( قال ) ( وإذا حلف لا يتكلم اليوم ثم صلى لم يحنث استحسانا وفي القياس يحنث وهو قول الشافعي - C تعالى - ) لأنه بالتسبيح والتهليل والتكبير وقراءة القرآن متكلم فإن التكلم ليس إلا تحريك اللسان وتصحيح الحروف على وجه يكون مفهوما من العباد وقد وجد ذلك ألا ترى أنه لو أتى به في غير الصلاة كان حانثا فكذلك في الصلاة .
ووجه الاستحسان قول رسول الله - A - ( إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا يتكلم في الصلاة ) ولا يفهم أحد من هذا ترك القراءة وأذكار الصلاة وكذلك في العرف يقال فلان لم يتكلم في صلاته وإن كان قد أتى بأذكار الصلاة ويقال : حرمة الصلاة تمنع الكلام ولا يراد به الأذكار والعرف معتبر في الأيمان فأما إذا قرأ في غير الصلاة أو سبح أو هلل أو كبر يحنث لأنه قد تكلم ألا ترى أنه يقال القرآن كلام الله وأن التكلم لا يتحقق من الأخرس والقراءة والذكر باللسان لا يتحقق من الأخرس فكان كلاما وكذلك لو أنشد شعرا أو تكلم بأي لسان كان فهو حانث لوجود الشرط .
ولو حلف لا يكلم فلانا فناداه من بعيد فإن كان بحيث لا يسمع صوته لا يحنث وإن كان بحيث يسمع صوته فهو حانث لأنه يكون مكلما فلانا بإيقاع صوته في أذنه فإذا كان من البعد بحيث لا يسمع لم يوجد ذلك وإذا كان بحيث يسمع فقد أوقع صوته في أذنه .
وإن لم يفهم لتغافله عنه واشتغاله بغيره فيحنث ألا ترى أن الأول يسمى هاذيا والثاني يسمى مناديا له وكذلك لو ناداه وهو نائم فأيقظه حنث وهذا ظاهر وقع في بعض نسخ الأصل فناداه أو أيقظه وهذا إشارة إلى أنه وإن لم ينتبه بندائه فهو حانث لأنه أوقع صوته في أذنه ولكنه لم يفهم لمانع والأظهر أنه لا يحنث لأن النائم كالغائب وإن لم ينتبه كان بمنزلة ما لو ناداه من بعيد بحيث لا يسمع صوته فلا يكون حانثا .
وإذا انتبه فقد علمنا أنه أسمعه صوته فيكون مكلما له .
وقيل : هو على الخلاف عند أبي حنيفة - C تعالى - يحنث لأنه يجعل النائم كالمنتبه .
وعندهما لا يحنث بيانه فيمن رمي سهما إلى صيد فوقع عند نائم حيا ثم لم يدرك ذكاته حتى مات على ما نبينه في كتاب الصيد .
وإن مر على قوم فسلم عليهم وهو فيهم حنث لأنه مخاطب كل واحد منهم بسلامه إلا أن ينوى القوم دونه فيدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه لا يكون مكلما له إذا قصد بالخطاب غيره ولكنه لا يدين في القضاء لأنه في الظاهر مخاطب لهم وإن كتب إليه أو أرسل لم يحنث لما بينا أن الكلام لا يكون إلا مشافهة .
ألا ترى أن أحدا منا لا يستجيز أن يقول كلمني الله وقد أتانا كتابه ورسوله وإنما يقال كلم الله موسى تكليما لأنه اسمعه كلامه بلا واسطة .
وكذلك لو أومأ أو أشار لم يحنث لأن الكلام ما لا يتحقق من الأخرس والإيماء والإشارة يتحقق منه فلا يكون كلاما .
وذكر هشام عن محمد - رحمهما الله تعالى - قال سألني هارون عمن حلف لا يكتب إلى فلان فأمر أن يكتب إليه بإيماء أو إشارة هل يحنث فقلت نعم إذا كان مثلك يا أمير المؤمنين وهذا صحيح لأن السلطان لا يكتب بنفسه عادة إنما يأمر به غيره ومن عادتهم الأمر بالإيماء والإشارة .
وعن ابن سماعة قال : سألت محمدا عمن حلف لا يقرأ كتابا لفلان فنظر فيه حتى فهمه ولم يقرأه فقال : سأل هارون أبا يوسف - C تعالى - عن هذا وكان قد ابتلى بشيء منه فقال لا يحنث وأنا برئ من ذلك ثم ندم وقال أما أنا فلا أقول فيه شيئا .
وذكر هشام وابن رستم عن محمد - رحمهم الله تعالى - أنه يحنث لأن المقصود الوقوف على ما فيه لا عين القراءة وفي الأيمان يعتبر المقصود .
وجه قول أبي يوسف - C تعالى - : أن اللفظ مراعى ولفظه القراءة والنظر والتفكر ليفهم لا يكون قراءة ألا ترى أنه لا يتأدى به فرض القراءة في الصلاة وإن قال لا أكلم مولاك وله موليان أعلى وأسفل ولا نية له حنث بأيهما كلم .
وكذلك لو قال لا أكلم جدك وله جدان من قبل أبيه وأمه لأن هذا اسم مشترك والأسماء المشتركة في موضع النفي تعم لأن معنى النفي لا يتحقق بدون التعميم وهو بمنزلة النكرة تعم في موضع النفي دون الاثبات وهذا إشارة إلى الفرق بين هذا وبين الوصية لمولاه وقد بينا تمام هذا الفرق في الجامع .
وإن حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفى ماله عليه فلزمه ثم فر منه الغريم لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعل نفسه في المفارقة وهو ما فارق غريمه إنما الغريم هو الذي فارقه وكذلك لو كابره حتى انفلت منه لأنه يقصد بيمينه منع نفسه عما في وسعه دون ما ليس في وسعه .
( قال ) ( ولو أن المطلوب أحال بالمال على رجل وأبرأه الطالب منه ثم فارقه لم يحنث عند محمد وأبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - وفي قول أبي يوسف - C تعالى - يحنث ) لأن ما جعله غاية وهو استيفاء ماله عليه قد فات حين برئ المطلوب بالحوالة وقد بينا أن فوت الغاية عندهما يسقط اليمين لا إلى حنث خلافا لأبي يوسف - C تعالى - كما في قوله لا أكلمك حتى يأذن لي فلان فإن توى المال على المحال عليه ورجع الطالب إلى المطلوب لم يحنث أيضا لأن الحوالة تنفسخ بالتوى ولا يتبين أنها لم تكن وإنما تنفسخ الحوالة في حق حكم يحتمل الفسخ وسقوط اليمين لا يحتمل الفسخ فلهذا لا يعود اليمين بانفساخ الحوالة وإن لم يحل بالمال ولكنه قضاه وفارقه ثم وجده زيوفا أو نبهرجة أو ستوقا فإن كان الغالب عليه الفضة لم يحنث وإن رده لأنه مستوف بالقبض ألا ترى أنه لو تجوز بها في الصرف والسلم جازفتم شرط بره ثم انتقض قبضه بالرد فلا ينتقض به حكم البر لأنه لا يحتمل الانتقاض وإن كان الغالب النحاس كالستوقة فهو حانث لأنه ما صار مستوفيا حقه بالقبض ألا ترى أنه لو تجوز به في الصرف والسلم لا يجوز وإن استحق المقبوض من يده لم يحنث لأنه مستوف ألا ترى أنه لو أجازه المستحق بعد الافتراق في الصرف والسلم جاز ثم انتقض قبضه بالاستحقاق بعد حصول الاستيفاء وشرط البر لا يحتمل الانتقاض .
وإن حلف ليعطينه حقه عن قريب فهو وقوله عاجلا سواء وإن نوى وقتا فهو على ما نوى لأن الدنيا كلها قريب عاجل وإن لم يكن له نية فهو على أقل من شهر استحسانا وقد بينا هذا .
وإن حلف لا يحبس عنه من حقه شيئا ولا نية له فينبغي أن يعطيه ساعة حلف لأن الحبس عبارة عن التأخير فإن لم يؤخره بعد الحلف لم يكن حابسا .
وإن أخره كان حابسا ولكن الحبس قد يطول ويقصر فإن حاسبه فأعطاه كل شيء له عنده وأقر بذلك الطالب ثم أتاه بعد ذلك بأيام فقال بقي لي عندك كذا من قبل كذا فذكر المطلوب ذلك وقد كان نسيا ذلك جميعا لم يحنث إذا أعطاه ساعتئذ أو قال له خذه لأن الحبس لا يتحقق فيما لا يكون معلوما لهما وبعد التذكر لم يحبسه ولكنه أعطاه بالمناولة أو التخلية بينه وبينه فلهذا لم يحنث .
وإن حلف لا يقعد على الأرض ولا نية له فقعد على بساط أو غيره لم يحنث لأن القاعد على الأرض من يباشر الأرض من غير أن يكون بينه وبين الأرض ما هو منفصل عنه ولم يوجد ذلك وفي العرف الرجل يقول لغيره اجلس على البساط ولا تجلس على الأرض ويقول فلان جالس على الأرض وفلان على البساط والعرف معتبر في الأيمان .
وإن قعد على الأرض ولباسه بينه وبين الأرض حنث لأنه يسمى في الناس قاعدا على الأرض ولأن الملبوس تبع اللابس فلا يصير حائلا بينه وبين الأرض ولأن الإنسان إنما يمتنع من الجلوس على الأرض لكيلا تضربه وهذا يوجد وإن كان ذيله بينه وبين الأرض ولا يوجد إذا جلس على بساط .
وإن حلف لا يمشى على الأرض فمشى عليها بنعل أو خف حنث لأن المشي على الأرض هكذا يكون في العرف وإن مشى على بساط لم يحنث لأنه غير ماش على الأرض ولو مشي على ظهر إجار حافيا أو بنعلين حنث لأن ظهر الإجار يسمى أرضا عرفا فإن من أراد الجلوس عليه يقول له غيره اجلس على البساط ولا تجلس على الأرض .
وإن حلف لا يدخل في الفرات فمر على الجسر أو دخل سفينة لم يحنث وإن دخل الماء حنث لأن في العرف دخول الفرات بالشروع في الماء والجسر والسفينة ما اتخذ للعاجزين عن الشروع في الفرات فعرفنا أن الحاصل على الجسر أو السفينة لا يكون داخلا في الفرات عرفا وفي النوادر .
ولو حلف لا يدخل بغداد فمر في الدجلة في السفينة فهو حانث في قول محمد - C تعالى .
وعند أبي يوسف - C - لا يحنث ما لم يخرج إلى الحد .
( قال ) ( ولو كان من أهل بغداد فجاء من الموصل في السفينة في دجلة حتى دخل بغداد كان مقيما وإن لم يخرج إلى الحد ) ومحمد - C تعالى - سوى بينهما ويقول الموضع الذي حصل فيه من بغداد فيكون حانثا كما لو حلف لا يدخل الدار فدخلها راكبا وأبو يوسف - C تعالى - يقول : مراد الحالف دخول الموضع الذي يتوطن فيه أهل بغداد ولا يوجد ذلك ما لم يخرج إلى الحد فإن قهر الماء يمنع قهر غيره وإن حلف لا يكلم فلانا إلى كذا وكذا فإن نوى شيئا فهو على ما نوى .
وإن لم يكن له نية ولم يسم شيئا فله أن يكلمه بعد ذلك اليوم لأن الكلام كان مطلقا له قبل اليمين فلا يمتنع إلا القدر المتيقن به والمتيقن ذلك اليوم لأنا نعلم أنه إذا كان مراده أقل من يوم لا يحلف على ذلك ولا يقين فيما وراء ذلك فلا يحنث بالشك .
( فإن قيل ) : أليس أنه لو قال لفلان علي كذا وكذا درهما يلزمه أحد وعشرون درهما .
( قلنا ) : وهنا لو قال كذا وكذا يوما فالجواب كذلك .
فأما إذا لم يقل يوما فيحتمل أن مراده الساعة واليوم والليلة يشتمل على ساعات كثيرة فلهذا له أن يكلمه بعد ذلك اليوم .
وإن حلف لا يكلم فلانا إلى قدوم الحاج أو إلى الحصاد فقدم أول قادم كان له أن يكلمه لأن مراده وقت القدوم ووقت الحصاد وقد علمنا بدخول ذلك الوقت فهو كما لو حلف لا يكلمه إلى الغد فكما طلع الفجر من الغد له أن يكلمه .
ولو حلف لا يؤم الناس فأم بعضهم حنث لأن الناس اسم جنس وقد علمنا أنه لم يرد استغراق الجنس لأن ذلك لا يتحقق فيتناول أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس .
وإن حلف لا يكلمه حتى الشتاء فجاء أول الشتاء سقطت اليمين وكذلك الصيف وقد بينا الفصول الأربعة في كتاب الطلاق .
وإن حلف لا يستعير من فلان فاستعار منه حائطا يضع عليه جذوعه حنث لأن الاستعارة طلب العارية وقد تحقق منه بما استعار من حائطه ليضع عليه جذوعه فهو كما لو استعار منه بيتا أو دارا أو دابة ولو سار إليه ضيفا أو دخل عليه فاستقى من بئره لم يحنث لأنه لا يسمى مستعيرا شيئا فإن موضع جلوس الضيف وما جلس عليه في يد المضيف ومن استقي من بئر في دار غيره لا تثبت يده على الرشا فلا يكون مستعيرا من ذلك .
ولو حلف لا يعرف هذا الرجل وهو يعرفه بوجهه دون اسمه لم يحنث لأنه يعرفه من وجه دون وجه فإنه يمكنه أن يشير إليه إذا كان حاضرا ولا يمكنه إحضاره إذا كان غائبا والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا والأصل فيه ما روى ( أن النبي - A - سأل رجلا عن رجل فقال : هل تعرفه ؟ فقال : نعم فقال هل تدري ما اسمه ؟ قال : لا قال فإنك إذا لا تعرفه ) إلا أن يعني معرفة وجهه فإن عني ذلك فقد شدد الأمر على نفسه واللفظ محتمل لما نوى وهذا إذا كان للمحلوف عليه اسم فإن لم يكن له اسم بأن ولد من رجل فرأى الولد جاره ولكن لم يسم بعد فحلف الجار أنه لا يعرف هذا الولد فهو حانث لأنه يعرف وجهه ويعرف نسبه وليس له اسم خاص ليشترط معرفة ذلك فكان حانثا في يمينه والله أعلم بالصواب