( قال ) ( وإذا كاتب الرجل عبده في مرضه على مكاتبة مثله ولا مال له غيره ثم مات المولى فإنه يقال للمكاتب عجل الثلثين من المكاتبة والثلث عليك إلى الأجل فإن لم يعجل رد رقيقا ) لأن التأجيل تبرع منه والتبرع في مرضه بالتأخير كتبرعه بالإسقاط فلا يصح إلا في ثلثه بخلاف ما إذا كاتبه في صحته لأن تأجيله هناك صحيح مطلقا لكونه مالكا للتبرع بالإسقاط في صحته ولا يبطل الأجل بموت المولى لأنه حق المكاتب .
وإن كان كاتبه على أكثر من قيمته أضعافا فكذلك الجواب في قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة وفي قول محمد - رضوان الله عليهم أجمعين - تأجيله فيما زاد على مقدار قيمته صحيح وكذلك في قدر ثلث قيمته وإنما يلزمه أن يعجل قدر ثلثي قيمته لأن ما زاد على قدر قيمته فقد كان للمريض أن لا يتملكه أصلا ولا يثبت حق ورثته فيه بأن يكاتبه على قيمته فإذا تملكه مؤجلا صح تأجيله مطلقا كالمريضة إذا زوجت نفسها بمهر مؤجل صح تأجيلها في ذلك لأن لها أن لا تتملك ذلك أصلا بأن لا تزوج نفسها أصلا وهما يقولان جميع البدل مسمى في الكتابة بمقابلة ما هو حق للمولى في رقبته فلا يصح التأخير إلا في ثلثه كما لو كاتبه على قيمته وهذا لأن حق المولى في مالية الرقبة وقد تعلق به حق الورثة في ذلك فكان جميع البدل بمقابلة ما تعلق به حق الورثة فلهذا لا يصح التأجيل إلا في ثلثه .
بخلاف المهر فإنه بدل عما لا حق للوارث فيه وإنما يثبت حق الوارث فيه ابتداء فإذا كان مؤجلا لم يثبت حقهم إلا بتلك الصفة ولو كاتبه في مرضه على مكاتبة مثله ثم أقر باستيفائها لم يصدق إلا من الثلث لأن ما باشره في المرض من المكاتبة والإقرار بالاستيفاء بمنزلة الإعتاق ولأنه يتمكن تهمة المواضعة من حيث أنه لما علم أنه لو أعتقه كان من ثلثه واضعه على هذا ليحصل مقصوده بهذا الطريق فلا يصدق في حق الورثة ولكن إن كان عليه دين يحيط بماله لا يصدق في شيء إلا أن العبد يعتق ويؤخذ بالكتابة كما لو أعتقه وإن لم يكن عليه دين وهو يخرج من ثلث ماله فهو حر ولا شيء عليه .
وإن لم يكن له مال سواه فعليه السعاية في الثلثين في المكاتبة للورثة إلا أن تكون قيمته أقل فحينئذ يسعى في ثلثي قيمته لأن تهمة المواضعة إنما تمكنت في مقدار القيمة ولا تتمكن في الزيادة على ذلك فيصح إقراره باستيفائه ويجعل هذا وإعتاقه في مرضه ابتداء سواء وكذلك لو أقر أنه كان كاتبه في صحته واستوفى لأن إقراره لا يصح في المرض إلا بما يملك إنشاءه وتتمكن فيه تهمة المواضعة كما بينا وإن كاتبه في صحته ثم أقر في مرضه بالاستيفاء صدق في ذلك لأن تهمة المواضعة هنا منتفية حين باشر العقد في صحته لتمكنه من إعتاقه يومئذ .
ثم المكاتب يستحق براءة ذمته عند إقراره بالاستيفاء فلا يبطل ذلك الاستحقاق بمرضه بخلاف ما إذا كاتبه في مرضه ألا ترى أنه لو باعه في صحته من إنسان ثم أقر في مرضه باستيفاء الثمن كان مصدقا في حق غرماء الصحة بخلاف ما لو كان باعه في مرضه .
ولو أن مكاتبا أقر عند موته أنه كاتب عبده فلانا واستوفى مكاتبته لم يجز قوله لأن هذا بمنزلة الإعتاق والمكاتب لا يملك ذلك أصلا ولأن هذا من الحر صحيح من ثلثه وليس للمكاتب ثلث فلهذا كان على الآخر أن يسعى في جميع المكاتبة .
وكذلك لو كاتبه في مرضه بأقل من قيمته لم يجز لأن محاباته وصية والوصية من المكاتب باطلة ولو كاتبه على مكاتبة مثله أمر الآخر أن يعجل مكاتبته كلها وإلا رد في الرق لأن تأجيله تبرع منه والمكاتب المريض ليس من أهله فإن برأ من مرضه صح ذلك منه لأن المرض إذا تعقبه برء فهو كحالة الصحة .
ولو أوصى رجل فقال كاتبوا عبدي على كذا إلى أجل كذا إن حدث بي الموت وذلك كتابة مثله أجزت ذلك إن كان يخرج من الثلث كما لو باشره بنفسه لأنه أوصى بما هو من حاجته وقصد به استحقاق ولاية فهو كما لو أوصى بعتقه وإن لم يكن له مال غيره عرضت عليه أن يعجل الثلثين ويؤخر الثلث إن قبل الكتابة كما لو باشره في حياته فإن أبى لم يكاتب لأن عقد الكتابة لم يتم بدون رضاه وكذلك إن حط عنه منها شيئا يكون أكثر من الثلث ولو كان مكاتب أوصى بهذا في عبده لم يجز لأنه وصية ولا يجوز للمكاتب أن يوصي بشيء وإن ترك وفاء .
ولو كاتب رجل عبده في مرضه ولا مال له غيره فأجاز الورثة في حياته فلهم أن يمتنعوا من الإجازة بعد موته كما في سائر الوصايا وهذا لأنهم أجازوا قبل تقرر حقهم لأن حقهم إنما يثبت في الحقيقة بعد موت المولى ولأن إجازتهم في الحياة للاستحياء منه فلا يكون ذلك دليل الرضا منهم وإنما دليل الرضا الإجازة بعد الموت .
( قال ) ( وإن كاتب المرتد عبده فكتابته موقوفة إن أسلم جاز وإن قتل على ردته أو مات أو لحق بدار الحرب بطلت في قول أبي حنيفة - C تعالى - ) وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - كتابته جائزة إلا أن عند أبي يوسف - C تعالى - تجوز جوازها من الأصحاء وعند محمد - C تعالى - من المريض حتى تعتبر من ثلثه وهو بمنزلة اختلافهم في سائر تصرفات المرتد .
وإذا قسم القاضي مال المرتد بين ورثته ثم كاتب الوارث عبدا من تركته ثم تاب المرتد ورجع فوجد المكاتب فهو مكاتب له يؤدي إليه ويعتق وولاؤه له كأنه هو الذي كتابته .
وعلى قول زفر - C تعالى - لا سبيل له عليه لأن الوارث بتصرفه استحق ولاءه فكأنه أعتقه ولأن المكاتب غير محتمل للنقل من ملك إلى ملك فلا يعود إليه من ملك الوارث كالمدبر وأم الولد .
ولكنا نقول استحقاق العتق لا يثبت بنفس الكتابة ولهذا كان محتملا للفسخ والمرتد إذا تاب لا يتملك ماله على الوارث ولكنه يعود إلى قديم ملكه كما كان وعقد الكتابة لا يمنع من ذلك . ألا ترى أن المكاتب إذا كاتب عبدا له ثم عجز الأول كان الثاني مكاتبا للمولى ويجعل كأن الأول كان نائبا عن المولى في مكاتبته فكذلك هنا يجعل الوارث كالنائب عنه في مكاتبته وكتابة المرتدة وعتقها وبيعها جائز كما يكون في الإسلام لأن نفسها تتوقف بالردة حتى لا تقتل فكذلك ملكها بخلاف المرتد عند أبي حنيفة - C تعالى - وإن كاتبت على خمر أو خنزير فإني أبطل ذلك ولا أجيز عليها إلا ما يجوز منها قبل الردة لأنها مجبرة على الإسلام فكان حكم الإسلام باقيا في حقها .
وإذا ارتد العبد والمولى مسلم فكاتبه جاز لأن المانع من نفوذ تصرف المرتد توقف ملكه على حق ورثته وذلك لا يوجد في العبد ولأنه محض منفعة في حقه بمنزلة قبول الهبة .
فإن قتل وترك مالا أخذت الكتابة من ماله والباقي ميراث لورثته لأنه حكم بحريته مستندا إلى حال حياته . والمرتد الحر يرثه الورثة المسلمون .
وكذلك لو ترك ولدا ولد له في المكاتبة يسعى فيما عليه لأن موته عمن يؤدي بدل الكتابة كموته عما يؤدي به بدل الكتابة وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالا فأخذ أسيرا فأبى أن يسلم فإنه يقتل ويستوفي مولاه من كسبه مكاتبته والباقي ميراث استحسانا وكان القياس أن يكون كله لمولاه إن كان عبدا .
وإن كان حرا فهو فيء لأنه كسب ردته وأبو حنيفة - C - لا يقول بتوريث كسب الردة عن المرتد إذا كان حرا ولكن يجعل ذلك فيئا للمسلمين فكذلك في المكاتب ولكنه استحسن هنا فقال في كسب المكاتب حق لمولاه على معنى أنه متى عجز كان كسبه لمولاه والمولي مسلم فقيام حقه يمنع من أن يكون كسبه فيئا فلهذا يجعل هذا وما اكتسبه في حالة الإسلام سواء يؤدي منه بدل كتابته ويكون الباقي ميراثا لورثته .
وإذا لحق المكاتب بدار الحرب مرتدا وخلف في دار الإسلام ابنا له ولد في كتابته فلا سبيل على ابنه حتى ينظر ما يصنع المكاتب فإن مات أو قتل عن وفاء أديت كتابته والباقي ميراث لابنه وإن لم يترك وفاء سعى الابن فيما على أبيه .
وكذلك لو لم يترك في دار الإسلام ولدا ولكنه خلف مالا لم أقسم ماله حتى أنظر ما يصنع .
( وعلى قول زفر - C تعالى - يؤدي مكاتبته من ماله ويجعل الباقي ميراثا لورثته لأن لحوقه بدار الحرب كموته . ألا ترى أن في حق الحر يجعل هذا كالموت في قسمة ماله بين ورثته فكذلك في حق المكاتب ) .
ولكنا نقول : لحوقه بدار الحرب ليس بموت بعينه ولكن باعتبار أنه يصير حربيا وأهل الحرب في حق المسلمين كالموتى يجعل ميتا حكما وهذا لا يوجد في حق المكاتب لأن ملك المولى في رقبته باق وقيام ملك المسلم في رقبة العبد يمنعه من أن يصير حربيا فإذا لم يصر حربيا كان هو بمنزلة المتردد في دار الإسلام والحكم فيه إذا كان مترددا في دار الإسلام ما بينا فكذلك بعد لحاقه ولو لم يلتحق بدار الحرب ولكن أهل الحرب أسروه فباعوه من رجل فأعتقه فذلك باطل لأنهم بالأسر ما ملكوه فإن المكاتب لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك وإنما يملك بالاستيلاء ما يحتمل النقل من ملك إلى ملك وإذا لم يملكوه بالأسر لا يملكه المشتري منهم فكان إعتاقه إياه باطلا .
وإن كان المشتري اشتراه بأمره رجع عليه بالثمن لأنه مكاتب على حاله فيصح أمره المشتري بشرائه في كسبه كما يصح أمر الحر الأسير بذلك فيرجع عليه بما أدى لأنه أدى مال نفسه في تخليصه بأمره وإن كان أصابه المسلمون في غنيمة أخذه مولاه بغير شيء قبل القسمة وبعدها وهو مكاتب على حاله لأن الكفار لم يملكوه بالأسر فلا يملكه المسلمون أيضا وكذلك الجواب في أم الولد والمدبر .
وإن كاتب الحربي المستأمن عبدا في دار الإسلام فهو جائز كما لو أعتقه بمال أو بغير مال فإن مات عن مال أديت كتابته والباقي ميراث للحربي إن جاء بالعبد من دار الحرب لأنه مولاه وهو حربي مثله . ألا ترى أنه كان متمكنا من الرجوع إلى دار الحرب والحربي يرث الحربي وإن كان اشتراه في دار الإسلام وهو مسلم أو كافر كان الباقي لبيت المال لأن الحربي لا يرث المسلم ولا المعاهد والعبد الكافر الذي اشتراه في دار الإسلام بمنزلة المعاهد حتى لو عتق كان معاهدا لا يترك ليرجع إلى دار الحرب ولا يرثه الحربي بخلاف العبد الحربي فإنه لو عتق فهو حربي على حاله فيرثه الحربي فإن لحق الحربي بدار الحرب فالمكاتب مكاتب على حاله لأن حكم الأمان باق فيما خلفه في دار الإسلام فإن بعث بما عليه إليه عتق لبراءة ذمته وإن ظهر المسلمون على الدار فقتل الحربي أو أسر عتق المكاتب لبراءة ذمته عن بدل الكتابة فإنه لم يبق للمولى ولا لورثته حق مرعي بعد ما قتل أو أسر ولم يخلفه السابي في ملك بدل الكتابة لأن الدين في الذمة لا يتصور ورود القهر عليه والملك للسابي بطريق القهر ولأن يد المكاتب فيما في ذمته أسبق فيملك ما في ذمته وتسقط عنه المكاتبة فلهذا عتق وكذلك إن أسر من غير أن يظهروا على الدار لأن نفسه بالأسر قد تبدل وخرج من أن يكون أهلا لملك المال ولم يخلفه وارثه في ذلك لبقائه حيا في حق ورثته .
فأما إذا قتل ولم يظهر المسلمون على الدار فالكتابة دين عليه يؤديه إلى ورثة مولاه لأنهم يخلفونه فيما كان لمولاه حين لم يقع الظهور عليهم وكما وجب عليه مراعاة الأمان فيما خلفه في دار الإسلام لحقه فكذلك يجب مراعاته لحق ورثته .
حربي كاتب عبده في دار الحرب ثم أسلما جميعا أو صارا ذمة أجزت ذلك لأن الكتابة تعتمد التراضي كالبيع والشراء فكما يبقى بيعهم وشراؤهم بعد إسلامهم فكذلك الكتابة فإن خرجا مستأمنين والعبد في يديه على حاله فخاصمه في المكاتبة أبطلتها كما أبطل العتق والتدبير في دار الحرب منهم إذا خرجوا بأمان . ألا ترى أن رجلا منهم لو قهر رجلا فأسراه ثم خرج إلينا وهو في يديه كان له أن يبيعه فكذلك المكاتب لأنه في حكم القاهر لمولاه فيما في ذمته فلهذا بطلت المكاتبة وإن كان المولى قاهرا حين أخرجه إلى دار الإسلام فهو عبده كما لو كان أعتقه ثم قهره هو أو غيره وأخرجه إلى دار الإسلام كان عبدا له .
ولو كاتبه ثم خرج العبد مسلما عتق وبطلت عنه الكتابة لأنه قهر لمولاه حين أحرز نفسه بدار الإسلام مسلما أو ذميا .
ولو فعل ذلك وهو عبد ملك نفسه حتى يعتق فكذلك إذا فعله وهو مكاتب يملك ما في ذمته فيسقط عنه ويكون حرا مسلم .
تاجر في دار الحرب كاتب عبده أو أعتقه أو دبره كان جائزا استحسانا وفي القياس لا يجوز شيء من ذلك منه لأنه فعله حيث لا يجري حكم المسلمين وتنفيذ هذه التصرفات من أحكام المسلمين .
ووجه الاستحسان أنه مسلم ملتزم لأحكام الإسلام وإن كان في دار الحرب وكذلك العبد مسلم ليس بمحل الاسترقاق بعد حق العتق أو حقيقته فوجود هذا التصرف منهما في دار الحرب كوجوده في دار الإسلام وكذلك لو كان العبد كافرا قد اشتراه في دار الإسلام لأن الذمي في أنه ليس بمحل الاسترقاق كالمسلم فإن كان العبد كافرا قد اشتراه في دار الحرب وكاتبه فأدى وعتق ثم أسلم أجزته على المسلم استحسانا .
وفي القياس هو عبد له لأنه معتق له بالكتابة واستيفاء البدل فكأنه أعتقه قصدا وقد بينا أن إعتاق المسلم العبد الحربي في دار الحرب لا يجوز لأن غرضه الاسترقاق فلا ينفذ العتق فيه من المسلم كما لا ينفذ من الحربي وللاستحسان فيه وجهان : .
أحدهما : أن المسلم ضمن له ترك التعرض له بعدما يؤدي بدل الكتابة إليه فعليه الوفاء بما ضمن لأن التحرز عن الغدر واجب على المسلم في دار الحرب . ألا ترى أنه لا يحل له أن يأخذ شيئا من أموالهم سرا فللوفاء بما ضمن جعلنا حرا .
والثاني : أن المسلم إنما يتم بالقهر إذا أحرزه بدار الإسلام وذلك لا يوجد منه هنا لأن دار الحرب ليس بدار له فلا يتملكه قبل الإسلام وبعد الإسلام يستحيل أن يتملك الحر المسلم بالقهر وعلى هذا الطريق الاستحسان في الكتابة والعتق جميعا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب