( قال ) ( وإذا شهد ثمانية نفر على رجل بالزنا كل أربعة يشهدون على الزنا بامرأة على حدة فرجمه القاضي ثم رجع أربعة منهم عن الشهادة لم يضمنوا ولم يحدوا ) لأنه قد بقي على الشهادة أربعة منهم ولأن ما يثبته عليه شهادة الأربعة والمعتبر في مسائل الرجوع بقاء من بقي على الشهادة فإن بقي على الشهادة من تتم به الحجة لم يضمن الراجعون شيئا ولا يحدون أيضا لأنه غير محصن في حق أحد ما بقيت حجة تامة على زناة .
فإن رجع واحد من الآخرين أيضا فعلى الراجعين ربع الدية لأنه قد بقي على الشهادة من يستحق بشهادته ثلاثة أرباع النفس وإنما انعدمت الحجة في الربع فعلى الراجعين ذلك القدر وليس بعضهم بالوجوب عليه بأولى من البعض لأن قبل شهادتهم جميعا ويحدون حد القذف في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى .
وفي قول محمد - C تعالى - لا يحدون وكذلك إن رجع الفريقان جميعا فعليهم ضمان الدية .
ويحدون عندهما ولا حد عليهم عند محمد لأن كل أربعة أثبتوا بشهادتهم زنا آخر فالزنا بزينب غير الزنا بعمرة ففي حق كل فريق يجعل كان الفريق الأول ثابتون على الشهادة في حكم سقوط الإحصان .
ألا ترى أن شهود الزنا لو رجعوا وقذف المرجوم إنسان فلا حد على القاذف ويجعل في حقه كأنهم ثابتون على الشهادة .
وكذلك لو شهد أربعة سواهم أنه كان زانيا بعد رجوعه لا يحدون إلا أن هذا المعنى لا يعتبر في سقوط ضمان يدل النفس لأنه يؤدي إلى إهدار الدم ويعتبر في امتناع وجوب الحد عليهم لأن الحد يندرئ بالشبهات .
وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى - قالا : هم في حق الرجوع كالشاهدين عليه بزنا واحد لأن المقصود بهذه الشهادة إقامة الحد ولا يقام عليه إلا حد واحد وإن تعدد فعل الزنا منه والدليل عليه أن في حكم الضمان جعلوا كالشاهدين بزنا واحد وأنه لو رجع اثنان من كل فريق لا يضمنون شيئا أيضا ولو لم يجعلوا كذلك لضمنوا لأن الباقي على الشهادة شاهدان أنه زنى بامرأة وشاهدان أنه زنى بامرأة أخرى والحجة لا تتم بهذا فعرفنا أنهم جعلوا كالشاهدين عليه بزنا واحد .
( قال ) ( ولو شهدوا بذلك ثم رجع خمسة حدوا جميعا فهذا مثله ) وهذا لأنهم إذا رجعوا جميعا فقد حكمنا في حقهم بأنه محصن مقتول ظلما حتى غرمناهم الدين فيبعد أن يقال لا يقام عليه الحد ومن زعمهم أنه عفيف وأنهم قذفوه بغير حق .
( قال ) ( وإن شهد خمسة على رجل بالزنا والإحصان فرجم ثم رجع واحد فلا شيء عليه لبقاء حجة تامة فإن رجع آخر غرما ربع الدية ) لأن الباقي على الشهادة من يستحق بشهادته ثلاثة أرباع النفس ويحدان جميعا لأنه لم يبق على الشهادة من تتم به الحجة وقد انفسخت الشهادة في حقهما بالرجوع فعليهما الحد .
( فإن قيل ) : الأول منهما حين رجع لم يجب عليه حد ولا ضمان فلو لزمه ذلك إنما يلزمه برجوع الثاني ورجوع غيره لا يكون ملزما إياه الحد .
( قلنا ) : لم يجب لانعدام السبب بل لمانع وهو بقاء حجة تامة فإذا زال برجوع الثاني وجب الحد على الأول بالسبب المتقرر في حقه لا بزوال المانع فلو اعتبرنا هذا المعنى لوجب القول بأنهم لو رجعوا معا لم يحد واحد منهم لأن في حق كل واحد منهم لا يلزمه شيء برجوعه وحده لو ثبت أصحابه على الشهادة وهذا بعيد .
( قال ) ( وقال أبو حنيفة - C تعالى - إذا فعل الإمام الذي ليس فوقه إمام شيئا مما هو إلى السلطان فليس فيه عليه حد إلا القصاص والأموال ) فإنه يؤخذ بها لأن استيفاء الحد إلى الإمام وهو الإمام فلا يملك إقامة الحد على نفسه لأن الشرع ما جعل من عليه نائبا عنه في الاستيفاء من نفسه فإن إقامته بطريق الخزي والعقوبة فلا يفعل الإنسان ذلك بنفسه ومن هو دون نائبه لا يمكنه أن يقيم فانعدم المستوفى وفائدة الوجوب الاستيفاء فإذا انعدم المستوفى قلنا أنه لا يجب والشافعي - C تعالى - يقول يلزمه الحد ويجتمع الصلحاء من المسلمين على رجل ليقيم عليه ذلك الحد وأهل الزيغ يعللون في هذه المسألة ويقولون أنه بالزنا قد انعزل فكان زناه في وقت لا إمام فيه ولو زنى في مكان لا إمام فيه وهو دار الحرب لا يلزمه الحد فكذلك إذا زنى في زمان لا إمام فيه وهذا قول باطل عندنا لما قلنا أنه بالفسق لا ينعزل فأما القصاص والأموال محض حق العبد واستيفاؤه إلى صاحب الحق فيستوفيه منه إن تمكن من ذلك .
( قال ) ( وقال أبو حنيفة - C تعالى - السكر الذي يجب به الحد على صاحبه أن لا يعرف الرجل من المرأة ) وإنما أراد به أن من شرب ما سوى الخمر من الأشربة فلا حد عليه ما لم يسكر وحد سكره عندهما أن يختلط كلامه فلا يتميز جده من هزله لأنه إذا بلغ هذا الحد يسمى في الناس سكرانا وإليه أشار الله D في قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ( النساء : 43 ) وأبو حنيفة - C تعالى - قال ما لم يبلغ نهاية السكر لا يلزمه الحد لأن في الأسباب الموجبة للحد يعتبر أقصى النهاية احتيالا لدرء الحد وذلك في أن لا يعرف الأرض من السماء والفرو من القباء والذكر من الأنثى إلى هذا أشار في الأشربة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب