( قال ) ( رضي الله تعالى عنه رجل دبر مكاتبا له فهو بالخيار إن شاء نقض الكتابة وكان مدبرا له وإن شاء مضى على المكاتبة ) لأنه تلقاه جهتا حرية أحدهما عاجل ببدل والآخر آجل بغير بدل فله أن يميل إلى أي الجانبين شاء وعقد الكتابة غير لازم في حق العبد لتمكنه من أن يعجز نفسه فلهذا كان له الخيار وإن مات المولى ولا مال له غيره يسعى في الأقل من ثلثي قيمته ومن ثلثي المكاتبة .
وقد بينا أن قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله تعالى - تخييره في ذلك ولو لم يعلم المكاتب بالتدبير حتى أدى المكاتبة كلها فقد عتق بالأداء والمال سالم للمولى ولا خيار له بعد ذلك لأن التدبير قد بطل بعتقه ولو أدى البعض ثم علم كان له الخيار لبقاء الرق فيه وإذا اختار التدبير فما أخذه المولى حلال له لأنه كسب عبده .
( قال ) ( ولو كاتب عبدين مكاتبة واحدة على ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه ثم دبر أحدهما ثم مات المولى وله مال كثير عتق المدبر من ثلثه وسقطت حصته من المكاتبة ) لوقوع الاستغناء له عن أدائها كما لو أعتقه المولى في حياته وأخذ الورثة بحصة الآخر أيهما شاؤوا لأن المكاتب الثاني أصيل في حصته والمدبر كان كفيلا مطالبا فلا تسقط عنه تلك المطالبة بعتقه فإن أداها المدبر رجع بها عليه كما لو أداها قبل عتقه بل أولى لأن هناك هو منتفع بالأداء لأنه يعتق بذلك والآخر لا منفعة له في الأداء بل إنما أداها بحكم الكفالة المحضة وإن لم يكن له مال غيرهما عتق المدبر بالتدبير من الثلث وسعى فيما يجب عليه .
فإن كانت قيمة كل واحد منهما ثلثمائة ومكاتبتهما ألف بطل حصة المدبر من المكاتبة واعتبر قيمته ثلثمائة لأنه أقل والمتيقن من حق المولى هو الأقل فعرفنا أن المال ثلثمائة قيمة المدبر وخمسمائة حصة الآخر من المكاتبة وذلك ثمانمائة ثلثه وذلك مائتان وستة وستون وثلثا درهم يسلم للمدبر من قيمته ويسعى فيما بقى وهو أربعمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ثم يؤخذ المدبر بما بقي على المكاتب لأنه كفيل به ولا يؤخذ المكاتب بما على المدبر لأنه قد خرج من المكاتبة ولزمته السعاية من قبل التدبير والمكاتب لم يكن كفيلا عنه بذلك فإن كانت قيمة كل واحد منهما ألف درهم ومكاتبتهما على ألف درهم فاختار المدبر أن يسعى في الكتابة فله ذلك لأن ذلك ربما ينفعه عسى يكون بدل الكتابة منجما مؤجلا وإذا اختار ذلك يسقط ثلث المكاتبة لأنه عتق ثلثا رقبته بالتدبير والوصية كانت له بما هو حق المولى فلهذا يسقط ثلث المكاتبة ويبقى للورثة ثلثا المكاتبة عليهما يأخذون بذلك أيهما شاؤوا فإن أدى المدبر رجع على الآخر بثلاثة أرباع ذلك مقدار حصته وهو خمسمائة وإن أدى المكاتب رجع على المدبر بربع ذلك وهو مقدار ما بقي من حصته .
وإذا كان المكاتب بين اثنين فدبره أحدهما فاختار المكاتب أن يسعى فهو على حاله وسعايته لأن التدبير لا ينافي الكتابة ابتداء وبقاء والمدبر غير مفسد على شريكه شيئا ما بقيت الكتابة فإن عجز فالذي لم يدبر بالخيار لأن عمل تدبيره في الإفساد قد ظهر بعد العجز فكان حكم هذا كحكم عبد بين اثنين دبره أحدهما وقد بيناه .
رجل قال لأمتين إذا ملكتكما فأنتما حرتان بعد موتي فاشترى إحداهما فولدت عنده ثم اشترى الآخرى فقد صارتا مدبرتين لأن الشرط ملكهما فإنما تم عند شراء الثانية وولد الأولى رقيق يباع لأنه انفصل عنها قبل ثبوت حكم التدبير فيها فإن المتعلق بالشرط لا يصل إلى المحل إلا بعد وجود كمال الشرط .
( قال ) ( وإذا أسلم مدبر ذمي قضى عليه بالسعاية في قيمته وعند الشافعي - C تعالى - يجبر على بيعه ) لأن المدبر عنده محمل للبيع وعندنا هو كأم الولد وقد بينا هذا الحكم في أم الولد فإن أدى السعاية عتق وإن مات المولى قبل أن يؤدي وهو يخرج من ثلثه عتق بالتدبير وسقطت عنه السعاية لحصول المقصود بدونه وكذلك إن صالحه المولى على قيمته من غير محاكمة فهذا واستسعاء القاضي سواء لأن السبب الموجب للاستسعاء قائم بعد عجزه إلا أنه إن كان في مال الصلح فضل على قيمته يبطل القاضي ذلك الفضل عنه إذا عجز ويجبره على أن يسعى في قيمته .
( قال ) ( وإذا دبر الحربي عبده في دار الحرب فهو باطل كما لو أعتقه في دار الحرب ) لأن ثبوت حق العتق بالتدبير من أحكام الإسلام وأحكام الإسلام لا تجري عليهم في دار الحرب فإن خرجا بأمان فأسلم العبد أجبر على بيعه لأن تدبيره في دار الحرب كان لغوا وإن دبره بعد ما خرجا بأمان فتدبيره جائز لأن حكم الإسلام يجري عليهما في دارنا فيما يرجع إلى المعاملات فإن أسلم هذا المدبر قضى عليه بالسعاية في قيمته لأن ملك المستأمن محترم بالأمان وبيعه بسبب التدبير متعذر فإن لحق المولى بدار الحرب وهو يسعى ثم قتل المولى أو ظهر على الدار أو أسر عتق العبد وبطلت عنه السعاية أما إذا قتل المولى فلوجود شرط العتق بالتدبير وإن أسر فلأن ملكه عنه قد بطل لأن الرقيق ليس من أهل ملك المال والمدبر ليس يحتمل النقل من ملك إلى ملك والمملوك متى زال عن ملك المولى لا إلى أحد كان حرا وإن ظهر على الدار لم يبق لملكه حرمة والسعاية كانت لحرمة ملكه فإذا لم يبق ذلك عتق وبطلت عنه السعاية .
( قال ) ( ولو كان خرج بأم ولد له ثم أسلمت قضى عليها بالسعاية ) لأن الاستيلاد في دار الحرب صحيح تبعا للنسب فإن قضى عليها بالسعاية ثم أسلم المولى فإن أدت السعاية عتقت وإن عجزت ردت أم ولد له لأن المانع من استدامة ملكه فيها قد ارتفع بإسلامه فلو أسلمت وباعها من نفسها بمال قليل أو كثير جاز وكانت حرة بالقبول والمال دين عليها وإن مات المولى قبل أن يسلم أو بعد ما أسلم فالمال دين عليها على حاله لأنها عتقت بالقبول فموت المولى وحياته بعد ذلك سواء .
( قال ) ( وإذا دبر المرتد عبده فهو موقوف في قول أبي حنيفة - C - كسائر تصرفاته ) فإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب فتدبيره باطل والعبد رقيق للورثة وإن أسلم ورجع إلى دارنا ووجد العبد في يد الورثة فأخذ فهو مدبر على حاله لأنه يعود إلى قديم ملكه بالأخذ فينفذ ذلك التدبير منه بمنزلة ما لو أسلم قبل اللحاق بالدار ولأن التدبير في حقه كان صحيحا لأنه بالردة لم يخرج من أن يكون مخاطبا وأصل ملكه باق بعد الردة وإنما كان التوقف لحق الورثة وقد سقط حقهم حين عاد مسلما وكذلك إن كان القاضي قضى به للورثة وباعوه فبيعهم جائز لأن التدبير كان صحيحا في حقه فإنه كان مالكا له يومئذ فمتى حصل الملك له بأي وجه حصل كان مدبرا .
وإن استولد في ردته فهي أم ولد له وإن أسلم أو قتل أو لحق بدار الحرب لأن ثبوت أمية الولد لها باعتبار نسب الولد ولا حجر على المرتد عن ذلك لأنه لا حق للورثة فيه ولأن ملكه في كسبه أظهر من ملك الأب في مال ولده فإذا كان يصح الاستيلاد من الأب فمن المرتد لأن يصح أولى .
وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - التدبير منه صحيح كالاستيلاد فإذا لحق بدار الحرب أعتقه القاضي من ثلثه كما يعتق المدبر الذي دبره في حال إسلامه بناء على مذهبهما في نفوذ تصرفات المرتد وتمام بيانه في السير .
( قال ) ( وإذا دبر المسلم عبده ثم ارتد العبد ولحق بدار الحرب أو اشتراه أهل الحرب فأصابه المسلمون فأسلم رد إلى مولاه مدبرا على حاله ) لأنه ثبت فيه حق الحرية بالتدبير فلا يبطل بردته ولحاقه كما لا تبطل حقيقة العتق والمدبر ليس بمحل للتملك بالاستيلاد فلم يملكه أهل الحرب ولا المسلمون للولاء المستحق عليه لمولاه ولهذا رد إلى مولاه مدبرا على حاله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب