( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C تعالى إملاء الطلاق في اللغة عبارة عن إزالة القيد وهو مأخوذ من الإطلاق يقول الرجل أطلقت إبلي وأطلقت أسيري وطلقت امرأتي فالكل من الإطلاق وإنما اختلف اللفظ لاختلاف المعنى ففي المرأة يتكرر الطلاق وإذا تم رفع القيد بتكرر الطلاق لا يتأتى تقييده ثانيا في الحال ففي التفعيل معنى المبالغة فلهذا يقال في المرأة طلقت وهو كقولهم حصان وحصان لكن يقال في الفرس حصان أي بين التحصن وفي المرأة حصان أي بينة الحصن وكذا يقال عدل وعديل وكلاهما مشتق من العدالة والمعادلة ولكن يختص أحد اللفظين بالآدمي لمعنى اختص به وموجب الطلاق في الشريعة رفع الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح إذا تم العدد ثلاثا كما قال الله تعالى { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ( البقرة : 230 ) ويوجب زوال الملك باعتبار سقوط اليد عند انقضاء العدة في المدخول بها وانعدام العدة عند عدم الدخول والاعتياض عند الخلع فالاسم شرعي فيه معنى اللغة وإيقاع الطلاق مباح وإن كان مبغضا في الأصل عند عامة العلماء ومن الناس من يقول لا يباح إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة لقوله - A - : ( لعن الله كل ذواق مطلاق ) وقال A ( أيما امرأة اختلعت من زوجها من نشوز فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) وقد روي مثله في الرجل يخلع امرأته ولأن فيه كفران النعمة فإن النكاح نعمة من الله تعالى على عباده قال الله تعالى { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا } ( الروم : 21 ) وقال الله تعالى { زين للناس حب الشهوات من النساء } ( آل عمران : 14 ) الآية وكفران النعمة حرام وهو رفع النكاح المسنون فلا يحل إلا عند الضرورة وذلك إما كبر السن لما روي أن سودة لما طعنت في السن طلقها رسول الله - A .
وإما لريبة لما روي أن رجلا جاء إلى النبي - A - وقال : إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال صلوات الله عليه : طلقها فقال : إني أحبها فقال - A - أمسكها إذن وأما قوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء } ( البقرة : 236 ) وقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } ( الطلاق : 1 ) وذلك كله يقتضي كله إباحة الإيقاع وطلق رسول الله - A - حفصة Bها حتى نزل عليه الوحي يأمره أن يراجعها فإنها صوامة قوامة ولم يكن هناك كبر سن ولا ريبة وكذلك الصحابة - رضوان الله عليهم - فإن عمر - Bه - طلق أم عاصم - Bها - وعبدالرحمن بن عوف - Bه - طلق تماضر - Bها والمغيرة بن شعبة - Bه - كان له أربع نسوة فأقامهن بين يديه صفا وقال : أنتن حسان الأخلاق ناعمات الأرداف طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق وإن الحسن بن علي Bهما استكثر من النكاح والطلاق بالكوفة حتى قال علي - Bه - على المنبر إن ابني هذا مطلاق فلا تزوجوه فقالوا إنا نزوجه ثم نزوجه ولأن هذا إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا في الأصل كالإعتاق وفيه معنى كفران النعمة من وجه ومعنى إزالة الرق من وجه فالنكاح رق قال A : ( النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته ) وروي ( بم يرق كريمته ) ولهذا صان الشرع القرابة القريبة عن هذا الرق حيث حرم نكاح الأمهات والبنات والأخوات وإلى هذا المعنى أشار رسول الله - A - بقوله ( وإن أبغض المباحات عند الله تعالى الطلاق ) فقد نص على أنه مباح لما فيه من إزالة الرق ومبغض لما فيه من معنى كفران النعمة ثم معنى النعمة إنما يتحقق عند موافقة الأخلاق فأما عند عدم موافقة الأخلاق فاستدامة النكاح سبب لامتداد المنازعات فكان الطلاق مشروعا مباحا للتفضي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق ثم هو نوعان : طلاق سنة وطلاق بدعة والسنة في الطلاق نوعان : سنة من حيث العدد وسنة من حيث الوقت فالسنة من حيث العدد : ما بدأ ببيانه الكتاب وهو نوعان : حسن وأحسن فالأحسن : أن يطلقها واحدة في وقت السنة ويدعها حتى تنقضي عدتها هكذا نقل عن إبراهيم C تعالى : أن أصحاب رسول الله - A - وBهم - كانوا يستحسنون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة وأن هذا أفضل عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا عند كل طهر واحدة ولأنه مبغض شرعا لكنه مباح لمقصود التفضي عن عهدة النكاح وذلك يحصل بالواحدة ولا يرتفع بها الحل الذي هو نعمة فالاقتصار عليها أحسن والحسن أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار عند كل طهر واحدة وقال مالك - C تعالى - لا أعرف المباح من الطلاق إلا واحدة والدليل على صحة ما قلنا قول رسول الله - A - لابن عمر - Bه - إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء يريد به الإشارة إلى قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } ( الطلاق : 1 ) ولما قابل الله تعالى الطلاق بالعدة والطلاق ذو عدد والعدة ذات عدد تنقسم آحاد أحدهما على الآخر كقول القائل اعط هؤلاء الرجال الثلاثة ثلاثة دراهم ولأن عدم موافقة الأخلاق أمر باطن لا يوقف على حقيقته فأقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه مقام حقيقة الحاجة لعدم موافقة الأخلاق لأنه زمان الرغبة فيها طبعا وشرعا فلا يختار فراقها إلا للحاجة ومتى قام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجودا وعدما وهذا السبب الظاهر متكرر فتتكرر إباحة الطلاق بتكرره ويجعل ذلك قائم مقام تجدد الحاجة حكما وإليه أشار ابن مسعود - Bه - فقال : إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته للسنة طلقها تطليقة وهي طاهرة من غير جماع فإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها بعد ما تحيض وتطهر ثم يدعها حتى تحيض وتطهر ثم يطلقها أخرى فكانت قد بانت منه بثلاث تطليقات وبقي عليها من عدتها حيضة وعلى هذا الأصل قال علماؤنا - رحمهم الله - إيقاع الثلاث جملة بدعة .
وقال الشافعي - C تعالى - لا أعرف في الجمع بدعة ولا في التفريق سنة بل الكل مباح وربما يقول إيقاع الثلاث جملة سنة حتى إذا قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا للسنة وقع الكل في الحال عنده قال وبالإتفاق لو نوى وقوع الثلاث جملة يقع جملة ولو لم يكن سنة لما علمت نيته لأن النية بخلاف الملفوظ باطل واستدل في ذلك بحديث العجلاني فإنه لما لاعن امرأته قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا ولم ينكر عليه رسول الله - A - إيقاع الثلاث جملة وقالت فاطمة بنت قيس - Bها - طلقني زوجي ثلاثا الحديث إلى أن قالت : فلم يجعل لي رسول الله - A - نفقة ولا سكنى وعبدالرحمن بن عوف - Bه - طلق امرأته تماضر - Bها ثلاثا في مرض موته والحسن بن علي - Bهما - طلق امرأته شهباء - Bها - ثلاثا حين هنته بالخلافة بعد موت علي - Bه - والمعني فيه أن إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا مطلقا جمع أو فرق كالعتق والدليل عليه أنه لو طلق أربع نسوة له جملة كان مباحا بمنزلة ما لو فرق فكذلك في حق الواحدة بل أولى لأن هذا يزيل الملك عن امرأة واحدة وهناك الإيقاع يزيل الملك عن أربع نسوة ولأن الطلاق تصرف مملوك بالنكاح فيكون مباحا في الأصل والتحريم فيه لمعنى عارض كالظهار الذي انضم إليه وصف كونه ( منكرا من القول وزورا ) والإيلاء الذي انضم إليه معنى قطع الإمساك بالمعروف على وجه الإضرار والتعنت فكذلك الطلاق مباح الإيقاع إلا إذا انضم إليه معنى محرم وهو الإضرار بها بتطويل العدة عليها إذا طلقها في حالة الحيض وتلبيس أمر العدة عليها إذا طلقها في طهر قد جامعها فيه لأنها لا تدري أنها حامل فتعتد بوضع الحمل أو حائل فتعتد بالإقراء وذلك منعدم إذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه سواء أوقع الثلاث أو الواحدة وهو معنى قولهم هذا طلاق صادف زمان الاحتساب مع زوال الارتياب وحجتنا في ذلك قوله تعالى { الطلاق مرتان } ( البقرة : 229 ) معناه دفعتان كقوله أعطيته مرتين وضربته مرتين والألف واللام للجنس فيقتضي أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين ودفعة ثالثة في قوله تعالى { فإن طلقها } ( البقرة : 230 ) أو في قوله D { أو تسريح بإحسان } ( البقرة : 229 ) على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير .
وفي حديث محمود بن لبيد - C تعالى - أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله - A - فقام النبي - A - مغضبا فقال : أتلعبون بكتاب الله تعالى وأنا بين أظهركم واللعب بكتاب الله ترك العمل به فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب وأن المراد من قوله { فطلقوهن لعدتهن } تفريق الطلقات على عدد أقراء العدة ألا ترى أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة وفائدته التفريق فإنه قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا أي يبدو له فيراجعها وذلك عند التفريق لا عند الجمع .
وفي حديث عبادة بن الصامت - رضي الله تعالى عنه - أن قوما جاؤوا إلى رسول الله - A - فقالوا : إن أبانا طلق امرأته ألفا فقال A : بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى وبقي تسعمائة وسبعة وتسعين وزرا في عنقه إلى يوم القيامة .
وإن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه لما طلق امرأته في حالة الحيض أمره رسول الله - A - أن يراجعها فقال : أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي فقال A لا بانت منك وهي معصية .
وبهذه الآثار تبين أنه إنما ترك الإنكار على العجلاني في ذلك الوقت شفقة عليه لعلمه أنه لشدة الغضب ربما لا يقبل قوله فيكفر فأخر الإنكار إلى وقت آخر وأنكر عليه في قوله أذهب فلا سبيل لك عليها أو كراهة إيقاع الثلاث لما فيه من سد باب التلافي من غير حاجة وذلك غير موجود في حق العجلاني لأن باب التلافي بين المتلاعنين منسد ما داما مصرين على اللعان والعجلاني كان مصرا على اللعان .
ولنا اجماع الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - فقد روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعمران بن حصين - رضي الله تعالى عنهم - كراهة إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة .
وعن أبي قتادة الأنصاري - Bه - قال : لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه مهلا مهلا بارك الله عليكم فيكم كتاب الله وسنة رسوله فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب الكعبة .
وقال الكرخي : لا أعرف بين أهل العلم خلافا أن إيقاع الثلاث جملة مكروه إلا قول ابن سيرين وإن قوله ليس بحجة ويتبين بهذا أن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - إنما طلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار .
وأن الحسن - رضي الله تعالى عنه - إنما قال لشهباء : أنت طالق ثلاثا للسنة وعندنا لا بأس به والمعنى فيه أنه تحريم البضع بمجرد قوله من غير حاجة فيكون مكروها كالظهار بل أولى فإن الظهار تحريم البضع بمجرد قوله من غير إزالة الملك وفي إيقاع الثلاث تحريم البضع مع إزالة الملك .
والفقه فيه ما بينا أن إباحة الإيقاع للحاجة إلى التفضي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وذلك يحصل بالواحدة ولا يحصل بها تحريم البضع فلا تتحقق الحاجة إلى ما يكون محرما للبضع فكان ينبغي أن لا يباح أصلا ولكن أبيح عند اختلاف الأطهار لتجدد الحاجة حكما على ما قررنا ولأن في إيقاع الثلاث قطع باب التلافي وتفويت التدارك عند الندم وفيه معنى معارضة الشرع فالإسقاطات في الأصل لا تتعدد كالعتاق وغيره وإنما جعل الشرع الطلاق متعددا لمعنى التدارك عند الندم فلا يحل له تفويت هذا المعنى في نفسه بعد ما نظر الشرع له كما لا يباح له الإيقاع في حالة الحيض لأنه حالة نفرة الطبع عنها وكونه ممنوعا شرعا فالظاهر أنه يندم إذا جاء زمان الطهر فيكره إيقاع الطلاق لمعنى خوف الندم فهذا مثله والدليل عليه أنه لو طلقها واحدة في الطهر ثم أخرى في الحيض يكون مكروها وليس في إيقاع الثانية في الحيض معنى تطويل العدة ولا معنى اشتباه أمر العدة عليها فدل أن معنى كراهة الإيقاع لمعنى خوف الندم إذا جاء زمان الطهر وهذا في إيقاع الثلاث أظهر فكان مكروها ويستوي في هذا المدخول بها وغير المدخول بها لأن معنى تحريم البضع بإيقاع الثلاث يحصل في الحالتين بصفة واحدة وكذلك يستوي في الكراهة إيقاع الثلاث جملة وإيقاع الثنتين لأن الكراهة لمعنى عدم الحاجة حقيقة وحكما وهو موجود في الثانية كوجوده في الثالثة ولأن إيقاع الثنتين وإن كان لا يحصل به تحريم البضع فإنه يقرب منه وهذا القرب معتبر في الحكم .
ألا ترى أن المرأة إذا قالت لزوجها طلقني ثلاثا بألف وطلقها واحدة يجب ثلث الألف ولو طلقها اثنتين يجب ثلثا الألف وكما أن سد باب التلافي حرام من غير حاجة فكذلك ما يقرب منه يكون حراما .
وأما السنة من حيث الوقت معتبر في حق المدخول بها وذلك أن يطلقها إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها فيه قال في الكتاب : بلغنا ذلك عن رسول الله - A - والمراد منه حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - فإنه لما طلق امرأته في حالة الحيض قال له رسول الله - A - ما هكذا أمرك الله يا ابن عمر إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا . الحديث وفي رواية قال لعمر - رضي الله تعالى عنه - إن ابنك أخطأ السنة مره فليراجعها فإذا حاضت وطهرت فليطلقها إن شاء طاهرة من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء .
وجاء عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر - رضي الله تعالى عنهم - في تفسير قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } ( الطلاق : 1 ) أي يطلقها طاهرة من غير جماع والمعنى فيه أن إباحة الإيقاع للتفضي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وذلك لا يظهر بالإيقاع حالة الحيض لأنها حال نفرة الطبع عنها وكونه ممنوعا عنها شرعا فربما يحمله ذلك على الطلاق وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لأنه قد حصل مقصوده منها فتقل رغبته فيها فلا يكون الإيقاع دليل عدم موافقة الأخلاق فأما في الطهر الذي لم يجامعها فيه تعظم رغبته فيها فلا يقدم على الطلاق إلا لعدم موافقة الأخلاق فلهذا اختصت إباحة الإيقاع به .
ولهذا المعنى قال زفر - C تعالى - إنه يكره إيقاع الطلاق في حالة الحيض من غير المدخول بها لأن معنى نفرة الطبع والمنع شرعا لا يختلف بين كونها مدخولا بها أو غير مدخول بها ومعنى آخر فيه أن في الإيقاع في حالة الحيض إضرارا بها من حيث تطويل العدة عليها لأن هذه الحيضة لا تكون محسوبة من العدة وتطويل العدة من الإضرار بها قال الله تعالى { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } ( البقرة : 231 ) وفي الإيقاع في طهر قد جامعها فيه إضرار بها من حيث اشتباه العدة عليها ولهذا قلنا : لا بأس بإيقاع الطلاق في الحيض على غير المدخول بها لأنه ليس فيه معنى تطويل العدة عليها ولأن رغبته فيها كانت بالنكاح فلا يقل ذلك بحيضها ما لم يحصل مقصوده منها فكان الإيقاع دليل عدم موافقة الأخلاق بخلاف المدخول بها فإن مقصوده بالنكاح قد حصل منها وإنما رغبته فيها في الطهر بعد ذلك لتمكنه فيه من غشيانها وينعدم ذلك بالحيض توضيحه : أن إباحة الإيقاع بشرط أن يأمن الندم كما قال الله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ( الطلاق : 1 ) وفي الإيقاع في حالة الحيض على المدخول بها لا يأمن الندم إذا جاء زمان الطهر والرغبة فيها وكذلك في الإيقاع في طهر قد جامعها فيه لا يأمن الندم لأنه ربما يظهر بها حبل فتحمله شفقته على الولد على تحمل سوء خلقها وإلى نحوه أشار ابن مسعود - Bه - فقال : لعل شفقة الولد تندمه فلهذا كره الإيقاع في هذين الوقتين .
وإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها واحدة إذا طهرت من الحيض .
واختار بعض مشايخنا - رحمهم الله تعالى - تأخير الإيقاع إلى آخر الطهر ليكون أبعد عن تطويل العدة وظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه يطلقها حين تطهر من الحيض لأنه لو أخر الإيقاع ربما يجامعها ومن قصده أنه يطلقها فيبتلى بالإيقاع عقيب الجماع وذلك مكروه فلهذا طلقها حين تطهر من حيضها فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى واحتسب بهذه الحيضة من عدتها فإذا حاضت الثالثة وطهرت طلقها أخرى وقد بقي عليها من عدتها حيضة وللشافعي - C تعالى - قول : أن ابتداء العدة من آخر التطليقات إذا تكرر الإيقاع لأن الطلاق بعد الدخول موجب للعدة كالحدث بعد الطهارة موجب للوضوء فكما أنه إذا أحدث بعد غسل بعض الأعضاء يلزمه استئناف الوضوء فكذلك إذا تكرر وقوع الطلاق عليها يلزمها استئناف العدة .
ولكنا نقول السبب الموجب للعدة الدخول وإنما تصير شارعة في العدة حين يصير الزوج غير مريد لها وقد حصل ذلك بالتطليقة الأولى ثم الثانية والثالثة تقرر ذلك المعنى ولا تبطله بخلاف ما لو راجعها ثم طلقها لأن بالرجعة ينعدم ذلك المعنى فإنه يصير مريدا لها توضيحه : أن المقصود تبين فراغ الرحم وذلك لا يتغير بتكرر الطلاق وعدم التكرر فلهذا كانت عدتها من التطليقة الأولى وعلى هذا اتفق أصحاب رسول الله - A - وBهم .
( قال ) ( لا تحل له المرأة بعد ما وقع عليها ثلاث تطليقات حتى تنكح زوجا غيره يدخل بها ) والطلاق محصور بعدد الثلاث ولا خلاف بين العلماء أن بيان التطليقتين في قوله تعالى { الطلاق مرتان } ( البقرة : 229 ) وإنما اختلفوا في الثالثة فقيل هي في قوله { أو تسريح بإحسان } ( البقرة : 222 ) هكذا روي أن أبا رزين العقيلي - Bه - سأل رسول الله - A - وقال : عرفنا التطليقتين في القرآن فأين الثالثة فقال A في قوله تعالى { أو تسريح بإحسان } وأكثرهم على أن بيان الثالثة في قوله تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ( البقرة : 230 ) لأنه عند ذكرها ذكر ما هو حكم الثالثة وهو حرمة المحل إلى غاية ومعناه فإن طلقها الثالثة .
ولا خلاف بين العلماء أن النكاح الصحيح شرط الحل للزوج الأول بعد وقوع الثلاث عليها والمذهب عند جمهور العلماء أن الدخول بها شرط أيضا وقال سعيد بن المسيب - رضي الله تعالى عنه - ليس بشرط لأن في القرآن شرط العقد فقط ولا زيادة بالرأي ولكن هذا قول غير معتبر ولو قضى به قاض لا ينفذ قضاؤه فإن شرط الدخول ثابت بالآثار المشهورة فمن ذلك حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - A - قال : ( إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا فتزوجت بزوج آخر لم تحل للأول حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسيلتها ) . ومنه حديث عائشة - Bها - ( أن رفاعة القرظي - Bه - طلق امرأته فأبت طلاقها فتزوجت بعبدالرحمن بن الزبير - Bه - ثم جاءت إلى رسول الله - A - فقالت ما وجدت معه إلا مثل هذه وأشارت إلى هدبة ثوبها فتبسم رسول الله - A - ثم ضبط نفسه فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة فقالت : ( نعم فقال لا حتى يذوق من عسيلتك وتذوقي من عسيلته ) وعن عائشة - Bها - ( أن عمرو بن حزم - Bه - طلق امرأته العميصاء - Bها - ثلاثا فتزوجت بآخر فلما خلا بها جاءت إلى رسول الله - A - تشكو ضعف حاله في باب النساء فقال - A - هل أصابك فقالت : ( لا فقال صلوات الله عليه : لا تحلين لعمرو حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك ) وقيل في القرآن ذكر الدخول إشارة فإنه أضاف فعل النكاح إلى الزوج وإليها فيقضي ذلك فعل النكاح بعد الزوجية وذلك الوطء ولأن المقصود منع الأزواج من الاستكثار من الطلاق وذلك لا يحصل بمجرد العقد إنما يحصل بالدخول ففيه مغايظة الزوج الأول ودخول الثاني بها بالنكاح مباح مبغض عند الزوج الأول كما أن الاستكثار من الطلاق مبغض شرعا ليكون الجزاء بحسب العمل .
( قال ) فإن تزوج بها الثاني على قصد أن يحللها للزوج الأول من غير أن يشترط ذلك في العقد صح النكاح ويثبت الحل للأول إذا دخل بها الثاني وفارقها فإن شرط أن يحللها للأول فعند أبي حنيفة - C تعالى - الجواب كذلك ويكره هذا الشرط وعند أبي يوسف - C تعالى - النكاح جائز ولكن لا تحل به للأول وعند محمد - C تعالى - النكاح فاسد لقوله A ( لعن الله المحلل والمحلل له ) وعقد النكاح سنة ونعمة فما يستحق به المرء اللعن لا يكون نكاحا صحيحا ولأن هذا في معنى شرط التوقيت وشرط التوقيت مبطل للنكاح ولكن أبو يوسف - C تعالى - يقول هذا ليس بتوقيت في النكاح ولكنه استعجال لما هو مؤخر شرعا فيعاقب بالحرمان كمن قتل مورثه يحرم من الميراث وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : هذا الشرط وراء ما يتم به العقد فأكثر ما فيه أنه شرط فاسد والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة ثم النهي عن هذا الشرط لمعنى في غير النكاح فإن هذا النكاح شرعا موجب حلها للأول فعرفنا أن النهي لمعنى في غير المنهي عنه وذلك لا يؤثر في النكاح فلهذا ثبت الحل للأول إذا دخل بها الثاني بحكم هذا النكاح الصحيح .
( قال ) وإذا أراد أن يطلق امرأته وهي حامل طلقها واحدة متى شاء حتى أنه لا بأس بأن يطلقها عقيب الجماع لأن كراهة الإيقاع عقيب الجماع لاشتباه أمر العدة عليها وخوف الندم إذا ظهر بها حبل وذلك غير موجود هنا ولأن الحبل يزيد في رغبته فيها فيكون إيقاع الطلاق بعد ظهوره دليل عدم موافقة الأخلاق .
( قال ) فإن كان جامعها ثم أراد أن يطلقها ثلاثا فله ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويفصل بين التطليقتين بشهر وعند محمد وزفر - رحمها الله تعالى - لا تطلق الحامل للسنة أكثر من واحدة وفي الكتاب قال : بلغنا ذلك عن ابن مسعود وجابر - رضي الله تعالى عنهما - والحسن البصري وقول الصحابي : إذا كان فقيها مقدم على القياس والمعنى فيه أن الأصل في طلاق السنة أن يفصل بين التطليقتين بفصل محسوب من فصول العدة كما في حق ذوات الإقراء والآيسة والشهر في حق الحامل ليس بفصل محسوب من فصول العدة فلا يفصل به بين طلاقي السنة وهذا لأن الطلاق مقابل بفصول العدة ألا ترى أن عدة الأمة لما تقدرت بحيضتين ملك عليها تطليقتين وأن بسبب عدم الدخول لما انعدمت فصول العدة انعدم ملك التفريق إلا أن النكاح يعقد للدخول فلا يؤثر في ملك أصل الطلاق لهذا فعرفنا أن التفريق باعتبار فصول العدة ومدة الحبل طالت أو قصرت بمنزلة فصل واحد ألا ترى أن الاستبراء يتقدر بها .
وفي الفصل الواحد لا يملك تفريق الطلقات على الوجه المسنون ولأن هذا شهر في حق ذوات الإقراء فلا يصلح للفصل بين طلاقي السنة كما في الممتدة طهرها بخلاف الآيسة والصغيرة وحجتنا في ذلك أن هذا نوع عدة فيكون محلا لتفريق الطلقات المملوكة على وجه السنة كالأقراء والأشهر وهذا لأن الله تعالى جعل محل إيقاع الطلقات العدة بقوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } ( الطلاق : 1 ) وعدة الحامل نوع من أنواع العدة بل هي الأصل فيما هو المقصود لأن المقصود بالعدة تبين فراغ الرحم وذلك يحصل بوضع الحمل على أكمل الوجوه فيستحيل أن يقال : لا يملك تفريق الطلاق على ما هو الأصل في العدة وفي حق ذوات الإقراء فصول العدة إنما تقع اتفاقا لا قصدا فأما المعنى المعتبر تجدد زمان الرغبة وذلك لا يحصل إلا بمضي حيضة وفي حق الآيسة والصغيرة لا يوجد هذا المعنى لأن الأوقات في حقها سواء ولا بد من إباحة التفريق في عدتها فأقمنا الشهر في حقها مقام الحيضة في حق ذوات الأقراء باعتبار أنه فصل من فصول العدة ثم ينعدم هذا المعنى في حق الحامل فلا بد من إباحة التفريق في عدتها فأقمنا الشهر في حق الآيسة باعتبار أنه شهر في عدة لا حيض فيها .
والدليل على أنه لا معتبر بفصول العدة أنه لو قال لامرأته الصغيرة أنت طالق ثلاثا للسنة يقع عليها للحال واحدة فإذا مضى شهر وقعت أخرى وإذا مضى شهر وقعت أخرى ثم إذا حاضت يلزمها استئناف العدة والتطليقات الثلاث وقعت على وجه السنة فعرفنا أنه لا معتبر بفصول العدة ثم الحامل لا تحيض والشهر في حق من لا تحيض فصل من فصول العدة في حق انقضاء العدة وتفريق الطلاق ولكن هنا في حق انقضاء العدة وجدنا ما هو أقوى من الشهر وهو وضع الحمل وفي حق التفريق بالطلاق لم نجد ما هو أقوى من الشهر فبقي الشهر فصلا من فصول العدة في حق تفريق الطلاق وإن لم يبق في حق إنقضاء العدة كما في الصغيرة إذا حاضت .
يقرره أن الحبل يؤثر في إباحة إيقاع كان محرما قبله وهو الطلاق عقيب الجماع فيستحيل أن يؤثر في المنع مما كان مباحا قبله ولا يدخل على ما قلنا إذا بقي من مدة حملها يوم لأن التعليل لمدة الحمل ولا يتصور أن يكون ذلك يوما إلا أن التفريط جاء من قبله حين أخر الإيقاع حتى لم يبق من المدة فلا يخرج به من أن يكون أصل المدة قابلا لتفريق الثلاث كالكافر إذا أسلم وقد بقي من الوقت مقدار ما لا يمكنه أن يصلي فيه تلزمه الصلاة لأن التفريط جاء من قبله حين أخر الإسلام ولا معنى لما قال أن مدة الحبل كحيضة واحدة بل هي بمنزلة ثلاث حيض حتى تنقضي بها العدة ولكن الاستبراء إنما لا يقدر ببعض مدة الحبل لأن المقصود تبين فراغ الرحم وذلك لا يحصل قبل الوضع فزيد في مدة الاستبراء إذا كانت حاملا لهذا المعنى لا أن تجعل مدة الحبل كحيضة واحدة ولا نسلم أن الحامل من ذوات الإقراء على الاطلاق فإنه لزمها صفة منافية للحيض حتى أنها وإن رأت الدم لا يكون حيضا بخلاف الممتدة طهرها .
( قال ) وإذا أراد أن يطلقها وهي لا تحيض من كبر أو صغر طلقها واحدة متى شاء عندنا . وقال زفر - C تعالى - ليس له أن يطلقها عقيب الجماع حتى يمضي الشهر لأنه يفصل بين الطلاق والجماع بما يفصل به بين الطلاقين في عدة هي ذات فصول كما في حق ذوات الأقراء ثم هنا يفصل بين طلاقيها بشهر فكذلك يفصل بين طلاقها وجماعها بشهر ولكنا نقول أنها بمنزلة الحامل في أنها لا حيض في عدتها فيباح إيقاع الطلاق عليها عقيب الجماع كما يباح الإيقاع على الحامل وكأن المعنى فيه أن في حق ذوات الأقراء إنما كره إيقاع الطلاق عقيب الجماع لتوهم الحبل وهذا لا يوجد هنا فكان إيقاع الطلاق عليها عقيب الجماع مباحا فإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها بعد شهر آخر ثم بعد شهر آخر وعدتها ثلاثة أشهر من التطليقة الأولى وذلك يتلى في القرآن قال الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } ( الطلاق : 4 ) والمراد الصغيرة ولا خلاف أن الإيقاع إذا كان في أول الشهر تعتبر الشهور بالأهلة ناقصة أو كاملة فإن كان الإيقاع في وسط الشهر ففي حق تفريق الطلاق يعتبر كل شهر بالأيام وذلك ثلاثون يوما بالاتفاق وكذلك في حق انقضاء العدة عند أبي حنيفة تعتبر ثلاثة أشهر بالأيام وعندهما يعتبر شهر واحد بالأيام وشهران بالأهلة لأن الأهلة هي الأصل قال الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس } ( البقرة : 189 ) والأيام بدل عنها ففي الشهر الواحد تعذر اعتبار ما هو الأصل فاعتبر البدل وفي الشهرين لم يتعذر اعتبار ما هو الأصل ولكن أبو حنيفة يقول : ما لم يتم الشهر الأول لا يدخل الشهر الثاني فدخول الشهر الثاني في وسط الشهر الثاني أيضا وكذلك في الشهر الثالث فيتعذر اعتبار الكل بالأهلة فوجب اعتبارها بالأيام ولا يحكم بانقضاء عدتها إلا بتمام تسعين يوما من حين طلقها .
وقد ظن بعض مشايخنا أن الشهر في حق التي لا تحيض بمنزلة الحيض والطهر في حق التي تحيض وليس كذلك بل الشهر في حقها بمنزلة الحيض في حق التي تحيض حتى يتقدر به الاستبراء ويفصل به بين طلاقي السنة وهذا لأن المعتبر في حق ذوات القرء الحيض ولكن لا يتصور الحيض إلا بتخلل الطهر وفي الشهور ينعدم هذا المعنى فكان الشهر قائما مقام ما هو المعتبر وإذا طلقها واحدة أو ثنتين فهو يملك الرجعة ما لم تنقض العدة وهذا حكم ثبت بخلاف القياس بالنص فإن إزالة الملك بالطلاق إسقاط والإسقاط يتم بنفسه كالعتق ولكن الشرع أثبت للزوج حق الرجعة في العدة بعد التطليقة والتطليقتين للتدارك عند الندم قال الله تعالى { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } ( البقرة : 231 ) معناه قرب انقضاء عدتهن فأمسكوهن بالمراجعة وقال الله تعالى { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف } ( البقرة : 229 ) والمراد بالإمساك المراجعة بعد التطليقتين ما دامت في العدة ثبت ذلك بقوله تعالى { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ( البقرة : 228 ) وعدة التي تحيض ثلاث حيض كما قال الله تعالى في كتابه { ثلاثة قروء } ( البقرة : 228 ) وهو حكم مقطوع به ثابت بالنص ثم عطف عليه ما هو مجتهد فيه فقال القرء هي الحيض وهذا عندنا وعند الشافعي - C تعالى - هي الإطهار حتى أن على مذهبه كما طعنت في الحيضة الثالثة يحكم بإنقضاء عدتها وعندنا ما لم تطهر من الحيضة الثالثة لا يحكم بإنقضاء العدة .
وأصل الخلاف بين الصحابة - Bهم - : .
فقد روى الشعبي - Bه - عن بضعة عشر من الصحابة الحبر فالحبر منهم : أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وعبدالله بن قيس - رضي الله تعالى عنهم - قال : الزوج أحق برجعتها ما لم تحل لها الصلاة .
وعن ابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنهم - قالوا : الإقراء الأطهار .
وعن ابن عباس - Bه - كما طعنت في الحيضة الثالثة تبين من زوجها ولا يحل لها أن تتزوج حتى تطهر .
وكذلك أهل اللغة يطلقون اسم القرء على الطهر والحيض جميعا قال القائل : .
يا رب ذي ضغن وضب فارض ... له قروء كقروء الحائض .
وقال الأعشى : .
مورثة مال وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا .
والمراد الأطهار لأن زمان الحيض يضيع وإن كان حاضرا وأصله في اللغة الوقت قال القائل : .
إذا هبت لقارئها الرياح .
فمنهم من يقول وقت الطهر به أشبه لأنه عبارة عن الاجتماع يقال ما قرأت الناقة سلا قط أي ما جمعت في رحمها ولدا قط واجتماع الدم في الرحم في حالة الطهر ومنهم من يقول وقت الحيض به أشبه لأن هذا الوصف عارض للنساء فوقت الطهر أصل ووقت الحيض عارض مع أن اجتماع الدم في حالة الطهر لا يعلم حقيقة ولو ثبت ذلك فإنما يسمى ذلك الوقت قرءا باعتبار الدم المجتمع ثم أن عند اختلاف أهل اللغة يجب المصير إلى لغة رسول الله - A - فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - لما اختلفوا في التابوت والتابوه رجحوا لغة رسول الله - A - وقالوا : اكتبوا بالتاء والقرء في لغة رسول الله - A - الحيض قال A لفاطمة بنت قيس : ( إذا أتاك قرؤك فدعي الصلاة ) وقال - A - ( المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ) والقرء والإقراء كلاهما جمع كما يقال فلس وفلوس ونزل وإنزال .
ثم الشافعي - C تعالى - رجح الأطهار باعتبار حرف الهاء المذكور في قوله ثلاثة قروء فقال جمع المذكر يؤنث والطهر هو المذكر .
ولكنا نقول : الإعراب يتبع اللفظ دون المعنى يقال ثلاثة أفراس وثلاث دواب وقال أيضا القرء عبارة عن الانتقال يقال قرأ النجم إذا انتقل وكما طعنت في الحيضة الثالثة فقد وجد ثلاث انتقالات من الطهر ولكن هذا لا معنى له فالانتقال من الحيض إلى الطهر أيضا قرء فكان ينبغي على هذا أن تنقضي العدة إذا طعنت في الحيضة الثالثة واحد لم يقل بهذا ولكن الصحيح ما قاله علماؤنا - رحمهم الله تعالى - أن الله تعالى لما ذكر جمعا مقرونا بالعدد اقتضى الكوامل منه والطلاق هو المباح في حالة الطهر فلو جعلنا القرء الأطهار لكان انقضاء العدة بقرأين وبعض الثالث وهذا يستقيم في جمع غير مقرون بالعدد كقوله تعالى { الحج أشهر معلومات } ( البقرة : 197 ) فأما في جمع مقرون بالعدد فلا بد من الكوامل وإنما يحصل ذلك إذا حمل القرء على الحيض فيكون انقضاء العدة بثلاث حيض كوامل واستدل الشافعي - C تعالى - بقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } ( الطلاق : 1 ) معناه في عدتهن والطلاق المباح في حالة الطهر فعرفنا أن العدة بالطهر وقد فسره رسول الله - A - بقوله لابن عمر - رضي الله تعالى عنه - ( إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء ) واستدل علماؤنا بقوله تعالى { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } ( البقرة : 228 ) . قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - من الحيض والحبل فهو بيان المراد بالقروء قال الله تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } ( الطلاق : 4 ) الآية وإنما نقل إلى الأشهر عند عدم الحيض والنقل إلى البدل يكون عند عدم الأصل فهو تنصيص على أن المراد بالقرء الحيض .
وقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } ( الطلاق : 1 ) . أي قبل عدتهن كما يقال زينت الدار لقدوم الحاج وتوضأت للصلاة أي قبلها وفي قراءة ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - لقبل عدتهن مع أن المراد عدة الإيقاع ونحن نقول : إن عدة الإيقاع بالإطهار فأما عدة الاعتداد بالحيض بيانه في حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - وابن عمر - Bه - أن النبي - A - قال : ( طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان ) ومن حيث المعنى هو يقول الطلاق السني يستعقب جزءا محسوبا من العدة كما في الأيسة والصغيرة وإنما يكون ذلك إذا كان الاعتداد بالأطهار ونحن نقول المقصود من هذه العدة تبين فراغ الرحم ولهذا لا تجب إلا عند توهم اشتغال الرحم ولهذا يعتبر بوضع الحمل إذا كانت حاملا والحيض هي التي تدل على تبين فراغ الرحم دون الطهر فكان الاعتبار بالحيض أولى .
ثم الأصل في العبادات التي تشتمل على أركان ينفصل بعضها عن بعض أن الأداء لا يتصل بالشروع فيها كما في الحج وفيما يكون متصل الأركان يتصل الأداء بالشروع كالصلاة والعدة بالأشهر متصلة الأركان فيتصل الأداء بالشروع فيها والعدة بالأقراء منفصلة الأركان بعضها عن بعض فلا يجب أن يتصل الأداء بالشروع فيها والدليل على ما قلنا الاستبراء فإنه معتبر بالحيض بالنص والمقصود تبين فراغ الرحم فكذلك العدة .
( قال ) ( وعدة الحامل أن تضع حملها ولو وضعت حملها بعد الطلاق بيوم ) لقوله تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ( الطلاق : 4 ) ولأن وضع الحمل أدل على ما هو المقصود وهو معرفة براءة الرحم من الأقراء وعدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر بالنص وتكلموا في معنى قوله تعالى { إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } ( الطلاق : 4 ) .
قال مالك - Bه - المراد ارتيابها في حال نفسها أنها هل تحيض بعد هذا أولا حتى قال إذا ارتابت تربصت سنة ثم اعتدت بثلاثة أشهر .
ولكنا نقول لما نزل قوله تعالى { ثلاثة قروء } ( البقرة : 228 ) وقالت الصحابة - Bهم - فيما بينهم فإن كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر وارتابوا في ذلك فنزل قوله تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم } ( الطلاق : 4 ) وفي قول الصحابة - رضوان الله عليهم - فإن كانت ممن لا تحيض دليل على أنهم فهموا من القرء الحيض .
( قال ) ( والكتابية تحت المسلم في الطلاق والعدة بمنزلة المسلمة ) لأن المخاطب بمراعاة وقت السنة الزوج وهو مسلم وفي العدة الواجب عليها حق الزوج وهو مسلم .
( قال ) ( والأمة بمنزلة الحرة في وقت السنة ) لأن المخاطب بمراعاة وقت السنة الزوج وذلك لا يختلف بكونها حرة أو أمة وعدتها حيضتان إذا كانت من ذوات الأقراء للحديث الذي روينا ولقول عمر - رضي الله تعالى عنه - عدة الأمة حيضتان ولو استطعت لجعلتها حيضة ونصفا بين أن التنصيف بسبب الرق يثبت في العدة ولكن بقدر الممكن والحيضة الواحدة لا تحتمل التنصيف وإن كانت آيسة أو صغيرة فعدتها شهر ونصف لقول عمر رضي الله تعالى عنه ولأن الشهر محتمل للتنصيف وعلى قول مالك عدتها بالشهور ثلاثة أشهر لظاهر الآية ولكنا نقول الرق ينصف ذوات الأعداد بمنزلة الجلدات في الحدود وعدتها إذا كانت حاملا بوضع الحمل بالاتفاق لأن تبين فراغ الرحم لا يحصل قبل ذلك .
( قال ) ( وإذا كان الرجل غائبا عن امرأته فأراد أن يطلقها للسنة كتب إليها إذا جاءك كتابي هذا ثم حضت فطهرت فأنت طالق ) لجواز أن يكون قد امتد طهرها الذي جامعها فيه فلو كتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق يقع الطلاق عليها في طهر جامعها فيه وهو خلاف السنة فلهذا قيد بهذه الصفة وفي الرقيات زاد محمد - C تعالى - فقال : وعلمت ما فيه لجواز أن لا تقرأ كتاب زوجها فيقع الطلاق عليها وهي لا تشعر بذلك ولكن في ظاهر الرواية لم يذكر هذه الزيادة لأن المغيبة لا تكون أحرص على شيء منها على قراءة كتاب زوجها والظاهر أنها لا تؤخر ذلك .
( قال ) ( فإن أراد أن يطلقها ثلاثا كتب ثم إذا حضت وطهرت فأنت طالق وإن شاء أوجز فكتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق ثلاثا للسنة فيقع بهذه الصفة ) لأن الكتاب ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا وإن كانت ممن لا تحيض كتب إذا جاءك كتابي هذا ثم أهل شهر فأنت طالق وإن شاء كتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق ثلاثا للسنة لما بينا أن له أن يطلقها للسنة إذا كانت ممن لا تحيض في أي وقت شاء .
( قال ) وإن كان لم يدخل بامرأته ولم يخل بها فله أن يطلقها متى شاء خلافا لزفر وقد بينا ذلك وليس عليها عدة لقوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } .
قال مشايخنا - رحمهم الله تعالى - : وفي كتاب الله تعالى المتلو لا بهذه الصفة بل المتلو : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } الآية ولكن هذا غلط وقع من الكاتب وترك كذلك .
وإن كان قد خلا بها فطلاقها وعدتها مثل التي دخل بها لأن الخاوة الصحيحة في حكم العدة بمنزلة الدخول ومراعاة وقت السنة في الطلاق لأجل العدة فتقام الخلوة فيه أيضا مقام الدخول .
( قال ) وإذا طلق امرأته وهي حائض فقد أخطأ السنة والطلاق واقع عليها وعلى قول الروافض لا يقع وفي الكتاب ذكر بابا ردا عليهم فيؤخر الكلام فيه إلى ذلك الموضع والقدر الذي نذكره هنا حديث ابن عمر - Bه - أن النبي - A - قال لعمر - Bه - : مر ابنك فليراجعها . والمراجعة تكون بعد وقوع الطلاق ولكنهم يدعون أن المروي فليرجعها وقد كان اخرجها من بيته فإنما أمره أن يردها إلى بيته وهذا باطل من الكلام فقد قيل لابن عمر - Bه - هل احتسبت بتلك الطلقة فقال : وما لي لا أحتسب بها وإن استحمقت او استجهلت أكان لا يقع طلاقي ولما ذكر لعمر - Bه - في الشورى ابنه قال : سبحان الله أقلد أمور المسلمين ممن لم يحسن طلاق امرأته فطلقها في حالة الحيض فهو إشارة إلى أن ذلك الطلاق كان واقعا وإنه ينبغي للمرء أن يصون نفسه عن ذلك .
( قال ) ثم ينبغي له أن يراجعها كما أمر رسول الله - A - ولأنه لو راجعها لم تبن منه بطلاق محظور ويندفع عنها ضرر تطويل العدة فإذا لم يراجعها بانت منه بطلاق محظور ويتحقق معنى تطويل العدة فلهذا ينبغي له أن يراجعها .
( قال ) فإذا طهرت من حيضة أخرى طلقها إن شاء وهذا إشارة إلى أنها إذا طهرت من هذه الحيضة لا يباح إيقاع الطلاق عليها وذكر الطحاوي - C - أنه إذا طلقها في الحيض ثم طهرت من تلك الحيضة يباح إيقاع الطلاق عليها وقيل ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة - C تعالى - لأن وقت السنة الطهر الذي لا جماع فيه وقد وجد ما ذكر في الكتاب قولهما لأن الفصل بين الطلاقين بحيضة كاملة وذلك لا يكون إذا طهرت من هذه الحيضة وحديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - روي بروايتين من طريق شعبة : مر ابنك فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض وتطهر ثم ليطلقها إن شاء . فهو دليل قولهما .
ومن طريق آخر : مر ابنك فليراجعها فإذا حاضت وطهرت فليطلقها إن شاء . وهذا يحتمل بقية هذه الحيضة كما هو قول أبي حنيفة - C تعالى - وكذلك إن طلقها في حالة الحيض .
( قال ) ولو طلقها في طهر لم يجامعها فيه واحدة ثم راجعها بالقول فأراد أن يطلقها أخرى في ذلك الطهر للسنة فله ذلك عند أبي حنيفة وزفر - رحمهم الله تعالى - وليس له ذلك عند أبي يوسف - C تعالى - وعن محمد - رضي الله تعالى عنه - فيه روايتان : .
فأبو يوسف - C تعالى - يقول شرط الفصل بين طلاقي السنة الحيضة الكاملة كما قال - A - : فليطلقها في كل قرء تطليقة ولأن إيقاع تطليقة في طهر في المنع من تطليقة أخرى في ذلك الطهر كالجماع فكما لا يجوز له أن يطلقها بعد الجماع في طهر واحد فكذلك بعد الطلاق .
وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : الفصل بالحيضة إنما يعتبر إذا كانت الثانية تقع في العدة وبالمراجعة قد ارتفعت العدة فكانت الثانية بمنزلة ابتداء الأيقاع وقد حصل في طهر لا جماع فيه ثم الرجعة تسقط جميع العدة ولو تخلل بين التطليقتين ما يسقط بعض العدة كانت الثانية واقعة على وجه السنة فإذا تخلل ما يسقط جميع العدة أولى وكذلك لو راجعها بالتقبيل أو المس عن شهوة حتى روي عن أبي حنيفة - C تعالى - أنه إذا كان اخذ بيد امرأته عن شهوة فقال لها أنت طالق ثلاثا للسنة يقع عليها ثلاث تطليقات في الحال يتبع بعضها بعضا لأن كل ما وقع عليها تطليقة صار مراجعا لها فتقع أخرى فأما إذا راجعها بالجماع فإن لم تحبل فليس له أن يطلقها أخرى في هذا الطهر بالإجماع لأنه طهر قد جامعها فيه وإن راجعها بالجماع فحبلت فعند أبي يوسف - C تعالى - ليس له أن يطلقها أخرى أيضا لأنه قد طلقها في هذا الطهر واحدة والطهر الواحد لا يكون محلا لأكثر من تطليقة واحدة على وجه السنة .
وعند أبي حنيفة ومحمد وزفر - رحمهم الله تعالى - له أن يطلقها أخرى لأن العدة الأولى قد سقطت والطلاق عقيب الجماع في الطهر إنما لا يحل لاشتباه أمر العدة عليها وذلك لا يوجد إذا حبلت وظهر الحبل بها .
( قال ) وإذا طلق الرجل امرأته واحدة بائنة فقد أخطأ السنة والطلاق واقع عليها وفي زيادات الزيادات قال : التطليقة البائنة تقع بصفة السنة كالرجعية لأن ابن ركانة - رضي الله تعالى عنه - طلق امرأته البتة ولم ينكر عليه رسول الله - A - إيقاع الطلاق بهذا اللفظ فلو كان خلاف السنة لأنكر عليه كما أنكر على ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - والواقع بهذا اللفظ يكون بائنا والدليل عليه الطلاق قبل الدخول والخلع فإنه يقع بائنا ولا يكون مكروها فأما وجه ظاهر الرواية أن إباحة الإيقاع للحاجة إلى التفضي عن عهدة النكاح ولا حاجة به إلى زيادة صفة البينونة فكانت زيادة هذه الصفة كزيادة العدد ثم لا مقصود له في ذلك سوى رد نظر الشرع بقطع خيار الرجعة وسد باب التلافي على نفسه عند الندم وهذا بخلاف الخلع فإنه يحتاج إلى ذلك لاسترداد ما ساق لها من الصداق إذا كان النشوز منها مع أن الخلع لا يكون إلا عند تحقق الحاجة .
ولهذا روي عن أبي حنيفة - C تعالى - أنه لا يكره في حالة الحيض والطلاق قبل الدخول لا يكون إلا بائنا والتي لم يدخل بها ليست نظير التي دخل بها بدليل الإيقاع في حالة الحيض وتأويل حديث ابن ركانة - Bه - أنه طلقها قبل الدخول بها وقبل الدخول بأي لفظ أوقع يكون بائنا ويحتمل أن يكون أخر الإنكار إلى وقت آخر لعلمه أنه لفرط الغيظ لا يقبل في ذلك الوقت والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب