( قال ) : لا يحصن الرجل المسلم إلا المرأة الحرة المسلمة إذا دخل بها هكذا نقل عن الشعبي والنخعي - رحمهما الله تعالى - ومعنى هذا أنه إذا تزوج أمة ودخل بها لا يصير محصنا لقوله - A - لا يحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد وكان المعني فيه إن ثبوت الإحصان يختص بالوطء بالنكاح حتى لا يثبت بملك اليمين وفي معنى قضاء الشهوة لا فرق بينهما فعرفنا الموجب للفرق إن الإحصان إنما يثبت بوجود الوطء بين مستوى الحال في صفة الكمال فإن النكاح في العادة يكون بين مستوى الحال ولا مساواة بين المالك والمملوك فلا يتحقق هذا المعنى إذا وجد الدخول بالأمة بالنكاح لأنه لا مساواة بين الأمة والحرة .
فأما إذا دخل بالكتابة بالنكاح لم يصر محصنا في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - وعلى قول أبي يوسف - C تعالى - يصير محصنا قيل : هذا بناء على الرواية التي تروى عن أبي يوسف - C تعالى - إن الكتابة محصنة وإنها ترجم إذا زنت وقيل : بل هي مسألة مبتدأة فوجه قول أبي يوسف - C تعالى - إن ملك النكاح على الكتابية وعلى المسلمة بصفة الكمال بدليل جواز نكاح كل واحدة منهما على الأخرى والمساواة بينهما في القسم وولاية المباشرة لكل واحدة منهما بنفسها فكما يصير محصنا بالدخول بالمسلمة فكذلك بالكتابية بخلاف الأمة فإنه مساواة بينها وبين الحرة في حكم النكاح بل حالها على النصف من حال الحرة وبخلاف الصغيرة والمجنونة فإنه لا مساواة بينها ويبين البالغة العاقلة في ولاية المباشرة وفي معنى قضاء الشهوة لما في طبعه من النفرة عن المجنونة وحجتهما ما روينا وكذلك لما أراد حذيفة بن اليمان - Bه - أن يتزوج يهودية قال له النبي - A - دعها فإنها لا تحصنك ولما أراد كعب بن مالك - C تعالى - أن يتزوج يهودية قال له عمر - Bه - دعها فإنها لا تحصنك ولأن الرق أثر من آثار الكفر فإذا كان الإحصان لا يثبت بوطء الأمة بالنكاح لما فيه من الرق فلأن لا يثبت بوطء الكافرة أولى وهذا لأن معنى الازدواج لا يتم مع الاختلاف في الدين فقل ما يركن كل واحد منهما إلى صاحبه فكانت بمنزلة الصغيرة والمجنونة توضيحه أن الزوجين إذا كانا كافرين لا يصيرا محصنين بالدخول ومعنى المساواة فيما بينهما أظهر .
فإذا لم يثبت الإحصان بالوطء هناك فلأن لا يثبت هنا كان أولى وكذلك المسلمة لا يحصنها الزوج إذا كان كافرا بأن أسلمت المرأة ثم دخل بها الزوج الكافر قبل أن يفرق بينهما لم تصر هي بهذا الدخول محصنة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على ما قلنا وكذلك لا يحصنها العبد والمجنون وغير البالغ اعتبارا لجانبها بجانبه فإن الإحصان عبارة عن كمال الحال فلا يثبت إلا بوطء موصوف بكونه نعمة كاملة من الجانبين .
( قال ) : وجماع هؤلاء يحلها للزوج الذي قد طلقها ثلاثا قبل ذلك حتى أن المطلقة ثلاثا إذا كانت ذميمة فتزوجت ذميما ثم أسلمت فدخل بها زوجها قبل أن يفرق بينهما حلت للزوج الأول بهذا الدخول لأن النكاح صحيح بينهما قبل تفريق القاضي حتى لو أسلم فهما على نكاحهما والدخول بالنكاح الصحيح يحلها للزوج الأول وكذلك إن كان الزوج عبدا تزوجها بإذن المولى ودخل بها حلت للزوج الأول لأن إصابة الزوج الثاني إنما كان مشروعا لرفع الطلقات مغايظة للزوج الأول وذلك يحصل بدخول العبد والكافر بها كما يحصل بدخول الحر المسلم بل معني المغايظة في هذا أكثر بخلاف الإحصان فإنه إنما يثبت بالوطء بالنكاح لاعتبار معنى كمال النعمة والعبد والكافر في هذا ليس نظير الحر المسلم وعلى هذا دخول الصبي الذي يجامع مثله بالمرأة يحلها للزوج الأول عندنا .
وعند الشافعي - C تعالى - لا يحلها للزوج الأول لأن ثبوت الحل للأول يستدعى كمال الفعل ألا ترى أنه لا يحصل بالجماع فيما دون الفرج وفعل الصبي دون فعل البالغ فلانعدام صفة الكمال لا يثبت به الحل للزوج الأول ولكنا نستدل بقوله تعالى : { حق تنكح زوجا غيره } واسم الزوج يتناول الصبي كما يتناول البالغ ثم هذا حكم مختص بالوطء بالنكاح فيتعلق بوطء الصبي كتقرر المسمى والعدة وما هو المعني فيه وهو مغايظة الزوج الأول حاصل أيضا فإن استدلوا بقوله - A - : ( لا حتى تذوق من عسيلته ) قلنا ليس المراد بذوق العسيلة الإنزال بل هي اللذة وهي تنال ذلك بوطء الصبي الذي يجامع ولهذا يلزمها الاغتسال بنفس الإيلاج وبه يتبين كما فعل الصبي في الوطء .
( قال ) : وكذلك فعل هؤلاء يوجب من التحريم ما يوجبه جماع البالغ المحصن حتى أن الصبي الذي يجامع مثله يتعلق بوطئه حرمة المصاهرة وكذا الصبية التي يجامع مثلها نثبت حرمة المصاهرة وطئها وإنما يختلفون فيما إذا وطئ صغيرة لا يجامع مثلها فعلى قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - لا يثبت به حرمة المصاهرة وعند أبي يوسف - C تعالى - يثبت لوجود فعل الوطء حقيقة وهو كامل في نفسه حتى يتعلق به الاغتسال بالإيلاج من غير إنزال ويثبت به سائر أحكام الوطء أيضا واعتبر الوطء بالعقد فكما أن العقد على الصغيرة كالعقد على البالغة في إيجاب الحرمة فكذلك الوطء وأبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - قالا : ثبوت حرمة المصاهرة ليس لعين الوطء .
ألا ترى أنه لا يثبت بالوطء في غير المأتي ولكن ثبوته باعتبار معنى البعضية ولا تصور لذلك إذا كانت لا يجامع مثلها بخلاف ما إذا كانت يجامع مثلها لأن حقيقة البعضية وإن كانت باعتبار الماء فهو باطن لا يمكن الوقوف عليه فيقام السبب الظاهر مقامه وهو بلوغها حد الشهوة فإذا كانت ممن يشتهي أنزلت منزلة البالغة في ثبوت الحرمة بوطئها بخلاف ما إذا كانت لا تشتهى .
ألا ترى أن إباحة هذا الفعل شرعا لمقصود النسل ثم جعل بلوغها حد الشهرة في حكم إباحة هذا الفهل قائما مقام حقيقة البلوغ فكذلك هنا بخلاف وجوب الاغتسال فإنه متعلق باستطلاق وكاء المني وذلك بمعنى الحرارة واللين في المحل فلهذا يستوي فيه التي يجامع مثلها والتي لا يجامع كما يستوي فيه الفعل في المأتي وغير المأتي .
( قال ) : والخلوة بين الزوجين البالغين المسلمين وراء ستر أو باب مغلق يوجب المهر والعدة عندنا وعند الشافعي C تعالى لا يوجب لقوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } الآية والمراد بالمسيس الجماع هكذا قال ابن عباس Bه أن الله تعالى يكنى القبيح بالحسن كما كنى بالمس عن الجماع ولأن هذه خلوة خلت عن الإصابة فلا توجب المهر والعدة كالخلوة الفاسدة وهذا لأن تقرر البدل في عقود المعاوضات بقبض المعقود عليه معنى في باطنها لا يصير مستوفي إلا بالآلة التي تصل إلى ذلك الموضع فلا تكون الخلوة فيها قبضا كالقصاص فإن حق من له القصاص في الباطن لا يصيره مستوفي إلا بالآلة الجارحة فلم تكن الخلوة فيه قبضا والدليل عليه حكم الرجعة وبقاء المطالبة بالوطء فإن الخلوة في هذين الحكمين لا تجعل كاستيفاء المعقود عليه فكذلك في حكم المهر والعدة وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضي بعضكم إلى بعض } نهي عن استرداد شيء من الصداق بعد الخلوة فإن الإفضاء عبارة عن الخلوة ومنه يسمى المكان الخالي فضاء ومنه قول القائل أفضيت إليه بشغري أي خلوت به وذكرت له سرى وتبين بهذا أن المراد بما تلى المسيس أو ما يقوم مقامه وهو الخلوة .
وعن عبدالرحمن بن ثوبان - Bه - أن النبي - A - قال : ( من كشف قناع امرأته وقبلها فلها المهر كاملا دخل بها ولم يدخل ) ولما فرق عمر وعلي - Bهما - بين العنين وامرأتاه ألزماه كمال المهر وقالا ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم وعن زرارة بن أبي أوفى أنه قال : مضت السنة من الخلفاء الراشدين Bهم إن من أغلق على امرأته بابا أو أرخى حجابا كان عليه المهر كاملا دخل بها أو لم يدخل بها ولأنها أتت بتسليم المستحق عليها بالعقد فيتقرر حقها في البدل كما إذا وطئها الزوج وهذا لأن البدل في عقود المعاوضات يتقرر بتسليم من له البدل لا باستيفاء من عليه كما في البيع والإجارة إذا خلا البائع بين المبيع والمشتري أو خلا الآجر بين الدار والمستأجر في المدة يتقرر البدل وإن لم يستوف وهذا لأنا لو علقنا تقرر البدل بالاستيفاء امتنع من ذلك قصدا منه إلى الإضرار بمن له البدل .
وإذا ثبت أن المعتبر التسليم فالمستحق بالعقد عليها ما في وسعها وفي وسعها تسليم النفس في حال زوال المانع لا حقيقة استيفاء الوطء فإذا أتت بما هو المستحق تقرر حقها في البدل على أن تقام نفسها مقام حقيقة المعقود عليه كما أنها في جواز العقد أقيمت نفسها مقام المعقود عليه فكذلك في حكم التسليم لأن تقرر البدل بتسليم ما باعتباره يجوز العقد وهذا بخلاف حق الرجعة فإن ذلك من حق الزوج وهو متمكن من حقيقة الاستيفاء فإذا لم يفعل فهو الذي أبطل حق نفسه وليس من ضرورة وجوب العدة ثبوت الرجعة .
ألا ترى أن بالموت يتقرر المهر والعدة وليس فيه تصور الرجعة ومطالبتها بالوطء ليستعف به ويحصل لنفسها صفة الإحصان بسببه وذلك لا يحصل بالخلوة إذا ثبت هذا فنقول حد الخلوة الصحيحة أن لا يكون هناك مانع يمنعه من وطئها طبعا ولا شرعا حتى إذا كان أحدهما مريضا مرضا يمنع الجماع أو صائما في رمضان أو محرما أو كانت هي حائضا لا تصح الخلوة لقيام المانع طبعا أو شرعا وفي صوم القضاء روايتان في أصح الروايتان تصح الخلوة لأن الذي يجب بالفطر قضاء يوم وهو يسير كما في صوم النفل وفي الرواية الأخرى لا تصح الخلوة اعتبارا للقضاء بالأداء وفي صوم النفل رواية شاذة أيضا أنه يمنع صحة الخلوة بمنزلة حج النفل وكذلك إن كانت رتقاء أو قرناء لا يحصل التسليم لقيام المانع حسا بخلاف ما إذا كان الزوج مجبوبا أو عنينا وقد بيناه .
ولو كان بينهما ثالث لا تصح الخلوة لقيام المانع إلا أن يكون الثالث ممن لا يشعر بذلك كصغير لا يعقل أو مغمى عليه أو نحو ذلك وإن خلا بزوجته وهناك أمته وكان محمد C تعالى يقول أولا تصح الخلوة بخلاف ما إذا كان هناك أمتها لأنه يحل له وطء أمته دون أمتها ثم رجع وقال : لا تصح الخلوة وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأنه يمتنع من غشيانها بين يدي أمته طبعا وعلى هذا لو خلا بزوجتيه لم تصح الخلوة لما قلنا والمكان الذي لا تصح الخلوة فيه أن يأمنا فيه إطلاع غيرهما عليهما بغير إذن كالدار والبيت وما أشبه ذلك ولهذا لا تصح الخلوة في المسجد والطريق الأعظم والسطح الذي ليس على جوانبه سترة وبعد صحة الخلوة إذا تصادقا على أنه لم يدخل بها لا يكونا محصنين لأن الخلوة إنما تجعل كالاستيفاء فيما هو من حكم العقد والإحصان ليس من ذلك في شيء فإن أقرا بالجماع لزمهما حكم الإحصان وإن أقر به أحدهما صدق على نفسه دون صاحبه ولا يحصن الخصي إذا كان لا يجامع وكذلك المجبوب والعنين فإن جاءت بولد حتى تثبت به النسب من الزوج ففي الخصي والعنين يكونا محصنين لأن الحكم بثبوت النسب حكم بالدخول وفي المجبوب ذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن على قول زفر C تعالى هي تصير محصنة لما حكمنا بثبوت النسب من الزوج .
وعند أبي يوسف C تعالى لا تصير هي محصنة لأنه لا تصور للجماع بدون الآلة والحكم بثبوت النسب بطريق الإنزال بالسحق وليس ذلك من الجماع في شيء وثبوت حكم الإحصان يتعلق بعين الجماع والرتقاء لا تحصن الرجل لانعدام الجماع مع الرتق ولا إحصان بالجماع في النكاح الفاسد لأن الإحصان عبارة عن كمال الحال فإنما يحصل بوطء هو نعمة بل نهاية في النعمة حتى لا يحصل بالوطء بملك اليمين والوطء بالنكاح الفاسد حرام فلا يوجب الإحصان .
( قال ) : وإذا دخل الخنثي بإمرأته أو دخل بالخنثى زوجها فهما محصنان لأنه لما حكم بكونه رجلا أو امرأة فالجماع بالنكاح الصحيح تحقيق بينهما فيثبت به حكم الإحصان .
( قال ) : ولو دخل مسلم بامرأته المسلمة ثم ارتدا والعياذ بالله تعالى بطل إحصانهما لأن الردة تحبط العمل ويلحق المرتد بمن لم يزل كافرا فكما أن الكافر الأصلي لا يكون محصنا فالمرتد كذلك فإن أسلما جميعا لم يكونا محصنين إلا بجماع جديد بمنزلة زوجين حربيين أو ذممين أسلما وكذلك العبد مع امرأته الأمة إذا أعتقا لم يكونا محصنين حتى يجامعها بعد العتق فإن جامعها فهما محصنان علما بالعتق أو لم يعلما علمت المرأة أن لها الخيار أو لم تعلم فإذا جامعها قبل أن تختار نفسها فقد جامعها بنكاح صحيح بعد ما كمل حالهما بالعتق فكانا محصنين .
( قال ) : وإذا ولدت المرأة من الرجل وهما ينكران الدخول فهما محصنان لأن الولد شاهد على الدخول بينها وهو أقوى من شهادة شاهدين فإذا كان الإحصان يثبت بشهادة شاهدين فبثبوت النسب أولى وهذا لأنهما مكذبان في إنكارهما الدخول شرعا والمكذب شرعا لا يعتبر إنكاره .
( قال ) : وإذا أقرت المرأة أن زوجها قد جامعها وأنكر الزوج ثم فارقها وانقضت عدتها حل لزوجها الأول الذي كان طلقها ثلاثا أن يصدقها ويتزوجها لأنها أخبرت عن أمر بنيها وبين ربها وهو حلها للزوج الأول ولا حق للزوج الثاني في ذلك فإنكاره في ذلك الحكم وجودا وعدما بمنزلة وكذلك إن أخبره بذلك ثقة ولو أنكرت الدخول بعد إقرارها وقد تزوجها الزوج الأول لم تصدق في ذلك لأنها مناقضة ولو كان زوجها الذي فارقها هو الذي أقر بالجماع ولم تقر هي لم يحل للزوج الأول أن يتزوجها ولا يصدق الزوج الثاني عليها لأنه لا حق له في حلها وحرمتها للزوج الأول ولا قول له في ذلك أصلا ويستوي إن كان خلا بها أو لم يخل بها .
ألا ترى أنها لا تصير محصنة بإقرار الزوج الثاني أنه قد جامعها إذا أنكرت هي فكذلك لا تصير محللة للزوج الأول .
( قال ) : وإذا قالت : طلقني زوجي أو مات عني وانقضت عدتي حل لخاطبها أن يتزوجها ويصدقها لأن الحل والحرمة من حق الشرع وكل مسلم أمين مقبول القول فيما فيما هو من حق الشرع إنما لا يقبل قوله في حق الغير إذا أكذبه من له الحق ولا حق لأحد هنا فيما أخبرت به فلهذا جاز قبول خبرها في ذلك والله أعلم بالصواب