( قال ) Bه ( رجل حلف لا يشرب شرابا فأي شراب شربه من ماء أو غيره حنث في يمينه ) لأن الشراب ما يتأتى فيه فعل الشرب وقد بينا حده والماء في ذلك كغيره فإنه شراب طهور قال الله تعالى : { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } ( الإنسان : 21 ) فيدخل في ذلك كل شراب تشتهيه الأنفس وإن عين شرابا بعينه دين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وإن حلف لا يشرب نبيذا فأي نبيذ شربه حنث والنبيذ الزبيب أو التمر ينقع في الماء فتستخرج حلاوتها ثم يجعل شرابا مأخوذ من النبذ وهو الطرح قال الله تعالى : { فنبذوه وراء ظهورهم } ( آل عمران : 167 ) .
فإن شرب سكرا أو فضيخا أو عصيرا لم يحنث لأنه ليس بنبيذ ولا يطلق عليه اسم النبيذ عادة ولكن هذا إذا كانت يمينه بالعربية أما بالفارسية اسم النبيذ يطلق على كل مسكر والأيمان تنبني على العرف في كل موضع ولو حلف لا يشرب ماء فشرب نبيذا لم يحنث لأنه غير الماء فإنه قد تغير بما غلب عليه من حلاوة الزبيب والتمر وإن طبخ فلا إشكال فيه أنه غير الماء .
وإن حلف لا يشرب مع فلان شرابا فشربا في مجلس واحد من شراب واحد حنث وإن كان الإناء الذي يشربان منه مختلفا فإن شرب الحالف من شراب والآخر من شراب غيره وقد ضمهما مجلس واحد حنث لأن مراده الامتناع من منادمته وقد وجد ذلك إذا جمعهما مجلس واحد سواء كان الشراب واحدا أو مختلفا والإناء الذي يشربان فيه واحدا أو مختلفا لأن الشرب مع الغير هكذا يكون .
ألا ترى أن الأمير مع ندمائه يشرب ثم إناؤه الذي يشرب منه غير إنائهم وربما يشرب الصرف ويمزج لهم إلا أن يكون نوى شرابا واحدا حين حلف فحينئذ قد نوى أكمل ما يكون من الشرب مع فلان ونيته لذلك صحيح .
ولو حلف لا يأكل الطعام فأكل منه شيئا يسيرا حنث وكذلك لو حلف لا يشرب الماء لأن الاسم حقيقة للقليل والكثير والفعل يتحقق في القليل والكثير فإذا عنى الماء كله والطعام كله لم يحنث بهذا لأن الماء والطعام اسم جنس فإذا عني الكل فإنما نوى حقيقة كلامه فتعمل نيته فلا يحنث بهذا لأنه لا يستطيع أن يشرب الماء كله ولا أن يأكل الطعام كله .
ولو حلف لا يذوق شرابا وهو يعني لا يشرب النبيذ خاصة فأكله أكلا لم يحنث لأنه ذكر الشراب والشراب يشرب فنية الشرب فيما ذكر من الذوق صحيح وقد بينا أنه متى عقد يمينه على فعل الشرب لم يحنث بالأكل .
وإن حلف لا يذوق لبنا ولا نية له فأكله أو شربه حنث لأنه قد ذاقه وزاد عليه .
ولو حلف لا يشرب من دجلة فغرف منها بقدح وشربه لم يحنث في قول أبي حنيفة - C تعالى - إلا أن يضع فاه على دجلة بعينها فيشرب وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يحنث لأن الشرب من دجلة هكذا يكون في العادة فإنه يقال أهل بلدة كذا يشربون من دجلة وإنما يراد بطريق الاغتراف في الأواني .
ولكن أبو حنيفة يقول : حقيقة الشرب من دجلة يكون بالكرع وهذه حقيقة مستعملة جاء في الحديث أن النبي - A - قال لقوم نزل عندهم ( هل عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا ) وقد بينا أن الحقيقة إذا كانت مستعملة فاللفظ يحمل عليه دون المجاز والحقيقة مرادة فإنه لو كرع يحنث وهو حقيقة الشرب من دجلة لأن من للتبعيض فالحقيقة أن يضع فاه على بعض دجلة والحقيقة استعمال اللفظ في موضعه والمجاز استعماله في غير موضعه ولا يتصور أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في موضعه معدولا به عن موضعه فهذا وما تقدم من مسألة الحنطة سواء وأن عندهما في الفصلين إنما يحنث لعموم المجاز .
( قال ) ( ألا ترى أنه لو حلف لا يشرب من هذا الجب فغرف منه بقدح فشرب فإنه يحنث ) وهذا عندهما فأما عند أبي حنيفة - C تعالى - إذا كان ملآنا فيمينه على الكرع خاصة وإن لم يكن ملآنا فحينئذ الجواب كما قالا لأن الكرع لا يتأتى هنا كما لو حلف لا يشرب من هذا البئر وإن تكلف للكرع من البئر ففيه اختلاف المشايخ كما بيناه في مسألة الدقيق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب