( قال ) ( وإذا طلق الأخرس امرأته في كتاب وهو يكتب جاز عليه من ذلك ما يجوز على الصحيح في كتابه ) لأن الأخرس عاجز عن الكلام وهو قادر على الكتاب فهو الصحيح في الكتاب سواء والأصل أن البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان لأن المكتوب حروف منظومة تدل على معنى مفهوم كالكلام . ألا ترى أن النبي - A - كان مأمورا بتبليغ الرسالة وقد بلغ تارة بالكتاب وتارة باللسان ثم الكتاب على ثلاثة أوجه .
( أحدها ) : أن يكتب طلاقا أو عتاقا على ما لا يتبين فيه الخط كالهواء والماء والصخرة الصماء فلا يقع به شيء نوى أو لم ينو لأن مثل هذه الكتابة كصوت لا يتبين منه حروف ولو وقع الطلاق لوقع بمجرد نيته وذلك لا يجوز .
( والثاني ) : أن يكتب طلاق امرأته على ما يتبين فيه الخط ولكن لا على رسم كتب الرسالة فهذا ينوي فيه لأن مثل هذه الكتابة قد تكون للإيقاع وقد تكون لتجربة الخط والقلم والبياض وفيه ينوي كما في الألفاظ التي تشبه الطلاق فإن كان صحيحا تبين نيته بلسانه وإن كان أخرس تبين نيته بكتابه .
( والثالث ) : أن يكتب على رسم كتب الرسالة طلاق امرأته أو عتاق عبده فيقع الطلاق والعتاق بهذا في القضاء وإن قال عنيت به تجربة الخط لا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر وهو نظير ما لو قال أنت طالق ثم قال : عنيت الطلاق من وثاق ثم ينظر إلى المكتوب .
فإن كان كتب امرأته طالق فهي طالق سواء بعث الكتاب إليها أو لم يبعث .
وإن كان المكتوب إذا وصل إليك كتابي هذا فأنت طالق فما لم يصل إليها لا يقع الطلاق كما لو تكلم بما كتب فإن ندم على ذلك فمحى ذكر الطلاق من كتابه وترك ما سوى ذلك وبعث بالكتاب إليها فهي طالق إذا وصل إليها الكتاب . لوجود الشرط ومحوه كرجوعه عن التعليق فإن محى الخطوط كلها وبعث بالبياض إليها لم تطلق لأن الشرط لم يوجد فإن ما وصل إليها ليس بكتاب .
ولو جحد الزوج الكتاب وأقامت عليه البينة أنه كتبه بيده فرق بينهما في القضاء لأن الثابت بالبينة عليه كالثابت بإقراره .
وإن كان الأخرس لا يكتب وكانت له إشارة تعرف في طلاقه ونكاحه وشرائه وبيعه فهو جائز استحسانا .
وفي القياس لا يقع شيء من ذلك بإشارته لأن لا يتبين بإشارته حروف منظومة فبقي مجرد قصده الإيقاع وبهذا لا يقع شيء .
ألا ترى أن الصحيح لو أشار لا يقع شيء من التصرفات بإشارته ولكنه استحسن فقال الإشارة من الأخرس كالعبارة من الناطق .
ألا ترى أن في العبادات جعل هكذا حتى إذا حرك شفتيه بالتكبير والقرآن جعل ذلك بمنزلة القراءة من الناطق فكذلك في المعاملات وهذا لأجل الضرورة لأنه محتاج إلى ما يحتاج إليه الناطق فلو لم تجعل إشارته كعبارة الناطق أدى إلى أن يموت جوعا وهذه الضرورة لا تتأتى في حق الناطق ولهذا قلنا المريض وإن اعتقل لسانه لا ينفذ تصرفه بإشارته لأنه لم يقع اليأس عن نطقه وإقامة الإشارة مقام العبارة عند وقوع اليأس عن النطق لأجل الضرورة .
وإن لم تكن له إشارة معروفة يعرف ذلك منه أو يشك فيه فهو باطل لأنه لا يوقف على مراده بمثل هذه الإشارة فلا يجوز الحكم بها .
ولم يذكر في الكتاب حكم الطلاق بالفارسية وقد روي عن أبي حنيفة - C تعالى - أن الفارسي إذا قال لامرأته هسته أو قال : اززني هسته ينوي في ذلك فإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة رجعية ويستوي إن كان في حال مذاكرة الطلاق أو لم يكن .
وعند أبي يوسف - C تعالى - إن قال هسته ينوي فيه ولو قال اززني هسته فهي تطليقة رجعية . إلا أن ينوي ثلاثا .
وعند محمد - C تعالى - في قوله بهستمت أو اززني بهستمت أنه طلاق وكأنهم جعلوا هذا اللفظ تفسيرا للتخلية .
ولهذا قال زفر - C تعالى - يكون الواقع به بائنا .
ولكن أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى - قالا يحتمل أن يكون هذا في معنى التخلية فيكون الواقع به بائنا ويحتمل أن يكون هذا معنى لفظ آخر فلا تثبت البينونة بالشك .
ولكنا نقول نحن أعرف بلغتنا منهم والواقع بهذا اللفظ عندنا تطليقة رجعية سواء نوى الطلاق أو لم ينو أو نوى الثلاث أو لم ينو لأن هذا اللفظ في لساننا صريح بمنزلة الطلاق في لسان العرب وإنما معنى تفسير التخلية بله كردم فينوي في ذلك والحاصل أن كل لفظ لا يستعمل إلا مضافا إلى النساء فهو صريح وكل ما يستعمل في النساء وغير النساء فهو بمنزلة الكناية ينوي فيه فقوله بله كردم يستعمل في غير النساء كما يستعمل في النساء فأما قوله هسته أو بهستمت لا يستعمل إلا في النساء فيكون صريحا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب