( قال ) Bه ( وشهادة الشهود على عتق الأمة جائزة وإن كانت هي منكرة ) لأن هذا فرج معناه أن عتق الأمة يتضمن تحريم فرجها على المولى وذلك من حق الشرع وفيما هو حق الله تعالى الشهادة تقبل حسبة من غير الدعوى .
( فإن قيل ) فعلى هذا ينبغي أن يكتفي بشهادة الواحد لأنه أمر ديني وخبر الواحد فيه حجة تامة .
( قلنا ) خبر الواحد إنما يكون حجة في الأمر الديني إذا لم تقع الحاجة إلى التزام المنكر وهنا الحاجة ماسة إلى ذلك ولأن في هذا ازالة الملك والمالية عن المولى وخبر الواحد لا يكفي لذلك فلهذا لا بد من أن يشهد به رجلان .
( فإن قيل ) فإذا كانت هي أخته من الرضاعة قبلت الشهادة على عتقها مع جحودها وليس فيه تحريم الفرج هنا .
( قلنا ) بل فيه معنى الزنا لأن فعل المولى بها قبل العتق لا يلزمه الحد وبعد العتق يلزمه الحد وبضعها مملوك للمولى وإن كان هو ممنوعا عن وطئها للمحرمية .
ألا ترى أنه يزوجها وإن بدل بضعها يكون له فيزول ذلك الملك بإعتاقها ولأن الأمة في إنكار العتق متهمة لما لها من الحظ في الصحبة مع مولاها ولا معتبر لإنكار من هو متهم في إنكاره فجعلناها كالمدعية لهذا فأما الشهادة على عتق العبد لا تقبل مع جحود العبد في قول أبي حنيفة - C تعالى - وتقبل في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى .
وجه قولهما أن المشهود به حق الشرع وعدم الدعوى لا يمنع قبول الشهادة عليه كعتق الأمة وطلاق الزوجة وبيان ذلك أن المشهود به العتق وهو حق الشرع ألا ترى أنه لا يحتاج فيه إلى قبول العبد ولا يرتد برده وإنه مما يجوز أن يحلف به وإنما يحلف بما هو حق الشرع وأن إيجابه في المجهول صحيح ولا يصح إيجاب الحق للمجهول ويتعلق به حرمة استرقاقه وذلك حق الشرع .
قال النبي - E - ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ) وذكر في جملتهم من استرق الحر ويتعلق به حكم تكميل الحدود ووجوب الجمعة والأهلية للولايات ثم الاسترقاق على أهل الحرب عقوبة بطريق المجازاة لهم حين أنكروا وحدانية الله فجازاهم على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده فإزالته بعد الإسلام يكون حقا للشرع ولهذا كانت قربة تتأدى بعض الواجبات بها والدليل عليه أن التناقض في الدعوى لا يمنع قبول البينة حتى لو أقر بالرق ثم ادعى حرية الأصل وأقام البينة قبلت بينته والتناقض يعدم الدعوى .
وحجة أبي حنيفة - C - قوله E ( ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد ) فقد جعل أداء الشهادة قبل الاستشهاد من أمارات الكذب فظاهره يقتضي أن لا يكون مقبولا منه إلا حيث خص بدليل الإجماع والمعنى فيه أن إزالة ملك اليمين بالقول ولا يتضمن معنى تحريم الفرج فلا تقبل الشهادة فيه إلا بالدعوى كالبيع وتأثيره أن المشهود به حق العبد لأن الإعتاق إحداث قوة المالكية والاستبداد فيتضمن انتفاء ذل المالكية والرق وذلك كله حق العبد .
فأما ما وراء ذلك من ثمرات العتق فلا يعتبر ذلك وإنما يعتبر المشهود فإذا كان حقا للعبد يتوقف فبول البينة على دعواه ونحن نسلم أن في السبب معنى حق الشرع ولهذا لا يتوقف على قبوله ولا يرتد برده ولكن هذا لا يدل على قبول البينة فيه من غير الدعوى كالعفو عن القصاص ثم العبد غير متهم في هذا الإنكار لأن العاقل لا يجحد الحرية ليستكسبه غيره فينفق عليه بعض كسبه ويجعل الباقي لنفسه فصح إنكاره وصار به مكذبا لشهوده بخلاف الأمة لأنها متهمة في الإنكار على ما قلنا حتى لو كان العبد متهما بأن كان لزمه حد قذف أو قصاص في طرف فأنكر العتق تقبل الشهادة .
ومن أصحابنا من قال التناقض إنما يعدم الدعوى فيما يحتمل الفسخ بعد ثبوته لأن أول كلامه ينقض آخره وآخره ينقض أوله فأما فيما لا يحتمل النقض بعد ثبوته فلا معتبر بالتناقض كما في دعوى النسب فإن الملاعن إذا أكذب نفسه ثبت النسب منه ولا ينظر إلى تناقضه في الدعوى ولا ناقض لحرية الأصل في دارنا فالتناقض فيه لا يكون معدما للدعوى وهذا ضعيف فإن من أصل أبي حنيفة - C تعالى - أنه بعد ما أقر بنسب ولد أمته لغيره لو ادعاه لنفسه لا يصح للتناقض والنسب لا يحتمل النقض .
والوجه أن يسلك فيه طريقة الشبهين فنقول من حيث السبب المشهود به من حق الشرع بمنزلة طلاق الزوجة وعتاق الأمة ومن حيث الحكم المطلوب بالسبب هو حق العبد كما بينا وما تردد بين الشبهين يوفر حظه عليهما فلشبهه بحقوق العباد قلنا الشهادة لا تقبل بدون الدعوى ولشبهه بحق الشرع قلنا التناقض في الدعوى لا يمنع قبول البينة عليه .
وإذا شهدوا أنه أعتق عبده سالما ولا يعرفون سالما وله عبد واحد اسمه سالم فإنه يعتق لما بينا أن إيجاب العتق في المجهول صحيح ولأن ملكه متعين لما أوجبه فبأن لا يعرف الشهود العبد لا يمنع قبول شهادتهم كما أن القاضي يفضي بالعتق إذا سمع هذه المقالة من المولى وإن كان هو لا يعرف العبد ولو شهدوا به في البيع أبطلته لما بينا أن الجهالة التي تفضي إلى المنازعة تمنع صحة البيع وإذا لم يعرف الشهود العبد فهذه جهالة تفضي إلى المنازعة ويتعذر على القاضي القضاء لأجله بالشهادة وإذا شهدوا عليه بعتق عبد بعينه واختلفا في الوقت أو المكان أو اللفظ أو اللغة أو شهد أحدهما أنه أعتقه وشهد الآخر أنه أقر أنه أعتقه فالشهادة جائزة لأن العتق قول يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به باختلافهما في الزمان والمكان ولا باختلافهما في اللغة وصيغة الإقرار والإنشاء في العتق واحد .
وإن اختلفا في الشرط الذي علق به العتق لم يجز لأن أحدهما يشهد بعتق يتنجز عند دخول الدار والآخر بعتق يتنجز عند كلام فلان والكلام غير الدخول فلا يتمكن القاضي من القضاء بواحد من الشرطين .
وإن اتفقا على أنه قال له إن دخلت الدار فأنت حر وقال المولى إنما قلت له إن كلمت فلانا فأنت حر فأيهما فعل فهو حر لأن التعليق بشرط الدخول ثبت بشهادة شاهدين وبكلام فلان بإقرار المولى ولا منافاة بينهما .
ولو شهد أحدهما أنه أعتقه بجعل والآخر أنه كان بغير جعل لم تقبل الشهادة لأن أحدهما يشهد بعتق متعلق بقبول البدل والآخر بعتق بات ولأن العتق بجعل يخالف العتق بغير جعل في الأحكام وكذلك لو اختلفا في مقدار الجعل والمولى ينكر ذلك فالشهادة لا تقبل سواء ادعى العبد أقل المالين أو أكثرهما لأن أحدهما يشهد بعتق متعلق بقبول ألف والآخر بقبول ألف وخمسمائة .
وإن كان المولى هو المدعي والعبد منكر فإن كان يدعي أقل المالين عتق العبد لإقرار المولى بحريته ولا شيء عليه لأن أكذب أحد شاهديه وهو الذي شهد له بألف وخمسمائة .
وإن ادعى العتق بألف وخمسمائة قضى عليه بألف لأن الشهادة هنا لا تقوم على العتق فالعبد قد عتق بإقرار المولى وإنما تقوم على المال .
ومن ادعى ألفا وخمسمائة وشهد له شاهد بألف وآخر بألف وخمسمائة يقضي بالألف لاتفاق الشاهدين لفظا ومعنى وإذا شهد شاهدان أنه أعتقه إن دخل الدار وآخران إن كلم فلانا فأيهما وجد عتق العبد لأن كل واحد من التعليقين ثبت بحجة كاملة ولا تنافي بينهما وإن ادعى الغلام أنه أعتقه بألف وأقام شاهدين وادعاه المولى بألفين وأقام شاهدين فالبينة بينة المولى لأنه يثبت الزيادة في حقه ببينته وإن أقام العبد بينة أنه قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر وأنه قد أداها وأقام المولى بينته أنه إنما قال له إذا أديت إلي ألفين فأنت حر فالعبد حر ولا شيء عليه غير الألف الذي أداه لأن العبد يثبت ببينته تنجز الحرية فيه وهو حقه ولأنه يجعل كأن الأمرين كانا إذ لا منافاة بينهما .
ولو عاينا وجود الكلامين من المولى تخير العبد وعتق بأداء أي المالين اختاره ولو أقام العبد البينة أنه باعه نفسه بألف فأقام المولى البينة أنه باعه نفسه بألفين كانت البينة بينة المولى لأن العتق يتنجز بالقبول هنا فكان إثبات الزيادة في بينة المولى بخلاف الأول .
( قال ) في الأصل ( ولو باعه نفسه بألف درهم فأداها من مال المولى كان حرا وللمولى أن يرجع عليه بمثلها والعتق هنا حصل بالقبول لا بأداء المال ) وإنما يتحقق هذا الفصل فيما إذا علقه بالأداء والوجه فيه أن نزول العتق بوجود الشرط وقد وجد وإن كان المؤدى مسروقا أو مغصوبا من المولى ثم رد هذا المال على المولى كان مستحقا عليه فيقع من الوجه المستحق في الحكم ويكون له أن يرجع عليه بمثله وإن شهد للعبد ابناه أو أبوه وأمه أن مولاه أعتقه فشهادتهما باطلة لأنها تقوم لمنفعة العبد وهؤلاء متهمون في حقه ولا شهادة لمتهم والعتق يثبت مع الشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال وإذا رجع شهود العتق بعد القضاء لم يبطل العتق لأنهما لا يصدقان في إبطال الحكم ولا في إبطال حق العبد ولكنهما يضمنان قيمته لأنهما أتلفا ماليته على المولى وقد أقر بالرجوع أنهما أتلفاه عليه بغير حق والمعتبر في الضمان عند الرجوع بقاء من بقي على الشهادة لا رجوع من رجع وقد بينا هذا في الطلاق وإن شهد شاهدان بعتقه فلم يحكم بشهادتهما للتهمة ثم ملكه أحدهما عتق عليه لأنه قد أقر بحريته وذلك الإقرار صحيح لازم في حقه إلا أنه لم يكن عاملا لانعدام الملك له في المحل فإذا وجد الملك عمل وكان كالمجدد للإقرار بعد ما ملكه فيكون حرا من ماله .
وإذا شهدا بعتقه فحكم بشهادتهما ثم رجعا عنه فضمنا قيمته ثم قامت بينة غيرهم بأن المولى قد كان أعتقه فإن شهدوا أنه أعتقه بعد شهادة هؤلاء لم يسقط عنهم الضمان بالاتفاق لأنهم شهدوا بما هو لغو فإنه عتق بقضاء القاضي والمعتق لا يعتق .
وإن شهدوا أنه أعتقه قبل شهادة هؤلاء لم يرجعوا بما ضمنوا في قول أبي حنيفة - C تعالى .
وفي قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يرجعون على المولى بما ضمنوا وهذا بناء على ما بينا أن عندهما الشهادة على عتق العبد تقبل من غير دعوى فثبت بشهادة الفريق الثاني حرية العبد من الوقت الذي شهدوا به .
وإن لم يكن هناك مدعيا لذلك ثم تبين به أن الفريق الأول لم يتلفوا على المولى شيئا بشهادتهم وأنه أخذ ما أخذ منهم بغير حق وعند أبي حنيفة - C تعالى - لا تقبل الشهادة على عتق العبد من غير الدعوى ولا مدعي لما يشهد به الفريق الثاني فإن العبد قد حكم بحريته فلا يمكنه أن يدعي العتق والفريق الأول لما شهدوا بأنه أعتقه في وقت لا يمكنهم أن يدعوا عتقا في وقت سابق عليه للتناقض فلانعدام الدعوى لا تقبل شهادة الفريق الثاني ولا يجب على المولى رد شيء مما أخذه من الفريق الأول .
ولو قيد رجل عبده ثم قال : إن لم يكن في قيده عشرة أرطال حديد فهو حر وإن حل قيده فهو حر فشهد شاهدان أن في قيده خمسة أرطال حديد فقضى القاضي بعتقه ثم حل القيد فإذا فيه عشرة أرطال فعلى قول أبي حنيفة - C تعالى - الشهود يضمنون قيمته للمولى وهو قول أبي يوسف - C تعالى - الأول وفي قوله الآخر وهو قول محمد - C تعالى - لا يضمنون له شيئا وهذا بناء على أن قضاء القاضي بالعتق بشهادة الزور عند أبي حنيفة - C - ينفذ ظاهرا وباطنا وفي قول أبي يوسف - C - الآخر وهو قول محمد - C تعالى - ينفذ ظاهر لا باطنا فتبين أن قضاء القاضي بشهادتهما لم يكن نافذا في الباطن وأن العبد إنما عتق بحل القيد لا بشهادتهما فلا يضمنان عندهما شيئا .
وعند أبي حنيفة - C تعالى - إنما عتق العبد بقضاء القاضي لنفوذ قضائه ظاهرا وباطنا وقضاء القاضي كان بشهادتهما فلهذا ضمنا قيمته لأنا علمنا أنهما شهدا بالباطل .
( فإن قيل ) : هما إنما شهدا بشرط العتق لأنهما شهدا بوزن القيد أنه دون عشرة أرطال وذلك شرط العتق ولا ضمان على شهود الشرط .
( قلنا ) لا كذلك بل شهدا بتنجيز العتق لأنهما زعما أن المولى علق عتقه بشرط موجود والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا حتى يملكه الوكيل بالتنجيز وشهود تنجيز العتق يضمنون عند الرجوع .
( فإن قيل ) : قضاء القاضي إنما ينفذ عند أبي حنيفة - C - إذا لم يتيقن ببطلانه فأما بعد التيقن ببطلانه لا ينفذ كما لو ظهر أن الشهود عبيد أو كفار وهنا قد تيقنا ببطلان الحجة حين كان وزن القيد خمسة أرطال وبعد ما علم كذبهم بيقين لا ينفذ الفضاء باطنا فإنما عتق بحل القيد .
( قلنا ) : لا كذلك بل نفوذ القضاء عند أبي حنيفة - C تعالى - باعتبار أنه يسقط عن القاضي تعرف ما لا طريق له إلى معرفته وهو حقيقة صدق الشهود ولا يسقط عنه الوقوف على ما يتوصل إليه من كفرهم ورقهم لأن التكليف يثبت بحسب الوسع وقد تعذر على القاضي هنا الوقوف على حقيقة وزن القيد لأنه لا يعرف ذلك إلا بعد أن يحله وإذا حله عتق العبد فيسقط عنه حقيقة معرفة وزن القيد ونفذ قضاؤه بالعتق بشهادتهما ظاهرا وباطنا .
( فإن قيل ) : لا كذلك فقد يمكنه معرفة وزن القيد قبل أن يحله بأن يضع رجلي العبد مع القيد في طست ويصب فيه الماء حتى يعلو القيد ثم يجعل على مبلغ الماء علامة ثم يرفع القيد إلى ساقه ويضع حديدا في الطست إلى أن يصل الماء إلى تلك العلامة ثم يزن ذلك الحديد فيعرف به وزن القيد .
( قلنا ) : هذا من أعمال المهندسين ولا تنبني أحكام الشرع على مثله مع أنه إنما يعرف وزن القيد بهذا الطريق إذا استوى الحديدان في الثقل ولا يعرف ذلك ولو شهدا أنه أعتق عبده سالما وله عبدان اسم كل واحد منهما سالم والمولى يجحد ذلك لم يعتق واحد منهما في قول أبي حنيفة - C تعالى - لأنه لا بد من الدعوى لقبول الشهادة عنده والدعوى لا تتحقق من المشهود له لأنه غير معين منهما ولا يتمكن الشهود من تعيينه فبطلت شهادتهما لهذا وإن قالا قد سماه لنا فنسينا اسمه فشهادتهما باطلة لإقرارهما على أنفسهما بالغفلة وبأنهما ضيعا شهادتهما .
وحكي عن زفر - C تعالى - أن الشهادة تقبل ويقال للمولى بين لأنهما يثبتان كلام المولى فثبت بشهادتهما أن المولى أعتق عبدا له والجهالة لا تمنع صحة العتق فكان المولى مجبرا على البيان ولو شهدا أنه أعتق أحد عبديه بغير عينه والمولى يجحد ذلك فشهادتهما باطلة في قول أبي حنيفة - C تعالى - لأن الدعوى شرط لقبول البينة على العتق عنده والدعوى من المجهول لا تتحقق إنما تتحقق الدعوى من كل واحد منهما بعينه والمشهود به عتق في منكر لا في معين فلا تقبل .
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - في هذه المسألة وفي مسألة الشهادة تقبل ويؤمر المولى بالبيان لأن الشهادة على العتق عندهما تقبل من غير دعوى فيثبت به أن المولى أعتق أحدهما بغير عينه فيؤمر بالبيان لهذا وكذلك لو شهدا بأنه أعتق إحدى أمتيه .
( فإن قيل ) : في هذا الفصل ينبغي أن تقبل الشهادة عندهم جميعا لأن أبا حنيفة - C تعالى - لا يشترط الدعوى في الشهادة على عتق الأمة .
( قلنا ) : نعم إنما لا يشترط الدعوى في الشهادة على عتق أمة بعينها لما فيها من تحريم الفرج فأما العتق المبهم لا يوجب تحريم الفرج عنده ولهذا قال لا يكون الوطء بيانا فلهذا كان الجواب في العبد والأمة سواء هنا إلا إن شهدا أن هذا كان عند الموت منه فحينئذ تقبل شهادتهما عنده استحسانا .
وفي القياس لا تقبل لانعدام شرط القبول وهو الدعوى كما لو كان ذلك في حال حياته وصحته والاستحسان وجهان : .
أحدهما أن العتق المبهم يشيع فيهما بالموت حتى يعتق من كل واحد منهما نصفه فتتحقق الدعوى من كل واحد منهما .
والثاني أن العتق في مرض الموت بمنزلة الوصية حتى يعتبر من الثلث ووجوب تنفيذ الوصية لحق الموصي فتتحقق الدعوى من وصيه أو وارثه هنا فلهذا قبلت البينة ولو شهدا أن أحد هذين الرجلين أعتق عبده لم تجز شهادتهما لأن المشهود عليه مجهول وذلك يمنع قبول الشهادة فإن الإنكار شرط لقبول البينة والإنكار من المجهول لا يتحقق ولأن القاضي لا يتمكن من القضاء على واحد منهما بهذه الشهادة .
وإن ادعى العبد أو الأمة العتق ولم يكن له بينة حاضرة لم يحل بين المولى وبين العبد لأن بمجرد الدعوى لا يثبت استحقاق العبد العتق فإنه خبر متمثل بين الصدق وبين الكذب والمخبر غير موثوق فيه لما له في ذلك من الحظ وإلى هذا أشار - E - في قوله : ( لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ) واليد حق للمولى في مملوكه فكما لا يجوز إبطال الملك بمجرد الدعوى فكذلك لا يجوز إبطال اليد بالحيلولة .
وكذلك إن أقام شاهدا واحدا لأن الحجة لا تتم بشهادة الواحد وهذا الجواب في العبد فأما في الأمة الحيلولة تثبت إذا ادعت أن شاهدها الآخر حاضر احتياطا لأمر الفرج وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الجامع .
وإن أقام شاهدين حيل بينه وبين مولاه حتى ينظر في أمر الشاهدين وهذا إذا كان مولاه فاسقا أو مخوفا عليه على ما فسرناه في الجامع والمعنى فيه أن الحجة هنا تمت من حيث الظاهر حتى لو قضى القاضي بشهادتهما قبل أن تظهر عدالتهما نفذ قضاؤه فتثبت به الحيلولة احتياطا بخلاف ما إذا أقام شاهدا واحدا فإذا شهد شاهد أنه أعتق عبدا له وشهد آخر أنه وهبه لنفسه فهذا باطل لأنهما اختلفا في المشهود به لفظا فإن الهبة غير العتق وضعا لأن الهبة تمليك والإعتاق إحداث القوة أو إبطال الملك واختلافهما في المشهود به لفظا يمنع قبول الشهادة .
وإن شهدا جميعا أنه وهب عبده لنفسه فالعبد حر لأنه ملكه نفسه ومن ملك نفسه يعتق كالمراغم وقد يجوز أن تكون الهبة إعتاقا كما لو شهدوا أنه وهبه من قريبه وسلمه إليه فإنه يقضي بعتقه وقد بينا فيما سبق أنه إذا قال لم أنو به العتق لا يصدق في القضاء وإذا قال له أنت حر إن فعلت كذا وذلك من الأمور الظاهرة كالصوم والصلاة ودخول الدار ونحوه فقال العبد قد فعلت لا يصدق إلا أن يقيم البينة أو يقر المولى لأن العتق المعلق بالشرط إنما يتنجز عند وجود الشرط فالعبد بدعواه وجود الشرط يدعي تنجيز العتق فيه وهو غير مصدق في ذلك إلا بحجة بخلاف قوله إن كنت تحبني أو تبغضني لأن ذلك لا يوقف عليه إلا من جهته فوجب قبول قوله في ذلك ما دام في مجلسه .
( فإن قيل ) : فالصوم كذلك لأنه بينه وبين ربه لا يقف عليه غيره .
( قلنا ) : لا كذلك فإن ركن الصوم هو الكف وذلك أمر ظاهر يقف عليه الناس بوقوفهم على ضده وهو الأكل ولو قال لرجل أعتق أي عبيدي شئت فأعتقهم جميعا لم يعتق منهم إلا واحد والأمر في بيانه إلى المولى بخلاف ما لو قال أيكم شاء العتق فهو حر فشاؤوا جميعا عتقوا لأن كلمة أي فيها معنى العموم والخصوص من حيث أنها تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد فإذا أضاف المشيئة بها إلى خاص ترجح جانب الخصوص فلا يتناول إلا واحدا منهم وإذا أضاف المشيئة بها إلى عام يترجح جانب العموم ولأن هذه الكلمة إنما توجب التعميم فيمن دخل تحتها دون من لم يدخل والداخل تحت هذه الكلمة العبيد دون المخاطب بالمشيئة .
وإذا قال شئت فلا يكون شرط العتق إلا مشيئة واحدة وبالمشيئة الواحدة منه لا يعتق إلا عبد واحد فأما في قوله شاء إنما أضاف المشيئة إلى العبيد وكلمة أي اقتضت التعميم في العبيد فصارت مشيئة كل واحد منهم شرطا لعتقه فلهذا عتقوا ثم البيان إلى المولى دون المخاطب بالمشيئة لأن ما فوض إليه قد انتهى بوجود المشيئة منه بقي العتق واقعا على أحدهم بغير عينه بإيقاع المولى فالبيان إليه .
ولو قال أيكم دخل الدار فهو حر فدخلوا عتقوا لأن الشرط دخول من دخل تحت كلمة أي .
وكذلك لو قال أيكم بشرني بكذا فهو حر فبشروه معا عتقوا لأن الشرط وجود البشارة ممن دخل تحت كلمة أي فيتعمم بتعميمه وإن قال عنيت واحدا منهم لم يدين في القضاء وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وإن بشره واحد بعد واحد فالأول هو البشير ولا يعتق غيره وقد بينا هذا في كتاب الطلاق أن البشارة اسم لخبر سار صدق غاب عن المخبر علمه .
وإذا قال لآخر أخبر عبدي بعتقه أو أنه حر أو بشره بعتقه فهو حر ساعة تكلم به المولى أخبر العبد به أو لم يخبر لأن الباء للإلصاق وإنما يتحقق إلصاق الإخبار بعتق موجود منه لا معدوم ولأنه لو أخبره بنفسه بأن قال أنت حر تضمن ذلك تنجيز العتق من جهته حتى يكون خبره حقا فكذلك إن أمر غيره حتى يخبره به ويصير كأنه قال أعتقته فبشره بذلك أو أخبره فيعتق سواء أخبره أو لم يخبره .
وإذا قال لعبد له يا سالم أنت حر وهو يعني إنسانا بين يديه غير سالم فإن سالم حر لأنه أتبع إيقاع النداء فإنما يتناول المنادي وإذا قال أول عبد يدخل علي من عبيدي فهو حر فأدخل عليه عبد ميت ثم أدخل عليه عبد حي فإنه يعتق الحي قال لأنه هو الأول ولا يحتسب بالميت ولا يكون الميت أولا وآخرا ومعنى هذا أن الإدخال عليه للإكرام أو الإهانة ولا يتحقق ذلك في الميت فيصير الحياة ثابتا بمقتضى كلامه وكأنه قال أول عبد حي من عبيدي ولأنه جازاه بالحرية وإنما يجازي به الحي دون الميت لأن الميت ليس بمحل لإيجاب العتق فيه والثابت بمقتضى الكلام كالثابت بالنص وإن أدخل عليه عبدان حيان جميعا معا لم يعتق واحد منهما لأن الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه فيه غيره ولم يتصف واحد منهما بالفردية عند الإدخال عليه .
فإن أدخل بعدهما عبد آخر لم يعتق لأنه وإن اتصف بالفردية فلم يتصف بالسبق فقد تقدمه عبدان ولو قال أول عبد أملكه فهو حر فملك عبدين معا لم يعتق واحد منهما لأنه لم يتصف واحد منهما بالفردية عند دخوله في ملكه .
وإن ملك بعدهما آخر لم يعتق أيضا لأنه لم يتصف بالسبق .
ولو قال آخر عبد أملكه فهو حر فملك عبدين ثم عبدا ثم مات المولى عتق الثالث لأن الآخر اسم لفرد متأخر وقد اتصف به الثالث حين لم يملك غيره حتى مات ثم عند أبي حنيفة - C تعالى - يعتق من جميع المال إذا كان تملكه في الصحة لأن صفة الآخرية ثابت له من حين تملكه فيتبين أنه عتق من ذلك الوقت وعندهما يعتق من الثلث لأن نزول العتق عندهما وقت الموت لتحقق الشرط فيه في هذه الحالة وقد بينا هذا في الطلاق .
ولو قال آخر عبد أملكه فهو حر فاشترى عبدا ثم لم يملك غيره حتى مات لم يعتق لأن هذا أول وصفة الأولية والآخرية لا يجتمع في شخص واحد من المخلوقين وإن اشترى عبدين بعده ثم مات لم يعتق واحد منهم لأن الأول ما اتصف بالآخرية ليكون آخرا والعبدان لم يتصف واحد منهما بالفردية فلا يكون واحد منهما آخرا ولو قال لأمة لم يملكها أنت حرة من مالي فهذا باطل لأن تنجيز العتق لا يصح إلا بعد وجود الملك في المحل ولم يوجد بخلاف قوله إذا ملكتك لأن بذلك اللفظ لا يصير مضيفا للعتق إلى الملك ولا إلى سببه وهو فضل من الكلام لأن العتق من جهته لا يكون إلا من ماله فلا يخرج به كلامه من أن يكون تنجيزا .
ولو قال إذا اشتريتك فأنت حرة أو إن جامعتك فأنت حرة فاشتراها وتسراها أو جامعها لم تعتق إلا على قول زفر فإنه يقول التسري والجماع لا يحل إلا في الملك فكان هذا في معنى إضافة العتق إلى الملك بمنزلة قوله إن اشتريتك ولكنا نقول الجماع يتحقق في غير الملك فكذلك التسري فإنه عبارة عن التحصين والمنع من الخروج وهو ليس بسبب للملك فلا يتحقق به إضافة العتق إلى الملك صورة ولا معنى فهو بمنزلة قوله إذا كلمتك فأنت حرة بخلاف الشراء فإنه سبب للملك وكذلك لو قال كل جارية أتسرى بها فهي حرة فاشترى جارية بعد يمينه وتسراها لم تعتق .
ولو تسرى جارية كانت مملوكة له وقت يمينه عتقت لأن الإيجاب في حقها يصح لوجود الملك في المحل وقت الإيجاب بمنزلة قوله كل جارية أملكها فهي حرة ثم تسرى فالشرط عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أن يبوئها بيتا ويحصنها ويجامعها وطلب الولد ليس بشرط .
وعلى قول أبي يوسف - C تعالى لا يكون تسريا إلا بطلب الولد مع هذا للعادة الظاهرة أن الناس يطلبون الأولاد من السراري وفي الأيمان يعتبر العرف وهما يقولان ليس في لفظه ما يدل على طلب الولد لأن التسري إما أن يكون مأخوذا من التسرر كالتقضي وذلك الإخفاء أو يكون مأخوذا من السرار ومعناه التحصين والمنع من الخروج أو يكون مأخوذا من السر الذي هو الجماع كما قال تعالى : { ولكن لا تواعدوهن سرا } فإذا لم يكن فيها ما ينبيء عن طلب الولد لا يشترط فيه ذلك من غير لفظ وكيف يشترط ذلك وبحصول الولد تخرج من أن تكون سرية لأنها تصير أم ولد له فطلبه يخرجه حقيقة من أن تكون سرية فلا يمكن أن يجعل شرطا لتحقيق التسري .
ولو وطئ جارية فعلقت منه لم تعتق لأن التسري بالتحصين والمنع من الخروج ولم يوجد وإن قال لعبديه أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر فأكلاه جميعا لم يعتق واحد منهما لأن الشرط أكل الواحد لجميع الرغيف ولم يوجد وإن أقام أحدهما البينة أنه أكله فأعتقه القاضي ثم أقام الآخر البينة أنه هو الذي أكله لم يعتقه القاضي لأنه جعل الأول آكلا فلا يتصور بعده كون الثاني آكلا له إذ الرغيف الواحد لا يتكرر فيه فعل الأكل وهذه البينة إنما تقوم لأبطال القضاء الأول والبينة لإبطال القضاء لا تقبل .
توضيحه : إنا نتيقن بكذب أحد الفريقين وقد ترجح معنى الصدق في شهادة الفريق الأول بالقضاء فتعين معنى الكذب في شهادة الفريق الثاني .
وإن جاءت البينتان معا لم يعتق واحد منهما لأن القاضي يتيقن بكذب أحد الفريقين ولا يعرف الصادق من الكاذب وإذا كانت تهمة الكذب تمنع القضاء بالشهادة فالتيقن بالكذب أولى .
وعلى هذا لو شهد شاهدان أنه أعتق عبده سالما يوم النحر بمكة فأعتقه القاضي ثم شهد آخران أنه أعتق سريعا يوم النحر بالكوفة لم تجز شهادتهما وإن جاءت البينتان معا لم تقبل واحدة منهما وهذا والأول سواء .
وإن ردهما ثم ماتت إحدى البينتين فأعاد الآخر بينته تلك لم يقبل القاضي شهادتهم لأنه قد ردها للتهمة فلا يقبلها أبدا كما لو رد شهادة الفاسق ثم تاب فأعادها وإن لم تمت واحدة من البينتين حتى جاء أحد الغلامين بشاهدين آخرين يشهدان على ما شهدت به البينة الأولى وجاء الآخر بشهوده الذين كانوا شهدوا فإن القاضي يجيز شهادة الآخرين اللذين لم يكونا شهدا عنده لأن شهادة الفريقين الأولين قد بطلت للتعارض وصارت كالمعدومة وإنما بقى شهادة الفريق الثاني لأحدهما ولا معارض له فثبت المشهود به بشهادتهما ولا يعتبر بما أعاده العبد الثاني لأن تلك شهادة حكم ببطلانها وكما لا تقوم حجة القضاء بمثل هذه الشهادة فكذلك المعارضة لا تثبت بها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب