( قال ) Bه ( وإذا حلف الرجل ليعطين فلانا حقه إذا صلى الأولى فله وقت الظهر إلى آخره ) لأن المراد بذكر الصلاة الوقت والأولى هي الظهر في لسان الناس فلا يحنث ما لم يخرج وقت الظهر قبل أن يعطيه وإن حلف لعطينه كل شهر درهما ولا نية له وقد حلف في أول الشهر فهذا الشهر يدخل في يمينه وينبغي أن يعطيه فيه درهما قبل أن يخرج وكذلك لو حلف في آخر الشهر .
ألا ترى أنه لو حلف ليعطينه في الشهر كان عليه أن يعطيه قبل أن يهل الهلال سواء كان في أول الشهر أو آخره .
وكذلك لو قال في كل شهر لأن الشهر الذي فيه أقرب الشهور إليه .
ألا ترى أنه لو قال في كل يوم كان اليوم الذي حلف فيه داخلا في الجملة فكذلك إذا قال في كل شهر .
وكذلك لو كان المال عليه نجوما عند انسلاخ كل شهر فحلف ليعطينه النجوم في كل شهر كان له ذلك الشهر الذي حل فيه النجم فمتى أعطاه في آخر ذلك الشهر فقد بر لأنه جعل شرط البر إعطاء كل نجم بعد حلوله في الشهر والشهر اسم لجزء من الزمان من حين يهل الهلال إلى أن يهل الهلال فإذا أعطاه في ذلك أو في آخره فقد تم شرط بره .
ولو حلف ليعطينه عاجلا ولا نية له فالعاجل قبل أن يمضي الشهر لأن الآجال في العادة تقدر بالشهور وأدنى ذلك شهر فما دونه في حكم العاجل .
وكذلك لو حلف لا يكلم فلانا عاجلا فإن كان يعنى شيئا فهو على ما نوى وإن لم يكن له نية فإذا كلمه بعد شهر لم يحنث وكذلك إذا قال مليا فالمراد به البعيد قال تعالى : { واهجرني مليا } ( مريم : 46 ) وإن كان يعني شيئا فهو على ما نوى وإلا كان على الشهر فصاعدا لأن البعيد والأجل سواء .
وإن حلف ليعطينه في أول الشهر الداخل فيه فله أن يعطيه قبل أن يمضى منه نصفه .
وإن مضى منه نصفه قبل أن يعطيه حنث لأن للشهر أولا وآخرا فأوله عند الإطلاق يتناول النصف الأول والآخر منه يتناول النصف الآخر .
وعلى هذا روى عن أبي يوسف - C تعالى - أنه لو قال : والله لا أكلمه آخر يوم من أول الشهر وأول يوم من آخر الشهر أن يمينه يتناول الخامس عشر والسادس عشر وإن حلف لا يعطيه ماله عليه حينا فأعطاه قبل ستة أشهر حنث لأن الحين قد يذكر بمعنى الساعة قال الله تعالى : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } ( الروم : 17 ) والمراد وقت الصلاة ويذكر بمعني أربعين سنة قال الله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } ( الإنسان : 1 ) ويذكر بمعنى ستة أشهر كما نقل عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في تأويل قوله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } ( إبراهيم : 25 ) أنه ستة أشهر من حين يخرج الطلع إلى أن يدرك التمر فعند الإطلاق يحمل على الوسط من ذلك فإن خير الأمور أوسطها ولأنا نعلم أنه يرد به الساعة فإنه إذا قصد المماطلة ساعة واحدة لا يحلف على ذلك ويعلم أنه لم يرد أربعين سنة فإنه إذا أراد ذلك يقول أبدا فعرفنا أن المراد ستة أشهر والزمان في هذا كالحين لأنهما يستعملان استعمالا واحدا .
فإن الرجل يقول لغيره لم ألقك منذ حين أم ألقك منذ زمان ويستوى إن كان ذكره معرفا بالألف واللام أو منكرا لأن ستة أشهر لما صار معهودا في الحين والزمان فالمعرف ينصرف إلى المعهود وكذلك الدهر في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى .
وقال أبو حنيفة - C تعالى - لا أدري مالدهر من أصحابنا من يقول هذا الاختلاف فيما إذا ذكره منكرا وقال دهرا فأما إذا ذكره معرفا فذلك على جميع العمر قال الله تعالى : { حين من الدهر } ( الإنسان : 1 ) فقد جعل الحين من الدهر جزء فيبعدان يسوى بينهما في التقدير ومنهم من قال إن الخلاف في الكل واحد .
وهما يقولان الدهر في العرف يستعمل استعمال الحين والزمان فإن الرجل يقول لغيره لم ألقك منذ دهر لم ألقك منذ حين وفي ألفاظ اليمين المعتبر هو العرف وأبو حنيفة - C تعالى - يقول قد علمت بالنص أن الحين بعض الدهر ولم أجد في تقدير الدهر شيئا نصا ونصب المقادير بالرأى لا يكون وإنما يعتبر العرف فيما لم يرد نص بخلافه فلهذا توقف ولا عيب عليه في ذلك .
ألا ترى أن ابن عمر - Bه - لما سئل عن شيء فقال لا أدري حين لم يحضره جواب ثم قال طوبي لابن عمر سئل عما لا يدري فقال لا أدري وقيل إنما قال لا أدري لأنه حفظ لسانه عن الكلام في معني الدهر فقد جاء في الحديث عن النبي - A - أنه قال : ( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ) معناه أنه خالق الدهر وفي حديث آخر أن النبي - E - قال فيما يؤثر عن ربه : ( استقرضت من عبدي فأبي أن يقرضني وهو يسبني ولا يدري فسب الدهر ويقول وادهراه وإنما أنا الدهر ) حديث فيه طول فلهذه الآثار الظاهرة حفظ لسانه وقال لا أدري ما الدهر وهو كما روي أن النبي - E - سئل عن خير البقاع فقال لا أدري حتى أسأل جبريل فسأل جبريل فقال لا أدري حتى أسأل ربي فصعد إلى السماء ثم نزل وقال سألت ربي عن ذلك فقال خير البقاع المساجد وخير أهلها من يكون أول الناس دخولا وآخرهم خروجا فعرفنا أن التوقف في مثل هذا يكون من الكمال لا من النقصان .
وإن حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام في قول أبي حنيفة .
وفي قول أبي يوسف ومحمد - رضوان الله عليهم أجمعين - على سبعة أيام لأن الألف واللام للمعهود فيما فيه معهود والمعهود في الأيام السبعة التي تدور عليها الشهور والسنين كلما دارت عادت وفي الشهور اثني عشر شهرا وليس في السنين معهود فيستغرق العمر .
وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : الألف واللام للكثرة فكأنه قال أياما كثيرة وأكثر ما يتناوله اسم الأيام مقرونا بالعدد العشرة لأنه يقال بعده أحد عشر يوما وكذلك في الشهور والسنين فينصرف يمينه إلى العشرة مما سمي .
وإن قال أياما ولا نية له على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - هو على ثلاثة أيام لأن ذكر لفظ الجمع وأدني ما يطلق عليه اسم الجمع المتفق عليه ثلاثة وكذلك قول أبي حنيفة على ما ذكره في الجامع الكبير وهو الصحيح وذكر هنا أن على قوله يكون على عشرة أيام سواء قال أياما أو قال الأيام وأكثر مشايخنا على أن هذا غلط والصحيح ما ذكره في الجامع وقد بيناه ثمة .
وإن حلف ليعطينه غدا في أول النهار فإذا أعطاه قبل أن ينتصف النهار بر لما بينا أن للنهار أولا وآخرا كما للشهر .
وإن حلف ليعطينه مع حل المال أو عند حله أو حين يحل المال أو حيث يحل ولا نية له فهذا يعطيه ساعة يحل فإن أخره أكثر من ذلك حنث لأن مع للضم وعند للقرب وحين في مثل هذا الموضع يراد به الساعة عادة فكأنه حلف ليعطينه ساعة يحل فإذا أخره من ذلك حنث .
وإن حلف لا يضرب عبده فوجأه أو خنقه أو قرصه أو مد شعره أو عضه حنث لأن الضرب فعل موجع على قصد الاستخفاف أو التأديب وهذا كله موجع موصل الألم إلى قلبه فكان ضربا وكذلك من حيث العادة القاصد إلى ضرب عبده إنما يقصد ما يقدر عليه من هذه الأفعال ويسمى فعله ضربا ومن يعاينه يفعل ذلك يسميه ضاربا عبده .
ولو حلف ليضربنه مائة سوط فضربه مائة سوط وخفف بر لأن شرط بره أصل الضرب دون نهايته والخفيف كالضرب الشديد ومطلق الاسم لا يتناول نهاية الشيء وإن جمعها جماعة ثم ضربه بها لم يبر لأنه إنما يكون ضاربا له بما يصل إلى بدنه والواصل إلى بدنه بعض السياط حين جمع الكل جمعا فلهذا لا يبر .
ولو ضربه بسوط واحد له شعبتان خمسين ووقعت عليه الشعبتان بر لأن كل شعبة سوط واقع على بدنه ضربا فيصير بكل إيقاع ضاربا له سوطين فإذا ضربه خمسين فقد ضربه مائة سوط وهو شرط بره ألا ترى أن الإمام يصير مقيما حد الزنا بهذا المقدار فكذلك الحالف والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب