( قال ) Bه ( وإذا شهد شاهدان أنه طلق إحدى امرأتيه بعينها وقالا قد سماها لنا لكنا نسيناها فشهادتهما باطلة عندنا وقال زفر - C تعالى - تقبل شهادتهما ويحال بينه وبينهما إذا شهدا بالثلاث حتى يبين المطلقة منهما ) لأن الثابت بشهادتهما كالثابت بإقرار الزوج ولو أقر أنه طلق إحداهما بعينها وقال قد نسيتها أمر أن لا يقرب واحدة منهما حتى يتذكر وهذا لأن الشهادة على الطلاق مقبولة من غير دعوى وإنما تنعدم الدعوى إذا لم يعرفا المطلقة منهما فوجب قبول شهادتهما بقدر ما حفظا من كلام الزوج .
ولكنا نقول : قد أقرا على أنفسهما بالغفلة وبأنهما ضيعا شهادتهما ولأن القاضي إما أن يقضي بطلاق إحداهما بغير عينها فيكون هذا قضاء بغير ما شهدا أو يقضي بطلاق إحداهما بعينها ولا يتمكن من ذلك بهذه الشهادة لأنهما لم يعينا وليست إحداهما بأولى من الأخرى فإذا تعذر القضاء بها بطلت الشهادة لأنها لا تكون موجبة بدون القضاء بخلاف إقرار الزوج فإنه موجب بنفسه قبل أن يتصل به القضاء فكان ملزما إياه البيان .
وإن شهدا أنه طلق إحداهما بغير عينها ففي القياس لا تقبل هذه الشهادة أيضا لأن المشهود له مجهول وجهالة المشهود له تمنع صحة الشهادة ولكنه استحسن فقال تقبل الشهادة ويجبر على أن يوقع الطلاق على إحداهما لأن الجهالة في المشهود له لا تمنع صحة الشهادة لعينها بل لانعدام الدعوى فإن الدعوى من المجهول لا تتحقق وهذا لا يوجد في الطلاق فإن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعوى وهما أثبتا بشهادتهما قول الزوج إحداهما طالق فكأن القاضي سمع ذلك من الزوج فيجبره على أن يوقع على إحداهما .
( قال ) ( وإذا قال الرجل فلانة بنت فلان طالق وسمى امرأته ونسيها ثم قال عنيت بذلك امرأة أجنبية على ذلك الاسم والنسب لم يصدق والطلاق واقع على امرأته في القضاء ) لأن كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن وله ولاية الإيقاع على امرأته دون الأجنبية فلا يصدق فيما يدعي من إلغاء كلامه في القضاء ولكن يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن ما قاله محتمل ويجوز أن يكون مراده أن فلانة طالق من زوجها على سبيل الحكاية أو على سبيل الإيقاع فيكون موقوفا على إجازة الزوج ولا يسع امرأته أن تقيم معه لأنها مأمورة باتباع الظاهر كالقاضي فإن قال هذه المرأة التي عنيتها امرأتي وصدقته في ذلك وقع الطلاق عليها لإقرار الزوج بأنها هي المطلقة ولم يصدق على إبطال الطلاق عن المرأة المعروفة بذلك لأنها تعينت للطلاق في الحكم وهو متهم في صرف الطلاق عنها فلا يصدق إلا أن يشهد الشهود على نكاحها قبل أن يتكلم بطلاقها أو على إقرارهما قبل ذلك فحينئذ يقع الطلاق عليها دون المعروفة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة .
ولو كان تحته معروفتان على اسم ونسب واحد فطلق بذلك الاسم والنسب كان البيان إليه يوقع الطلاق على أيتهما شاء فكذلك هنا وكذلك إن صدقته المرأة المعروفة بذلك وفي هذا نوع إشكال فإن المعروفة متهمة في هذا التصديق كما أن الزوج متهم في الإقرار ولكنه لم يعتبر هذا الجانب لأن الحق لهما وقد تصادقا على قيام النكاح بينهما باعتبار أمر محتمل ولو تصادقا على النكاح ابتداء ثبت في الحكم بتصادقهما فكذلك إذا تصادقا على بقاء النكاح بينهما .
( قال ) ( وإن قال فلانة طالق وذلك اسم امرأته طلقت امرأته ولم يصدق على صرف الطلاق عنها ) لأن كلامه إيقاع وله ولاية الإيقاع على زوجته وقد بينا أن كلام العاقل محمول على الصحة فتعينت زوجته لهذا والعتاق في هذا قياس الطلاق وهذا بخلاف الإقرار إذا قال لفلان علي ألف درهم فجاء رجل على ذلك الاسم وادعى المال لم يلزمه المال إلا أن يشهد الشهود على إقراره أنه عناه لأن الإقرار من المقر تصرف في ذمته من حيث الإلتزام فلا يتعين المقر له إلا بدليل موجب للتعين وذلك إشارته إليه وإقراره أنه عناه فأما الطلاق والعتاق تصرف على المحل بالإيقاع وزوجته ومملوكته متعينة لذلك توضيحه أن جهالة المقر له تمنع صحة الإقرار وبمجرد ذكر الاسم لا ترتفع الجهالة وجهالة المطلقة والمعتقة لا تمنع صحة الإيقاع ولأن المال بالشك لا يستوجب والطلاق والعتاق يؤخذ فيهما بالاحتياط وكذلك في الإقرار ولو قال لفلان بن فلان علي ألف درهم فالمقر له بهذا القدر لا يصير معلوما كما في الدعوى والشهادة بذكر اسمه واسم أبيه لا يصير معلوما إلا بذكر اسم جده أو بنسبه إلى فخذ أو يشير إليه فحينئذ يصير معلوما ويلزمه المال له بالإقرار .
( قال ) ( وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا وجحد الزوج والمرأة ذلك فرق بينهما ) لأن المشهود به حرمتها عليه والحل والحرمة حق الله تعالى فتقبل الشهادة عليه من غير دعوى كما لو شهدوا بحرمتها عليه والحل والحرمة حق الله تعالى فتقبل الشهادة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة وهذا لأنهم يشهدون أن وطأه إياها بعد هذا زنا والشهادة على الزنا تقبل من غير دعوى فكذلك على ما يتضمن معنى الزنا وعلى هذا الشهادة على عتق الأمة تقبل من غير دعوى وفي الشهادة على عتق العبد اختلاف عند أبي حنيفة لا تقبل من غير دعوى وعندهما تقبل على ما نبينه في كتاب العتاق إن شاء الله تعالى .
( قال ) ( وإذا كان له امرأتان إحداهما نكاحها صحيح والأخرى نكاحها فاسد واسمهما واحد وقال فلانة طالق ثم قال عنيت التي نكاحها فاسد لم يصدق في القضاء ) لأنها بالنكاح الفاسد لم تصر محلا لوقوع طلاقه عليها فهي كالأجنبية والتي نكاحها صحيح محل لوقوع طلاقه عليها فمطلق الاسم يتناولها ولا يصدق في صرفه عنها في القضاء وإن كان يصدق فيما بينه وبين الله تعالى كما لو قال نويت أجنبية .
وكذلك لو قال إحدى امرأتي طالق لأنه أوقع الطلاق بهذا اللفظ على امرأته وهي التي صح نكاحها دون الأخرى لأن بالنكاح الفاسد لا تصير هي امرأته فكأنه ليس في نكاحه إلا امرأة واحدة فقال إحدى امرأتي طالق .
ولو قال إحداكما طالق لم تطلق امرأته إلا أن يعينها لأنه أوقع الطلاق على إحدى اللتين خاطبهما وأشار إليهما وإحداهما ليست بمحل لطلاقه فلا تتعين امرأته إلا بالنية كما لو جمع بين امرأته وأجنبية وقال إحداكما طالق .
ولو كان في يده عبدان فاشترى أحدهما شراء صحيحا واشترى الآخر شراء فاسدا فقال أحدكما حر أو أحد عبدي حر فهو سواء والقول قوله في البيان لأن المشتري شراء فاسدا صار مملوكا له بالقبض وصار محلا لعتقه كالمشتري شراء صحيحا .
فكان كلامه إيقاعا سواء قال أحد عبدي أو قال أحدكما فكان البيان إليه بخلاف الأولى فإن التي نكاحها فاسد ليست بمحل لطلاقه .
( قال ) ( وإن قال فلانة بنت فلان طالق فسمى امرأته ونسبها إلى غير أبيها لم تطلق امرأته ) لأنه ما أوقع الطلاق عليها فإنه ما أضافها إلى نفسه بالنكاح وما أشار إليها ولا عرفها بذكر نسبها إنما ذكر امرأة أخرى وأوقع الطلاق عليها بما ذكر من الاسم والنسب فلا يتناول ذلك امرأته كما لو أشار إلى أجنبية وقال أنت طالق لم تطلق امرأته .
وكذلك لو قال فلانة الهمدانية طالق وامرأته تميمية لم تطلق .
وكذلك لو قال فلانة العمياء طالق وامرأته صحيحة العينين فإن نوى امرأته بهذا كله طلقت لأنه قصد الايقاع عليها بذكر اسمها وما زاد على ذلك فضل من الكلام وفي هذا تشديد عليه فتعمل نيته .
وإن كان اسم امرأته زينب فقال فلانة طالق يعني امرأته وإنما قال فلانة ولم يسمها فالطلاق واقع عليها وإن لم يعنها لم تطلق لأنه أوقع الطلاق بذكر مطلق الاسم ومطلق الاسم كما يتناولها يتناول غيرها فكان هذا بمنزلة الإيقاع بلفظ الكناية فينوي في ذلك لكون اللفظ مبهما محتملا .
وإذا شهد شاهد على تطليقتين وشاهد على ثلاث والزوج يجحد ذلك أو شهد شاهد بتطليقة والآخر بتطليقتين أو شاهد بتطليقة والآخر بثلاث لم تقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة - C تعالى .
وعندهما وابن أبي ليلى تقبل على الأقل لأن المعتبر اتفاق الشاهدين في المعنى دون اللفظ حتى لو شهد أحدهما بالهبة والآخر بالتخلي تقبل وقد اتفق الشاهدان على الأقل لأن الأقل موجود في الأكثر فصار كما لو شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة والمدعي يدعي الأكثر تقبل شهادتهما على الأقل .
وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال لها أنت طالق والآخر أنه قال لها أنت طالق وطالق أو شهد أحدهما أنه طلقها والآخر أنه طلقها وضرتها تقبل شهادتهما على طلاقها لاتفاق الشاهدين عليه ولأن الموافقة كما تراعى بين الشاهدين تراعى بين الدعوى والشهادة .
ثم لو ادعى ألفين وشهد شاهدان بألف تقبل الشهادة بالإتفاق فكذلك إذا شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألفين ينبغي أن تقبل على الأقل .
وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : .
اختلف الشاهدان في المشهود به لفظا ومعنى فلا تقبل الشهادة كما لو قال أحدهما أنه قال لها أنت خلية والآخر أنه قال لها أنت برية وإنما قلنا ذلك لأن أحدهما شهد بالواحدة والآخر بثنتين أو بثلاث والواحدة أصل العدد لا تركب فيها والاثنان والثلاث اسم لعدد مركب فكانت المغايرة بينهما على سبيل المضادة ومن حيث أن اللفظ الواحد غير التثنية والجمع .
والدليل عليه : أن مدعي الاثنين أو الثلاثة لا يكون مقرا بالواحد إذ لو كان مقرا بالواحد لكان مرتدا بالشرك بعد ذلك فينبغي أن تقبل ولأن التطليقتين اسم واحد والتطليقة كذلك وبزيادة حرف يتغير الاسم كما يقال زيد وزياد ونصر وناصر وكذلك في الألف والألفين وإذا ثبتت المغايرة كان على كل واحد من الأمرين شاهد واحد فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء بخلاف الألف مع الألف وخمسمائة . فإنهما اسمان أحدهما معطوف على الآخر فيحصل الاتفاق بينهما على الألف لفظا ومعنى وكذلك في قوله طالق وطالق وفي قوله فلانة وفلانة وهذا بخلاف الدعوى مع الشهادة فإن الاتفاق هناك في اللفظ ليس بشرط فإما بين الشهادتين الموافقة في اللفظ شرط .
ألا ترى أنه لو ادعى الغصب أو القتل وشهد شاهدان بالإقرار به تقبل .
ولو شهد أحد الشاهدين بالغصب والآخر بالإقرار به لا تقبل وهذا لأن الشهادة تعتمد اللفظ .
ألا ترى أنها لا تقبل ما لم يقل أشهد .
والذي يبطل مذهبهما ما ذكر في كتاب الرجوع لو شهد شاهدان بتطليقة وشاهدان بثلاث تطليقات وفرق القاضي بينهما قبل الدخول . ثم رجعوا كان ضمان نصف الصداق على شاهدي الثلاث دون شاهدي الواحدة ولو اعتبر ما قالا أن الواحدة توجد في الثلاث لكان الضمان عليهم جميعا .
وإن شهد أحدهما أنه طلقها إن دخلت الدار وأنها قد دخلت وشهد الآخر أنه طلقها إن كلمت فلانا وأنها قد كلمت فلانا فشهادتهما باطلة لأن كل واحد منهما أوقع الطلاق بغير ما أوقع به صاحبه وإنما شهد كل واحد منهما بتعليق آخر من الزوج وليس على واحد من الآمرين شهادة شاهدين .
فإن شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثا وشهد الآخر أنه قال لها أنت علي حرام ينوي الثلاث فشهادتهما باطلة لاختلافهما في المشهود به لفظا وكذلك إن اختلفا في ألفاظ الكنايات كالخلية والبرية لأن هذه الألفاظ عندنا تعمل بحقائق موجباتها فيكون أحدهما شاهدا بالتخلية والآخر بالبراءة وكذلك الاختلاف في مقادير الشروط التي علق بها الطلاق وفي التعليق والإرسال وفي مقادير الجعل وصفاتها وفي اشتراطها وحذفها كل ذلك اختلاف في المشهود به لفظا ومعنى فيمتنع القضاء بهذه الشهادة لأنه ليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يتمكن القاضي من القضاء .
وإذا شهد أحدهما أنه قال إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وفلانة معها وشهد الآخر أنه قال إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وحدها وقد دخلت فلانة فهي طالق وحدها لأنهما اتفقا على أن الشرط دخولها واتفقا أن الجزاء طلاقها إنما تفرد أحدهما بزيادة جزاء معطوف على طلاقها فيثبت ما اتفقا عليه ولا يثبت ما تفرد به أحدهما .
( قال ) ( وتجوز شهادة رجل وامرأتين على طلاق المرأة عندنا ) خلافا للشافعي - C تعالى - وقد بينا هذا في النكاح وفي الكتاب قال : روي عن عمر - Bه - أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في النكاح .
( قال ) ( والطلاق عندنا بمنزلته ولا يجوز أقل من ذلك حتى إذا شهد بالطلاق رجل وامرأة أو شهد به أربع نسوة ليس معهن رجل لا تقبل ) لأن الطلاق مما يطلع عليه الرجال .
( قال ) ( ولا يجوز شهادة الولد على أبيه ولا على غيره بطلاق أمه إذا ادعت ذلك أمه ) لأنه شاهد لها والولد متهم في حق أمه .
فإن قيل : لا معتبر بدعواها في الشهادة على الطلاق .
( قلنا ) : نعم ولكن إذا وجدت الدعوى منها ففي شهادته أظهار صدق دعواها وفيه منفعة لها حتى لو كانت هي تجحد ذلك مع الأب كانت شهادته مقبولة عليهما وعلى هذا لو شهد الأب على طلاق ابنته لا تقبل إذا ادعته ويجوز شهادة الأب مع رجل آخر على ابنه بطلاق امرأته وكذلك شهادة الابن على أبيه إذا لم تكن لأمه والحاصل أن الشهادة على الطلاق بمنزلة الشهادة على سائر الحقوق تقبل من الولد على الوالدين ولا تقبل لهما وتقبل من المسلمين على أهل الذمة ولا تقبل من أهل الذمة على المسلمين .
( قال ) ( وإذا زوج رجل أخته ثم شهد هو وآخر على الزوج بطلاقها تقبل ) لأن شهادة الأخ للأخت بسائر الحقوق مقبولة فكذلك الطلاق وهذا لأن الطلاق حادث بعد النكاح لا صنع للأخ فيه فلا يمتنع شهادته عليه بسبب مباشرته للنكاح بخلاف ما لو شهد على أصل النكاح أن المرأة قد أجازته فإن شهادته لا تقبل لأنه هو المزوج وقد قصد بشهادته تتميم فعله فلا تقبل شهادته لهذا .
( قال ) ( وإذا شهد شاهدان على رجل بالطلاق قبل الدخول فقضى لها بنصف المهر ثم رجعا ضمنا للزوج ذلك ) إما لأنهما قررا عليه ما كان على شرف السقوط بمجيء الفرقة من جانبها والمقرر كالموجب أو لأن وقوع الفرقة قبل الدخول مسقط لجميع الصداق إلا أن يكون مضافا إلى الزوج فهما بإضافة السبب إلى الزوج وهو الطلاق منعا العلة المسقطة من أن تعمل عملها في النصف فكان ذلك كالإيجاب منهما فيضمنان إذا رجعا وإن رجع أحدهما ضمن الربع .
وإن كان الشاهد رجلا وامرأتين ثم رجعت امرأة فعليها ثمن المهر وإن رجعوا جميعا فعلى الرجل ربع المهر وعلى كل امرأة ثمن المهر لأن الثابت بشهادة الرجل ضعف ما يثبت بشهادة المرأة فإن عند الاختلاط كل امرأتين تقومان مقام رجل ثم المعتبر في الرجوع بقاء من بقي على الشهادة لا رجوع من رجع حتى لو شهد ثلاثة نفر بحق ثم رجع أحدهم لم يضمن شيئا لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت جميع الحق بشهادته .
فإن كان الشاهد بالطلاق رجلين وامرأتين ثم رجع رجل وامرأة كان عليهما ثمن المهر أثلاثا ثلثاه على الرجل وثلثه على المرأة لأنه قد بقي على الشهادة من يقوم ثلاثة أرباع الحق به فإنما انعدمت الحجة في قدر الربع فلهذا ضمنا ذلك القدر أثلاثا فإن رجعت المرأة الأخرى أيضا لزمها مع الراجعين الأولين ربع المهر لأنه قد بقي على الشهادة رجل وهو يقوم بنصف الحق ثم نصف هذا الربع على الرجل الراجع ونصفه على المرأتين وإن رجعوا جميعا كان على المرأتين سدس المهر وعلى الرجلين الثلث لأن الثابت بشهادة كل رجل مثل الثابت بشهادة المرأتين .
( قال ) ( وإن شهد رجلان بالدخول ورجلان بالطلاق فألزم القاضي الزوج كمال المهر ثم رجع شاهدا الطلاق فلا شيء عليهما عندنا ) وعلى قول الشافعي عليهما ضمان مهر المثل لأن شاهدي الدخول ثابتان على الشهادة فصار كأن الدخول ثابت بإقرار الزوج فبقيت شهادة الآخرين بالطلاق بعد الدخول وذلك غير موجب للضمان عليهما إذا رجعا عندنا لأن البضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم وإتلاف ما ليس بمتقوم لا يوجب الضمان عليهما وعنده البضع متقوم عند خروجه من ملك الزوج بمهر المثل كما أنه متقوم عند دخوله في ملك الزوج وقد بينا الفرق بينهما في كتاب النكاح .
ثم نقول : لما كان جميع المهر يثبت بشهادة شاهدي الدخول وهما ثابتان على الشهادة لم يضمن الراجعان شيئا وإن رجع شاهدا الدخول ولم يرجع شاهدا الطلاق فعليهما نصف المهر لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته نصف المهر .
ألا ترى أنه لو لم يوجد شاهدا الدخول كان القاضي يقضي بنصف المهر بشهادة شاهدي الطلاق فإنما انعدمت الحجة برجوعهما في نصف المهر فيضمنان ذلك .
وإن رجع أحد شاهدي الدخول وأحد شاهدي الطلاق لم يكن على شاهد الطلاق شيء لأن الثابت بشهادته وشهادة صاحبه نصف المهر وقد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته ثلاثة أرباع المهر وهو أحد شاهدي الدخول وأحد شاهدي الطلاق فلهذا لا يضمن شاهد الطلاق شيئا ويضمن شاهد الدخول ربع المهر لأن الحجة قد انعدمت في قدر الربع .
وحقيقة المعنى فيه : أن نصف المهر ثابت بشهادة شاهدي الدخول خاصة والنصف الآخر ثابت بشهادة الأربعة فالنصف الذي هو ثابت بشهادتهم قد بقي كمال الحجة فيه ببقاء اثنين على الشهادة والنصف الذي قد ثبت بشهادة شاهدي الدخول بقي نصفه ببقاء أحدهما على الشهادة وانعدمت الحجة في نصفه فلهذا ضمن شاهد الدخول ربع المهر .
وإن رجع شاهدا الطلاق مع إحدى شاهدي الدخول كان عليهم ضمان نصف المهر لأنه قد بقي من يثبت بشهادته نصف المهر وهو أحد شاهدي الدخول فإنما انعدمت الحجة في النصف نصف هذا النصف على شاهد الدخول والنصف الآخر عليهم أثلاثا لأن نصف المهر ثبت بشهادة شاهدي الدخول وقد بقي نصفه ببقاء أحدهما فيجب نصفه على الآخر والنصف الآخر يثبت بشهادة الأربعة وقد بقي واحد على الشهادة فيبقي نصف ذلك النصف ببقائه وتنعدم الحجة في نصفه فيكون عليهم أثلاثا .
وإن رجعوا جميعا كان على شاهدي الدخول ثلاثة أرباع المهر وعلى شاهدي الطلاق ربع المهر لأن النصف يثبت بشهادة شاهدي الدخول خاصة فضمان ذلك عليهما إذا رجعا والنصف الآخر يثبت بشهادة الأربعة فيكون عليهم أرباعا نصفه على شاهدي الدخول ونصفه على شاهدي الطلاق .
( قال ) ( وإذا شهد شاهد واحد على الطلاق فسألت المرأة القاضي أن يضعها على يدي عدل حتى تأتي بشاهد آخر لم يفعل ذلك ودفعها إلى زوجها حتى تأتي ببقية شهودها ) لأن قيام النكاح والحل بينهما معلوم وبشهادة الواحد لم يثبت سبب الحرمة لأنها شطر العلة وبشطر العلة لا يثبت شيء من الحكم فيتمسك القاضي بما كان معلوما له حتى يثبت عنده العارض فإن كان الطلاق ثلاثا أو بائنا وادعت أن بقية شهودها في المصر وشاهدها هذا عدل حال بينها وبين الزوج وأجلها ثلاثة أيام حتى ينظر ما تصنع في شاهدها الآخر وهذا استحسان .
وفي القياس : لا يحول بينه وبينها لأن الحجة لم تتم ولكنه استحسن فقال : للشهادة طرفان العدد والعدالة ولو وجد تمام العدد تثبت به الحيلولة قبل ظهور العدالة بأن شهد رجلان مستوران فكذلك إذا وجدت العدالة وهذا لأن الذي يسبق إلى وهم كل أحد أن العدل صادق في شهادته وباب الفرج مبني على الاحتياط وليس في هذه الحيلولة كثير ضرر على الزوج ولكن مع هذا لا تكون هذه الحيلولة واجبة على القاضي بل إن فعل فحسن وإن لم يفعل ودفعها إلى الزوج فلا بأس لأن حجة القضاء به لم تتم . ألا ترى أنه لو قضى بشهادة الواحد لم ينفذ قضاؤه .
( قال ) ( وإذا شهد شاهد على تطليقة بائنة وشهد آخر على تطليقة رجعية فشهادتهما جائزة على تطليقة رجعية ) لأنهما اتفقا على أصل الطلاق وإنما تفرد أحدهما بزيادة صفة البينونة فلا يثبت ما تفرد به أحدهما .
والدليل لهما على أبي حنيفة - C - في الثلاث مع الواحدة يقولان : .
تفرد أحدهما بالبينونة الغليظة كتفرد أحدهما بالبينونة الخفيفة .
وعند أبي حنيفة الطلاق إذا قرن بالعدد كان العامل هو العدد وكل واحد منهما شاهد بالوقوع بلفظ آخر هناك : فأما هنا وإن الحق صفة البينونة بالطلاق فوقوع الطلاق يكون بلفظ الطلاق وقد اتفق الشاهدان عليه لفظا توضيحه أن بصفة البينونة لا يتغير أصل الطلاق .
ألا ترى أن بمضي العدة ينقلب الرجعي بائنا فأما بانضمام الثاني والثالث يتغير حكم أصل الطلاق .
ولو شهد أحدهما على تطليقة والآخر على واحدة وواحدة جازت شهادتهما في الواحدة لاتفاق الشاهدين عليها لفظا ومعنى ولو شهد أحدهما على أنه طلقها واحدة وشهد الآخر أنه طلقها واحدة وعشرين أو واحدة ونصفا فقد اتفقا على الواحدة في لفظهما وتكلما بها إنما تفرد أحدهما بزيادة لفظ آخر معطوف على لفظ الواحد فيثبت ما اتفقا عليه وفرق أبو حنيفة - C - بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بواحدة والآخر بأحد عشر قال هناك أحد عشر اسم واحد لانعدام حرف العطف فالشاهد بها لا يكون شاهدا بالواحدة لفظا فأما واحدة وعشرون اسمان بينهما حرف العطف فالشاهد بها شاهد بالواحدة لفظا .
( قال ) ( وإن شهد أحدهما أنه طلقها واحدة وشهد الآخر أنه طلقها نصف واحدة أو شهد أحدهما على نصف واحدة والآخر على ثلث واحدة لم تقبل الشهادة عند أبي حنيفة - C - وتقبل عندهما ) لأن المعتبر عندهما الاتفاق في المعنى وقد وجد فإن نصف التطليقة وثلثها كما لها وعند أبي حنيفة يعتبر اتفاق الشاهدين لفظا ومعنى وبين النصف والكل مغايرة على سبيل المضادة وكذلك النصف غير الثلث فلم يوجد اتفاق الشاهدين لفظا فلهذا قال لا تقبل الشهادة .
وإن شهد أحدهما أنه قال فلانة طالق لا بل فلانة وشهد الآخر أنه قال فلانة طالق يسمي الأولى فقد جازت الشهادة على طلاق الأولى لاتفاق الشاهدين على ذلك لفظا ومعنى وما تفرد أحدهما من الزيادة لم يثبت .
وإن شهد أحدهما أنه قال أنت طالق الطلاق كله وشهد الآخر أنه قال أنت طالق بعض الطلاق فعندهما يقضي بتطليقة واحدة لاتفاق الشاهدين عليها معنى وعند أبي حنيفة - C تعالى - لا تقبل هذه الشهادة لاختلافهما لفظا والمغايرة بين الكل والبعض على سبيل المضادة .
( قال ) ( وإن شهد أحدهما أنه قال لها أنت طالق وشهد الآخر أنه أقر أنه طلقها فالشهادة جائزة ) لأن الطلاق قول وصيغة الإقرار والإنشاء فيه واحدة فاختلاف الشهود في الإنشاء والإقرار لا يكون اختلافا في المشهود به وكذلك إن اختلفا في المكان والزمان لأن القول مما يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول فباختلافهما في المكان والزمان لا يختلف المشهود به لفظا بخلاف الأفعال كالغصب والقتل .
( قال ) ( وإن شهد أحدهما أنه طلقها بمكة يوم النحر وشهد الآخر أنه طلقها في ذلك اليوم بالكوفة كانت شهادتهما باطلة ) لا لأن المشهود به مختلف ولكن لأنا تيقنا بكذب أحدهما فإن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون بمكة والكوفة وإذا كانت تهمة الكذب تمنع العمل بالشهادة فالتيقن بالكذب أولى ولا يقال هذا يتحقق في كرامات الأولياء لأن مثل ذلك الولي لا يجحد ما أوقع من الطلاق حتى يحتاج إلى إثباته عليه بالبينة ولأنا نبني الأحكام على الظاهر .
( قال ) ( ولو شهدا بذلك على يومين متفرقين بينهما من الأيام قدر ما يسير الراكب من الكوفة إلى مكة تقبل شهادتهما ) لأن تهمة الكذب هنا منتفية لظهور عدالتهما وإنما تعدد مكان ما شهدا به وباختلاف المكان لا يختلف المشهود به وهو الطلاق .
( قال ) ( ولو شهد شاهدان أنه طلق عمرة يوم النحر بالكوفة وشهد شاهدان أنه طلق زينب يوم النحر بمكة أو أعتق عبده فشهادتهم جميعا باطلة ) لأن القاضي يتيقن بكذب أحد الفريقين ولا يعرف الصادق من الكاذب فتعذر عليه العمل بشهادتهما .
( قال ) ( فإن جاءت إحدى البينتين قبل صاحبتها فحكم بها ثم جاءت الأخرى لم يلتفت إليها ) لأن الأولى تأكدت بقضاء القاضي فتعين الكذب في الأخرى إذ لا يجوز نقض القضاء بالشك وهو نظير ما لو ادعى رجلان نكاح امرأة وأقام كل واحدة منهما البينة واستويا لم يقض القاضي لواحد منهما ولو سبق أحدهما بإقامة البينة وقضى له ثم أقام الآخر البينة لم تقبل بينته لهذا المعنى .
( قال ) ( ولو قال لامرأتين له أيتكما أكلت هذا الطعام فهي طالق فجاءت كل واحدة منهما بالبينة أنها أكلته فشهادتهم جميعا باطلة ) لتيقننا بكذب أحد الفريقين فالشرط أكل جميع الطعام من واحدة ولا يتصور أن تأكل كل واحدة منهما جميع الطعام .
فإن جاءت إحدى البينتين قبل الأخرى فحكم بها ثم جاءت الأخرى لم يلتفت إليها لأن بقضائه تعين معنى الصدق في شهادة الفريق الأول فيتعين معنى الكذب في شهادة الفريق الثاني وإن كانتا أكلتاه لم تطلق واحدة منهما لأن الشرط أكل الواحدة جميع الطعام فإن كلمة أي تتناول كل واحدة من المخاطبتين على الانفراد وقد بينا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب