( قال ) Bه ( وإذا حلف الرجل على أمر لا يفعله أبدا ثم حلف في ذلك المجلس أو في مجلس آخر لا يفعله أبدا ثم فعله كانت عليه كفارة يمينين ) لأن اليمين عقد يباشره بمبتدأ وخبر وهو شرط وجزاء والثاني في ذلك مثل الأول فهما عقدان فبوجود الشرط مرة واحدة يحنث فيهما وهذا إذا نوى يمينا أخرى أو نوى التغليظ لأن معنى التغليظ بهذا يتحقق أو لم يكن له نية لأن المعتبر صيغة الكلام عند ذلك ثم الكفارات لا تندرئ بالشبهات خصوصا في كفارة اليمين فلا تتداخل وأما إذا نوى بالكلام الثاني اليمين الأول فعليه كفارة واحدة لأنه قصد التكرار والكلام الواحد قد يكرر فكان المنوي من محتملات لفظه وهو أمر بينه وبين ربه .
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - قال هذا إذا كانت يمينه بحجة أو عمرة أو صوم أو صدقة .
فأما إذا كانت يمينه بالله تعالى فلا تصح نيته وعليه كفارتان قال أبو يوسف - C تعالى - هذا أحسن ما سمعنا منه ووجهه أن قوله فعليه حجة مذكور بصيغة الخبر فيحتمل أن يكون الثاني هو الأول فأما قوله والله هذا إيجاب تعظيم المقسم به نفسه من غير أن يكون بصيغة الخبر فكان الثاني إيجابا كالأول فلا يحتمل معنى التكرار لأن ذلك في الإخبار دون الإيقاع والإيجاب .
وإذا كانت إحدى اليمينين بحجة والأخرى بالله فعليه كفارة وحجة لأن معنى تكرار الأول غير محتمل هنا فانعقدت يمينان وقد حنث فيهما بإيجاد الفعل مرة فيلزمه موجب كل واحد منهما فإن حلف ليفعلن كذا إلى وقت كذا وذلك الشيء معصية يحق عليه أن لا يفعله لأنه منهي عن الإقدام على المعصية ولا يرتفع النهي بيمينه ولكن اليمين منعقدة .
فإذا ذهب الوقت قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث فيها بفوت شرط البر فيلزمه الكفارة .
فإن لم يؤقت فيه وقتا وذلك الفعل مما يقدر على أن يأتي به كشرب الخمر والزنا ونحوه لم يحنث إلى أن يموت لأن الحنث بفوت شرط البر وشرط البر بوجود ذلك الشيء منه في عمره فإذا مات قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث بفوت شرط البر حين أشرف على الموت ووجبت عله الكفارة فينبغي له أن يوصي بها لتقضى بعد موته كما ينبغي أن يوصي بسائر ما عليه من حقوق الله تعالى كالزكاة ونحوها .
وإذا حلف بأيمان متصلة معطوفة بعضها على بعض واستثنى في آخرها كان ذلك استثناء من جميعها لأن الكلمات المعطوفة بعضها على بعض ككلام واحد فيؤثر الاستثناء في إبطالها كلها اعتبارا للأيمان بالإيقاعات .
وقيل : هذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - لأن الاستثناء عندهما لإبطال الكلام وحاجة اليمين الأولى كحاجة اليمين الثانية .
فأما عند أبي يوسف - C تعالى - الاستثناء بمنزلة الشرط فإنما ينصرف إلى ما يليه خاصة كما لو ذكر شرطا آخر لأن اليمين الأولى تامة بما ذكر لها من الشرط والجزاء فلا ينصرف الشرط المذكور آخرا إليها وقد بينا هذا في الجامع .
وكذلك لو قال إلا أن يبدو لي أو أرى غير ذلك أو إلا أن أرى خيرا من ذلك فهذا كله من ألفاظ الاستثناء وبه يخرج الكلام من أن يكون عزيمة وإيجابا .
وإن قال إلا أن لا أستطيع فهذا على ثلاثة أوجه فإن كان يعني ما سبق به من القضاء فهو موسع عليه ولا يلزمه الكفارة لأن المنوي من محتملات لفظه فالمذهب عند أهل السنة أن كل شيء بقضاء وقدر وأن الاستطاعة مع الفعل فإذا لم يفعل علمنا أن الاستطاعة التي قد استثنى بها لم توجد ولكن هذا في اليمين بالله فإن موجبه الكفارة وذلك بينه وبين ربه .
فإن كانت اليمين بالطلاق أو العتاق فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى ولكن لا يدين في الحكم لأن العادة الظاهرة أن الناس يريدون بهذه الاستطاعة ارتفاع الموانع فإن الرجل يقول أنا مستطيع لكذا ولا أستطيع أن أفعل كذا على معنى أنه يمنعني مانع من ذلك قال الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ( آل عمران : 97 ) وفسر رسول الله - A - الاستطاعة بالزاد والراحلة فإذا كان الظاهر هذا والقاضي مأمور باتباع الظاهر لا يدينه في الحكم فإن كان يعني شيئا يعرض من البلايا لم يسقط عنه يمينه ما لم يعرض ذلك الشيء .
وكذلك إن لم يكن له نية في الاستطاعة فهو على أمر يعرض له فلا يكون على القضاء والقدر ما لم ينوه لما بينا أن الكلام المطلق محمول على ما هو الظاهر والمتعارف .
ولو قال والله لا أكلم فلانا ووالله لا أكلم فلانا رجلا آخر إن شاء الله تعالى يعني بالاستثناء اليمينين جميعا كان الاستثناء عليهما لكون إحدى اليمينين معطوفة على الأخرى وفي بعض النسخ لم يذكر حرف العطف ولكن قال والله لا أكلم فلانا وهذا صحيح أيضا لأن موجب هذه اليمين الكفارة وذلك أمر بينه وبين ربه .
فإذا لم يسكت بين اليمينين كان المنوي من محتملات لفظه أو يجعل الواو في الكلام الثاني للعطف دون القسم فكأنه قال والله والله .
وكذلك لو قال علي حجة إن كلمت فلانا وعلي عمرة إن كلمت فلانا إن شاء الله فكلمه لم يحنث لأن الكلام الثاني معطوف على الأول .
فأما إذا قال عبدي حر إن كلمت فلانا عبدي الآخر حر إن كلمت فلانا إن شاء الله ثم كلمه فإن عبده الأول حر في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله لأنه لم يذكر بين الكلامين حرف العطف فانعدم الاتصال بينهما حكما ووجد الاتصال صورة حين لم يسكت بينهما .
فإن نوى صرف الاستثناء إليهما كان مدينا فيما بينه وبين الله تعالى للاحتمال ولا يدين في الحكم لأنه خلاف الظاهر فإن الكلام الثاني غير معطوف على الأول فيصير فاصلا بين الاستثناء والكلام الأول .
وإن قال لامرأته إن حلفت بطلاقك فعبدي حر فهذه يمين بالعتق لأن اليمين تعرف بالجزاء والجزاء عتق العبد لأن الجزاء ما يتعقب حرف الجزاء وهو الفاء والشرط أن يحلف بطلاق امرأته .
فإذا قال بعد ذلك لعبده إن حلفت بعتقك فامرأته طالق فإن عبده يعتق لأن بالكلام الثاني حلف بطلاق امرأته يذكر الشرط والجزاء طلاقها فوجد به الشرط في اليمين الأول فلهذا يعتق عبده ولا تطلق امرأته لأن الحلف بعتق العبد كان سابقا على الحلف بطلاقها وما يكون سابقا على اليمين لا يكون شرطا لأن الحالف إنما يقصد منع نفسه عن إيجاد الشرط وذلك لا يتحقق فيما كان سابقا على يمينه .
ولو قال لامرأته ثلاث مرات إن حلفت بطلاقك فأنت طالق طلقت اثنتين إن كان دخل بها لأنه باليمين الثانية يحنث في اليمين الأولى فتطلق واحدة ثم باليمين الثالثة يحنث في اليمين الثانية فتطلق أخرى لأنها في عدته وإن لم يكن دخل بها لا تطلق إلا واحدة لأنها بانت بالأولى لا إلى عدة ولأن شرط الحنث في اليمين الثانية لا يوجد باليمين الثالثة لأن الشرط هو الحلف بطلاقها وذلك لا يتحقق في غير الملك بدون الإضافة إلى الملك فلهذا لا تطلق إلا واحدة .
ولو قال عبده حر إن حلف بطلاق امرأته ثم قال لامرأته أنت طالق إن شئت لا يعتق عبده وليس هذا بيمين وإن وجد الشرط والجزاء صورة بل هو مخير بمنزلة قوله أمرك بيدك أو اختاري فقد خير رسول الله - A - نساءه - رضي الله تعالى عنهن - مع نهيه عن اليمين بالطلاق .
والدليل عليه : أنه يشترط وجود المشيئة منها في المجلس ولو كان يمينا لم يتوقت بالمجلس كقوله أنت طالق إن كلمت .
وكذلك إذا قال إذا حضت حيضة لم يعتق عبده لأن هذا تفسير لطلاق السنة بمنزلة قوله أنت طالق للسنة .
وعلى قول زفر - C تعالى - يعتق لأن هذا ليس بإيقاع لطلاق السنة بدليل أنه لو جامعها في الحيض ثم طهرت وقع الطلاق عليها ولو كان هذا كقوله للسنة لم يقع .
قلنا : هو سني من وجه فلا يحنث بالحيض وتطليق لوجود الشرط حقيقة .
وأما إذا قال لها إذا حضت فأنت طالق أو إذا جاء غد فأنت طالق عتق عبده عندنا .
وعند الشافعي - C تعالى - لا يعتق قال : لأن الحالف يكون مانعا نفسه من إيجاد الشرط وإنما يكون الكلام يمينا بذكر شرط يتصور المنع عنه فأما بذكر شرط لا يتصور المنع عنه لا يصير حالفا بطلاقها فلا يعتق عبده كما لو قال أنت طالق غدا .
ولكنا نقول الكلام يعرف بصيغته وقد وجد صيغة اليمين بذكر الشرط والجزاء ولم يغلب عليه غيره فكان يمينا بخلاف قوله أنت طالق غدا لأنه ما ذكر الشرط والجزاء إنما أضاف الطلاق إلى وقت وبخلاف قوله أنت طالق إن شئت أو إذا حضت حيضة لأنه غلب عليه معنى آخر كما بينا وبأن لم يكن في وسعه منع هذا الشرط لا يخرج من أن يكون يمينا كما لو جعل الشرط فعل إنسان آخر لا يقدر على منعه من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب