( قال ) Bه ( وإذا حلف الرجل لا يساكن فلانا ولا نية له فساكنه في دار كل واحد منهما في مقصورة على حدة لم يحنث ) لأن المساكنة على ميزان المفاعلة فشرط حنثه وجود السكنى مع فلان والسكنى المكث في مكان على سبيل الاستقرار والدوام فتكون المساكنة بوجود هذا الفعل منهما على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك إذا سكنا بيتا واحدا أو سكنا في دار كل واحد منهما في بيت منها لأن جميع الدار مسكن واحد .
فأما إذا كان في الدار مقاصير وحجر فكل مقصورة مسكن على حدة فلا يكون هو مساكنا فلانا فلا يحنث في يمينه بمنزلة ما لو سكنا في محلة كل واحد منهما على حدة .
والدليل على الفرق أن الدار التي تشتمل على المقاصير كل مقصورة منها حرز على حدة حتى لو أخرج السارق المتاع من مقصورة فأخذ في صحن الدار يقطع ولو سرق من يسكن إحدى المقصورتين من المقصورة الأخرى يقطع والدار التي تشتمل على بيوت حرز واحد حتى لو أخرج السارق المتاع من بيت وأخذ في صحن الدار لا يقطع ومن كان مأذونا في الدخول في أحد البيوت من الدار إذا سرق من البيت الآخر لا يقطع .
وعن أبي يوسف - C تعالى - قال هذا إذا كانت الدار كبيرة نحو دار الوليد بالكوفة ونظيره دار نوح ببخارى لأن ذلك بمنزلة المحلة فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فإنه يحنث سواء كانت دارا تشتمل على مقاصير أو على بيوت لأن في عرف الناس هذا مسكن واحد ويعد الحالف مساكنا لصاحبه وإن كان كل واحد منهما في مقصورة .
وإن كان نوى حين حلف أن لا يساكنه في بيت واحد أو في حجرة أو في منزل واحد بأن يكونا فيه جميعا لم يحنث حتى يساكنه فيما نوى لأن المنوي من محتملات لفظه .
( فإن قيل ) : المسكن ليس في لفظه فيكف تعمل نيته في تخصيص المسكن ونية التخصيص فيما لا لفظ له باطل .
( قلنا ) : نحن لا نعتبر تخصيص المسكن حتى لو نوى شيئا بعينه لا تعمل نيته ولكن الفعل يقتضي المصدر لا محالة فبذكر الفعل يصير المصدر كالمذكور لغة وهو إنما نوى أكمل ما يكون من السكنى لأن أكمل ذلك أن يجمعهما بيت واحد وما دون هذا عند المقابلة بهذا يكون قاصرا فيكون هذا منه نية نوع من السكنى وذلك صحيح .
نظيره ما قال في الجامع إن خرجت ونوى السفر تعمل نيته لأنه نوى نوعا من الخروج والخروج الذي هو مصدر كالمذكور بذكر الفعل فتصح نيته في نوع منه بخلاف ما إذا نوى الخروج إلى بغداد لأن المكان ليس في لفظه فلا تعمل نيته في ذلك وإن كان نوى أن لا يساكنه في مدينة أو قرية وسمى ذلك فإن ساكنه في شيء من ذلك حنث ولا تكون المساكنة في ذلك إلا أن يسكنا بيتا واحدا أو دارا واحدة من دار البلدة أو القرية على ما بينا أن المساكنة فعل على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك لا يكون إلا في مسكن واحد وفائدة تخصيصه البلدة أو القرية إخراج سائر المواضع عن يمينه .
وعن أبي يوسف - C - أنه في هذا الفصل يحنث إذا جمعها المكان الذي سمي في السكنى .
وإن كان كل واحد منهما في دار على حدة لأجل العرف فإنه يقال فلان يساكن فلانا قرية كذا وبلدة كذا وإن كان كل واحد منهما في دار على حدة .
فأما في ظاهر الرواية لا يحنث في ذلك إلا أن ينويه فحينئذ تعمل نيته لما فيه من التشديد عليه .
وإن حلف لا يساكنه في بيت فدخل عليه فيه زائرا أو ضيفا وأقام فيه يوما أو يومين لم يحنث لأن هذا ليس بمساكنة إنما المساكنة بالاستقرار والدوام وذلك بمتاعه وثقله ألا ترى أن الإنسان يدخل في المسجد كل يوم مرارا ولا يسمى ساكنا فيه ويدخل على الأمير ويكون في داره يوما ولا يسمي مساكنا له في داره فكذلك هذا الذي دخل على فلان زائرا أو ضيفا لا يكون ساكنا معه فيه فلا يحنث إلا أن ينويه فحينئذ في نيته تشديد عليه فيكون عاملا .
ألا ترى أن الرجل قد يمر بالقرية فيبيت فيها ويقول ما سكنتها قط فيكون صادقا في ذلك .
ولو كان ساكنا في دار فحلف أن لا يسكنها ولا نية له ثم أقام فيها يوما أو أكثر لزمه الحنث لأن السكنى فعل مستدام حتى يضرب له المدة ويقال سكن يوما أو شهرا والاستدامة على ما يستدام كالإنشاء قال الله تعالى : { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى } ( الأنعام : 68 ) أي لا تمكث قاعدا فيجعل استدامة السكنى بعد يمينه كإنشائه وكذلك اللبس والركوب لأنه يستدام كالسكنى .
فأما إذا أخذ في النقلة من ساعته أو في نزع الثوب أو في النزول عن الدابة لم يحنث عندنا استحسانا .
وفي القياس يحنث وهو قول زفر - C تعالى - لوجود جزء من الفعل المحلوف عليه بعد يمينه إلى أن يفرغ عنه .
ووجه الاستحسان : أن هذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه فيصير مستثنى لما عرف من مقصود الحالف وهو البر دون الحنث ولا يتأتى البر إلا بهذا ولأن السكنى هو الاستقرار والدوام في المكان والخروج ضده فالموجود منه بعد اليمين ما هو ضد السكنى حين أخذ في النقلة في الحال ولو خرج منها بنفسه ولم يشتغل بنقل الأمتعة يحنث عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - لا يحنث لأنه عقد يمينه على سكناه وحقيقة ذلك بنفسه فينعدم بخروجه عقيب اليمين وحكى عنه في تعليل هذه المسألة قال خرجت من مكة وخلفت فيها دفيترات أفأكون ساكنا بمكة .
( وحجتنا ) في ذلك أنه ساكن فيها بثقله وعياله فما لم ينقلهم فهو ساكن فيها لما بينا أن السكنى فعل على سبيل الاستقرار والدوام وذلك لا يتأتى إلا بالثقل والمتاع والعرف شاهد لذلك فإنك تسأل السوقي أين تسكن فيقول في محلة كذا وهو في تجارته يكون في السوق ثم يشير إلى موضع ثقله وعياله ومتاعه فعرفنا أن السكنى بذلك بخلاف الدفيترات فإن السكنى لا تتأتى بها مع أن من مشايخنا من يقول : .
إذا كان يمينه على أن لا يسكن بلدة كذا فخرج منها بنفسه لم يحنث وإن خلف ثقله بها وقد روى بعض ذلك عن محمد - C - بخلاف السكنى في الدار فإن من يكون في المصر في السوق يسمى ساكنا في الدار التي فيها ثقله ومتاعه وعياله فأما المقيم بأوزجند لا يسمى ساكنا ببخاري وإن كان بها عياله وثقله .
قال - Bه : وهذه المسألة تنبني على أصل في مسائل الأيمان بيننا وبين الشافعي - C تعالى - أن عنده العبرة بحقيقة اللفظ والعادة بخلافها لا تعتبر لأن المجاز لا يعارض الحقيقة .
وعندنا العادة الظاهرة اصطلاح طارئ على حقيقة اللغة والحالف يريد ذلك ظاهرا فيحمل كلامه عليه ألا ترى أن المديون يقول لصاحب الدين والله لأجرينك على الشوك فيحمل على شدة المطل دون حقيقة اللفظ .
وكان مالك يقول ألفاظ اليمين محمولة على ألفاظ القرآن .
وهذا بعيد أيضا فإن من حلف لا يستضيء بالسراج فاستضاء بالشمس لا يحنث والله تعالى سمى الشمس سراجا .
ومن حلف لا يجلس على البساط فجلس على الأرض لم يحنث والله تعالى سمى الأرض بساطا .
ولو حلف لا يمس وتدا فمس جبلا لا يحنث وقد سمى الله تعالى الجبال أوتادا فعرفنا أن الصحيح ما قلنا .
فإن نقل بعض الأمتعة فالمروي عن أبي حنيفة - C تعالى - أنه يحنث إذا ترك بعض أمتعته فيها لأنه كان ساكنا فيها بجميع الأمتعة فيبقى ذلك ببقاء بعض الأمتعة فيها وهو أصل لأبي حنيفة حتى جعل بقاء صفة السكون في العصير مانعا من أن يكون خمرا وبقاء مسلم واحد منا في بلدة ارتد أهلها مانعا من أن تصير دار حرب إلا أن مشايخنا - رحمهم الله - قالوا هذا إذا كان الباقي يتأتى بها السكنى إما ببقاء مكنسة أو وتد أو قطعة حصير فيها لا يبقى ساكنا فيها فلا يحنث .
وعن أبي يوسف - C تعالى - قريب من هذا قال أن بقي فيها ما يتأتى لمثله السكنى به يحنث وإلا فلا .
وعن محمد - C تعالى - قال : إن نقل إلى المسكن الثاني ما يتأتى له السكني به لم يحنث لأن بهذا صار ساكنا في المسكن الثاني فلا يبقى ساكنا في المسكن الأول .
ولو كان في طلب مسكن آخر فبقي في ذلك يوما أو أكثر لم يحنث في الصحيح من الجواب لأنه لا يمكنه طرح الأمتعة في السكة فيصير ذلك القدر مستثنى لما عرف من مقصوده إذا لم يفرط في الطلب وكذلك إن بقى في نقل الأمتعة أياما لكثرة أمتعته ولبعد المسافة ولم يستأجر لذلك حمالا بل جعل ينقل بنفسه شيئا فشيئا لم يحنث وإن بقي في ذلك شهرا إذا لم يفرط لأن نقل الأمتعة ضد الاستقرار في ذلك المكان فاشتغاله به يمنعه من أن يكون ساكنا فيه فلا يحنث لهذا .
ولو حلف لا يساكن فلانا في دار قد سماها بعينها واقتسما وضربا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما بابا لنفسه ثم سكن الحالف طائفة والآخر طائفة لزمه الحنث لأنه قد ساكنه فيها بعينها والمعنى فيه أن شرط حنثه حين عقد اليمين أن يجمعهما فعل السكني في الموضع الذي عينه وقد وجد ذلك بعد القسمة وضرب الحائط كما قبله وهذا بخلاف ما لو كانت يمينه على أن لا يساكنه في منزل ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها لأن هناك بالقسمة وضرب الحائط صار كل جانب منزلا على حدة ولأن في غير العين يعتبر الوصف وفي العين يعتبر العين دون الوصف كما لو حلف أن لا يكلم شابا فكلم شيخا كان شابا وقت يمينه لم يحنث بخلاف ما لو حلف أن لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ يحنث وهذا لأنه في الدار المعينة أظهر بيمينه التبرم منها لا من فلان وفي غير المعين إنما أظهر التبرم من مساكنة فلان ولا يكون مساكنا له إذا لم يجمعهما منزل واحد .
ولو حلف أن لا يساكنه وهو ينوي في بيت واحد فساكنه في منزل كل واحد منهما في بيت لم يحنث لأنه نوى أكمل ما يكون من المساكنة فتصح نيته ويصير المنوي كالملفوظ به .
وإن حلف أن لا يسكن دارا بعينها فهدمت وبنيت بناء آخر فسكنها يحنث لأنها تلك الدار بعينها ومعنى هذا أن البناء وصف ورفع البناء الأول وإحداث بناء آخر يغير الوصف وفي العين لا معتبر بالوصف واسم الدار يبقى بعد هدم البناء حتى لو سكنها كذلك صار حانثا وهذا لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط فلا يزول ذلك برفع البناء أما ترى أن العرب تطلق اسم الدار على الخرابات التي لم يبق منها إلا الآثار قال القائل : .
عفت الديار محلها فمقامها .
وقال آخر : .
يا دار مية بالعلياء فالسند .
وهذا بخلاف ما لو حلف لا يسكن بيتا عينه فهدم حتى ترك صحراء ثم بنى بيت آخر في ذلك الموضع فسكنه لم يحنث لأن اسم البيت يزول بهدم البناء ألا ترى أنه لو سكنه حين كان صحراء لم يحنث وهذا لأن البيت اسم لما يكون صالحا للبيتوتة فيه والصحراء غير صالح لذلك واليمين المعقودة باسم لا يبقى بعد زوال الاسم ثم إنما حدث اسم البيت لذلك الموضع بالبناء الذي أحدث فكان هذا اسما غير ما عقد به اليمين .
ووزانه من الدار أن لو جعلها بستانا أو حماما ثم بنى دارا فسكنها لم يحنث لأن الاسم زال جعلها بستانا أو حماما ثم حدث اسم الدار بصفة حادثة فلم يكن ذلك الاسم الذي انعقد به اليمين .
وإذا حلف لا يسكن دار فلان هذه فباعها فسكن الحالف ولم يكن له نية لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى .
وقال محمد وزفر - رحمهما الله تعالى - يحنث وكذلك العبد والثوب وكل ما يضاف إلى إنسان بالملك .
وجه قول محمد وزفر - رحمهما الله تعالى : أنه جمع في كلامه بين الإشارة والإضافة فيتعلق الحكم بالإشارة لأنها أبلغ في التعريف من الإضافة فإنها تقطع الشركة والإضافة لا تقطع الشركة فكان هذا بمنزلة قوله لا أسكن هذه الدار .
والدليل عليه : ما لو قال والله لا أكلم زوجة فلان هذه صديق فلان هذا فكلم بعد ما عاداه وفارقها يحنث لما قلنا وكذلك لو قال لا أكلم صاحب هذا الطيلسان فكلم بعد ما باع الطيلسان يحنث .
وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : عقد يمينه على ملك يضاف إلى مالك فلا يبقى بعد زوال الملك كما لو كان أطلق دار فلان وتحقيقه من وجهين : .
( أحدهما ) : أن الدار لا يقصد هجرانها لعينها بل لأذى حصل من مالكها واليمين تتقيد بمقصود الحالف فصار بمعرفة مقصوده كأنه قال ما دامت لفلان بخلاف الزوجة والصديق فإنه يقصد هجرانهما لعينهما وكذلك قوله صاحب الطيلسان لأنه يقصد هجرانه لعينه لا لطيلسانه فكان ذكر هذه الأشياء للتعريف لا لتقييد اليمين .
( فإن قيل ) : في العبد هو آدمي فيقصد هجرانه لعينه ومع ذلك قلتم إذا حلف لا يكلم عبد فلان هذا فكلمه بعد ما باعه لا يحنث .
( قلنا ) : ذكر ابن سماعة في نوادره أن عند أبي حنيفة - C تعالى - يحنث بهذا في العبد ووجه ظاهر الرواية أن العبد مملوك ساقط المنزلة عند الأحرار فالظاهر أنه إذا كان الأذى منه لا يقصد هجرانه باليمين فلا يجعل له هذه المنزلة ولكن إنما يحلف إذا كان الأذى من مالكه ولأن إضافة المملوك إلى المالك حقيقة كالاسم .
ثم لو جمع في يمينه بين ذكر الاسم والعين وزال الاسم لم يبق اليمين كما لو حلف لا يدخل هذه الدار بعينها فجعلت بستانا فدخل لم يحنث لزوال الاسم فكذلك إذا جمع بين الإضافة والتعيين فزالت الإضافة لا يبقى اليمين بخلاف الزوجة والصديق فالإضافة هناك ليست بحقيقية ولكنه تعريف كالنسبة وكما أنه يتعلق اليمين بالعين دون النسبة فكذلك هنا يتعلق بالعين دون الإضافة فإن نوى أن لا يسكنها وإن زالت الإضافة فله ما نوى لأنه شدد الأمر على نفسه بنيته وكذلك عند محمد - C تعالى - لو نوى أن لا يسكنها ما دامت لفلان فله ما نوى لأن المنوي من محتملات لفظه .
وإذا حلف أن لا يسكن دار فلان أو دارا لفلان ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها فسكن دارا له قد باعها بعد يمينه لم يحنث لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان ولم يوجد بخلاف قوله زوجة فلان أو صديق فلان لأن هناك إنما يقصد هجرانهما لعينهما فيتعين ما كان موجودا وقت يمينه بناء على مقصوده كما لو عينه .
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف - رحمهما الله تعالى - التسوية بينهما .
ووجهه : أنه عقد اليمين بالإضافة وحقيقة ذلك فيما كان موجودا وقت يمينه ولكن على هذه الرواية لا بد من أن يقال إذا جمع بين الإضافة والتعيين يبقى اليمين بعد زوال الإضافة عند أبي يوسف - C تعالى - كما هو قول محمد - C تعالى .
وأما إذا سكن دارا كانت مملوكة لفلان من وقت اليمين إلى وقت السكنى فهو حانث بالإتفاق .
وإن سكن دارا اشتراها فلان بعد يمينه حنث في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - ولم يحنث في قول أبي يوسف - C تعالى - وكذلك العبد والدابة والثوب .
ولو حلف لا يأكل طعام فلان أو لا يشرب شراب فلان فتناول شيئا مما استحدثه فلان لنفسه فهو حانث بالاتفاق .
وقد أشار ابن سماعة إلى التسوية بين الكل عند أبي يوسف - C تعالى - لما بينا أنه عقد اليمين على الإضافة فما لم يوجد حقيقة وقت اليمين لا يتناوله اليمين .
فأما وجه قوله في الفرق على ظاهر الرواية : أن الطعام والشراب يستحدث الملك فيهما في كل وقت فعرفنا أن مقصود الحالف وجود الإضافة إلى فلان وقت التناول فأما الدار والعبد والدابة فلا يستحدث الملك فيها في كل وقت فعرفنا أن مقصوده ما كان موجودا في الحال دون ما يستحدث فيه فكان هذا بمنزلة الزوجة والصديق .
وجه قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أنه عقد يمينه على ملك مضاف إلى المالك فإذا وجدت الإضافة إلى وقت الفعل كان حانثا كما في الطعام والشراب وتحقيقه أن شرط حنثه وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان بالملك وإنما حمله على اليمين أذى دخله من فلان وفي هذا لا فرق بين الموجود في ملكه وقت اليمين وما استحدث الملك فيه بخلاف الزوجة والصديق .
وقد روى محمد عن أبي يوسف - رحمهما الله تعالى - في قوله دارا لفلان أنه لا يحنث إذا سكن دار اشتراها فلان بعد يمينه بخلاف قوله دار فلان لأن اللام دليل على الملك فصار تقدير كلامه كأنه قال لا أسكن دارا هي مملوكة لفلان فيتعين الموجود في ملكه دون ما يستحدثه ولا يوجد ذلك في قوله دار فلان .
وروى بشر عن أبي يوسف - رحمهما الله على عكس هذا قال إذا قال دار فلان لا يتناول ما يستحدث الملك فيه بخلاف قوله دارا لفلان لأن في قوله دار فلان تمام الكلام بذكر الإضافة .
ألا ترى أنه لو لم يذكر فلانا كان كلاما مختلا فلا بد من قيام الملك لفلان وقت اليمين ليتناوله اليمين وفي قوله دارا لفلان الكلام تام بدون ذكر فلان فإنه لو قال لا أسكن دارا كان مستقيما فذكر فلان لتقييد اليمين بما يكون مضافا إلى فلان وقت السكنى .
وإن حلف لا يسكن دارا لفلان فسكن دارا بينه وبين آخر لم يحنث قل نصيب الآخر أو كثر لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار يملكها فلان والمملوك لفلان بعض هذه الدار وبعض الدار لا يسمى دارا .
وإن حلف لا يسكن دارا اشتراها فلان فسكن دارا اشتراها لغيره حنث لأن المشتري لغيره كالمشتري لنفسه فيما ينبنى على الشراء ألا ترى أن حقوق العقد تتعلق به وأنه يستغني عن إضافة العقد إلى غيره وإنما رتب الحالف يمينه على الشراء دون الملك فإن قال أردت ما اشتراه لنفسه دين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء إذا كان يمينه بالطلاق لأنه نوي التخصيص في اللفظ العام وإن حلف لا يسكن بيتا ولا نية له فسكن بيتا من شعر أو فسطاطا أو خيمة لم يحنث إذا كان من أهل الأمصار وحنث إذا كان من أهل البادية لأن البيت اسم لموضع يبات فيه واليمين يتقيد بما عرف من مقصود الحالف فأهل الأمصار إنما يسكنون البيوت المبنية عادة وأهل البادية يسكنون البيوت المتخذة من الشعر فإذا كان الحالف بدويا فقد علمنا أن هذا مقصوده بيمينه فيحنث بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار واسم البيت للمبني حقيقة فلا يختلف فيه حكم أهل الأمصار وأهل البادية لأن أهل البادية يسمون البيت للمبني حقيقة .
والأصل في هذا أن سائلا سأل ابن مسعود - Bه - فقال إن صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزئ البقرة فقال ممن صاحبكم فقال من بني رياح قال ومتى أقتنت بنو رياح البقر إنما وهم صاحبكم الإبل فدل أن عند إطلاق الكلام يعتبر عرف المتكلم فيما يتقيد به كلامه .
وإذا حلف لا يسكن بيتا لفلان فسكن صفة له حنث لأن الصفة بيت إلا أن يكون نوي البيوت دون الصفاف فيدين فيما بينه وبين الله ولا يدين في القضاء لأنه نوى تخصيص اللفظ العام من أصحابنا من يقول هذا الجواب بناء على عرف أهل الكوفة لأن الصفة عندهم اسم لبيت يسكنونه يسمي صفا ومثله في ديارنا يسمى كاشانه فأما الصفة في عرف ديارنا غير البيت فلا يطلق عليه اسم البيت بل ينفي عنه فيقال هذا صفة وليس ببيت فلا يحنث .
قال : والأصح عندي أن مراده حقيقة ما نسميه الصفة .
ووجهه : أن البيت اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد وهو مبني للبيتوته فيه وهذا موجود في الصفة إلا أن مدخله أوسع من مدخل البيوت المعروفة فكان اسم البيت متناولا له فيحنث بسكناه إلا أن يكون نوى البيوت دون الصفاف فحينئذ يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه خص العام بنيته ولو حلف لا يسكن دار فلان هذه فسكن منزلا منها حنث لأن السكنى في الدار هكذا تكون فإن الإنسان يقول أنا ساكن في دار فلان وإنما يسكن في بعضها فإنه لا يسكن تحت السور وعلى الغرف والحجر إلا أن يكون نوى أن يسكنها كلها فلا يحنث حينئذ حتى يسكنها كلها لأنه نوى حقيقة كلامه ومطلق الكلام وإن كان محمولا على المتعارف فنية الحقيقة تصح فيه كما لو قال يوم يقدم فلان فأمرأته طالق حمل على الوقت للعرف .
فإن نوى حقيقة بياض النهار علمت نيته في ذلك فهذا مثله حتى لو كان حلف بعتق أو طلاق يدين في القضاء لأن هذه حقيقة غير مهجورة ولو حلف لا يسكن دارا لفلان وهو ينوي بأجر أو عارية وسكنها على غير ما عنى ولم يجر قبل ذلك كلام فإنه يحنث وما نوى لا يغني عنه شيئا لأنه نوى التخصيص فيما ليس من لفظه فإن في لفظه فعل السكنى وهو نوى التخصيص في السبب الذي يتمكن به من السكنى إلا أن يكون قبل هذا كلام يدل عليه بأن استعاره فأبى فحلف وهو ينوى العارية ثم سكن بأجر فحينئذ لا يحنث لأن مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال ويصير ذلك كالمنصوص عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب