاق هذه الألفاظ