( قال ) : بلغنا عن رسول الله - A - أنه قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وذكر عروة عن عائشة - Bهما - هذا الحديث قال : يحرم بالرضاع ما يحرم بالولادة وفيه دليل على أن الرضاع من أسباب التحريم وإنه بمنزلة النسب في ثبوت الحرمة لأن ثبوت الحرمة بالنسب لحقيقة البعضية أو شبهة البعضية وفي الرضاع شبهة البعضية بما يحصل باللبن الذي هو جزء الآدمية في إنبات اللحم وإنشاز العظم وإليه أشار رسول الله - A - فقال الرضاع ما أنبت اللحم وانشز العظم وفيه دليل على أن الحرمة بالرضاع كما تثبت من جانب الأمهات تثبت من جانب الآباء وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه فإن رسول A شبهه بالنسب في التحريم والحرمة بالنسب تثبت من الجانبين فكذلك بالرضاع بخلاف ما يقوله بعض العلماء رحمهم الله تعالى أن لبن الفحل لا يحرم وهو أحد قولي الشافعي - C تعالى - احتجوا بأن الله تعالى ذكر حرمة الرضاع في جانب النساء فقال : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } . فلو كانت الحرمة تثبت من جانب الرجال لبنيها الله تعالى كما بين الحرمة بالنسب ولأن الحرمة في حق الرجل لا تثبت بحقيقة فعل الإرضاع فإنه لو نزل اللبن في ثندؤة الرجل فأرضع به صبيا لا تثبت الحرمة فلأن لا تثبت في جانبه بإرضاع زوجته أولى وحجتنا ذلك حديث عمرة عن عائشة - Bهما - قلت كان رسول الله - A - في بيتي فسمعت صوت رجل يستأذن على حفصة Bها فقلت هذا رجل يستأذن في بيتك يا رسول الله فقال - صلوات الله عليه - ما أراه إلا فلانا عما لحفصة من الرضاع فقلت لو كان فلان عمى من الرضاع حيا أكان يدخل علي فقال نعم الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة .
وفي حديث آخر عن عائشة - Bها - قالت : يا رسول الله إن أفلح بن قعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل فقال - A - ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة فقلت : إنما أرضعتني المرأة لا الرجل فقال : - صلوات الله عليه - ليلج عليك فإنه عمك والعم من الرضاعة لا يكون إلا باعتبار لبن الفحل .
والمعنى فيه أن سبب هذا اللبن فعل الواطئ فالحرمة التي تنبني عليه تثبت من الجانبين كالولادة فأما ما قالوا إن الله تعالى بين حرمة الرضاع في جانب النساء قلنا من الأحكام ما يثبت بالقرآن ومنها ما يثبت بالنسبة فحرمة الرضاع في جانب الرجل مما يثبت بالسنة والمعنى الذي لأجله تثبت الحرمة بسبب الرضاع لا يوجد في إرضاع الرجل فإن ما نزل في ثندؤته لا يغذي الصبي فلا يحصل به إنبات اللحم فهذا نظير وطء الميتة في أنه لا يوجب الحرمة .
( قال ) : ولا ينبغي للرجال أن يتزوج امرأة ابنه من الرضاعة ولا امرأة أبيه من الرضاعة وكذلك أجداده ونوافله وهو نظير الحرمة الثابتة بالنسب وعلى هذا الأخوات من الرضاعة أما إذا أرضعت امرأة واحدة ثنتان فهما أختان فإن كان زوجها واحدا فهما أختان لأب وأم من الرضاعة وإن كان زوجها مختلفا عند الإرضاعين فهما أختان لأم وإن كانت تحت الرجل امرأتان لكل واحدة لبن منه فأرضعت كل واحدة منهما صبية فهما أختان لأب من الرضاعة لأن لبنهما من رجل واحد وعموم قوله تعالى : { وأخواتكم من الرضاعة } يتناول ذلك كله وكذلك بنات الأخ من الرضاع كبنات لأخ من النسب ألا ترى أنه لما عرض على رسول الله A زينب بنت أبي سلمة - رضي الله تعالى عنها - قال : ( لو لم تكن ربيبتي في حجري ما كانت تحل لي أرضعتني وأباها ثويبة ) فقال علي - Bه - : يا رسول الله إنك ترغب في قريش وترغب عنا فقال : هل فيكم شيء قال : نعم ابنة حمزة - Bه - فقال - A - إنها ابنة أخي من الرضاعة .
( قال ) : وإذا كان للمرأة لبن وطلقها زوجها وتزوجت آخر فحبلت من الآخر ونزل لها اللبن فاللبن من الأول حتى تلد في قول أبي حنيفة - C تعالى - فإذا ولدت فاللبن بعد ذلك يكون من الثاني وقال أبو يوسف - C تعالى - إذا عرف أن هذا اللبن من الحبل الثاني فهو من الآخر وقد انقطع اللبن الأول وعنه في رواية إذا حبلت من الثاني انقطع حكم لبن الأول وقال محمد - C تعالى - : أستحسن أن يكون منهما جميعا حتى تضع من الآخر وجه قوله : إن ما كان بها من اللبن فهو من الأول وما ازداد بسبب الحبل فهو من الثاني وباب الحرمة مبني على الاحتياط فثبت الحرمة منهما جميعا .
كما إذا حلب لبن امرأتين في قارورة وأوجر صبيا فإذا وضعت من الثاني فقد انتسخ سبب لبن الأول باعتراض مثله عليه فلهذا كان اللبن من الثاني بعده وأبو يوسف يقول : اللبن ينزل تارة بعد الولادة وتارة بعد الحبل وقبل الولادة فإذا عرف نزول اللبن من الثاني انتسخ به حكم اللبن من الأول كما ينتسخ بالولادة من الثاني .
وعلى الرواية الأخرى يقول لما كان الحبل سببا لنزول اللبن وحقيقة نزول اللبن من الثاني باطل فيقام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن تيسيرا فينتسخ به حكم لبن الأول وأبو حنيفة C تعالى يقول : كون اللبن من الأول ثابت بيقين واللبن يزداد تارة وينقص أخرى باعتبار الغذاء فهذه الزيادة تحتمل أن تكون من قوة الغذاء لا من الحبل الثاني فلا ينتسخ به حكم اللبن من الأول حتى يعترض مثل ذلك السبب من الثاني وذلك يكون بالولادة .
( قال ) : ولا يجتمع حكم الرضاع لرجلين على امرأة واحدة في حالة واحدة لأن سببهما لا يجتمع حلالا شرعا فكذلك ما ينبني على ذلك السبب ولكن ما بقي الأول لا يثبت الثاني وإذا ثبت الثاني انتفى الأول .
( قال ) : ولا يجوز له أن يتزوج امرأة أرضعته رضاعا قليلا أو كثيرا عندنا وقال الشافعي - C تعالى - لا تثبت الحرمة إلا بخمس رضعات يكتفي الصبي بكل واحدة منها ومن أصحاب الظواهر من اعتبر ثلاث رضعات لإيجاب الحرمة واستدل من شرط العدد بقوله - A - : ( لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان ) . وفي حديث عمرة عن عائشة - Bهما - قالت : كان فيما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخ بخمس رضعات معلومات يحرمن كان ذلك مما يتلى بعد رسول الله - A - ولا نسخ بعد ذلك وحجتنا قوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } أثبت الحرمة بفعل الإرضاع فاشترط العدد فيه يكون زيادة على النص ومثله لا يثبت بخير الواحد .
وفي حديث علي - Bه - أن النبي - A - قال : ( الرضاع قليله وكثيره سواء ) يعني في إيجاب الحرمة ولأن هذا سبب من أسباب التحريم فلا يشترط فيه العدد كالوطئ .
أما حديث عائشة - Bها - فضعيف جدا لأنه إذا كان متلوا بعد رسول الله - A - ونسخ التلاوة بعد رسول الله - A - لا يجوز فلماذا لا يتلى الآن وذكر في الحديث فدخل داجن البيت فأكله وهذا يقوي قوله الروافض الذين يقولون كثير من القرآن ذهب بعد رسول الله A فلم يثبته الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - في المصحف وهو قول باطل بالاجماع ولو ثبت أن هذا كان في وقت من الأوقات فإنما كان في الوقت الذي كان إرضاع الكبير مشروعا وعليه يحمل الحديث الثاني فإن إنبات اللحم وإنشاز العظم فق حق الكبير لا يحصل بالرضعة الواحدة فكان العدد مشروعا فيه ثم انتسخ بانتساخ حكم إرضاع الكبير على ما نبينه إن شاء الله تعالى .
( قال ) : والسعوط والوجور يثبت الحرمة لأنه مما يتغذى به الصبي فإن السعوط يصل إلى الدماغ فيتقوي به والوجور يصل إلى الجوف فيحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فأما الأقطار في الأذن لا يوجب الحرمة لأن الظاهر أنه لا يصل إلى الدماغ لضيق ذلك الثقب وكذلك الأقطار في الإحليل فإن أكثر ما فيه أنه يصل إلى المثانة فلا يتغذى به الصبي عادة وكذلك الحقنة في ظاهر الرواية إلا في رواية عن محمد C تعالى قال : إذا احتقن صبي بلبن امرأة تثبت به الحرمة لأن ذلك يصل إلى الجوف ألا ترى أنه يفسد به الصوم ولكنا نقول ليس الموجب للحرمة عين الوصول إلى الجوف بل حصول معنى الغذاء ليثبت به شبهة البعضية وذلك إنما يحصل من الأعالي لا من الأسافل ثم بين من يحرم بسبب الرضاعة والحاصل فيه ما بينا أنه بمنزلة النسب لكما أن الحرمة الثابتة بالنسب في حق الأمهات والبنات تتعدى إلى الجدات والنوافل والعمات والخالات فكذلك بسبب الرضاع .
( قال ) : ولا رضاع بعد الفصال بلغنا ذلك علي وابن مسعود - Bهما - وهكذا رواه جابر - Bه - عن النبي - A - قال : ( لا رضاع بعد الفصال ولا يتم بعد الحلم ولا صمت يوم إلى الليل ولا وصال في صيام ولا طلاق قبل النكاح ولا عتق قبل الملك ولا وفاء في نذر في معصية ولا يمين في قطيعة رحم ولا تغرب بعد الهجرة ولا هجرة بعد الفتح ) والكلام هنا في فصول .
أحدها أن الحرمة لا تثبت بإرضاع الكبير عندنا وعلى قول بعض الناس تثبت الحرمة لحديث سهلة امرأة أبي حذيفة - Bهما - فإنها جاءت إلى رسول الله - A - بعد ما انتسخ حكم التبني بقوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } فقالت : يا رسول الله إن أبا حذيفة تبنى سالما فكنا نعده ولدا له وإن لنا بيتا واحدا فماذا ترى في شأنه وفي رواية وإنه يدخل علي وأنا أرى الكراهة في وجه أبي حذيفة رضي الله فقال : A ارضعي سالما خمسا تحرمين بها عليه وبهذا الحديث أخذت عائشة Bها حتى كان إذا أراد إن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم - Bها - أو بعض بنات أختها أن ترضعه خمسا ثم كان يدخل عليها إلا أن غيرها من نساء رسول الله - A - كن يأبين ذلك ويقلن : لا نرى هذا من رسول الله - A - إلا رخصة لسهلة خاصة ثم هذا الحكم انتسخ بقوله - A - الرضاع ما أنبت اللحم وانشز العظم وذلك في الكبير لا يحصل وقال - A - : ( الرضاعة من المجاعة ) يعني ما يرد الجوع وذلك بإرضاع الكبير لا يحصل وفي حديث أبي هريرة - Bه - قال : الرضاع ما فتق الإمعاء وكان قبل الطعام والصحابة - Bهم - اتفقوا على هذا فقد ذكر في الكتاب عن علي وابن مسعود - Bهم - قالا : لا رضاع بعد الفصال .
وروي أن أعرابيا ولدت امرأته ومات الولد فانتفخ ثديها من اللبن فجعل يمصه ويمج فدخل بعض اللبن في حلقه فجاء إلى أبي موسى الأشعري - Bه - وسأله عن ذلك فقال حرمت عليك فجاء إلى ابن مسعود - Bه - وسأله عن ذلك فقال : هي حلال لك فأخبره بفتوى أبي موسى فقام معه إلى أبي موسى ثم أخذ بأذنه وهو يقول أرضيع فيكم هذا للحياني فقال أبو موسى - Bه - لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم .
وجاء رجل إلى عمر - Bه - فقال إن لي جارية فأرضعتها امرأتي فدخلت البيت فقالت : خذها دونك فقد والله أرضعتها فقال عمر - Bه - : عزمت عليك أن تأتي امرأتك فتضربها ثم تأتي جاريتك فتطأها وروي نحو هذا عن ابن عمر Bهما .
فثبت بهذه الآثار انتساخ حكم إرضاع الكبير ثم اختلف العلماء في المدة التي تثبت فيها حرمة الرضاع فقدر أبو حنيفة - C تعالى - بثلاثين شهرا وأبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - قدرا ذلك بحولين وزفر قدر ذلك بثلاث سنين فإذا وجد الإرضاع في هذه المدة تثبت الحرمة وإلا فلا واستدلا بظاهر قوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } ولا زيادة بعد التمام والكمال وقال الله تعالى : { وفصاله في عامين } ولا رضاع بعد الفصال لأن الظاهر أن الصبي في مدة الحولين يكتفي باللبن وبعد الحولين لا يكتفي به فكان هو بعد الحولين بمنزلة الكبير في حكم الرضاعة وأبو حنيفة - C تعالى - استدل بقوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وظاهرا هذه الإضافة يقتضي أن يكون جميع المذكور مدة لكل واحد منهما إلا أن الدليل قد قام على أن مدة الحبل لا تكون أكثر من سنتين فبقي مدة الفصال على ظاهره وقال الله تعالى : { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور } الآية فاعتبر التراضي والتشاور في الفصلين بعد الحولين فذلك دليل على جواز الإرضاع بعد الحولين وقال الله تعالى : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم } قيل بعد الحولين إذا أبت الأمهات ولأن اللبن كما يغذي الصبي قبل الحولين يغذيه بعده والفطام لا يحصل في ساعة واحدة لكن يفطم درجة فدرجة حتى ينسي اللبن ويتعود الطعام فلا بد من زيادة على الحولين بمدة وإذا وجبت الزيادة قدرنا تلك الزيادة بأدنى مدة الحبل وذلك ستة أشهر اعتبار للانتهاء بالابتداء وبهذا يحتج زفر C تعالى أيضا أنه يقول لما وجب اعتبار بعض الحول وجب اعتبار كله وتقدر مدة الفظام بحول لأنه حسن للاختبار والتحول به من حال إلى حال .
( قال ) : فإن فطم الصبي قبل الحولين ثم أرضع في مدة ثلاثين شهرا عند أبي حنيفة - C تعالى - أو في مدة الحولين عندهما فالظاهر من مذهبهما وهو قول أبي حنيفة C تعالى أنه تثبت به الحرمة لوجود الإرضاع في المدة فصار الفطام كأن لم يكن .
وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحهما الله تعالى - قال هذا إذا لم يتعود الصبي الطعام حتى لا يكتفي به بعد هذا الفطام فأما صار بحيث يكتفي بالطعام لا تثبت الحرمة برضاعه بعد ذلك لأنه بعد ما صار بحيث يكتفي بالطعام فاللبن بعده لا يغذيه فلا يحصل به معنى البعضية بيانه في حديث أبي هريرة - Bه - قال وكان قبل الطعام أي قبل أن يكتفي بالطعام .
( قال ) : ولا بأس بأن يتزوج الرجل أم ابنه التي أرضعته لأنه لا بأس بذلك من النسب فكذلك من الرضاعة وكذلك لا بأس بأن يتزوج ابنتها وهذا من النسب لا يحل أن يتزوج أخت ابنه لا لأجل النسب ولكن لأنها ربيبته لأنه وطئ أمها وهذا لا يوجد في الرضاع فلهذا جاز له أن يتزوجها وكذك يتزوج أخت أخته من الرضاع ومثله من النسب يحل لأنه إذا تزوج أخت أخته من النسب يحل ذلك بأن كان له أخ لأب وأخت لأم فلأخيه لأبيه أن يتزوج أخته لأمه لأن لا نسب بينهما موجب للحرمة فكذلك في الرضاع وكذلك لا بأس بأن يتزوج ابنة عمه من الرضاعة أو ابنة عمته أو ابنة خاله أو ابنة خالته كما لا بأس به من النسب وكذلك لا بأس بأن يتزوج التي أرضعت أخاه أو ما بدا له من ولدها لأنه لا رضاع بينه وبينهم .
( قال ) : ولا يجمع الرجل بين أختين من الرضاعة ولا بين المرأة وابنة أختها أو ابنة أخيها وكذلك كل امرأة ذات رحم محرم منها من الرضاعة للأصل الذي بينا في النسب أن كل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا والأخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الأنثى فإنه يحرم الجمع بينهما بالقياس على حرمة الجمع بين الأختين فكذلك من الرضاعة وتبين بهذا أن حرمة هذا الجمع ليس لقطيعة الرحم فإنه ليس بين الرضعتين رحم وحرمة الجمع بينهما ثابتة .
( قال ) : وإذا ولدت المرأة من الرجل ثم طلقها وتزوجت بزوج آخر وأرضعت بلبن الأول ولدا وهي تحت الزوج الثاني فالرضاع من الزوج الأول دون الثاني لأن المعتبر من كان نزول اللبن منه لا من هي تحته ونزول هذا اللبن كان من الأول .
( قال ) : ولا يجوز شهادة امرأة واحدة على الرضاع أجنبية كانت أو أم أحد الزوجين ولا يفرق بينهما بقولها ويسعه المقام معها حتى يشهد على ذلك رجلان أو رجل وامرأتان عدول وهذا عندنا .
وقال الشافعي - C تعالى - يثبت الرضاع بشهادة أربع نسوة بناء على مذهبه إن فيما لا يطلع عليه الرجال يعتبر فيه أربع نسوة لتقوم كل امرأتين مقام رجل وزعم أن الرضاع مما لا يطلع عليه الرجال لأنه يكون بالثدي ولا تحل مطالعته للأجانب ولكنا نقول الرضاع مما يطلع عليه الرجال لأن ذا الرحم المحرم ينظر إلى الثدي وهو مقبول الشهادة في ذلك ولأن الحرمة كما تحصل بالإرضاع من الثدي تحصل بالإيجار من القارورة وذلك يطلع عليه الرجال فلا تقبل فيه شهادة النساء وحدهن .
وكان مالك - C تعالى - يقول : تثبت حرمة الرضاع بشهادة امرأة واحدة إذا كانت عدلا وهكذا روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه واستدل بحديث عقبة بن الحارث - C تعالى - أنه تزوج ابنة أبي هانئ فجاءت امرأة سوداء وأخبرت أنها أرضعتهما فذكر ذلك لرسول الله A فأعرض عنه ثم ذكر ثانيا فأعرض عنه ثم ثالثا فقال : فارقها إذن فقال إنها سوداء يا رسول الله قال : كيف وقد قيل وحجتنا في ذلك حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - قال : لا يقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولأن سبب نزول هذه الحرمة مما يطلع عليه الرجال فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين كالحرمة بالطلاق وحديث عقبة بن الحارث - C تعالى - دليلنا فإن رسول الله - A - أعرض عنه في المرة الأولى والثانية فلو كانت الحرمة ثابتة لما فعل ذلك ثم لما رأى منه طمأنينة القلب إلى قولها حيث كرر السؤال أمره أن يفارقها احتياطا .
والدليل عليه أن تلك الشهادة كانت عن ضغن فإنه قال : جاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت تشهد على الرضاع وبالإجماع بمثل هذه الشهادة لا تثبت الحرمة فعرفنا أن ذلك كان احتياطا على وجه التنزه وإليه أشار - A - في قوله : ( كيف وقد قيل ) وعندنا إذا وقع في قلبه أنها صادقة فالأحوط أن يتنزه عنها ويأخذ بالثقة سواء أخبرت بذلك قبل عقد النكاح أو بعد عقد النكاح وسواء شهد به رجل أو امرأة فأما القاضي لا يفرق بينهما ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان لأن خبر الواحد إذا كان كان ثقة حجة في أمور الدين وليس بحجة في الحكم والقاضي لا يفرق بينهما إلا بالحجة الحكمية فأما إذا قامت عنده حجة دينية يفتي له بأن يأخذ بالاحتياط لأنه إن ترك نكاح امرأة تحل له خير من أن يتزوج امرأة لا تحل له .
( قال ) : وإذا نزل للمرأة لبن وهي بكر لم تتزوج فأرضعت شخصا صغيرا فهو رضاع لأن المعنى الذي يثبت به حرمة الرضاع حصول شبهة الجزئية بينهما والذي نزل لها من اللبن جزء منها سواء كانت ذات زوج أو لم تكن ولبنها يغذي الرضيع فتثبت به شهبة الجزئية .
( قال ) : وإذا حلب اللبن من ثدي المرأة ثم ماتت فشربه صبي تثبت به الحرمة لحصول المعنى الموجب للحرمة بهذا اللبن ولا معتبر بفعلها في الإرضاع ألا ترى أنها لو كانت نائمة فارتضع من ثديها الصبي تثبت الحرمة وكذلك الإيجار لو حصل في حياتها تثبت الحرمة فكذلك بعد موتها .
( قال ) وكذلك لو حلب اللبن من ثديها بعد موتها فأوجر الصبي تثبت به الحرمة عندنا وعند الشافعي - C تعالى - لا تثبت وهو بناء على أصلين أحدهما أن اللبن لا يموت عندنا لأنه لا حياة فيه .
ألا ترى أنه يحلب في حالة الحياة من الحيوان فيكون طاهرا وما فيه الحياة إذا بان من الحي يكون ميتا فإذا لم يكن في اللبن حياة لا يتنجس بالموت بل عند أبي حنيفة C تعالى يبقى طاهرا وعندهما يتنجس بنجاسة الوعاء كما في أنفحة الميتة فكأنه حلب لبن امرأة في قارورة نجسة فأوجر الصبي به فيثبت به الحرمة .
وعند الشافعي - C تعالى - اللبن يموت فيكون نجس العين وثبوت حرمة الرضاع باعتبار معنى الكرامة فلا تثبت بما هو نجس العين والأصل الثاني أن عنده الفعل الذي هو حرام بعينه وهو الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأن ثبوتها بطريق الكرامة فكذلك إيجار لبن الميتة حرم فلا تثبت به الحرمة ثم قاس لبن الميتة بوطء الميتة ولكن عندنا وإن كان الفعل حراما تثبت به الحرمة إذا تحقق فيه المعنى الموجب للحرمة ولهذا أثبتنا الحرمة بالزنا لأن معنى البعضية لا ينعدم به حقيقة فكذا هنا ثبوت الحرمة باعتبار أن اللبن يغذي الصبي فيقوى به ولو سلمنا له حرمة اللبن بالموت فبالحرمة لا يخرح من أن يكون مغذيا .
ألا ترى أن لحم الميتة مغذ فكذلك لبنها وبه فارق وطء الميتة لأن معنى البعضية ينعدم منه أصلا وهو معنى ما قال في الكتاب الجماع بعد الموت ليس بجماع وإيجار لبن الميتة رضاع وشبه اللبن بالبيضة فإن الموت لا تخرج البيضة أن تكون مغذية فكذا اللبن .
( قال ) : ولو أرضع الصبيان من بهيمة لم يكن ذلك رضاعا وكان بمنزلة طعام أكلاه من إناء واحد ومحمد بن إسماعيل صاحب الأخبار C تعالى يقول يثبت به حرمة الرضاع فإنه دخل بخارى في زمن الشيخ الإمام أبي حفص - C تعالى - وجعل يفتي فقال له الشيخ - C تعالى - لا تفعل فلست هنالك فأبى أن يقبل نصحه حتى استفتى عن هذه المسألة إذا أرضع صبيان بلبن شاة فأفتى بثبوت الحرمة فاجتمعوا وأخرجوه من بخارى بسبب هذه الفتوى وهذا لأن ثبوت الحرمة بسبب الكرامة وذلك يختص بلبن الآدمية دون لبن الأنعام وشبهة الجزئية لا يثبت بين الآدمي والأنعام بشرب لبنها فكذلك لا تثبت بين الآدميين بشرب لبن بهيمة وهذا قياس حرمة المصاهرة التي تثبت بالوطء ولا تثبت بوطء البهائم فكذلك هنا .
( قال ) : ولو صنع لبن امرأة في طعام فأكله الصبي فإن كانت النار قد مست اللبن وأنضجت الطعام حتى تغير فليس ذلك برضاع ولا يحرم لأن النار غيرته فانعدم بها معنى التغذي باللبن وإنبات اللحم وإنشاز العظم وإن كانت النار لم تمسه فإن كان الطعام هو الغالب لا تثبت به الحرمة أيضا لأن المغلوب في حكم المستهلك ولأن هذا أكل والموجب للحرمة شرب اللبن دون الأكل وإن كان اللبن هو الغالب فكذلك في قوله أبي حنيفة - C تعالى - لا تثبت به الحرمة .
وعلى قول أبي يوسف ومحمد - C تعالى - تثبت به الحرمة لأن الحكم للغالب والغالب هو اللبن ولم يغيره شيء عن حاله وأبو حنيفة - C تعالى - يقول : إلقاء الطعام في اللبن يغيره .
ألا ترى أنه يرق به وربما يتغير به لونه فكان بمنزلة ما لو غيرته النار وقيل هذا إذا كان لا يتقاطر اللبن من الطعام عند حمل اللقمة وإما إذا كان يتقاطر منه اللبن تثبت به الحرمة عنده لأن القطرة من اللبن إذا دخلت حلق الصبي كانت كافية لإثبات الحرمة والأصح أنه لا تثبت على كل حال عنده لأن التغذي كان بالطعام دون اللبن .
( قال ) : وإذا جعل لبن امرأة في دواء فأوجر منه صبيا أو أسعط منه واللبن غالب فهذا رضاع لأنه إنما يجعل في الدواء ليصل بقوة الدواء إلى ما لا يصل إليه وحده فكان هذا أبلغ في حصول معنى التغذي به فلهذا تثبت به الحرمة .
( قال ) : وإن جعل اللبن في ماء فشربه الصبي فإن كان اللبن هو الغالب تثبت به الحرمة وإن كان الماء غالبا لا تثبت به الحرمة وكذلك إن خلط لبن الآدمية بلبن الأنعام وعند الشافعي - C تعالى - قدر ما يحصل به خمس رضعات من اللبن إذا جعل في جب من الماء فشربه الصبي تثبت به الحرمة فأما إذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ثم أوجر منه صبيا فعلى قول محمد - C تعالى - تثبت الحرمة منهما جميعا لأن الشيء يكثر بجنسه ولا يصير مستهلكا به وعند أبي يوسف - C تعالى - تثبت به الحرمة بينه وبين من يكون لبنها غالبا لأن المغلوب لا يظهر حكمه في مقابلة الغالب .
وعن أبي حنيفة - C تعالى - فيه روايتان في إحداهما اعتبر الأغلب كما هو قول أبي يوسف - C تعالى - وفي الآخر قال : تثبت الحرمة منهما وهو قول زفر - C تعالى - وأصل المسألة فيما إذا حلف لا يشرب من لبن هذه البقرة فخلط لبنها لبن بقرة أخرى فشربه فهو على هذا الخلاف .
( قال ) : الرضاع بمنزلة النسب والوطء في إثبات حرمة المصاهرة لا فرق بين أن يوجد في دار الحرب أو في دار الإسلام .
( قال ) : وإاذا جامع الرجل المرأة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة لم تحل لابنه ولا لأبيه من الرضاعة ولا تحل له أمها ولا ابنتها من الرضاعة كما لا تحل لابنه وأبيه نسبا فإن هذه الحرمة تعلقت بأسام نثبت تلك الأسامي بالرضاعة وهي الأبوة والأمومة وكذلك لا يتزوج على المعتدة منه أختها من الرضاعة ولا ذات رحم محرم منها لأن حرمة الجمع متعلقة باسم الأختية وذلك يتحقق بالرضاع كما يتحقق بالنسب والعدة تعمل عمل صلب النكاح في المنع من النكاح .
( قال ) : وإذا تزوج الرجل الصبية فأرضعتها أمه من الرضاعة أو أمه التي ولدته أو أخته من نسب أو رضاع أو امرأة ابنه بلبن ابنه من نسب أو رضاع حرمت عليه لأن المحرمية تمنع النكاح بعلة المنافاة فإن بين الحل والحرمة في المحل منافاة والمنافي كما يؤثر إذا اقترن بالنسب ينافي البقاء إذا طرأ عليه فإذا حرمت عليه لزمه بذلك نصف المهر لها لأن الفرقة قبل الدخول حصلت لا بمعنى من جهتها أو حصلت بمعنى من جهة الزوج وهي المحرمية فيجب نصف الصداق لها ويرجع بذلك التي أرضعتها إن كانت أرادات الفساد أو عمدت ذلك وإن كانت أخطأت أو أرادت الخير بأن خافت على الرضيع الهلاك من الجوع لم يرجع به عليها والقول فيه قولها إن لم يظهر منها تعمد الفساد لأنه شيء في باطنها لا يقف عليه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه وإنما يختلف الجواب في نيتها إذا أرادت الفساد أو لم ترد لأنها مسببة لهذه الفرقة لا مباشرة فإنها مباشرة للإرضاع وهو ليس بسبب موضوع للفرقة والمسبب إذا كان متعديا في تسببه يكون ضامنا وإن لم يكن متعديا لا يضمن كحافر البئر في ملك نفسه لا يضمن ما يسقط فيه بخلاف الحافر في ملك الغير فإذا أرادت الفساد كانت متعدية في السبب وإذا لم ترد الفساد لم تكن متعدية في السبب .
وقد روي عن محمد - C تعالى - أنه يرجع عليها بنصف الصداق على كل حال فإن من أصله إن المتسبب كالمباشر ولهذا جعل فتح باب القفص والإصطبل وحل قيد الآبق موجبا للضمان وفي المباشرة المتعدي وغير المتعدي سواء فكذلك في التسبب على قوله .
وعلى قول الشافعي - C تعالى - يرجع عليها بمهر مثل المنكوحة لأنها أتلفت ملك نكاحه فيها وملك النكاح عنده مضمون بالإتلاف حتى قال في شاهدي الطلاق بعد الدخول إذا رجعا ضمنا مهر المثل وهذا لأن ملك البضع يتقوم عند دخوله في ملك الزوج بمهر المثل فكذلك عند خروجه عن ملكه ولكنا نقول أن ملك النكاح ليس بمتقوم في نفسه لأنه ليس بملك عين ولا منفعة إنما هو ملك ضروري لا يظهر إلا في حق الاستيفاء .
ألا ترى أنه لا يظهر في حق النقل إلى الغير والانتقال إلى الورثة فكذلك في حق التقوم بالمال ولأنه ليس بمال في نفسه فلا يكون مضمونا بالمال لأن ضمان الإتلاف مقدر بالمثل بالنص وتقوم البضع عند دخوله في ملك الزوج للضرورة لأنه تملك للبضع وهو محترم فلا يثبت إلا بعوض وهذه الضرورة لا توجد عند الخروج من ملكه لأنه إبطال للملك لا تمليك منها وإبطال الملك لا يستدعي التقوم والدليل على الفرق أن الأب بزوج ابنه الصغير بمال الصغير وليس له أن يخلع ابنته الصغيرة بمالها فإذا ثبت أنه غير متقوم عند خروجه من ملكه لم يجب الضمان عليها بإتلاف البضع ولكنها قررت عليه ما كان على شرف السقوط فإن الصداق وإن وجب بالعقد فهو بعرض السقوط ما لم يدخل بها إذا جاءت الفرقة من قبلها فهي قررت النصف عليه بما فعلته وهي متسببة وفي ذلك متعدية إذا تعمدت الفساد فلهذا رجع عليها بذلك .
( قال ) : وإذا تزوج الرجل الصبية ثم تزوج عمتها فنكاح العمة باطل للنهي فإن أرضعت أم العمة الصبية لم يفرق بينه وبينها لأن الصبية وإن صارت أختا للعمة بالرضاعة ولكن لم يصح نكاح العمة فلم يتحقق الجمع الحرام فلهذا بقي نكاح الصبية .
( قال ) : وإذا تزوج صبيتين رضيعين فارضعهما امرأة معا أو إحداهما بعد الأخرى بانتا جميعا لأنهما صارتا أختين حين أرضعت الثامنة منهما فتقرر الجمع المنافي وليست إحداهما ببطلان نكاحها بأولى من الأخرى فإذا بانتا فلكل واحدة منهما نصف الصداق يرجع بذلك على المرضعة أن تعمدت الفساد لما قلنا ولو كن ثلاثا فارضعتهن معا بأن حلبت لبنها في قارورة وألقمت إحدى ثديها إحداهن والأخرى للأخرى وأوجرت الثلاثة معا بن جميعا لأنهن صرن أخوات معا وإن أرضعتهن واحدة بعد الأخرى بانت الأوليان والثالثة امرأته لأنها حين أرضعت الثانية فقد تحققت الأختية بينها وبين الأولى فتقع الفرقة بينه وبينهما ثم أرضعت الثالثة وليس في نكاحه غيرها ففي نكاحها وإن كن أربعا فأرضعتهن معا أو واحدة ثم الثلاث معا بن جميعا وكذلك أن أرضعتهن جميعا واحدة بعد الأخرى لأنه حين أرضعت الثانية بانت الأوليان للاختية وحين أرضعت الثالثة والرابعة بانت الأخريان أيضا للأختية وإن أرضعت الثلاث أولا معا ثم الرابعة بانت الثلاثة الأول دون الرابعة لأنها حين أوضعتها فليس في نكاحه غيرها .
( قال ) : وإن تزوج امرأة وصبيتين فأرضعتهما المرأة إحداهما قبل الأخرى ولم يدخل بالمرأة حرمت المرأة والصبية الأولى لأنها حين أرضعت إحداهما فقد صارتا أما وابنتا فتقع الفرقة بينه وبينهما ثم أرضعت الثانية وليس في نكاحه غيرها فبقي نكاحها لأن السابق مجرد العقد على الأم وذلك لا يوجب حرمة البنت ثم لا مهر للكبيرة لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول وللصغيرة نصف المهر لأن الفرقة ليست من قبلها إنما كانت من جهة الكبيرة حين أرضعتها فإن اللبن يصل إلى جوفها من غير فعل منها في الارتضاع ويرجع بذلك على الكبيرة إن كانت تعمدت الفساد لما قلنا ولا تحمل له هذه الكبيرة أبدا لأن مجرد العقد على البنت يوجب حرمة الأم وأما الصبية فإنها تحل له إذا فارقاه التي عنده لأن العقد على الأم لا يوجب حرمة البنت وإن كان بعد ما دخل بالكبيرة حر من عليه لأنهما صارتا ابنتها من الرضاعة والدخول بالأم يحرم البنت ثم للكبيرة مهرها ولكل واحدة من الصغيرتين نصف المهر ولا يحل له واحدة منهن أبدا لوجود الدخول بالأم وصحة العقد على البنت .
( قال ) : وإذا تزوج كبيرتين وصغيرتين فأرضعت كل واحدة من الكبيرتين صغيرة وقعت الفرقة بينه وبينهن لأن كل صغيرة صارت بنتا لمن أرضعتها والجمع بين الأم والبنت في النكاح حرام فإن كانت أرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرتين ثم أرضعت الكبيرة الأخرى الصغيرتين وذلك قبل الدخول بالكبيرتين فأما الكبيرة الأولى مع الصغيرة الأولى فقد بانا لما قلنا : والصغيرة الثانية لم تبن منه بإرضاع الكبيرة الأولى فأما بإرضاع الكبيرة الثانية فإن بدأت بإرضاعها بانت منه وإن بدأت بإرضاع الأولى فالصغيرة الثانية امرأته لأنها حين أرضعت الأولى صارت أما لها وفسد نكاحها لصحة العقد على الصغيرة الأولى فيما سبق ثم أرضعت الثانية وليس في نكاحه غيرها فلهذا لا تقع الفرقة بينه وبينها .
( قال ) : وإذا أقر الرجل أن هذه المرأة أخته وأمه أو ابنته من الرضاعة ثم أراد بعد ذلك أن يتزوجها وقال : أوهمت أو أخطأت أو نسيت وصدقته المرأة فهما مصدقان على ذلك وله أن يتزوجها وإن ثبت على قوله الأول وقال هو حق كما قلت ثم تزوجها فرق بينهما ولا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها وهذا استحسان وفي القياس الجواب في الفصلين سواء لأنه أقر بأنها محرمة عليه على التأبيد والمقر به يجعل في حق المقر كالثابت بالبينة أو بالمعانية والرجوع عن الإقرار باطل لأنه ملزم بنفسه فسواء رجع أو ثبت كان النكاح باطلا بزعمه فيفرق بينهما ولا مهر لها عليه ولكنه استحسن فقال : هذا شيء يقع فيه الاشتباه فقد يقع عند الرجل أن بينه وبين امرأته رضاع فيخبر بذلك ثم يتفحص عن حقيقة الحال فيتبين له أنه قد غلط في ذلك وفيما يقع الاشتباه إذا أخبر أنه غلط فيه يجب قبول قوله شرعا لوجهين .
( أحدهما ) أن الحل والحرمة من حق الشرع فإذا تصادقا على أنهما قد غلطا فليس هنا من يكذبهما في خبرهما ( والثاني ) أن إقراره في الابتداء لم يكن على نفسه إنما كان عليها بحرمتها عليه والحل والحرمة صفة المحل وإقرار الإنسان على الغير لا يكون لازما فإذا ذكر أنه غلط فيه فهو لا يريد بهذا إبطال شيء لزمه فلهذا قبل قوله في ذلك وإن أقرت المرأة بذلك وأنكر الزوج ثم أكذبت المرأة نفسها وقالت : أخطأت فالنكاح جائز وكذلك لو تزوجها قبل أن تكذب نفسها فالنكاح جائز ولا تصدق المرأة على قولها لأن حقيقة المحرمية لا تثبت بالإقرار فإنه خبر محتمل متمثل بين الصدق والكذب ولكن الثابت على الإقرار كالمجدد له بعد العقد وإقرارها بالمحرمية بعد العقد باطل فكذلك إقرارها به قبل العقد وإما إقراره بالحرمة بعد العقد صحيح موجب للفرقة وكذلك إذا أقر به قبل العقد وثبت على ذلك حتى تزوجها فإن قيل كان ينبغي أن يجب لها نصف المهر كما لو ابتدأ بعد النكاح قلنا : إنما لا يجب لوجود التصديق منها على بطلان أصل النكاح أو لأنه غير متهم بالقصد إلى إسقاط المهر إذ سبق الإقرار منه بوجوب المهر بالنكاح يوضح الفرق بينها أن الإقرار إنما يصح إذا كان مؤثرا في الملك أما بالمنافاة أو بالإزالة وإقرار الرجل مؤثر في ذلك فكان معتبرا في المنع من صحة النكاح إذا ثبت عليه وإفرار المرأة غير مؤثر في ذلك فلا يمنع صحة النكاح .
( قال ) : وإذا أقر الزوج بهذه المقالة وثبت عليها وأشهد الشهود ثم تزوجته المرأة ولم يعلم بذلك ثم جاءت بهذه الحجة بعد النكاح فرق بينهما ولا ينفعه جحوده لأنه لما ثبت على مقالته في الابتداء وزعم أنه حق لا غلط فيه فقد لزمه حكم إفراره وصار كالمجدد لذلك الإقرار بعد النكاح فيفرق بينهما ولا ينفعه الجحود ولو أقر بذلك جميعا ثم كذبا أنفسهما وقالا : أخطأنا ثم تزوجها فالنكاح جائز وكذك هذا الباب في النسب ليس يلزم من هذا إلا ما بينا عليه لأنه الغلط واشتباه فيه أظهر فإن سبب النسب أخفى من سبب الرضاع فكما أن هناك الإقرار بدون الثبات عليه لا يوجب الحرمة فكذلك هنا .
( قال ) : ولو تزوج امرأة ثم قال لها بعد النكاح هي أختي أو ابنتي أو أمي من الرضاعة ثم قال : أخطأت أو أوهمت فالنكاح باق استحسابا ولو ثبت على هذا النطق وقال : هو حق فشهدت عليه الشهود بذلك فرق بينهما ولو جحد ذلك لم ينفعه جحوده لأن إقراره إنما كان موجبا للفرقة بشرط الثبات عليه فإن قال : أوهمت فقد انعدم ما هو شرطه فلا يوجب الفرقة وإذا ثبت على ذلك وجد ما هو شرط الإقرار فثبت حكمه وهو الفرقة ثم لا ينفعه جحوده بعد ذلك وكذلك لو قال : هذه أختي أو هذه ابنتي وليس لها نسب معروف ثم قال : أوهمت يصدق في ذلك بخلاف ما إذا قال لعبده أو أمته هذا ابني أو هذه ابنتي ثم قال : أوهمت فإنه يعتق عليه ولا يصدق في ذلك والفرق من وجهين : .
( أحدهما ) إن إقراره بالنسب في عبده وأمته ملزم بنفسه لأن لما أقر به موجبا في ملكه وهو زوال الملك فإن من اشترى ابنه يصح الشراء ويعتق عليه فإذا كان لما أقر به موجب في ملكه كان هو مقرا به في ملك نفسه وإقرار الإنسان في ملك نفسه ملزم فلهذا يتم بنفسه ثبت عليه أو لم يثبت فأما إقراره بنسب زوجته لا موجب له في ملكه لأن من تزوج ابنته لا يصح النكاح أصلا لا إن يثبت النكاح ثم يزول وإنما لا يصح النكاح بحرمة المحل فموجب إقراره هنا لا يظهر في ملكه وإنما يظهر في المحل ولا حق له في المحل لأن الحل والحرمة صفة المحل فلم يكن إقراره متناولا لملكه ابتداء فلا يكون ملزما إلا إذا ثبت عليه فحينئذ بحكم الثبات عليه يتعدى ضرره إلى ملكه فيلزمه من هذا الوجه .
( والثاني ) إن الاشتباه لا يقع بين العبد والإبن بل عبده في الغالب مباين لابنه في المطعم والملبس والمجلس فإذا كان الاشتباه يندر فيه لا يعتبر فما الاشتباه قد يقع بين زوجته وابنته لتقاربهما في المطعم والملبس والمجلس فلهذا يعذر إذا قال أوهمت .
( قال ) : ولو قال لامرأته هذه ابنتي وثبت على ذلك ولها نسب معروف لم يفرق بينهما وكذلك لو قال هي أمي وله أم معروفة لأنه مكذب شرعا فيما أقر به وتكذيب الشرع إياه أقوى من تكذيبه نفسه ولو كذب نفسه وقال : أوهمت لم يفرق بينهما فكذا إذا أكذبه الشارع وبه فارق العبد لأن هناك لو أكذب نفسه كان حرا فكذلك إذا أكذبه الشرع بأن كان ثابت النسب من غيره والمعنى ما قلنا أن أقراره بنسب العبد مصادف ملكه وهو مصدق فيما يقربه في ملك نفسه فيثبت به العتق وإن امتنع بثبوت النسب لكونه معروف النسب من الغير فأما إقراره بنسب امرأته لا يصادف ملكه ابتداء وإنما يصادف المحل فيثبت به حرمة المحل ثم ينبني عليه انتفاء الملك وهنا حرمة المحل لم تثبت حين كانت معروفة النسب من الغير فلهذا لا يبطل النكاح وإن لم تكن معروفة النسب من الغير ومثلها يولد لمثله وثبت على ذلك فرق بينهما ولكنه لا يثبت النسب حقيقة إلا بتصديق المرأة إياه بذلك .
لأن المقر يعامل في حقه وكان ما أقر به حق ولكن لا يصدق في حق الغير فيجعل النسب في حقه كالثابت حتى ينتفي ملكه عنها ولكنه لا يثبت في حقها إلا بتصديقها فلا يلزمها الانتساب إليه إلا أن تصدقه في ذلك وإذا كان مثلها لا يولد لمثله لم يثبت النسب ولا يفرق بينهما لأن تكذيب الحقيقة إياه أقوى من تكذيه نفسه والفرق لأبي حنيفة C تعالى بين هذا وبين العتق ما قلنا أن لإقراره بالنسب في ملكه موجبا فيجعل ذلك الإقرار كناية عن موجبه مجازا وليس لإقراره بالنسب في ملك النكاح موجب من حيث الإزالة فلا يمكن إعماله بطريق المجاز وأكثر ما في الباب أن يقال موجبه نفي أصل النكاح فيجعل كأنه صرح بذلك وجحوده لأصل النكاح لا يكون موجبا للفرقة فكذلك إقراره بذلك وكذلك لو قال أرضعتني ومثلها لا يرضع ولا لبن لها فإنه مكذب في ذلك حقيقة فينزل في ذلك منزلة تكذيبه نفسه فلهذا لا يفرق بينهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب